اختطاف الأدب العربي
الأدبُ مظهرٌ من مظاهر ثقافة الأمم، تتركز فيه خصائصها وسماتها، فإن اختُطف أدبُ أمةٍ أو استُلب؛ اختُطفتْ ثقافتُها واستُلبتْ.
وليس التأثير والتأثر اختطافاً؛ فإن الأدب لشدة ارتباطه بالنفس الإنسانية يتعرض لما تتعرض له النفس من تأثيرٍ في غيرها وتأثرٍ بغيرها، وهذا مظهر صحةٍ لا مرض، فمَا مِن أدبٍ من آداب الأمم قديماً وحديثاً إلا وأنت واجدٌ أثرَ غيرِه فيه، وواجدٌ أثرَه في غيرِه. وقد أثَّر الأدب العربي في آداب الأمم الأخرى كما تأثر بها، ويكفي أن تقرأ رأي المستشرق والأديب والمؤرخ الانجليزي المعروف هاملتون جب لتعرف مدى أثر الأدب العربي في الأدب الأوربي؛ وذلك حين يقول:” إن خير ما أسدته الآداب الإسلامية لآداب أوروبا أنها أثرت بثقافتها وفكرها العربي في شعر العصور الوسطى ونثرها”.
والاختطاف أشبه شيءٍ بارتهانِ أدبِ أمةٍ لمقاييسِ أدبِ أمةٍ أخرى ومدارسها الأدبية المختلفة، وقد حدث هذا للأدب العربي بُعيَد الحملة الفرنسية على مصر، ثم بُعيد اشتداد الهجمة الصليبية الاحتلالية- التي سُميت الاستعمار- على بلاد المسلمين عموماً.
وسائل وأساليب اختطاف الأدب العربي:
شهد العصر الحديث ظهور عدة دعوات تغريبية حاولت اختطاف الأدب واللغة العربيين من خلال صرف الأديب العربي عن الاهتمام بالأصالة العربية المتكئة على تراث الأمة الخالص شعراً ونثراً، وكانت الحرب على اللغة العربية، والدعوة إلى كتابتها بالأحرف اللاتينية، ومحاولة استبدالها بالعامية المحكية؛ هي البوابة الكبرى التي دخل منها دعاة التغريب عرباً وأجانب؛ مستغلين رغبةَ الاحتلال البريطاني في القضاء على اللغة العربية من جهة، وتزايد الشعور بالنقص في نفس المثقف العربي آنئذٍ من جهة أخرى.
ونادت هذه الدعوات أيضاً بالاهتمام بالآداب القومية الخاصة بكل قُطر؛ فيُعنى المصريون بالأدب المصري والعراقيون بالأدب العراقي والشاميون بالأدب الشامي، ثم حاولت تفتيت المفتت وتجزئ المجزء بالتركيز على ما يُسمى بالأدب الشعبي لصرف العرب عن الثقافة العربية وتقليل العناية بالماضي العربي الإسلامي شعراً ونثراً وتاريخاً وعلوماً. وساعد على انتشار هذه الدعوات ازدياد الهيمنة الثقافية الغربية على التعليم ووسائل الإعلام التي سيطر على الغالبية العظمى منها الأوربيون ثم نصارى الشام، ثم المسلمون العرب المُستَلبون الذين أسهموا بشكل كبير في نقل الثقافة الأوروبية بخيرها وشرها إلى مصر والعالم العربي وتثبيت دعائمها فيها.([1])
ثم شككت في الشعر الجاهلي من حيث هو قمة البلاغة والبيان العربيين وكونه شاهداً على إعجاز القرآن الكريم لأن الله جل وعلا تحدى العرب الذين أبدعوا هذا الشعر- الذي هو قمة بيانهم وبلاغتهم- أن يأتوا بسورة واحدة من مثلهن فلما عجزوا عن ذلك رغم بلاغتهم وفصاحتهم ومشابهة آيات القرآن لجنس كلامهم؛ دل عجزُهم على أن القرآن مغاير لكلام البشر؛ وأن محمداً- صلى الله عليه وسلم- لم يبتدعه من ذاته؛ إذ لو قَدِرَ على ذلك لقدروا عليه أيضاً؛ فهو واحدٌ منهم لسانه لسانهم وبيانه بيانهم؛ فدل ذلك على صدق نبوة محمد- صلى الله عليه وسلم- وتَلَقِّيه هذا القرآن عن ربه جل وعلا؛ ولهذا أراد الاستشراق أن يشكك في الشعر الجاهلي ليشكك في القرآن ويسقط نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.([2])
أما الأدب المكشوف، أو (أدب الغرائز) شعراً ونثراً؛ فلأن طبيعة هذا الأدب تُصادم دينَ وأخلاق وأعراف وتقاليد المجتمعات الشرقية عموماً والإسلامية خصوصاً؛ فقد بدأ بخطى وئيدة في أوائل القرن العشرين ثم ما لبث أن انداح واتسع شيئاً فشيئاً حتى صار له في خمسينات وستينات القرن العشرين أساطين في القصة والرواية والشعر. وقد استُخدم هذا الأدب أبشع استخدام في الحقبة الناصرية خاصةً من خلال تحويل أعماله الأدبية إلى أفلام سينمائية ومسرحيات لإشغال الناس عن حقيقة التيه الذي أوقعهم فيه الاحتلال وأذنابه.
كما واجه الشعر اختطافا في الشكل والمضمون معاً؛ فقد ظهر- في الشكل- ما سُمي بقصيدة التفعيلة التي اعتمدت تفعيلةً واحدةً أو تفعيلتين من تفاعيل الخليل أُسقطت معهما القافية أحياناً. وكان من أوائل من كتب هذا الشكل من الشعر: نازك الملائكة، وبدر شاكر السياب، على اختلاف في الأولية، ورُوي أن محمود حسن إسماعيل- وهو شاعرٌ اشتُهر باعتماده الشكل الأصيل- كان من الذين سبقوا إلى هذا الشكل في الشعر، ثم انداح الأمر بعد ذلك واتسع على يد شعراء ذاعت شهرتهم بعد ذلك، مثل: صلاح عبد الصبور، وأمل دنقل، وأحمد عبد المعطي حجازي، وسميح القاسم، ومحمود درويش، ونزار قباني، وغالب شعراء الخمسينات والستينات حتى كاد الشكل الشعري الأصيل أن يندثر لغلبة هذا الشكل على كتابات الشعراء آنذاك. وقد رَفَضَ هذا الشكلَ أساطينُ الشعر والأدب العربي في الأربعينات، وكان العقاد يراه تخريباً لا تجديداً ويهاجم الشباب الذين يكتبونه من أمثال صلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي بشدة، ويرفض إلحاق نتاجهم بلجنة الشعر في المجلس الأعلى للفنون والآداب في مصر، ويصر على إلحاقه بلجنة النثر.
وعلى الرغم من أن هذا الشكل في الشعر كان جرأةً على الشكل الأصيل لم يستسغه الذوق العربي ابتداءً؛ إلا أنه لم يتحلل تماماً من الشرط الجوهري للشعر، وهو (الوزن والموسيقى الداخلية)، وكان رواده الأوائل يمتلكون القدرة على الكتابة بالشكل الأصيل بخلاف مَنْ جاء بعدهم ممن استسهل هذا الشكل لقلة علمه وضحالة موهبته، وكان العصر عصر أوهامِ تطويرٍ وتجديد؛ فاعتمدوا هذا الشكل في كتابة الشعر ظناً منهم أنه التطور الطبيعي للشعر وأنه مواكبة للعصر وتحرر من التبعية حتى حاربوا الشكل الأصيل للقصيدة العربية في الصحف والمجلات والمؤتمرات وسخروا منه ومن القابضين عليه الملتزمين به.
ولأن الهوس بالتجديد- دون اعتبار للثوابت- يوقع المهووس في دَرَكَةٍ لا قاع لها؛ فقد ظهر الشكل الآخر للشعر في صورة ما سُمي بـ (قصيدة النثر) والتي يُناقض نصفُ مسماها نصفَه الآخر؛ وكان هذا الشكل هو الفتنة الحالقة التي ضربت النثر بالشعر فلم يعد الناس يعرفون حدود الشعر من حدود النثر؛ وكان أن استسهل الجميع الكتابة حين أسقطوا القواعد والأصول والعروض والقوافي؛ فلم يعد الشعر شعراً ولا النثر نثراً، وإن شئت فقل: صار الشعر نثراً مشعوراً، والنثر شعراً منثوراً، حتى أدخل هؤلاء رائداً من رواد النثر الفني في العصر الحديث هو جبران خليل جبران في زمرة شعراء هذا النثر المشعور!!!
