اختراع المطبعة وأثرها التواصلي:
شهد القرن الخامس عشر الميلادي ثورة تواصلية في طرائق نشر المعلومات وتداولها؛ فقد أدى اختراع المطبعة عام 1456م إلى تسارع وتيرة التداول المعلوماتي بين البشر لتنشأ الصحافة والصحف وتُطبع الكتب بأعداد كبيرة بعد أن كانت مقتصرة على النسخ اليدوي الذي كان يحصر تداول الكتب في نطاقات ضيقة جداً مقارنةً بما حدث بعد اختراع المطبعة.
وقد نتجت عن ظهور الصحافة آثارٌ كبيرةٌ- إيجابيةٌ وسلبيةٌ- في كل شيء، حتى ليمكن أن نقول: إن ظهور الصحافة وتعددها وتنوعها يمكن أن يكون كالحد الفاصل بين القرون لم تصبح الإنسانية بعده كما كانت قبله، وكما تُسمى العصور بأخص خصائصها كالعصر الصناعي، والعصر الزراعي، والعصر الرعوي؛ يمُكن أن نسمي عصر ظهور الصحافة- في مجال التواصل الإنساني- بالعصر الصحفي.
لم يعرف العالم الإسلامي الطباعة إلا في القرن السابع عشر حين نقلت تركيا المطابع من أوروبا وبدأت في استخدامها على نطاق واسع في طبع الكتب والصحف والنشرات والفرمانات السلطانية.. وغيرها، ثم وصلت المطبعة إلى الشام في القرن الثامن عشر، ولم تعرفها مصر إلا من خلال الحملة الفرنسية التي أحضرت معها مطبعة تطبع باللغتين العربية والفرنسية، ثم أخذتها معها عند اندحارها ورحيلها، ثم أنشأ محمد علي مطبعة بولاق الشهيرة عام (1820م) ، لِمَدِّ مدارسه العسكرية بالكتب الدراسية في العلوم الطبيعية والعسكرية حتى تطور الأمر إلى طبع كتب العلوم الإنسانية في الأدب والعلم واللغة والتاريخ والزراعة.. وغيرها من مجالات الحياة.([1])
وقد مثلت الطباعة عاملاً مهماً وخطيراً في إيقاظ العقل العربي والإسلامي وتوجيهه- سلباً وإيجاباً- إلى مُثُلٍ جديدة في الفكر؛ لأنها سهلت عملية نشر الكتب التي هي أداة التثقيف والتعليم بعد أن كانت هذه الكتب تُنسخ باليد فلا يتسنى للعامة وعوام الناس وكثير من طلاب الثقافة والعلم الاطلاع عليها والإفادة منها، فلما ظهرت المطبعة أصبح الكتاب الواحد يطبع منه آلاف النسخ ويوزع على نطاق واسع فيتسع بتوزيعه تبادل الأفكار في العلوم والفنون والآداب. كما أدت كثرة المطبوع إلى إنشاء المكتبات العامة ليطلع مَن لا يستطيع الشراء؛ وخير مثال على هذا ما قام به علي مبارك حين أنشأ دار الكتب المصرية عام 1870م، وزودها بالكتب العربية والأجنبية في مختلف الآداب والعلوم والفنون، وحدد للدار وقتاً يزورها فيه العامة من الشعب للقراءة والاطلاع؛ مما زاد من اتساع دائرة التثقيف والتعليم في صفوف الجمهور.([2])
ظهور الصحف العربية:
يذكر مؤرخو الصحافة أن أول جريدة عربية صدوراً هي (جورنال عراق) التي أصدرها- باللغتين العربية والتركية- الوالي داوود باشا عام 1816، ثم- ومع الحملة الفرنسية على مصر عام 1798- صدرت في القاهرة صحيفتان باللغة الفرنسية أشبه بالمنشورات، وهما: (كورييه دي ليجيبت) و(الريكار)، ثم صحيفة (التنبيه) باللغة العربية، والتي لم ير عددُها الأولُ النورَ لرحيل الحملة الفرنسية عن مصر.. وفي عام 1828م أصدر محمد علي باشا صحيفة رسمية باسم (جريدة الوقائع المصرية).. ثم صدرت في دمشق (جريدة سوريا) عام 1867م، كما صدرت في حلب جريدة (فرات) عام 1865، ثم جريدة الشهباء.. وفي بدايات القرن العشرين كثر عدد الصحف العربية وخصوصاً في سوريا ومصر؛ فصدرت (المؤيد، واللواء، والسياسة، والبلاغ، والجهاد، والمقتبس.. وغيرها. ومن الصحف القديمة التي لا زالت تصدر في مصر حتى الآن جريدة الأهرام التي صدرت لأول مرة عام 1875م… وفي الجزائر صدرت جريدة (المبشر) عام 1847م، وكانت جريدة رسمية فرنسية، ثم صدرت جريدة (كوكب أفريقيا) عام 1907م وكانت أول جريدة عربية يصدرها جزائري.. وفي لبنان صدرت جريدة (حديقة الأخبار) عام 1858م ثم تبعها العديد من الصحف منها: (نفير سوريا) و(البشير).. وفي تونس صدرت جريدة باسم (الرائد التونسي) عام 1860م.. وفي ليبيا صدرت أول جريدة عام 1866م اسمها (طرابلس الغرب).. كما صدر في العراق صحيفة (الزوراء) عام 1869م تبعها عدة صحف منها جريدة (الموصل، والبصرة، وبغداد، والرقيب).. وفي المغرب صدرت جريدة (المغرب) عام 1889م.. وفي فلسطين صدرت جريدة (النفير) عام 1908م بينما في الأردن صدرت أول جريدة في عمان باسم (الحق يعلو) عام1920م.. وفي المملكة العربية السعودية صدرت أول جريدة رسمية باسم جريدة (القبلة)، ثم غُيّر أسمها إلى جريدة (أم القرى) عام1924م.. وفي اليمن صدرت جريدة (الأيمان) عام 1926م.. وفي الكويت صدرت أول جريدة بعنوان جريدة (الكويت) عام 1928م.. وفي البحرين صدرت جريدة (البحرين) عام1936م.
