قنوات المعارضة المصرية بين الاستمساك بثوابتها وتحديات المرحلة الراهنة في ضوء المتغيرات السياسية الأخيرة
قد يصلح مدخلاً لتناول هذا الموضوع الذي تشهده ساحة المعارضة المصرية في أروقتها ومنصاتها الرسمية والشعبية الحديث عن مسالك السياسة المعقدة والمتشابكة في إطار المتغيرات السياسية المتتابعة والمتلاحقة التي قد تضطر فاعلي السياسة واللاعبين فيها لاتخاذ مواقف لا تتفق بالضرورة مع ما يعتقدونه ويؤمنون به من مبادئ ورؤى وأفكار بل ومعتقدات كذلك، فتلجئهم إلى اتخاذ قرارات تأتي على الكثير من هذه المبادئ والروئ لا نقول بالنقض فقط في مداها الأعلى ولكن كذلك في مداها الأدنى بالتأجيل والإرجاء والضغط على الآخر في اتجاه البحث عن مخارج تتناسب وتتواءم مع المتغيرات الأخيرة في المواقف، وبين هذين المديين درجات ومدارج.
ولذلك نقول إن الخيارات والبدائل في الفعل السياسي تزداد حينما يكون هذا الفعل في دائرة من المواقف التي تأخذ منحىً سكونياً إن صح التعبير بعيداً عن حالة التعقيد والأزمة، أو لنقل في حالة السعة وليس السكون؛ لأن الظاهرة السياسية معهود عنها التغير المستمر، فهي ظاهرة تتسم بالسيولة في أحداثها المتغيرة والمتغايرة والمتباينة.
أزمة صنع القرار السياسي:
ولكن تضيق على الفاعل السياسي تلكم الخيارات والبدائل في حالات الأزمة وأوقات تعقد المواقف وتشابكها، وهنا تأخذ الفاعل السياسي مسالك سياسية تلجئه إلى مخالفة نهجه السابق أو على الأقل جعله في دائرة من تقليل الأثر في المواقف السياسية مع الخصوم.
وهذا التوصيف قد يتناغم مع ما تداولته قنوات المعارضة المصرية في تركيا تحديداً والمؤسسات الإعلامية التركية في شقها الرسمي بشأن عمل هذه القنوات وفيما إذا كانت لها القدرة على الاستمرار في سياساتها الإعلامية في معارضة النظام المصري في ضوء المواقف الأخيرة التي ترددت حول التقارب المصري والتركي، ولا نستطيع الجزم بشأن ما وصلت إليها المباحثات حول هذا التقارب.
ولكن يهمنا في هذا السياق الحديث عن خيارات المعارضة المصرية وقنواتها في ضوء هذا المستجد والمتغير السياسي الذي لا شك أنه يمثل تهديداً وجودياً لها فيما لو اتخذت السلطات التركية قراراً بإغلاقها مثلاً، أو اضطرت هذه القنوات لكي تحافظ على وجودها وعملها إلى اتخاذ سياسات إعلامية مغايرة تقل فيها حدة المواجهة والمعارضة السياسية بخطاب إعلامي مغاير.
ونمهد لهذا الموضوع بأمر تقريري بأن هذه القنوات على الرغم مما يشوبها من ضعف وتذبذب في سياساتها الإعلامية، وما شابها من إشكالات متعلقة بسياسات بعضها تجاه إعلامييها في المرحلة السابقة، ولكن ينبغي أن يعلم أن لهذه القنوات دورها في تحقيق الأثر في الشارع المصري المتعطش لكثير من الحقائق في الوقت الذي يمارس فيه النظام المصري الكثير من سياسات تكميم الأفواه والأخذ على يد معارضيه في الداخل بالقوة حتى على الذين كانوا بعض أدواته في انقلابه على الرئيس المنتخب محمد مرسي عام 2013م، فكانت هذه القنوات متنفساً لكثير من المصريين في الداخل فضلاً عن الخارج، مع تفاوت في قيمة ما يبث على هذه القنوات ما بين قناة وأخرى، والمحصلة أن هذه القنوات كانت مسلك من مسالك الوعي وإزعاج النظام المصري، وهو الذي ظهر في تصريحات وتلميحات كبار المسئولين في النظام المصري بما فيهم الرئيس السيسي نفسه، وهو أحد معوقات التقارب الأخير بين النظامين المصري والتركي.