ولا يُحتاج هنا إلى التنبيه على أن هذا الشكل من النثر- الذي سُمي شعراً- لم تُنتجه البيئة العربية ابتداءً ولم يتطلبه الأدب العربي أو يستحدثه بذات المسمى؛ بل كان تقليداً فجاً ومتابعةً عمياء لشعراء غربيين من أمثال: بودلير، ورامبو، ووالت ويتمان، وملاراميه، ولوتريامون، ظهروا بمدارسهم الأدبية وطرائقهم الفنية في أوروبا وأمريكا؛ فقلدهم المُستَلبون العرب؛ بعضهم بُحسن نية، وغالبهم بسوء نية (كما ظهر بعد ذلك في فضيحة مجلة شعر اللبنانية المخابراتية)، والتي أنشأها: علي أحمد سعيد إسبر (المسمى أدونيس)، ويوسف الخال، وخليل حاوي، ونذير عظمة، واستطاعوا استقطاب عدد من الأدباء الشباب آنذاك، مثل: أسعد رزوق, وأنسي الحاج، وخالدة سعيد، وفؤاد رفقة، ومحمد الماغوط، ومنير بشور، وشوقي أبي شقرا، وعصام محفوظ. كما تحمس لهذا الشكل لويس عوض، وغالي شكري، وأحمد عبد المعطي حجازي في مصر.. ثم اتسع الأمر بعد ذلك حتى لم يعد أحدٌ يستطيع حصر شعراء هذا الشكل لأن الجميع صاروا به شعراء.
أما المضمون فحسبك أن تقرأ أسماء الأدباء والشعراء الذين سلف ذِكرهم هنا لتعرف كيف سار المضمون في الشعر في تلك الفترة، واستمرت ذيوله حتى الآن؛ فغالبهم كان من نصارى الشام ومصر، ومن الطوائف الحاقدة على العرب والعربية الذين استغلتهم الصليبية والصهيونية العالمية؛ فأمدتهم بالمال والشهرة والمجلات والمؤتمرات وفتحت لهم وزارات الثقافة في الأنظمة العربية المُستلبة أبوابها؛ فاختطفوا الأدب العربي- شعره ونثره- وأثروا في شباب المسلمين الذين لم يُدركوا خديعة الاختطاف فحذوا حذوهم واقتفوا آثارهم وقلدوهم؛ فجاء المضمون غريباً عن وجدان العربي
أما المضمون فحسبك أن تقرأ أسماء الأدباء والشعراء الذين سلف ذِكرهم هنا لتعرف كيف سار المضمون في الشعر في تلك الفترة، واستمرت ذيوله حتى الآن؛ فغالبهم كان من نصارى الشام ومصر، ومن الطوائف الحاقدة على العرب والعربية الذين استغلتهم الصليبية والصهيونية العالمية؛ فأمدتهم بالمال والشهرة والمجلات والمؤتمرات وفتحت لهم وزارات الثقافة في الأنظمة العربية المُستلبة أبوابها؛ فاختطفوا الأدب العربي- شعره ونثره- وأثروا في شباب المسلمين الذين لم يُدركوا خديعة الاختطاف فحذوا حذوهم واقتفوا آثارهم وقلدوهم؛ فجاء المضمون غريباً عن وجدان العربي، متجاهلاً همومه، خالياً من الأهداف الفكرية أو الوجدانية الجادة، تابعاً للأدب الغربي بشدة، موغلاً في الذاتية التائهة الهائمة، داعياً- أحياناً- إلى الفسق والفجور حاضاً عليهما مزيناً لهما، حافلاً برموزٍ أسطورية كفرية شركية غُرست- دون استنكار- بحمولاتها الفلسفية في البيئة العربية الإسلامية، مثل: أساطير الآلهة اليونانية، وسيزيف، وبرومثيوس، والخطيئة، والخلاص، والفداء والصلب.. إلى آخر هذه الرموز المخالفة للعقيدة الإسلامية، مع غموض مقيتٍ جعله أشبه بطلاسم مبهمة وركاكة فنية لا يخطئها الذوق السليم.
وقد انهالت التياراتُ الأدبية الغربية الجذور التي أراد مستوردوها- في أجيال لاحقة- أن يعيدوا قراءة الأدب العربي وفق قواعدها وأسسها وأن يُدرجوا النتاج الحديث للأدب العربي ضمن المسميات المترجمة للتيارات الوافدة.. مثل: الرومانسية، والكلاسيكية، والفن للفن، ثم البنيوية، والتفكيكية، والحداثة، وما بعد الحداثة، وعملت وسائل الإعلام والثقافة المختلفة على تضخيم هذه التيارات والإعلاء من شأن أقطابها الأوربيين ومستورديها العرب.
وهذا ما انتقده منصور الحازمي حين تحدث عن تاريخ المذاهب الأوروبية الكبرى في الأدب، وفوضى استيرادها عربياً، فقال:” وهكذا نجد أن المذاهب الأدبية الكبرى- الكلاسيكية، والرومانسية، والواقعية- التي عرفتها الآداب الأوربية في مدى ثلاثة قرون اجتازها الأدب العربي الحديث في زمن يسير لا يتجاوز نصف القرن تقريباً. لقد كانت الآداب الأوروبية تتطور ببطء وتتجدد بتجدد مجتمعاتها وأحوال عمرانها، أما الأدب العربي الحديث فقد كان ولا يزال يجتاز المسافات قفزاً ويطوي الزمن طياً، فكانت النتيجة أن ضعفت الصلة بين دعوات التجديد في الأدب العربي الحديث وبين واقع المجتمعات العربية التي لا تستطيع- مع الأسف- أن تتطور فكرياً بالسرعة التي تتطور بها نظريات الأدب المستوردة”.([3])
أما المناهج النقدية؛ فقد استوردت استيراداً مباشراً وسريعاً من الغرب، وقُرأ مِن خلالها التراث العربي دون وعي من المستوردين أن المنهج في ذاته لا بد له من بيئة حاضنة تنتجه حين تحتاج إليه؛ فيتطور بها ومعها تطوراً بطيئاً أو سريعاً، حسب التفاعلات الأدبية والثقافية في البيئة الحاضنة، وأنه لا يمكن بحال تطويع بيئة من البيئات في فترة زمنية قصيرة لتتوافق مع مناهج بيئة أخرى نتجت وتطورت في فترات زمنية متباعدة جاوزت القرنين من عمر الزمن. إلا أن المختطِفِين وأسيادهم كان لهم رأي آخر؛ فمنذ الربع الأول من القرن العشرين الميلادي والنقد العربي يعيش انفتاحاً على النقد الغربي بكافة تحولاته ابتداءً بمناهج الحتمية العلمية: (المنهج التاريخي، والمنهج النفسي، والمنهج الاجتماعي)، ومروراً بالأسلوبية، والبنيوية، والتفكيكية، وانتهاءً باللسانيات، ونظريّة التلقي، والنقد الثقافي.([4])
وقد حدث- ابتداءً- الخلط المتوقع، (وإن شئتَ فقل: المقصود) بين المناهج المستوردة وبين الجذور العربية التي يراها الدارس شبيهة ببعض إجراءات تلك المناهج؛ فصارت الدراسات النقدية تحفل بأنواع التجاذبات بين الأصيل والدخيل، والذاتي والمستورد؛ لتتحول إلى دراسات تلفيقية هجينة، لا يبرر تلفيقيتها حسنُ نية صاحبها- إن افترضناها- في البحث عن الجذور العربية الأصيلة وربطها بإجراءات تلك المناهج الدخيلة؛ لأنه انطلق في عمله هذا من قناعةٍ نفسيةٍ مستلبة تقوم على جعل الدخيل أصلاً يقاس عليه الأصيل، وهذا ما انتقده حامد أبو أحمد قائلاً:” إذا كان العرب القدامى قد أبدعوا قيماً في مجال اتساق الخطاب وانسجام النص فلماذا لا نواصل مسيرتهم انطلاقاً من مفاهيم ومصطلحات عربية خالصة مستعينين في الوقت نفسه بالاكتشافات القادمة من الغرب بدلاً من أن نُحدث نوعاً من الخلط بين المفاهيم الأصيلة والمفاهيم المستوردة”.([5])
وهذا الخلط لم يقتصر على المزج بين الأصيل والدخيل فقط؛ بل وصل إلى المزج بين المناهج الدخيلة نفسها، أو الانتقال من أحدها إلى الآخر في فترة زمنية قصيرة. وقد لاحظ سيد البحراوي أن الاتجاه السائد بين نقاد تيار النقد الجديد في فترة السبعينيات وما تلاها- مجلة فصول مثالاً-” كان هو اتجاه الجمع بين أكثر من منهج في ذات الوقت، أو الانتقال بسهولة من منهج لآخر حسب مقتضى الحال، أو ما يُتصور أنه جديد في ساحة النقد الأوربي، ولعل الأمثلة أكثر من أن تُحصى لنقاد انتقلوا من الواقعية إلى البنيوية إلى الأسلوبية، ثم إلى التفكيكية في مدى لا يزيد على عقد من الزمان، وآخرون انتقلوا من المنهج الاجتماعي إلى البنيوية ثم إلى التفكيكية، وفريق ثالث انتقل من المنهج النفسي إلى البنيوية، ومنه إلى التفكيكية.. إلخ”.([6])
وقد أنتج هذا الخلل التطبيقي تجهيلاً وتشويهاً للمنهجين معاً: الدخيل والأصيل؛ فالناقد الذي يرفع شعار البنيوية أو التفكيكية أو الأسلوبية، ثم نراه- بفعل تجذر ثقافته العربية في نفسه- يسير في اتجاهات منهجية أخرى أقرب إلى أصالته العربية التي تشربها منذ الصغر ولم يستطع الفكاك منها؛ يُشوّه- بفعله هذا- المنهجَ الدخيل بإجراءات المنهج الأصيل، والمنهجَ الأصيل برفع شعارات المنهج الدخيل، وتطعيمه ببعض المصطلحات الغربية بغية إشعار الآخرين أنه لم يخرج عن طبيعة المنهج الذي رفع شعاره بينما هو في الحقيقة لم يدخل إليه أصلاً، فلا هو أدرك الجديد الذي رفع شعاره، ولا هو ترك القديم الذي نعته بالتخلف.