كما ظهرت صحافة عربية خارج الحدود الجغرافية لما سُمِّي بعد ذلك بالوطن العربي، أصدرها شعراء وكُتاب المهجر، مثل صحيفة: (كوكب أمريكا) في نيويورك عام1891م، وصحيفة: (مرآة الأحوال) في انجلترا عام 1876م.. ثم كثرت هذه الصحف بعد ذلك في أمريكا، والمكسيك، والبرازيل، وفرنسا، والأرجنتين، وكولمبيا.([3])
صحافة مصر:
أشرنا فيما سبق إلى أن مصر عرفت الصحافة في أوائل القرن التاسع عشر من خلال جريدة (الوقائع المصرية)، وقد كان يصدر قبلها نشرة حكومية تُسجل فيها أعمال الدواوين الرسمية والأجهزة الإدارية في الأقاليم، تُسمى: (جورنال الخديوي)، ثم تطورت مع تطور النظام الإداري لتصبح قلماً للوقائع، ثم: (الوقائع المصرية) التي أصبحت أم الصحف العربية في (1828م). كما صدرت صحيفة (روضة المدارس) في عام (1870م)، وأشرف على تحريرها رفاعة رافع الطهطاوي؛ فوجهها نحو غايتين هما: إحياء الآداب العربية، ونشر المعارف والأفكار الغربية الحديثة؛ لتتم بذلك رسالة ديوان المدارس في نشر الثقافة والعلوم، كما قيل!! وعاونه في ذلك ثلةٌ من الأدباء والعلماء في عصره.([4])
ولما كان الخديوي إسماعيل شديد الولع باحتذاء الأوروبيين والدعاية لنفسه، وكانت الصحافة المستقلة الشعبية منتشرة في أوروبا؛ أراد أن يقلدهم في ذلك أيضاً، وصادفت هذه الرغبة ظهورُ جيل من المصريين ممن ظفروا بحظوظ مختلفة من الثقافة العامة من مصادرها الأصلية أو منقولة إلى العربية، كما صادفت أيضاً تزايد أعداد نصارى الشام المهاجرين إلى مصر؛ ففتح إسماعيل لهم الباب على مصراعيه لإنشاء الصحف المستقلة لنشر أفكارهم التي كانت في غالبها أفكاراً تغريبية بعيدة عن أصالة العروبة وجذور الإسلام رغم خدمة بعضهم للسان العربي وعملهم على المحافظة عليه، وكانت أهم ميادين أنشطتهم الصحافة والمسرح.([5])
وقد جاءت الصحف الشعبية أو المستقلة أو الأهلية في عهد إسماعيل على ضربين:
الأول: الصحف الشعبية التي تولتها أقلام وعقول مصرية كصحيفة (وادي النيل) التي أنشأها عبد الله أبو السعود، والتي أصبحت بعد فترة لساناً يدافع عن إسماعيل ضد جريدة (الجوائب) التي كان يصدرها في القسطنطينية أحمد فارس الشدياق، ومجلة (نزهة الأفكار) لصاحبها إبراهيم المويلحي، والتي اتسمت بالحرية في نشر أفكارها على عكس المناخ السائد، وكذلك صحيفة (روضة الأخبار) التي تخصصت في السياسة والعلم والأدب والزراعة والتجارة.
الثاني: الصحف الشعبية التي تولتها أقلام وعقول شامية. وأول صحيفة صدرت منها هي الأهرام التي أصدرها سنة(1876م) بشارة وسليم تقلا.([6])
ومع تطور الحياة السياسية وانتشار المطابع الأهلية؛ اتسع الأمر وانداح حتى زاد عدد الصحف التي صدرت في عهد إسماعيل فقط على العشرين صحيفة، نذكر منها: الكوكب الشرقي، أبو نظارة زرقاء، الوقت، شعاع الكوكب، صدى الأهرام، مصر، حقيقة الأخبار، الوطن.. بالإضافة إلى الصحف الحكومية مثل: جريدة أركان حرب الجيش المصري، ومجلة يعسوب الطب، وروضة المدارس، والنحلة الحرة.
وتتابع الأمر بعد الخديوي إسماعيل رغم التضييق الشديد أيام الخديوي توفيق الذي أغلق صحيفتي (مصر) و(التجارة) لصاحبهما أديب إسحق، ونفى جمال الدين الأفغاني الذي أصدر مجلة (العروة الوثقى) وشاركه في تحريرها تلميذه محمد عبده، ثم اتفق الانجليز والفرنسيون على إغلاقها بعد ذلك.
كما صدرت خلال تلك الفترة بعض الصحف العلمية مثل (الشفاء) لشبلي شميل، و(الصحة) لأساتذة مدرسة الطب، بالإضافة إلي مجلة (اللطائف) لشاهين مكاريوس، ومجلة (الحقوق) لأمين الشميل، ومجلة (الأزهر) ومجلة (الآداب).
كما أصدر مصطفى كامل جريدة (اللواء) ذات الطابع الوطني الإسلامي لتحفيز الشعب المصري علي رفض الاحتلال الانجليزي سنة 1900م، وظهرت كذلك مجلة (حمارة منيتي) لمحمد أفندي توفيق الذي كان ضابطاً في الجيش المصري، وكانت ذات طابع هزلي ونقد لاذع ساخر. وظهرت مجلة (السيف والمسامير)، ومجلة (خيال الظل)، ومجلة (ألف صنف) لبديع خيري، ومجلة (الكشكول) لسليمان فوزي، ومجلة (الراديو) التي تحولت إلي مجلة (البعكوكة) فيما بعد لصاحبها محمود عزت المفتي. كما أصدر عبد الله النديم جريدة (الأستاذ) التي شهدت إقبالاً من القارئ المصري حتى صدر قرار إغلاقها وترحيل النديم من مصر، وصدر خلال تلك الفترة من الصحف جريدة (الهلال) لجورجي زيدان، بالإضافة إلي جريدة (الأخبار) لداوود بركات.