هذا أولاً، وثانياً يبدو لنا أن هذا الذي دار في أروقة السياسة والإعلام من مواقف ومتغيرات سياسية حول عمل هذه القنوات كان منتظراً؛ لأن الضغوط السياسية الخارجية التي واجهها النظام السياسي في تركيا وما زال يواجهها تجعله يبحث أولاً عن مصالحه في الداخل والخارج، وهو يواجه معارضة خارجية شديدة في كثير من تحركاته الخارجية في ليبيا وسوريا والعراق، وكذلك في تحركاته الكبرى في شرق البحر المتوسط، وقد ووجه بتحالف مصري يوناني صهيوني في ذلك، فضلاً عن المعارضة الداخلية، فهو يراهن كثيراً وليس هذا سراً على خطواته الحالية في تحسين صورته التي تأثرت كثيراً في الآونة الأخيرة.
وهذه المتغيرات التي احتفت بالنظام السياسي التركي تلزم المعارضة المصرية ومؤسساتها الإعلامية الوقوف موقف المراجعة والنظر في مدى إمكانية استمرارها في أداء رسالتها الإعلامية ومواصلة الضغط على النظام المصري بكشف سياساته القمعية التي يمارسها بمصر، وظاهر أن عقدة الأمر الآن ما يخص هذه القنوات هي البحث عن مخارج تحفظ عليها وجودها وكيانها ويضمن استمرار رسالتها الإعلامية في ضوء الضغوط الحالية، وينبغي لهذه القنوات أن تعلم وهذا لا نشك فيه أن تركيا تبحث أولاً عن مصالحها السياسية والاقتصادية، بل أولوية النظام السياسي فيها تكمن في أن يبقى في سدة الحكم مراحل زمنية قادمة، وقاعدة الموازنات السياسية تشي بأن التضحية بالطرف الأضعف في المعادلة السياسية هي التي يصار إليها في تعقدات السياسة، وأعني بالطرف الأضعف هنا هو المعارضة المصرية.
وعند ذلك يلزم هذه المعارضة وقنواتها التفكير بجدية في مواجهة المتغيرات الجديدة وتحدياتها القائمة، وأولى الخطوات في ظني هي تجاوز حالة التفكك والتفرق الذي تتسم به هذه المعارضة حتى أضحت أيادي سبأ في كثير من مناشطها وحركاتها، فلا يجمعها جامع ولا ينظمها ناظم مع الأسف، وليس بخافٍ أن اجتماع الكلمة له من الأثر الإيجابي الكبير في جعل مسالك الحركة قوية ومتماسكة ومؤثرة، ولعل في حديث الأشعريين بعداً يلزم التفكر والتفكير فيه واتخاذه منهجاً يتجاوز به حالة التشرذم هذه، فليس بالضرورة أن تكون المعارضة المصرية على نسق منهجي واحد ورؤية واحدة وعقيدة واحدة، هذا لا يمكن تحقيقه البتة على الأقل في بعده القريب والواقع شاهد على ذلك، ولكن يسعها وحدة الهدف والمقصد والغاية وهي مواجهة النظام المصري وكشف سياساته والدفاع عن الشعب المظلوم وحقوقه المسلوبة، وفي الحديث إشارة إلى هذا البعد المنهجي، ففي الصحيح من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: “إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو، أو قل طعام عيالهم بالمدينة، جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد، ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية، فهم مني وأنا منهم”، ما أشد حاجتنا إلى مثل هذا الفهم والفقه في التعامل مع أزماتنا بعيداً عن الفئوية والحزبية والعصبية .. في غيرها، والنظر في مصالح الجماعة.
الخيارات المتاحة أمام المعارضة المصرية وقنواتها:
وثالثاً في أهمية النظر في الخيارات المتاحة؛ كونها بديلاً عن الصورة الحالية لهذه القنوات، وينبغي أن تدرك المعارضة أن الاتفاق التركي المصري وارد وبقوة في المرحلة الحالية أو التي تليها؛ بحكم ما تمليه مصالح البلدين، وهذا يعني بالضرورة لو حدث سيعطي شرعية للنظام المصري يضعف بها موقف المعارضة، وعليه ونحن نأخذ في سياق الافتراض في الخيارات المتاحة، وقد لا يكون بعضها متيسراً في الواقع.