وقد حصر الدكتور محمود أمين العالم أربع مدارس أدبية تم استيرادها بمناهجها الإجرائية المختلفة منذ مطلع القرن العشرين وحتى الآن، وهي([7]):
الأولى: المدرسة الوجدانية: وتضم النظرية الرومانتيكية كما في اتجاهات مدرستي الديوان، وأبولو، واتجاه جبران خليل جبران، وميخائيل نعيمة، وتطبيقات المنهج النفسي عند أحمد محمد خلف الله، والنويهي، والخولي، ومصطفى سويف، ويحيى الرخاوي.
الثانية: مدرسة الذوق الفني: وتجلت في نقد طه حسين الذي بدأ تقليدياً، ثم متأثراً بمناهج الحتمية العلمية التاريخي عند هيبولت تين، ثم الجمع بين منهج البحث العلمي والتذوق الفني بعد ذلك، كما نجد هذا الذوق لدى محمد مندور في نظراته النقدية المختلفة.
الثالثة: المدرسة النقدية الجدلية: التي اتخذت من مفهوم الانعكاس أساساً في فحص العمل الأدبي، كما في كتابات عصام حنفي، وسلامة موسى، ومجلة الطليعة السورية، وعمر فاخوري، ومفيد الشوباشي، ورئيف خوري، ثم مجلة الثقافة الجديدة، وحسين مروّه، والشرقاوي، والخميسي، ولويس عوض، وصلاح حافظ، وعبد العظيم أنيس، ومحمود العالم، وعبد المحسن طه بدر، وغالي شكري، ثم في أتباع البينوية التكوينية عند (غولدمان) أمثال: جابر عصفور، ومحمد بنّيس، ومحمد برادة، وأتباع باختين أمثال: يُمنى العيد، وسيد البحراوي، وأمينة رشيد.
الرابعة: المدرسة النقديّة الوضعيّة والبنيويّة: كما في كتابات أدونيس، وصلاح فضل، وفريال غزول، وخالدة سعيد، وكمال أبو ديب، وعبد الفتاح كليطو، وعبدالله الغذامي، وعبد الكريم الخطيبي.
ويصرح محمود أمين العالم في نهاية حصره بأن التصورات الأساسية لهذا الفكر النقدي هو صدى لتصورات ومفاهيم نقدية أوروبية، ثم يخفف من حدة تصريحه بقوله:” وإن كانت استجابةً في أغلب الأحيان لاحتياجات اجتماعية موضوعية أسهمت في استيعابها وتشكيلها تشكيلاً خاصاً يتلاءم وهذه الاحتياجات، ويعبر عنها بمستوى آخر”.([8])
وسواء قبلنا هذا التخفيف أو رفضناه؛ فإن تاريخ المناهج النقدية المستوردة التي حفلت بها الساحة الأدبية العربية لم يسجل حالة واحدة مَثَّل فيها استيراد هذه المناهج ضرورة أدبية أو نقدية ملحة لواقع النقد والأدب العربيين، فضلاً عن صدوره عن خصوصية ثقافية عربية، وغاية ما كان يحدث- إن أحسنّا الظن- أن يعتقد فردٌ أو جماعة وجود حالات أدبية عربية مشابهة لحالات أدبية غربية؛ فيستورد لها ذات المنهج الإجرائي المصاحب للحالة الغربية؛ لينظر إلى حالة عربية بمنظار غربي، ثم يعمم هذه النظرة على الأدب العربي، فيلوي عنق النصوص، ويتكلف التأويلات والتفسيرات، دون الانتباه إلى أن هذه المناهج النقديّة التي استنسخها النقد العربي الحديث هي نتاج خصوصيّة ثقافية وتحوّلات فكرية واجتماعية مغايرة لا يمكن تجريدها من خصوصيتها الثقافية ومضامينها الفكريّة.
والناقد العربي حين يطبق هذه المناهج على الأدب العربي يقف أمام طريقين لا ثالث لهما:
أولهما: أن يطبق هذه المناهج كما هي متبنياً مضامينها الفكرية وجذورها الفلسفية؛ فيقع تبعاً لذلك في الإساءة إلى المادة الأدبية موضوع التحليل النقدي؛ لاختلاف جذور المادة الأدبية عن جذور المنهج المتبع.
ثانيهما: أن يُحدث تغييراً جوهرياً في المنهج الغربي الذي يطبقه لِيُلائم المادة الأدبية؛ فيقع تبعاً لذلك في الإساءة إلى المنهج الأصلي ذاته؛ إذ لن يصبح المنهج بعد التغيير هو هو قبل التغيير.
وسيكون من الوهم القول بإمكانية فصل المنهج عن سياقه دون إحداث تغيير أو تعديل طفيف؛ لأن ذلك لن يثبت عند التحليل التاريخي للخلفية الفلسفية التي تحملها تلك المناهج. وقد تلبس بعض النقاد العرب بهذا الوهم معتقدين إمكانية الفصل بين المنهج النقدي وجذوره الفلسفية؛ فعبد الله العروي مثلاً يرى إمكانية رفض البنيوية كفلسفة وتوظيفها كمنهج للتحليل في حدود معينة، وكمال أبو ديب يبتعد أكثر فيرى أن البنيوية ليست فلسفة في الأصل ولكنها طريقة في الرؤية والمنهج ومعاينة الوجود.([9])
وهذا المنطق التبريري لا يثبت أمام البحث العلمي؛ فالمناهج النقدية لا يمكن أن تنشأ من فراغ، وما تحولات الخطاب النقدي الغربي إلا نتيجة لكشوفات العلوم التجريبية، وتراكمات البنية الثقافيّة. وصحيحٌ أن النقد العربي الحديث حقق بهذه المناهج كشوفاً مهمة في قراءة النص النقدي والإبداعي، إلا أن هذه الكشوف لم يتطلبها السياق التاريخي للأدب العربي، ولم يكن لها ضرورة واقعية فرضت إنتاجها؛ ولهذا كان الضرر الذي أحدثته أضخم من النفع الذي جلبته؛ لأنها وضعت النصوص في كثير من الممارسات على أجهزة التعذيب وأجبرتها على الإفضاء باعترافات كاذبة كما يرى الدكتور عبد العزيز حمودة ([10])، وشوهت التشكيل الحضاري للأمة برمته، كما يرى الدكتور عبد الوهاب المسيري.([11])
لقد كانت هذه المناهج أشبه بدواء لداءٍ لا وجود له، أَصرَّ طبيبٌ جاهل أو عالم على إعطائه لصحيحٍ افترض فيه المرض، فتحول الدواء الشافي في جسد الصحيح الذي لا يحتاج إليه إلى داءٍ عضالٍ لا دواء له، وأصبح المرضُ تبعاً لذلك مرضاً فعلياً بعد أن كان مرضاً افتراضياً.
ومَثَّلَ هذا قمة الاستلاب النفسي تجاه الآخر الغربي، وقمة الاختطاف التغريبي للأدب العربي، ونتج عن ذلك إشكالات نفسية وفكرية غلفت الخطاب الحداثي في الأدب والنقد العربيين بسماتٍ لخصها الدكتور سعد البازعي في المحاور التالية:
الأول: مناهضة الفكر المحافظ في الثقافة العربيّة من خلال توظيف خطاب ذي منزع ليبرالي أو تقدمي يساري.