وقد أثَّر هذا التنوع الصحفي أول ما أثَّر في اللغة والأدب؛ فلأن الصحف لا تخاطب المثقفين فقط وإنما تخاطب جمهور الناس الذين لا يعرفون التكلف ولا التعقيد ولا الإغراب في اللغة؛ فقد تخفف الأدب تدريجياً من قيود السجع وألوان البديع، وتحرر الأدباء من أساليبهم المثقلة بالمحسنات البلاغية المتكلفة واستبدلوها بالأسلوب المرسل الذي يصل إلى الموضوعات والمعاني مباشرة دون حلى لفظية أو مقدمات بديعية؛ ليصبح الأدب في جملته اجتماعياً يُعنى بمشاعر الناس وأحاسيسهم وآمالهم. وقد اتسع هذا الاقتراب الأدبي من الناس- في النثر خاصة- حتى جار بعض الجور على روح الفن والجمال الواجب توفرهما فيه؛ وذلك حين أسرف بعض الأدباء في تبسيط أساليبهم إلى درجة الابتذال حتى يُعجبوا الذوق المتواضع في الشعب وينالوا استحسانه، وكان ذلك أثراً سلبياً من آثار الصحافة التي كانت تتطلب السرعة في كتابة المقال أو الخاطرة فلا يجد الأديب وقتاً للتجويد والتهذيب، غير أن ذلك لم يكن يمثل ظاهرة عامة وشاملة في كتاب الصحافة التي وجدت من بينهم طائفة كبيرة عنيت بأساليبها وحاولت جاهدة أن تلائم بين ضرورات الصحافة وما يتطلبه الإنتاج الأدبي فيها من سرعة، وبين الذوق الأدبي الرفيع .([7])
وتمثل صحيفتا (الأستاذ) و(التنكيت والتبكيت) لعبدالله النديم، لوناً من ألوان هذا الأثر السيئ في الكتابة العامية والاقتراب من اللغة الدارجة، إلا أن صاحبهما النديم لم يقصد الإضرار باللغة العربية أو المساس بقواعدها وأصولها، وإنما أراد ألا يخرج بهما عن سبب إنشائهما الذي يقوم على السخرية والتهكم من الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بلغة قريبة من لغة أبناء البلد ولهجاتهم الدارجة، متابعةً لطرائقهم في إطلاق الطرائف والنكات على أوضاعهم المتردية وأحوالهم الاجتماعية السيئة، واقتراباً منه لأساليب السخرية العصرية التي لا ترى بأساً في استخدام بعض الألفاظ العامية ضمن المقال أو القصة أو المقامة.
وكان لصحيفة (مصباح الشرق) التي أنشأها إبراهيم المويلحي ورأس تحريرها ابنه محمد المويلحي أثر واضح في مسيرة الحركة الأدبية؛ حيث اعتنت بالنقد الأدبي عناية فائقة وجعلت صفحاتها معرضاً لمختلف الآراء النقدية، ومسرحاً للمناقشات الأدبية، وكانت من أوائل الصحف التي نقدت شعر شوقي وحافظ، ونشرت شعر القدماء مثل شعر ابن الرومي الذي كانت تخصص له صفحتها الأخيرة، مع ترجمة لحياته وشرح لبعض ما غمض من أبياته، واستمرت على ذلك عدة أشهر حتى رسخ شعر ابن الرومي في الأذهان وتناوله الأدباء بعد ذلك بالدراسة. كما حفلت (مصباح الشرق) بالأدب القصصي الذي جاء في شكل مناظرات أو مقامات كـ(مقامات عيسى بن هشام) لمحمد المويلحي، و(حديث موسى بن عصام) لوالده إبراهيم المويلحي. ويمكن القول أن (مصباح الشرق) كانت أهم صحيفة ينتظرها الأدباء في تلك الفترة لِمَا كانت تحويه من أدب ونقد، وما تبثه على صفحاتها من تراث أدبي راقٍ وروائع شعرية ونثرية ؛ لتصبح _ كما قال العقاد _ :” لساناً للحركة الأدبية مسموعَ القول في نقد الكتابة والشعر والموازنة بين الكتاب والشعراء، وكان قولها منتظراً مرموقاً في أندية الأدب والثقافة”.([8])
الصحافة والتغريب في عهد الاحتلال الانجليزي:
ما إن وطأت أقدام الاحتلال الانجليزي أرض مصر حتى بدأ في تنفيذ خطة محكمة لبسط الهيمنة والسيطرة المادية والمعنوية على مقدرات المجتمع المصري، وكانت الصحافة هي الوسيلة الوحيدة لنشر الفكر والتعبير عن الرأي في تلك الآونة، مما أعطي لها أهمية خاصة في ضوء ذلك المخطط، فبدأت حكومة الاحتلال بتعطيل الصحف الوطنية الموالية للثورة العرابية عن الظهور، مثل: (المفيد، والسفير، والنجاح) لصاحبها حسن الشمسي الذي قُبض عليه وأودع السجن، ونفت محمد عبده في بَدء الأمر، وهرب عبد الله النديم واختفى عشر سنوات.. ثم عملت حكومة الاحتلال بعد ذلك على جذب العديد من صحف نصارى الشام التي كانت الخصومة قد اشتدت- قبيل الاحتلال- بينها وبين الصحف الثورية الوطنية مما أدى إلى إصابة بعضها بخسائر دفعت أصحابها إلى الهجرة من مصر، فما كان من الاحتلال إلا أن أجرى لهم تعويضات مجزية عن هذه الخسائر لتبقى صحفهم أبواقاً للمحتل وسنداً له، مثل: أصحاب صحيفة (الأهرام) التي قرر لها مجلس التعويضات 180 ألف فرنك، وكذلك جريدة (المحروسة) لصاحبها سليم النقاش الذي أعاد إصدارها بعدما قبض من الحكومة 40 ألف فرنك تعويضاً عن احتراق مطبعته إبان الثورة العرابية. وقد أغرى هذا الإغداق المادي أصحابَ بعضِ الصحف المصرية مثل: ميخائيل عبد السيد، صاحب جريدة (الوطن) التي كانت- مع غيرها- لساناً للثورة العُرابية بأن يغير سياسته تجاه الثورة بعد أن كان من مؤيديها، وقد وصل به الترغيب أو الترهيب إلى أن يكتب عن العرابيين قائلاً:” كانوا أشبه بالطاعون؛ إذ مطمح أنظارهم موجه إلى غايتهم الذاتية فلا يبالون بتغريب البلاد وخسروا دنياهم وأخراهم… سياستهم كانت كناية عن إلقاء الوحشة في الصدور وتمزيق البلاد بالعصبيات وكانوا أعداء لكل مصري عاقل”.. ومَثَّل هذا وأمثاله نجاحاً كبيراً لسياسة الاجتذاب التي انتهجها الاحتلال الانجليزي في جذب عددٍ من الصحف المصرية إلى صفه .([9])
وكان أن نُعت الثوريون العرابيون في الأهرام والمقتطف بـ(الفئة الباغية) أو (الفئة الضالة)، ونُشرت وقائع محاكماتهم في الأهرام تحديداً لأخذ العظة والعبرة!!! وهنأت المقتطف الشعب المصري على” خمود نيران الثورة المصرية ورجوع مياه مصر إلى مجاريها وانكساف شمس باغيها..” وشنت حملة شعواء على (العاصي عرابي!!!) ورفاقه، وَحَمَّلته تبعة مآلات الأمور في مصر، ثم نشرت صورةً ضخمة للجنرال ولسي قائد الحملة الإنجليزية على مصر مع شرح سيرته الشخصية وإبراز جوانب عظمته وعظمة الانجليز.