ففي حالة اتخاذ قرارات تأتي على هذه القنوات بالإغلاق أو التغيير الكامل لسياساتها، قد تلتجئ هذه القنوات إلى البحث عن محاضن جغرافية أخرى خارج تركيا، وينبغي التفكير بهذا جدياً في هذه المرحلة، وإنما يهيئ لذلك فتح باب الحوار الجاد بين أطراف المعارضة كلها وخاصة في تركيا، والأمر الثاني من الخيارات المتاحة فتح قنوات شخصية في مواقع التواصل الاجتماعي، وهذه القنوات أضحى لها من الأثر الكبير في جذب المتابعين إلى القدر الذي وصل فيه متابعوها بالملايين حتى تجاوزت متابعي القنوات نفسها بكثير، والأمثلة معروفة في الشارع المصري لا حاجة بنا إلى التدليل عليها، وأمثلتها في سياقات أخرى أيضاً معروفة، والمتابع مثلاً لانتخابات الرئاسة الأمريكية في العقد الأخير يدرك مدى تأثير هذه القنوات في الناخب الأمريكي.
ولا يخفى أيضاً أن فتح هذه القنوات يجعل المعارضة المصرية في حل من التضييق الذي قد يلحقها مع الأتراك وأمثالهم فيما لو بقيت منافذهم الإعلامية على النسق ذاته، ويشهد لهذا من وقائع السيرة النبوية واقعة أبي بصير وأبي جندل التي جعل الله لهما فيها مخرجاً وفرجاً لم يؤثر في الاتفاق الذي أبرمه النبي صلى الله عليه وسلم مع المشركين.
ورابعاً لا يعدم المصريون في حالة انفضاض مؤسساتهم الإعلامية مسالك أخرى تستمر من خلالها معارضتهم لهذا النظام، ومنها رفع القضايا الحقوقية في المحافل الدولية التي تفضح جرائمه وسياساته القمعية وتشكيل فريق من الحقوقيين بشأن ذلك، وهذا الأمر وإن كان جارياً في بعض المناشط ولكن ليس بالقدر المطلوب، ومنها استثمار مواقف الدول المعارضة للسياسة المصرية الحالية، وهي وإن كانت قليلة ولكن قد يكون فيه الأثر الذي يحقق المقصود بدرجاته الدنيا، ومنها الضغط على النظام المصري من الداخل وهذا قد لا يتيسر لسطوة النظام وشدة تعامله مع مخالفيه، إلا أنه لا ينبغي أن يفت في عضد المعارضة، بل على العكس تراهن على نفاد صبر المواطن المصري؛ لشدة ما يواجهه من ظروف معيشية صعبة، قد ثار على أقل منها، ولن تعدم المعارضة في الداخل من قائل بالحق وجاهر به عند سلطان جائر غشوم.
وخامساً فيما لو انقطعت السبل بالمعارضة وانبتت الوسائل والمكنات في أيديها، فيظهر أنها مطالبة على سبيل اللزوم أن توجه جهودها وتستثمرها في احتضان الأجيال الشبابية وتربيتها والقيام بتزكيتها، وهو أمر يلزم أن يكون على الدوام سعة وضيقاً، إلا أن الانصراف عنه منذ الانقلاب حتى اللحظة إلا قليلاً أسهم إلى حد كبير في إحداث الفجوة بين النخب السياسية وهذه الأجيال ما أحدث شرخاً كبيراً يلزم ردمه، و لعل أزمنة المضايق تعين على إعادة اللحمة لا أن تتفرق أجزاؤها.
وسادسا وهو أعم من الحالة المصرية؛ حيث ينبغي أن تستفيد منه الحركات الإصلاحية والمؤسسات الإعلامية والعلمائية وغيرها من مؤسسات المجتمع المدني لتحقق استقلاليتها واعتمادها على مقدراتها وعلى ترسيخ قواعدها في الأرض حتى لاتكون تحت رحمة وأهواء المتغيرات السياسية والإقليمية؛ لتعصف بها مع أول تعارض في المصالح أو استنفاد لأغراض وجودها أو تشكيلها عائقا أمام المصالح الأصيلة لتلك الدول الداعمة!