الثاني: النظر إلى الغرب بوصفه مركز القيادة الثقافية للعالم؛ فالتحرر والتقدم والمعرفة لا تتم إلا من خلال المثاقفة معه.
الثالث: عزل المفاهيم والمناهج المستعارة عن سياقها المنهجي والثقافي إما جهلاً بها أو تهميشاً لها.
الرابع: الاضطراب والخلط بين المفاهيم والمناهج والسياقات في التنظير والممارسة الإجرائية.([12])
وقد خَلَّفَ هذا الخلطُ بين المناهج وعزلها عن سياقاتها ضبابيةً معرفية جعلت القارئ العربي لا يعرف شيئاً ولا يدري من أين يبدأ؛ فقد كثرت المدارس وتشابهت المصطلحات وتداخلت المناهج واختلطت في ذهنه تشكيلات الصورة، ولم يعد يفهم معنى الحداثة أو النقد الجديد أو الرواية الضد أو تيار الشعور أو الرواية النفسية؛ فجمع كل ذلك في سلة واحدة ثم وضع عليها عنواناً عريضاً هو (الحداثة)؛ ليخرج بعد ذلك بمفاهيم مغلوطة وأفكار متضاربة ومصطلحات متداخلة.([13])
وأدت هذه الفوضى المنهجية الناتجة عن الاختطاف الأدبي إلى انغلاق تيار ادعى المحافظة على أصالة الأمة وتراثها؛ بينما هو جامد عاجز، وانفتاح تيار آخر ادعى التجديد والتألق وتعدد الرؤى ومواكبة العصر وتفجير اللغة؛ بينما هو مُستَلَب مُختطفٌ مهزوم. وغني عن البيان أن الرفض المطلق والقبول المطلق، كلاهما استلاب وتبعية واختطاف؛ فالأول مستلب لتراث أمته وقديمها، والثاني مستلبٌ لتراث غيره قديماً وحديثاً؛ مما أوقع التيارين في تيه منهجي ومثاقفة غير واعية..” فلا الرفض بحد ذاته قادراً على إضعاف حضور تلك المناهج في سياقات حضارية غير سياقاتها، ولا مجرد القبول مُمَكِّنَاً من منح تلك المناهج صفة الحياد الذي يمكنها من الانسجام الكامل داخل أطرٍ ثقافية غير أطرها الأصلية”.([14])
وعليه؛ فإننا نستطيع تلخيص هذه الإشكالية في سلسلة من الأخطاء ترتب بعضها على بعض؛ فالمثاقفة غير الواعية مع الغرب أنتجت في الغالب فهماً مغلوطاً لطبيعة المناهج الغربية، والفهم المغلوط أنتج فوضى استيراد المناهج، وفوضى استيراد المناهج أنتجت اختلاط المناهج بعضها ببعض، واختلاط المناهج أنتج تشويهاً للمناهج الدخيلة والأصيلة في آن واحد، ثم أنتج هذا التشويه منظومة من التيه المنهجي والتخبط الفكري والاختطاف الأدبي في العالم العربي تسبب في ظهور تيارات متضادة تشددت في قبول الآخر أو رفضه.
وقد يرى المتعجل أن الحل الأمثل لهذه الإشكاليات هو تبني النزعة التوفيقية التي تدعي موافقة كثير من المفاهيم النقدية العربية القديمة للمفاهيم النقدية الغربية الحديثة؛ فالتناص مثلاً هو السرقات الشعرية، والبنيوية هي نظرية النظم، والاتجاه النفسي في تحليل النص مبثوث في تراث عبد القاهر الجرجاني، والبيئة بوصفها سمة مميزة للإبداع موجودة عند الجاحظ وابن رشيق، والبنية الفوقية والتحتية يمكن أن نجد لها جذوراً في (المعنى) و(معنى المعنى).. وهكذا.. ويعلق صالح الزهراني على هذه النزعة قائلاً:” وهذا التلفيق الذي يلغي الحمولات الفكرية وينتزع المفاهيم من سياقاتها ليس أقل ضلالاً من الانغلاق الفجّ والتشيّع الأعمى للذات أو للآخر. وخطورة هذا التوجه لا تنحصر في تخطيه للأبعاد الفلسفية للمناهج النقدية، وإغفال المرجعية الفكرية للمفاهيم والمصطلحات وطرائق الإجراء فحسب؛ وإنما في كون التراث النقدي العربي يصبح مرهوناً في أصالته وقدرته على الانفتاح والتجدد، بتعالقه مع المقولات النقدية الغربية الحديثة؛ فهي التي دائماً تمنحه البقاء وتهبه شهادة استمرار الصلاحيّة”. ([15])
الحداثة.. الفتنة الحالقة:
كادت الحداثة بصورتها العربية أن تكون الفتنة الحالقة التي تجتث كل شيء؛ لأنها كانت حداثة ذات أصول فلسفية شاملة بدأت في العالم العربي عن طريق الإبداع الفني متوسلة بالدعوة إلى التجديد الأدبي والثقافي، متخذة من دعوى تحديث الشكل الأدبي ذريعة لإفساد المضمون، بل إنها مضت في إطار الشكل داعيةً إلى تفجير اللغة في قواعدها النحوية والصرفية حتى انتهت إلى الهجمة على شعر التراث الذي يحتوي شواهد اللغة من القرآن الكريم والحديث الشريف وكلام العرب.
وما من شك في أن سنة الحياة تقتضي التطور والتجديد، إلا أن مشكلة الحداثة والحداثيين في العالم العربي كانت هي هي مشكلة التغريب والمستغربين؛ فقد كان هَمُّ القوم هو التجديد في الثوابت والأصول والجذور التي لا تقبل- بطبعها- ما يسمى بالتجديد؛ لأن التجديد في الأصول لا يكون إلا بالتبديل والإحلال، وقد كان ذلك هدف القوم من البداية توسلوا له بمسمى التجديد خداعاً وتقية؛ فأضحت الحداثة في العالم العربي كلمة حق أريد بها باطل؛ لأنها لم تكن في الأساس سوى مذهبٍ فلسفيٍ هدامٍ يتناول سائر جوانب المعرفة الإنسانية حتى ليبدو جانب الأدب فيها جزئياً.
وقد بين الدكتور محمد مصطفى هدارة خطر الحداثة الفكرية الشاملة حين قرر أنها” في الحقيقة أشد خطورة من الليبرالية والعلمانية والماركسية وكل ما عرفته البشرية من مذاهب واتجاهات هدامة، ذلك أنها تتضمن كل هذه المذاهب والاتجاهات، ولا تخص مجالات الإبداع الفني أو النقد الأدبي، ولكنها تعم الحياة الإنسانية في كل مجالاتها المادية والفكرية على السواء.” ([16])؛ لأنها كما عرفها جان بوديار:” نمط حضاري خاص يتعارض مع النمط التقليدي، أي مع كل الثقافات السابقة عليه أو الثقافات التقليدية”.([17])
وقد” أخذت الحداثة العربية المعاصرة عن الفكر الغربي كل شيء تقريباً؛ فتجلت فيها على نحو لا تخطئه العين ملامح حداثته؛ فإذا هي نسخة منها، بل قد يغلو القوم عندنا في بعض الأفكار أكثر مما يغلو فيها أولئك، ويتحمسون للدفاع عن الدار أكثر من حماسة أصحابها أنفسهم.”([18])، وقد لخص عبد العظيم المطعني ملامح الحداثة العربية في: تدمير اللغة، وربط الإبداع بالتمرد، والتحرر من جميع القيود السياسية والدينية والخلقية والتراثية، وفصل المرسل عن المتلقي، وفصل النتاج الأدبي أو النص عن قائله، وإلغاء التقابل بين معياري الصواب والخطأ، وكراهية التراث، والتناص، والاغتراب عن الواقع، والإسراف في استخدام الرموز.([19])
فهي عقيدة فكرية، وثورة كاسحة، وقطيعة معرفية، ورفض للتراث، واحتقار للماضي، وتنكر للدين وعلمانية وغموض، ونفرة من المعايير.([20])
وقد ظهرت هذه الملامح بوضوح في رؤية أدونيس الذي سُمي (عراب الحداثة العربية) للحداثة، وذلك حين قال معرفاً الحداثة:” إنها تجاوز الواقع أو اللاعقلانية، أي الثورة على قوانين المعرفة العقلية وعلى المنطق وعلى الشريعة، من حيث هي أحكام تقليدية تُعنى بالظاهر، وهذه الثورة تعني التوكيد على الباطن، وتعني الخلاص من المقدس وإباحة كل شيء.”([21])، وحين قال أيضاً:” من هنا كان بناء عالم جديد يقتضي قتل الله نفسه، مبدأ العالم القديم بتعبير آخر.. وينبغي تفجير فكرة الله المجرَّد لتحل محلها فكرة الله الشخصي”!!!!.([22])
وظهرت أيضاً في رؤية كمال أبو ديب- المنظّر الثاني للحداثة العربية بعد أدونيس- وذلك حين قال:” الحداثة انقطاع معرفي، ذلك أن مصادرها المعرفية لا تكمن في المصادر المعرفية للتراث في كتب ابن خلدون الأربعة، أو في اللغة المؤسساتية والفكر الديني، وكون الله مركز الوجود.. الحداثة انقطاع لأن مصادرها المعرفية هي اللغة البكر والفكر العلماني اللاديني، وكون الإنسان مركز الوجود، وكون الشعب الخاضع للسلطة مدار النشاط الفني، وكون الداخل مصدر المعرفة اليقينية، إذا كان ثمة معرفة يقينية، وكون الفن خلقاً لواقع جديد”.([23])
نتائج الحداثة في الأدب والنقد:
والقارئ لهذا الكلام لا يحتاج إلى كثير تفكير ليعرف مقصد الحداثة وأهدافها، ومقصد روادها وأهدافهم.. وقد ظهرت هذه المنطلقات الفكرية المنحرفة في أدب هؤلاء الحداثيين وأشعارهم، وأورد بعض الباحثين نحواً من واحدٍ وعشرين شاهداً للشعراء والأدباء والنقاد الحداثيين، ثم استظهر ولخص مراميها ومنطلقاتها في الآتي([24]):
– الغربة عن وجدان الشعب العربي وتجاهل همومه، والتبعية الشديدة للأدب الغربي.