وقد خطط كرومر- بعد ذلك- لإعطاء قدر من الحرية النسبية للصحافة في مصر وذلك لتحقيق عدة مآرب([10]) :
أولاً: اعتقاده أن حرية الصحافة وحرية الخطابة، هما صمام الأمان للتعبير عن الشعور الذي قد يتحول إلى مظاهر أخرى خطيرة؛ فهما وسيلتان للتنفيس عن المشاعر الحبيسة لدى أبناء الشعب.
ثانياً: أن هذه الحرية النسبية كانت تنشئ نوعاً من الصراع والمنافسة بين الصحف التي كان يدعمها الاحتلال دعماً أدبياً ومادياً- وأكثرها من صحف نصارى الشام التي ظهرت غنية بالمال والخبر- وبين الصحف الوطنية التي حُبس عنها هذا الدعم فظهرت ضعيفة في إمكاناتها أمام صحف الاحتلال.
وقد أحدث هذا الصراع نوعاً من النفور بين المصريين والشوام عموماً، حَوَّلَ الصحف إلى ميادين معارك سياسية ووطنية بين الفئتين، واستفادت سلطات الاحتلال من هذه المعارك في خلق الثغرات لزيادة التدخل في شؤون البلاد باعتبار الانجليز مسؤولين عن توطيد الأمن؛ وبالتالي خلق مبررات لإطالة أمد الاحتلال، وشغل الرأي العام بمعارك صحفية وقضايا فرعية بعيداً عن الاحتلال وأعماله وبعيداً عن القضايا الأساسية.
ثالثاً: مداومة هذه الخصومات بين الشوام والمصريين أوجدت النظرية القائلة بالقومية المصرية، وكانت هذه النظرية بدايةً لتفكيك الرابطة الإسلامية التي كانت تربط مصر والبلدان العربية بكيان الخلافة الإسلامية العثمانية، ونجاح هذه الفكرة نجاح للقوميات المتعددة في كل بلد عربي، وفي هذا نجاح للدول الأوروبية وسبيل جديد للتدخل دون خوف من إثارة الخلافة العثمانية، ومعوق من معوقات انسجام الحركات الوطنية المختلفة في مصر والدول العربية.([11])
ولم يكتف الاحتلال باستمالة عدد من الصحف في اتجاهه ليعارض بها صحف التيارات الوطنية؛ بل أنشأ صحفاً تتحدث بلسانه رسمياً وتتولى الدفاع عن سياسته في مصر؛ فقد منح كرومر ترخيصاً بإنشاء جريدة (المقطم) التي صدر أول عدد منها عام (1889م) لصاحبيها فارس نمر، ويعقـوب صروف، والتي لقيت كل التأييد والدعم منه بعد ذلك.([12])
وقد نشأ أصحاب المقطم في (الجامعة الأمريكية) في بيروت، وأخذوا علومهم عن أشهر حكيم غربي قطن الشرق وهو الدكتور (فانديك)، ونالوا بعد ذلك شهرة واسعة في عالم الكتابة والتأليف الأدبي والعلمي عن طريق مجلة (المقتطف) التي أنشأها صروف ونمر سنة 1876م وهما في المدرسة الكلية السورية، وظلا يحررانها معاً إلى أن أصدرا (المقطم).([13])
وقد جاهرت المقطم بموالاتها للاحتلال وحفلت بمقالات الإعجاب والترحيب بسياسته، ووازنت بين ظلم الأتراك وعدل الإنجليز في مواضع كثيرة، حتى أن صاحبها فارس نمر يصف وجود الإنجليز في مصر بأنه ” كان أكبر نعمة وسوف يستمر كذلك لهذا القطر”([14])، ولا يجد غضاضة بعد ذلك في أن يعترف بالسياسة الاحتلالية التي أنتهجها في تحرير جريدة المقطم بقوله” نعم إنهم لقبوني بشيخ الاحتلاليين بين الصحافيين، وعيروني بالانتصار للمحتلين؛ فإن كانوا يقصدون بتلقيبي وتعييري أني اعترفت للاحتلال بالإصلاح وللمحتلين بأعمال حسنة كثيرة في هذا القطر؛ فأنا على رؤوس الأشهاد احتلالي من أكبر الاحتلاليين”.([15])
وقد نجحت المقطم في إغواء قلة من أعيان البلاد استهوتهم المصالح الشخصية؛ فانضموا إلى دعوتها، وسموا أنفسهم (الحزب الوطني الحر)، وأعلنوا الحرب على الحزب الوطني الذي يتزعمه مصطفى كامل متهمة إياه بالتدليس والتهريج والزج بالبلاد إلى هاوية الخراب.([16])
وكان أغلب محرري هذه الصحف من نصارى الشام الذين عُرفوا بنزعتهم إلى الثقافة الغربية؛ لذلك نجد هذه الصحف دائبة على نشر أخبار التطورات الغربية في العلوم والمخترعات، والمذاهب الاجتماعية والأدب والفلسفة والفن وسائر ضروب الثقافة، ولا تكاد تشير إلى شيء من قديم الشرق وتراثه الفكري؛ فتترجم لأعلام المشاهير من الغربيين ولا تكاد تجد فيها ترجمة لرجل من أبطال الإسلام أو الشرق أو مصر في تاريخها الحافل الطويل، كما كانت تعمل من طرف خفي على إضعاف الروح الدينية والوطنية بما تنشره من آراء تشكك في عقيدة أبناء الوطن.([17])
ولم تخل هذه المجلات من بعض الآراء السياسية التي تنساب إلى القراء مع الأنباء العلمية ويصبح لها صداها وأثرها السلبي رغم براءتها الظاهرة؛ فقد كانت مجلة (المقتطف) مثلاً تتحدث عن الأخوة الإنسانية التي ترتقي فوق العصبيات وتنأى عن الاختلافات، وتفرد صفحات كاملة عن قوات الدول الأوروبية والأحزاب الإنجليزية ونظام الحكم فيها، ومصادر الثروة في إنجلترا وما تتمتع به من تعدد لهذه المصادر، ثم تنشر سلسلة مقالات بعنوان (شذر الإبريز في نوابغ العرب والإنجليز) لتعقد فيها المقارنة بين نوابغ العرب والإنجليز.. ولا شك أن هذه الدعوات- رغم براءة مظهرها- كانت تخفي في باطنها أهدافاً مسمومة لتقريب الفوارق بين المصـري والمسـتعمر، وتذليل المطية للفارس الإنجـليزي ليتمكن منها بسهولة. ([18])
وتمثل هذه الطائفة من المجلات مجلة (المقتطف) التي انتقلت إلى مصر-سنة1884م- وكانت قد ظهرت قبل ذلك بثمانية أعوام في بيروت، ومجلة (الهلال) لجورجي زيدان التي أنشئت في مصر عام 1892م. وهذا النوع من المجلات على وجه الخصوص تزعم أصحابه الدعوة إلى العلمانية والتحررية في الفكر العربي الحديث، وتربية الجيل التالي من الصحفيين على المبادئ العلمانية، وهو الجيل الذي ربى بدوره جيلاً آخر جاءت من بعده أجيال على شاكلته فلم نبلغ منتصف القرن العشرين حتى كانت الصحافة كلها في أيدي العلمانيين.([19])
ولم يكن الخلاف بين المصريين والشوام هو الخلاف الوحيد الذي نشأ مع قدوم الاحتلال وظهر بجلاء على الساحة الفكرية، بل كانت هناك خلافات أخرى نشأت بين تيارات الحركة الوطنية مردها إلى اختلاف المذاهب وتعدد الرؤى في إيجاد طريق للخلاص وفك الحصار الذي أحكمته سلطات الاحتلال على المجتمع المصري، فَثَمَّ اتجاه يدعو إلى الرابطة العثمانية والجامعة الإسلامية تمثله جريدة (اللواء) لسان الحزب الوطني، وثَمّ اتجاه يدعو إلى القومية المصرية يضم خليطاً من فئات متعددة الأهواء، من بينهم مثقفون تأثروا بالثقافة الغربية عن طريق البعثات أو المترجمات، ومنهم فئة أخرى تزعم أنها صاحبة المصالح الحقيقية في مصر فتمالئ الاحتلال وتهادن سياسته، وتمثله (الجريدة) لسان حزب الأمة، وثَمَّ تيار ثالث يتبع القصر ويسير في مخاصمة الاحتلال أو مهادنته تبعاً لما تمليه عليه سياسة ساكن القصر، ويمثله الشيخ على يوسف بجريدته (المؤيد) لسان حال حزب الإصلاح على المبادئ الدستورية.([20])
وتشتعل المعارك الفكرية بين هذه التيارات وتعيش الصحف اليومية هذه الفرقة وتترجم صفحاتها وقائع تلك المِحَن، ويساعد الاحتلال على إشعال جذوة ذلك الصراع ويطلق له العنان ليبلغ ما صدر من تلك الصحف التي تؤيد هذا التيار أو ذاك إلى عام 1900م زهاء ثلاثمائة صحيفة.([21])
نماذج للدعوات التغريبية في الصحف المصرية إبان الاحتلال الانجليزي:
وكان أن تحولت الصحافة إلى شيء أشبه بالمدافع العسكرية التي أخذت تقصف العقول صباح مساء بكم هائل من الدعوات المغرضة والأفكار السقيمة والتيارات المنحرفة، ولأنها- آنذاك- كانت وسيلة التواصل الوحيدة؛ فقد كان تأثيرها على العقول شديداً، خاصةً مع تهيئة الأجواء الاجتماعية لتقبل مثل هذه الأفكار الغريبة عن مجتمعاتنا الإسلامية. فظهرت دعوات القومية العربية التي أرادت نقض الوحدة الإسلامية، ودعوات الفرعونية والآشورية والفينيقية التي أرادت نقض القومية العربية، ثم دعوات الوطنية الضيقة التي توالي وتعادي على مخرجات التقسيم الاستعماري للجغرافيا الإسلامية عموماً والعربية خصوصاً، ودعوات التشكيك في وجود أصول للحكم في الإسلام وقصر الإسلام على ممارسة الشعائر الخاصة بعيداً عن الحكم والسياسة والحياة، وقضايا تحرير المرأة وعملها وتعليمها وإخراجها من بيتها، والحجاب والسفور، وقضايا الدين والعلم والتعارض بينهما، ودعوات استبدال العامية بالعربية، واستبدال الأحرف اللاتينية بالأحرف العربية، والأدب المكشوف، والقديم والجديد.. وغيرها من الدعوات الهدامة التي صادفت- بوجود الاحتلال- تهيئةً اجتماعية وهزيمة نفسية في عقول وقلوب العرب والمسلمين عامة والمصريين خاصةً؛ فانتشرت هذه الدعوات انتشار النار في الهشيم، وأصبح لكلٍ منها دعاة وأتباع ومناصرون سحرهم بريقها الزائف، وأطمعهم سرابها الخادع، حتى صارت هذه الأوهام أسساً يُبنى عليها وأعمدةً يُستند إليها.([22])
لقد كانت هذه الدعوات عوامل هدم شديدة في صرح الأمة الإسلامية، وأُلهيات انشغل بها المسلمون والعرب في وقت كانت الأمة فيه أحوج ما تكون إلى العودة إلى الذات والتمسك بالأصول لحفظ ذاتها من الذوبان في ذوات الآخرين والانطلاق إلى المستقبل اعتماداً على تراث الماضي وبعض الجديد المفيد في الحاضر.. ولعل أخطر هذه الدعوات دعوات أربع تمثلت في زحزحة هوية المجتمع المسلم، وإفساد أساسه، وطمس لسانه، تمهيداً لإلحاقه بالآخر المستعمر تابعاً ذليلاً.. وتمثلت هذه الدعوات الأربع في: الدعوة إلى الوطنية المصرية بعد القومية العربية، والدعوة إلى ما سُمي بتحرير المرأة، والدعوة إلى الكتابة باللهجات العامية، والدعوة إلى إلحاق مصر بأوروبا.