– الدعوة إلى سلخ الشعر عن الأهداف الفكرية أو الوجدانية الجادة، وجعله أشكالاً لفظية جوفاء.
– صيرورة الشعر إلى حركة متفلتة لا معايير لها ولا ضوابط.
– تزهِّد محبي الشعر في الشعر بسبب الغث الكثير الذي طرحته هذه الموجة.
– تشابه أغلب نماذج الشعر الحداثي حتى كأنه قصيدة واحدة يكتبها شاعر واحد.
– غَرقُه في نمطية موسيقية ضحلة، مفرطاً بطاقات موسيقية هائلة يوفرها الشعر الأصيل.
– ركوبه الغموض المقيت الذي حجبه عن المتلقي وجعله أشبه بالطلاسم.
– ركاكة هذا الشعر، ورداءة لغته ، وكثرة الأخطاء فيه.
– الاستهانة بقواعد اللغة ومحاولة تحطيم النحو العربي.
أما المناهج النقدية التي تدور في فلك الحداثة فهي مناهج كثيرة تشمل: البنيوية، والأسلوبية، والسيميولوجيا، والتفكيكية، ومنهج القراءة والتأويل والتلقي، ومنهج علم النص. وهذه المناهج متداخلة متضاربة، وهي في معظمها مدخولة المقاصد غير مفهومة، وقد صرح عبد الحميد إبراهيم بانعدام الفهم لهذه المناهج والمصطلحات من قبل المتلقي والناقد على حد سواء.. قال:” وتكون النتيجة أن القارئ لا يفهم شيئاً، وأتحدى أي قارئ أن يخرج من مؤلفات نقاد الحداثة في العالم العربي بالفارق بين البنيوية وما بعد البنيوية، والحداثة وما بعد الحداثة، والسيميولوجية والتشريحية والأسلوبية والألسنية.. إن القارئ لا يعرف ذلك لسبب بسيط، وهو أن المؤلف نفسه لا يفهم ما يقرأ.”([25]). ثم لخص عبد الحميد إبراهيم مشكلة نقاد الحداثة في العالم العربي بقوله:” كان أمام نقاد الحداثة في العالم العربي خياران: أولهما وأولاهما: أن يبدؤوا من هذا التراث العربي الذي يحمل من الإمكانات ما يمكن أن ينطلقوا منه لتأسيس حداثة ذات جذور. والآخر والأخير: أن ينقلوا الحداثة الغربية بكل فلسفتها ونتائجها وأن يزرعوها في كتبهم تحت عناوين الحداثة والجدة وما شابه ذلك. ولم يكن بنيانهم مهيأً لتقبل الخيار الأول؛ فهو يحتاج إلى صبر وضبط وبعد عن الأضواء وعمل دون انتظار جزاء، بل ربما يقابل بفتور. أما الحل الآخر فهو يثير البريق ويغري أجهزة الإعلام ويحتل صاحبه مكانة خاصة؛ لأنه يعرضه بلغة الغالبين وبين قوم أرهقتهم عقد المغلوبين فاختاروا الحل الأخير، ونقلوا الإطار الغربي الذي سبق أن تحدثنا عنه، دون أن يعوا ملابساته التاريخية وفلسفته الحضارية.. ولو أنهم بدؤوا من جذورهم وطوروا الإمكانات المتاحة لهم، لأمكنهم أن يصلوا إلى نظرية في الحداثة خاصة بهم وملتمسة من واقعهم ولها تطبيقاتها وتحمل ظلاً من فلسفة حضارتهم، نظرية هم أصحابها ومنتجوها ومستهلكوها، ومن حقهم أن يتيهوا بها وأن تتيه الأمة بهم. ولكنهم بدؤوا من حيث انتهى الآخرون ورددوا ما قاله الآخرون.. فكل شيء يأتي من وراء البحر نقيم له الطقوس ونتلو في معبده الأناشيد ونحرق البخور، وباختصار نحوله إلى شيء يشبه اليقين الديني”.([26])
وقد تلقى مذهب الحداثة وما بعد الحداثة في العالم العربي ضربة قاصمة عندما صدر كتاب الباحثة البريطانية (فرانسيس سوندرز) وتُرجم إلى العربية بعنوان (من الذي دفع للزمار: الحرب الباردة الثقافية)، وقد أثبتت فيه الباحثة أن المخابرات المركزية الأمريكيـة كانت وراء موجة الحداثة في العالم العربي، وأنها كانت تموّل مجلَّتيْ (شعر) و(حوار) اللبنانيتين اللتين انطلق منهما رواد الحداثة العربية وعلى رأسهم أدونيس.([27])
نماذج نجاح تأصيلية فاعلة:
أولاً: ظهور التيار التأصيلي:
أدت الهجمة التغريبية على الأدب العربي إلى ظهور تيارات تأصيلية عربية ساعدت على تجديد الثقافة العربية الإسلامية وتأصيلها؛ فمنذ بواكير الموجة التغريبية الأولى أخذت الثقافة العربية والفكر الإسلامي يجددان قيمهما الأساسية، وينفضان عنهما غبار السنين، ويصححان مفاهيمها، ويواجهان ما يُدفع إليهما من حصيلة الفكر الغربي، وظهرت- تبعاً لذلك- ثلةٌ من المفكرين التأصيليين في الدين والثقافة والفكر والسياسة واللغة والأدب؛ دعت إلى العودة إلى منابع التراث العربي كوسيلة لتحديث وتطوير الثقافة العربية والارتكاز على القيم الفكرية النابعة من بيئتنا وجذورنا العربية الأصيلة، وقد تمثلت آثار هذه الثلة في مجال اللغة والأدب في حركة إحياء اللغة العربية وآدابها والتي اقترنت باسم علم بارز من أعلام الأدب واللغة هو الشيخ حسين المرصفي وكتابه الوسيلة ألأدبية، كما اقترنت باسم شاعر فذ نقل اللغة يومئذ من حالٍ إلى حال؛ فأسقط عن الهمم تلك الأغلال التي كانت تمسكها إلى الأرض وتقعدها بالعجز عن إدراك الأوائل، وهو الشاعر محمود سامي البارودي الذي بدأ الشعر العربي يستعيد على يديه شبابه وقوته، ويعود به إلى صدارة المشهد الأدبي، ويطلق به الألسنة من عقال العجز.([28])
وتتابعت بعد ذلك جهود إحياء الأدب العربي وإحياء التراث، وكان مصطفى صادق الرافعي، ومحمود شاكر في مقدمة التأصيليين الجدد الذين انطلقوا من الجذور والثوابت العربية؛ غير عابئين بالجديد الذي يخطف بريقه الأبصار. وقد خاض هذان العلمان ومعهما كثير من أمثالهما العديد من المعارك الأدبية والفكرية للرد على الدعاوى الهدامة ودحض مزاعم أصحابها، مثل: معارك الفصحى والعامية، ومعركة الأدب المكشوف، ومعركة غاية الأدب، ومعركة الأسلوب والمضمون، ومعركة مقومات الأدب العربي، ومعركة الأدب بين التجديد والانحراف.. وغيرها من المعارك التي أظهرت طائفة عريضة من أنصار التيار التأصيلي في الأدب العربي بأقلامهم الجريئة وفكرهم الصافي.([29])
كما صدرت مجلات ودوريات تحمل فكر أنصار التيار التأصيلي رداً على مجلات وصحف أنصار التغريب؛ فصدرت مجلات مثل: الفتح، والرسالة، والنذير، ودار العلوم، ونور الإسلام، والنهضة الفكرية والمنار.. وغيرها من المجلات والصحف التي استطاعت هذه الأقلام من خلالها أن تجسد تياراً أدبياً له سماته وخصائصه المميزة التي تنطلق من قيم التراث العربي والثقافة الإسلامية؛ بل وصدرت العديد من الأعمال الأدبية والفكرية لأنصار ذلك التيار.([30])
وقد تماهى مع هذا التيار عدة جهود فردية لكتاب وأدباء ومفكرين ناقشوا الحداثة بمناهجها المختلفة والمتداخلة، وعملوا على التأصيل لنظرية عربية خاصة، من خلال قراءتهم الواعية للتراث الأدبي والنقدي والبلاغي عند العرب القدماء؛ ليخلصوا إلى أن الجديد المستورد ليس جديداً على التراث العربي؛ بل هو جديد على من لم يقرأ هذا التراث ولم يهتم به، ويأتي الدكتور عبد الحميد إبراهيم على رأس أصحاب هذه الجهود حين اكتشف نظرية (الوسطية العربية) وقرأ من خلالها التراث الأدبي العربي في خمسة كتب كاملة جاءت مُسَلسَلةً متتابعة يشرح فيها النظرية العربية الأدبية من خلال تفاعله مع المدارس والمناهج الأدبية والنقدية التغريبية.