أما ما سُمي بالوطنية المصرية؛ فقد احتفت (المقتطف) و(الهلال) بها خاصةً بعد ظهور نظرية جديدة للتاريخ المصري وضعها العالم الفرنسي ماسبيرو (مدير مصلحة الآثار المصرية) وأعلن عنها في خطبة ألقاها في نادي رمسيس مساء 19 نوفمبر سنة 1908 وعربها توفيق أفندي حنين ونشرتها جريدة مصر.عام 1908م. وقد حاول الربط فيها بين مصر المعاصرة ومصر الفرعونية، وادعى أن مصر قاومت كل الغزاة: روماناً وفُرساً وعرباً وأثرت فيهم، وأن التراث الفرعوني القبطي صمد في وجه الفتح الإسلامي، وأن الأقباط حافظوا على نقاوة دمهم بينما اختلطت دماء المسلمين مع دماء شعوب أخرى، وأن القومية المصرية قامت على أساس تغلب مصر على دخلائها، وأن المصريين أصلهم فرعوني، وأنه لا يوجد مصران: مصر مسلمة وأخرى قبطية؛ بل توجد مصر واحدة، والتقسيم الديني مظهر عارض.([23])
وقد حمل أحمد لطفي السيد( الذي يسمونه أستاذ الجيل) لواءَ هذه الدعوة حتى قبل ظهور هذه النظرية الاستعمارية المغرضة؛ فاستخدم صفحات جريدة (الجريدة) التي رأس تحريرها في الترويج والتأصيل لها. وقد وصل به التطرف فيها إلى حَدِّ أن يكتب في قائلاً “يجب على المصريين أن لا يجعلوا الدين بأي حال من الأحوال أساس عملهم وولاءهم السياسي، وأن عليهم أن يتخلوا عن التعصب الديني لأن مثل هذا التوجه السياسي ذريعة لبقاء البريطانيين في مصر”. ولم يكتف بذلك؛ بل هاجم بشدة الدعوة إلى الجامعة الإسلامية التي أطلقها السلطان عبد الحميد رحمه الله قائلاً:” نريد الوطن المصري والاحتفاظ به، والغيرة عليه كغيرة التركي على وطنه، والإنجليزي على قوميته، لا أن نجعل أنفسنا وبلادنا على المشاع، وسط ما يسمى بالجامعة الإسلامية.”. ووصل تطرفه مداه حين هاجمت إيطاليا ليبيا ورأى تعاطف المسلمين في مصر ووقوفهم مع إخوانهم المسلين في ليبيا وجمع التبرعات لهم وحشد المؤن والأسلحة لإرسالها للجيش العثماني في طرابلس؛ فدعا إلى وقوف مصر على الحياد في هذه الحرب التي رأى أنه لا ناقة للمصريين ولا جمل فيها!!
وأما الدعوة إلى ما سُمي بـ(تحرير المرأة) فقد ظهرت مقالاتها تباعاً على صفحات جريدة (الجريدة) ذاتها حين بدأ قاسم أمين يكتب مقالاته تلك في مارس سنة 1899م ثم جمعها بعد ذلك في كتابه المعروف: (تحرير المرأة) التي سارت بذكره الركبان وأحدث ضجة كبيرة استغلها أساطين التغريب في إخراج المرأة المسلمة من بيتها تحت دعاوى الحرية والمساواة والتعليم.