كما كان الدكتور عبد العزيز حمودة بثلاثيته النقدية: (المرايا المحدبة)، و(المرايا المقعرة)، و(الخروج من التيه) فتحاً نقدياً انطلق من المدارس والمناهج التغريبية ذاتها ليعود به إلى التراث الأدبي العربي مُعلياً من شأنه كاشفاً خديعة المختطِفين الذين قرؤوا الأدب العربي من خلال مدارس ومناهج لا يقبلها الذوق العربي.
ثانياً: الأدب الإسلامي:
كانت الدعوة إلى الأدب الإسلامي بمثابة تتويج عام لجهود التيار التأصيلي الذي انتشر واستوى على سوقه علي يدي سيد قطب، ومحمد قطب، وعبد الرحمن رأفت الباشا، وأبو الحسن الندوي، وعبد القدوس أبوصالح، ونجيب الكيلاني، وعبده زايد، وحلمي القاعود، وعبد الباسط بدر.. وغيرهم من الأدباء والمفكرين الإسلاميين الذين أسهموا وساعدوا في إنشاء رابطة الأدب الإسلامي.
وقد واجهت نظرية الأدب الإسلامي شغباً كثيراً من التيارات التغريبية التي شككت فيه انطلاقاً من استلابهم للآخر الأوربي، كما واجهت اعتراضاً من بعض المخلصين في التيار التأصيلي ذاته الذين ظنوا أن الدعوة إلى مثل هذا الأدب هي تحويل للأدب إلى مواعظ وحكم وخطب منبرية تتنافى مع طبيعة الأدب التي تهتم بالجمال والإبداع؛ ولذلك فقد اهتم منظرو الأدب الإسلامي بتعريفه وتحديد هويته اهتماماً كبيراً.. فعرفوه قائلين: “هو التعبير الجميل عن الكون والحياة والإنسان من خلال تصور الإسلام للكون والحياة والإنسان، أو هو الفن الذي يرسم صورة الوجود من زاوية التصور الإسلامي لهذا الوجود”.([31])
وهذا التعريف الذي أطلقه الأستاذ محمد قطب في كتابه (منهج الفن الإسلامي) هو التعريف الذي دارت حوله التعاريف اللاحقة للأدب الإسلامي حيث اعتبر منظرو التيار أن الفن يشمل الأدب فأجروه على الأدب من باب خصائص الكل خصائص للجزء، ثم رددوه بعينه أو بتغيير في العبارات لا يمس جوهره.
وقد استقرت رابطة الأدب الإسلامي رسمياً على تعريف رأت أنه هو التعريف الجامع المانع؛ فعرفت الأدب الإسلامي بأنه:” التعبير الفني الهادف عن الإنسان والحياة والكون وفق التصور الإسلامي”.. وعلى ضوء عناصر هذا التعريف بيَّن الدكتور عبد القدوس أبو صالح- رئيس رابطة الأدب الإسلامي- مفهوم الأدب الإسلامي وملامحه:
فالعنصر الأول في هذا التعريف هو:” تعبير فني”، ومعنى ذلك أن الأدب الإسـلامي يهتم بالقيم الجمالية ولا يقبل أن يدخل فيه أي نص لا تتحقق فيه الفنية؛ لأنه لا يمكن أن يسمى أدباً.
والعنصر الثاني هو:”هادف”؛ ومعنى ذلك أن الأدب الإسلامي يؤمن بالالتزام في الأدب، وهو التزام عفوي نابع من إيمان الأديب المسلم، دون أن ينقلب إلى التزام قسري كالالتزام الذي تبنّته الواقعية الاشتراكية.
والعنصر الثالث هو: أن الأدب الإسلامي تعبير عن “الحياة والكون والإنسان”، ومعنى ذلك أن الأدب الإسلامي يشمل أي موضوع وأي تجربة إنسانية، إذ ليس هناك موضوع يحظر على الأديب الإسلامي أن يتناوله في قصيدة أو قصة أو رواية أو مسرحية، وليس صحيحاً ما يتوهمه بعض المعارضين للأدب الإسلامي حين يزعمون أن الأدب الإسلامي هو أدب الوعظ المتكلف المباشر الذي حُددت فيه الموضوعات سلفاً فقيدت بذلك تجربة الأديب وحدت من انطلاقه وإبداعه.
والعنصر الرابع هو: “الالتزام بالتصور الإسلامي”؛ فهو شرط يتعلق بالمضمون، وهو الشرط الذي يميز الأدب الإسلامي عن غيره، إذ لا يمكن أن يُدخل النصُ في دائـرة الأدب الإسـلامي ما لم ينطلق من التصور الإسلامي الملتزم بكتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.([32])
وتقوم الرؤية التأصيلية للأدب الإسلامي على الربط بين الفن- بأنواعه المختلفة- وبين الإسلام؛ فما يقبله الإسلام من الفن يقبله الأدب الإسلامي، وما يرفضه الإسلام من الفن يرفضه الأدب الإسلامي؛ وهو لذلك لا ينظر إلى القضيتين الأساسيتين في الأدب والفن (الجمال، والالتزام)- واللتين كثر حولهما الجدل- إلا من خلال العقيدة التي يتخذ منها أساساً أصيلاً وجذراً راسخاً تقاس عليه (جماليات) الأدب والفن، ويوزن به مقدار (الالتزام) بمضامين هذه العقيدة التي تتسع نظرتها لتشمل الكون والحياة والإنسان، وما يرتبط بالكون والحياة والإنسان من أفكار ومبادئ وعواطف مختلفة.
فالرؤية التأصيلية للأدب الإسلامي تبدأ من العقيدة أولاً، ثم الالتزام ثانياً، ثم الجمال ثالثاً؛ رابطةً هذه الأسس بعضها ببعض؛ ورافضةً أن يختل ميزان أساس منها؛ إذ باختلاله يختل مفهوم الأدب الإسلامي؛ فلا بد للأدب- حتى يسمى أدباً إسلامياً- أن يكون ملتزماً، جميلاً، غير مناقض للعقيدة أو مخالف لها.
ويرفض الأدب الإسلامي أن يتحول العمل الأدبي إلى كتاب من كتب العقيدة؛ لأن ذلك ضد طبيعة الأدب، ولكنهم يشددون على أن العقيدة الإسلامية ركيزة أساسية من ركائز الأديب المسلم، بل هي أهم ركائزه على الإطلاق، ومن الطبيعي لأي أديب مسلم أن يكون أدبه منسجماً مع عقيدته، كما جاء غالب أدب الأدباء الآخرين منسجماً مع عقائدهم، فلا يحق للأديب المسلم أن يتناول في أدبه الذات الإلهية والملائكة والكتب المنزلة والرسل واليوم الآخر والقدر خيره وشره تناولاً لا يتفق مع التصور الخاص للعقيدة الإسلامية، فالذين يذكرون في شعرهم الأرباب الوثنية والآلهة المتعددة وأكذوبة صلب المسيح، وينظرون إلى قصص نوح والطوفان، وإبراهيم وإسماعيل وبناء الكعبة، وابني آدم والقربان، وداود وسليمان، وبلقيس والهدهد، على أنها أساطير قديمة تحتمل الصدق والكذب، ثم يوظفونها توظيفاً نصرانياً أو يهودياً.. الذين يفعلون ذلك إنما يصدرون عن تصور غير إسلامي. وهم بين أن يكونوا صادقين فيما وصفوا فتكون عقيدتهم غير عقيدة المسلمين، وبين أن يكونوا كاذبين فيما وصفوا فيفتقدون حينئذٍ عنصر الصدق الشعوري والإحساسي اللازم لكل عمل فني.([33])
استراتيجيات المواجهة:
أولاً: نشر الوعي المجتمعي بأهمية الأدب:
إن أول وسيلة لمواجهة اختطاف الأدب هي نشر الوعي المجتمعي بأهمية الأدب ذاتِه من خلال تعميق فكرة أن الأدب ليس- فقط- مجرد وسيلة للمتعة والترويح عن النفس أو دفع الملل؛ بل هو جذر أصيل يجب أن يحمل في داخله أفكارَ المجتمع وقيمه ومعتقداته، ثم يعكسها في صورة فنية جميلة تساعد على تثبيت هذه الأفكار والمحافظة عليها وصونها من الاختراق أو الاختطاف؛ فإذا فسد الجذر الحامل لهذه القيم والأفكار والمعتقدات- بفعل الاختطاف- فسدت الشجرة بفروعها؛ وأفسدت الصورةُ العاكسةُ تلكَ القيم والأفكار والمعتقدات؛ ليصير الأدب- تبعاً لذلك- معول هدم لا أداة بناء.
ثانياً: تجذير مفهوم الالتزام الأدبي في نفوس الأدباء:
تكمن إشكالية الأدب في الأديب ذاته؛ فمن الصعوبة بمكان إصدارُ أمرٍ أو توصية إلى الأديب المبدع أن يُبدع بطريقة محددة أو وفق نظام معين؛ فيرضخ لذلك ويقسر روحه ونفسه على (تنفيذ الأوامر!!).. هذا أمرٌ منافٍ لطبيعة الأدب ابتداءً وطبيعة الأديب المبدع انتهاءً. وقد نعت اللهُ جل وعلا الشعراء بأنهم في كل وادٍ يهيمون؛ فمن غير المستطاع قسر أديب على ما لا يريد؛ بل إن الأديب- أحياناً- لو أراد أن يقسر نفسه على طريقة معينة في الكتابة ما استطاع- غالباً- إلى ذلك سبيلا.
وليس معنى هذا أننا نعطي للأديب الحقَ في أن يقول ويكتب ما يريد غير عابئ بقيم مجتمعه ومعتقداته؛ ولكننا نلفت النظر إلى أن الإشكالية ليست في الأدب بل في الأديب الذي يجب أن يحترم قيمَ مجتمعه ومعتقداته التي تربى ونشأ عليها وفيها، فضلاً عن الدفاع عنها والإعلاء من شأنها؛ إذ لو فعل غير ذلك لكان صوتاً نشازاً وعبئاً على أمته ومجتمعه.
إن إشاعة مفهوم (الالتزام) في الأدب هي الوسيلة الثانية في مواجهة اختطاف الأدب بعد إشاعة الوعي بأهمية الأدب. والالتزام ليس مفهوماً دينياً بحتاً أو عقائدياً دائماً؛ إنما هو مفهوم إنساني يرتبط بوجود الإنسان ورؤيته للأفكار والتوجهات والعقائد المختلفة. والشيوعية التي تنكر وجود إله تدعو إلى الالتزام بمبادئها، والوجودية التي تجعل مدار الأمر كله على الإنسان تدعو إلى الإيمان بمبادئها، والحداثة، والفن للفن، والسريالية، وأي مذهب إنساني وُجِدَ أو سيوجد، لا بد أن يدعو إلى هذا المعنى وإلا سقط وانهار، أو لم يقم أصلاً.
وقد كانت الاشتراكية الواقعية هي النظرية الأدبية للشيوعية التي أدرك أقطابها مدى تأثير الآداب والفنون في بناء المجتمعات وتكوين العقول وصياغة الوجدان حتى قال ستالين:” الفنانون والأدباء هم مهندسو البشرية”.. ومن ثَم فقد تحول الالتزام في هذه النظرية إلى (إلزام) قسري، وحَرَّم النظام الشيوعي على الأدباء والفنانين أن ينتجوا أي لون من ألوان الأدب يعارض المذهب الذي اعتنقته الدولة وارتضته للشعب، وعُدَّ الأديبُ المعارض للأيدلوجيا الماركسية خائناً لأمته وقضاياها منحازاً إلى أعدائها”.([34])
أما الوجودية فقد اتخذت من مصطلح الالتزام الأدبي وسيلة لنشر مبادئها الفلسفية التي ذاعت وانتشرت عن طريق قصص سارتر ومسرحياته أكثر من ذيوعها عن طريق مؤلفاته الفلسفية، غير أنها لم تُحول الالتزام إلى إلزام يجبر الأديب على تمثل الفكر الوجودي كما فعلت الواقعية الاشتراكية؛ بل تركت الأديب حراً ينبع التزامه من شعوره الوجودي بمسؤوليته، إلا أن سارتر أخرج الشعر من دائرة الالتزام وحصره في النثر واصفاً بالحمق من يطالب الشاعر بالالتزام؛ لأن الشاعر- في رأيه- ليس غايته الحقائق التي تعبر عن مضمون الالتزام؛ بل ذلك غاية الناثر، بالإضافة إلى أن الصلة بين الشاعر والنص تنقطع بعد إبداعه إياه، والشعراء- على حد زعمه- قوم يترفعون باللغة عن أن تكون نفعية. على أن سارتر تراجع بعد ذلك عن موقفه من الشعر وأدخله مع النثر في دائرة الالتزام.([35])
والأدب العربي ليس بدعاً من هذه المذاهب، بل لو كانت الدعوة إلى الالتزام في أي مذهب أدبي آخر أمراً هامشياً أو تحصيل حاصل لكانت الدعوة إلى الالتزام في مذهب الأدب الإسلامي فرضاً وواجباً لا يتم المذهب إلا به؛ لأنه يحفظ الأدب العربي من تيارات العبث والتجريب والقطيعة المعرفية، ويؤصل لنظرة الإسلام الفنية للكون والحياة والإنسان، وهي أصفى نظرة في الوجود للوجود.
والأديب المسلم مسلمٌ أولاً وأديبٌ ثانياً، فلا غرو إذن أن يكون أدبه مطابقاً لنظرة الإسلام الشاملة للكون والحياة والإنسان وملتزماً بها، وإسلامه يقتضيه أن يكون عمله كله لله :” قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين”، “وإذا كانت حياته كلها لله فبعضها- وهو نشاطه الأدبي- داخلٌ بالضرورة في هذا العموم”.([36]) وخصوصية الأديب في ذاته لا تُبيح له أن يقول ما يريد بحجة الموهبة الأدبية، كما أنه ليس لفردٍ في المجتمع خصوصية في ذاته تبيح له أن يفعل ما يريد بحجة الحرية.
ثالثاً: غرس مفهوم (التجديد بالتأصيل):
فلا تجديد دون تأصيل، ولا إصلاح للحاضر والمستقبل دون عودةٍ إلى الماضي؛ لا للعيش فيه؛ بل للانطلاق منه. والقطيعة المعرفية بين ما سُمي القديم والجديد بدعوى التطور والحداثة ليست سوى أداة من أدوات الاختطاف الأدبي والمعرفي استخدمها الاحتلال وأذنابه للسيطرة على ثقافة الأمة وأدبها؛ بعزلها عن ماضيها لإفساد حاضرها.
وليس كالقرآن الكريم- بما يمثل من إعجاز بياني- ثم تراث العرب الأدبي واللغوي مُنطلقاً يُمكن أن يُتخذ أصلاً يُنطلق منه في التحديث والتجديد الأدبي واللغوي؛ ففي هذين الرافدين من الإعجاز الرباني والإبداع البياني الإنساني، ما لا مثيل له في لغات وتراث الأمم الأخرى (ولله المثل الأعلى)؛ فالانطلاق منهما للنهوض بالأدب مع إشاعة الأنماط العليا للشعر والنثر العربيين في العصور الزاهرة الأولى، وتوجيه الناشئة إلى تمثل هذه الأنماط والنسج على منوالها؛ هو خير وسائل المواجهة والتحديث في آن واحد.