وأما الدعوة إلى استخدام اللهجات العامية في الكتابة فقد بدأت حين اقترحت جريدة (المقتطف) في أواخر سنة 1881م، كتابة العلوم باللغة التي يتكلمها الناس في حياتهم العامة، ودعت المثقفين إلى مناقشة هذا الاقتراح وإبداء الآراء فيه، ثم ثارت الدعوة مرة أخرى- كما يذكر الدكتور محمد محمد حسين- في أوائل سنة 1902م حين ألف القاضي ولمور- أحدُ قضاة محكمة الاستئناف الأهلية في مصر من الإنجليز- كتاباً سمّاه لغة القاهرة؛ وضع لها فيه قواعد، واقترح اتخاذها لغة للعلم والأدب، ثم اقترح كتابتها بالحروف اللاتينية. وتنبه الناس للكتاب حين أشاد به (المقتطف)، فحملتْ عليه الصحف، مشيرة إلى موضع الخطر من هذه الدعوة التي لا تقصد إلا إلى محاربة الإسلام في لغته. وفي ذلك الوقت كتب حافظ قصيدته المشهورة عن اللغة العربية.([24])
إلا أن أخطر أُلهية على الإطلاق في مجال تغريب المجتمع العربي في مصر تمثلت في محاولة إلحاق مصر جغرافياً وتاريخياً وفكرياً بأوروبا، والمناداة باستيراد خير الغرب وشره، ومتابعته وتقليده في كل ما ينتجه ويستحدثه، وقد تجسدت هذه الدعوة في مقالات صحفية كتبها سلامة موسى بين عامي (1925م ـ1927م)، ثم جمعها بعد ذلك في كتاب بعنوان: (اليوم والغد). ويتضح هدف الكاتب في مقدمته التي يقول فيها:” كلما ازددتُ خبرة وتجربة وثقافة توضحت أمامي أغراضي في الأدب كما أزاوله، فهي تتلخص في أنه يجب علينا أن نخرج من آسيا وأن نلتحق بأوروبا، فإني كلما ازددت معرفتي بالشرق زادت كراهيتي له وشعوري بأنه غريب عني، وكلما زدات معرفتي بأوروبا زاد حبي لها وتعلقي بها، وزاد شعوري بأنها مني وأنا منها. هذا مذهبي الذي أعمل له طوال حياتي سراً وجهرة فأنا كافر بالشرق مؤمن بالغرب”.([25])
ويضرب سلامة موسى في مقدمة كتابه أمثلة لهدفه؛ فهو يريد حرية المرأة كما يفهمها الأوروبي، ويريد من الأدب أن يكون أدباً أوروبياً 99 في المائة، ويريد أن تكون ثقافتنا أوروبية لكي نغرس في أنفسنا حب الحرية والتفكير الجرئ، وهو يهاجم الدين في المقدمة وفي مواضع كثيرة من الكتاب حتى ليخيَّل للقارئ أنه لا يبغض في هذه الشرقية التي يهاجمها إلا الدين؛ فهو يريد من التعليم أن يكون تعليماً أوروبياً لا سلطان لدين عليه ولا دخول له فيه، ويريد من الحكومة أن تكون ديمقراطية برلمانية كما هي في أوروبا، وأن يُعاقب كل من يحاول أن يجعلها مثل حكومة هارون الرشيد أو المأمون أوتوقراطية دينية، ويريد أن يبطل شريعة الإسلام في تعدد الزوجات وفي الطلاق بحيث يعاقب بالسجن كل من يتزوج أكثر من امرأة ويمنع الطلاق إلا بحكم محكمة، ويريد أن يقتلع من أدبنا كل طابع شرقي مما يسميه ” آثار العبودية والذل والتوكل على الآلهة”.([26])
ويكاد القارئ العاقل لصفحات الكتاب أن يشك في سلامة عقل صاحبه لما فيه من تطرف بعيد، وإيغال في الدعوة إلى مسخ الهوية العربية والإسلامية، والتأسيس لقطيعة معرفية مع كل ما يتعلق بالماضي العربي والإسلامي، وتشبث طفولي بالمظاهر الخادعة للحضارة الأوربية، وهو بهذا خليق أن يثير حفيظة الناس على صاحبه ويصرفهم عن كل ما يقوله؛ لأنه يتولى بنفسه مهمة التنفير من نفسه.
لقد لقيت هذه الدعوة رواجاً كبيراً في ذلك الوقت مع رواج دعوة القومية العربية الضيقة ثم الوطنية الأكثر ضيقاً، وإن العاقل ليعجب من تضاد هذه الدعوات فيما بينها ثم اجتماعها جميعاً على أمر واحد هو سلخ مصر والأمة العربية من الرابطة الإسلامية؛ فالقومية دعت إلى سلخ العرب من الإسلام أو اعتبار الإسلام ديناً بين العبد وربه والاكتفاء بذلك دون عقد الولاء والبراء عليه.. والوطنية سلخت الأقاليم العربية من القومية بمعناها السابق ليُعقد الولاء والبراء على قطعة أرض فوقها ثلة من الناس ربما يكونون مختلفي الأجناس والأصول.. أما الدعوة إلى الأوربة فقد وصلت إلى السلخ الأشد؛ فنفت مصر بقضها وقضيضها من العروبة والمصرية لتلحقها بأوروبا.
وقد كان طه حسين الذي يسمونه (عميد الأدب العربي) أحد أركان هذه الدعوة في فترة من فترات حياته- قيل بعد ذلك أنه تراجع عنها كما تراجع عن أمور كثيرة أثار غبارها في وجوه الناس واستنبت شرها في عقولهم وقلوبهم- فقد أصدر كتابه (مستقبل الثقافة في مصر) الذي كان أشد خطراً من كتاب (اليوم والغد)، وترجع خطورته إلى خطورة صاحبه طه حسين الذي شغل عدة مناصب ثقافية وأدبية وتعليمية مهمة، بالإضافة إلى شهرته الأدبية والفكرية، وكثرة المعجبين به، وتركيز الدوائر الاستشراقية على آرائه والدعاية لها .
وقد ظهر الكتاب سنة (1938م) بعد أن كثر الحديث بين الناس عن مستقبل مصر بعد المعاهدة المصرية البريطانية سنة (1936) م، وأراد المؤلف أن يرسم للناس سبيل النهضة التعليمية كما يقول في مقدمة كتابه!! فدعا إلى حمل مصر على الحضارة الغربية وطبعها بها، وقطع ما يربطها بقديمها، مبيناً أن سبيل النهضة واضحة بينة مستقيمة لا عوج فيها ولا التواء، وهي أن نسير سيرة الأوروبيين ونسلك طريقهم لنكون شركاء لهم في الحضارة خيرها وشرها، حلوها ومرها، ما يُحب منها وما يُكره، وما يُحمد منها وما يُعاب.([27])
وفي معرض حديثه عن تاريخ مصر القديم يتساءل المؤلف: أمصر من الشرق أم من الغرب؟ ثم يأخذ في الموازنة بين ما كان من رضا الفراعنة بالمستعمرات اليونانية قبل الألف الأولى الميلادية، وبين ما كان من نفور المصريين من الفرس وثورتهم عليهم، لينتهي من ذلك إلى تقريره بأن” العقل المصري منذ عصوره الأولى عقل إن تأثر بشيء فإنما يتأثر بالبحر الأبيض المتوسط، وإن تبادل المنافع على اختلافها فإنما يتبادلها مع شعوب البحر الأبيض المتوسط”.([28])
وقد دعا أيضاً إلى إقامة الحكم على أساس مدني لا دخل للدين فيه، مبيناً أن وحدة الدين ووحدة اللغة لا تصلحان أساساً للوحدة السياسية، ولا قواماً لتكوين الدول، ويدَّعي أن المسلمين قد أقاموا سياستهم على المنافع العملية، وعدلوا عن إقامتها على الوحدة الدينية واللغوية والجنسية قبل أن ينقضي القرن الثاني للهجرة، حين كانت الدولة الأموية في الأندلس تخاصم الدولة العباسية في العراق، ثم يتحجج بما زعم من أنهم فطنوا منذ عهد بعيد إلى أصل من أصول الحياة الحديثة وهو أن السياسة شيء والدين شيء آخر، وأن نظام الحكم وتكوين الدول إنما يقومان على المنافع العملية قبل أن يقوما على أي شيء آخر.([29])
وعلى هذا النسق سارت دعوات التغريب التي وُصفت بأفكار نهضة وحركات إصلاح وتيارات تنوير.. ولم ينفرد طه حسين ولا سلامة موسى بترديد هذه الدعوات والتأسيس لتلك الحركات أو التيارات، بل اشترك معهما جل أعلام هذا العصر المعروفين، أو الذين أريد لهم أن يكونوا معروفين وذائعي الصيت، من: أحمد لطفي السيد، إلى قاسم أمين، إلى منصور فهمي، إلى لويس عوض، إلى سعد زغلول، إلى علي عبد الرزاق، إلى محمد حسين هيكل، إلى ساطع الحصري، إلى نصارى الشام الذين سيطروا على الصحافة بأنواعها .. وكل واحد من هؤلاء حمل لواء قضية تغريبية لم يكن في مجملها صلاحٌ وإن تلبست به، أو تنوير وإن ظنت أنها تسعى إليه، أو نهضة وإن رأت أنها تعمل لها.. وهُم إنْ وجدوا من يتخذ لبعضهم بعضَ العذر بظروف عصرهم؛ فلن يجدوا من يتخذ لهم العذر حين يرى مآلات دعواتهم التي أسست لفكرة القطيعة المعرفية مع كل التراث العربي والإسلامي التي ظهرت بعد ذلك بعقدين أو ثلاثة في تيارات الحداثة الفكرية والأدبية.
[1] ـ الصحافة الأدبية بمصر والاتجاهات القومية ـ محمود فياض ـ الجهاز المركزي للكتب الجامعية ـ القاهرة 1976م ـ ص 1.
[2]ـ الأدب العربي المعاصر في مصر ـ شوقي ضيف ـ دار المعارف ـ القاهرة 2008 ـ ط14ـ ص31 ـ 32 .
[3] ـ للتوسع في هذا الباب يراجع كتاب: تاريخ الصحافة العربية ـ د. فتحي حسين عامر.
[4]ـ الصحافة الأدبية بمصر والاتجاهات القومية ـ محمود فياض ـ الجهاز المركزي للكتب الجامعية ـ 1976م ـ ص 1ـ 4.
[5]ـ الصحافة المصرية وموقفها من الاحتلال الإنجليزي ـ سامي عزيز ـ دار الكتاب العربي ـ 1968مـ ص14-16.
[6]ـ المرجع السابق ـ ص15-16.
[7]ـ نفسه ـ ص37.
[8]ـ رجال عرفتهم ـ عباس محمود العقاد ـ نهضة مصر ـ القاهرة 1992م ـ ص71 .
[9]. دور التعليم في النضال الوطني زمن الاحتلال البريطاني ـ سعيد إسماعيل علي ـ مرجع سابق ـ ص 70ـ 71 .
[10]ـ نفسه ـ ص 75.
[11]ـ الصحافة المصرية وموقفها من الاحتلال الإنجليزي ـ سامي عزيز ـ مرجع سابق ـ ص107.
[12]ـ المقطم جريدة الاحتلال البريطاني في مصر ـ تيسير أبو عوجه ـ الهيئة المصرية العامة للكتاب ـ 1997م ـ ص26ـ27.
[13]ـ تيسير أبو عرجة:المقطم جريدة الاحتلال البريطاني في مصر، مرجع السابق ، ص 28.
[14] ـ سامي عزيز :الصحافة المصرية وموقفها من الاحتلال مرجع سابق ،ص97،99.
[15] المقطم 26يناير 1910.
[16] الصحافة الأدبيةـ محمود فياض،مرجع سابق،ص13.
[17]ـ الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر ـ محمد محمد حسين ـ مرجع سابق ـ ص242ـ 244.
[18]ـ انظر على سبيل المثال : المقتطف أعداد : أكتوبر 1885م ـ ص5 ـ ومايو 1886م ـ ص449.
[19]ـ الإسلام والحضارة الغربية ـ محمد محمد حسين ـ مرجع سابق ـ ص56.
[20] محمود فياض ، الصحافة الأدبية بمصر والاتجاهات القومية ،مرجع سابق ،12 بتصرف.
[21] المرجع السابق ، ص 31.
[22]ـ انظر تفصيل هذه القضايا في كتاب : المعارك الأدبية في مصر ـ أنور الجندي ـ مكتبة الأنجلو ـ القاهرة 1983م .
[23] مجلة المقتطف :عدد يناير 1909خطبة ماسبيرو بعنوان أصل المصريين الحاليين ونسبتهم إلى قدماء مصر.
[24] ـ يراجع في هذا الباب كتاب الدكتورة نفوسة زكريا: تاريخ الدعوة إلى العامية وآثارها في مصر .
[25]ـ اليوم والغد ـ سلامة موسى ـ سلامة موسى للنشر والتوزيع ـ القاهرة 1928م ـ ط1 ـ ص 5 .
[26]ـ الاتجاهات الوطنية ـ محمد محمد حسين ـ مرجع سابق ـ ج2ـ ص222 .
[27]ـ مستقبل الثقافة في مصر ـ طه حسين ـ دار المعارف ـ القاهرة 1996م ـ ص41 .
[28]ـ المرجع السابق ـ ص70.
[29]ـ نفسه ـ ص73.