رابعاً: استعادة منهج التذوق في النقد الأدبي:
فهو أقرب المناهج النقدية ملائمةً للأدب عامةً وللأدب العربي خاصة؛ لما للغة العربية من خصوصيةٍ تذوقيةٍ للكلمة مُفردَةً ومنتظِمَة؛ ولذلك فهو يرفض لغة النقد التي يشــوّهها الغموض وتفشو فيها المصطلحات الدخيلة والرموز المشبـوهة، ويدعو إلى نقد واضح بنّاء يُرَشِّدُ مسيرة الأدب ويُرسِّخ أصوله. وقد كان هذا المنهج هو الأداة الرئيسة في مصافحة العمل الأدبي وقراءته في غالب مؤلفات النقاد والأدباء العرب القدماء؛ منذ المؤلفات الأدبية والنقدية العربية الأولى كطبقات ابن سلام، وموازنة الآمدي، ووساطة القاضي الجرجاني، وحتى مؤلفات التأصيليين المحدثين كالرافعي ومحمود شاكر. ولا بأس بالانفتاح على مناهج نقدية أخرى، يمكن أن تمثل أدواتها الإجرائية فائدة في الدرس الأدبي والنقدي شريطة ألا تضر هذه الأدوات أسسَ المنهج التذوقي الذي يجب أن يكون مظلة منهجية لغالب تلك المناهج والأدوات.
خامساً: الحرص على الجمال الفني:
فالأدب يجب أن يكون متكاملاً يتآزر فيه المضمون مع الشكل بعيداً عن لغة الخطب والمواعظ الجافة التي تعتمد المباشرة والخطابية دون أن يكون فيها جمال الأدب وفنيات التعبير. فالالتزام لا يعني أن تتحول الرواية أو القصة مثلاً إلى كتاب من كتب العقيدة أو الفقه، ولا أن تتحول القصيدة إلى أرجوزة نصائح جافة؛ فهذا- وإن كان فيه خير- إلا أنه يُسقط شرط الجمال الأدبي ويُخرج العمل من دائرته. والقرآن الكريم- وهو كتاب العقيدة الأول- أذهلَ العربَ- الذين هم أهل الفصاحة والبلاغة والبيان- ببيانه وبلاغته وجماله، وهو بَعْدُ يتحدث عن العقائد والأحكام.
***
وختاماً.. فإنه من فضول القول أن نقول: إنَّ الأدبَ رافعةُ اللغة؛ فهو صورة جمالياتها وأصالتها، ونموذج سلامتها وقوتها، ودليل تنوع روافدها ومنابعها.. والدور الذي يمثله الأدب في الحفاظ على اللغة دورٌ محوري. ولأنه لا هُوية دون لغة فإن الحفاظ على اللغة حفاظٌ على الهُوية؛ والحفاظ على الأدب حفاظٌ على اللغة؛ فكأن الأدب عمادٌ من أعمدة الهُوية يختل بناؤها بانعدامه أو اختطافه أو تشويهه. وقد احتفى العرب قديماً بالشعر، وكانت القبائل تحتفل بنشأة شاعر فيها لأنه سيكون الحامي لها المدافع عنها المُذيع لفضائلها. وهذا الاهتمام الكبير بالشعر ليس عائداً إلى كون الشعر فن العربية الأول فقط؛ وإنما لأنه- أيضاً- المحافظ على العادات والتقاليد والأعراف القبلية التي نستطيع اختزالها في كلمة واحدةٍ هي: الهوية؛ فالأدب- بما يعكسه من قيمِ ومعتقدات الأمم وجماليات وخصائص لغاتها- جذر من جذور الهُوية إن سقط أو اختُطف أو شُوِّهَ؛ سقطت الهُوية واختُطف.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]ـ الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر ـ محمد محمد حسين ـ دار الرسالة ـ مكة 1992م ـ ط9ـ ج2 ـ ص360ـ 380.
[2]ـ انظر : مقدمة محمود شاكر لكتاب : الظاهرة القرآنية لمالك بن نبي ـ ترجمة : عبد الصبور شاهين .
[3]ـ في البحث عن الواقع ـ منصور الحازمي ـ دار العلوم ـ الرياض1984م ـ ص 85 .
[4]ـ العقل المستعار ـ د. صالح بن سعيد الزهراني ـ منتديات ملتقى البلاغيين والنقاد العرب ـ شبكة المعلومات الدولية الانترنت.
[5]ـ نقد الحداثة ـ د. حامد أبو أحمد ـ كتاب الرياض ـ 1994م ـ ص 73ـ74 .
[6]ـ في نظرية الأدب ـ د.سيد البحراوي ـ الهيئة المصرية العامة للكتاب ـ القاهرة 2008 م ـ ص 32 .
[7]ـ الفلسفة العربيّة المعاصرة ـ محمود أمين العالم ـ مركز دراسات الوحدة العربية ـ بيروت1988م ـ ط1ـ ص77ـ99.
[8]ـ المرجع السابق ـ ص100.
[9]ـ إشكالية التحيّز ـ د. المسيري ـ منشورات المعهد العالمي للفكر الإسلامي ـ 1996م ـ ج1ـ ط2 ـ ص 269.
[10]ـ المرايا المحدّبة ، من البنيوية إلى التفكيك ـ د.عبد العزيز حمّودة ـ الكويت ـ عالم المعرفة 1998م ـ ص285.
[11]ـ إشكالية التحيّز ـ د.عبد الوهاب المسيري ـ مرجع سابق ـ ص 272
[12]ـ من إشكاليات المثاقفة في النقد الأدبي العربي الحديث ـ د.سعد البازعي ـ مجلة عالم الفكرـ المجلد الثامن والعشرون– العدد الرابع.
[13]ـ نقاد الحداثة وموت القارئ ـ د. عبد الحميد إبراهيم ـ منشورات نادي القصيم الأدبي ببريدة ـ السعودية 1415هـ ـ 1995م ـ ص 4 .
[14]ـ إشكالية التحيّز ـ د. المسيري ـ مرجع سابق ـ ص 272
[15]ـ العقل المستعار ـ د.صالح بن سعيد الزهراني ـ مرجع سابق ـ
[16]ـ الحداثة والتراث ـ محمد مصطفى هدارة ـ محاضرات مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية بالرياض ـ1986م ـ ص2.
[17]ـ الحداثة : جان بودبار ـ مجلة فصول ـ م4 ـ ع3ـ 1984م ـ ص25 .
[18]ـ الحداثة في الشعر العربي المعاصر ـ وليد قصاب- دار القلم ـ دبي1996م ـ ص 89.
[19]ـ الحداثة سرطان العصر ـ د.عبد العظيم المطعني ـ مكتبة وهبة ـ القاهرة 1994م ـ ص 16.
[20]ـ الحداثة في الشعر العربي المعاصر ـ وليد قصاب ـ مرجع سابق ـ ص 129ـ 177.
[21]ـ مقدمة في الشعر العربي ـ أدونيس ـ دار العودة ـ بيروت ـ ص 127.
[22]ـ الثابت والمتحول ـ أدونيس ـ دار العودة ـ بيروت 1982م ـ ط3ـ ج2 ـ ص113.
[23] ـالحداثة ـ كمال أبو ديب مجلة فصول ـ ع 3 م4 ـ ص37 .
[24]ـ الحداثة في الشعر العربي المعاصر ـ وليد قصاب ـ مرجع سابق ـ ص306ـ 307 .
[25]ـ نقاد الحداثة وموت القارئ ـ عبد الحميد إبراهيم ـ مطبوعات نادي القصيم الأدبي 1415هـ ـ ص5 .
[26]ـ المرجع السابق ـ ص44.
[27]ـ من الذي دفع للزمار ـ فرانسيس سوندرزـ ترجمة:طلعت الشايب ـ المجلس الأعلى للثقافة ـ القاهرة 2002م
[28]ـ أباطيل وأسمار ـ محمود شاكر ـ مطبعة المدني ـ القاهرة ـ ج1ـ ص160ـ161.
[29]ـ انظر بتوسع : المعارك الأدبية ـ أنور الجندي ـ مكتبة الأنجلو المصرية ـ القاهرة 1983م .
[30]ـ يقظة الفكر العربي ـ أنور الجندي ـ مطبعة الرسالة ـ القاهرة 1971م ـ ص271.
[31]ـ الأدب الإسلامي ضرورة ـ د.عبده زايد ـ رابطة الجامعات الإسلامية ـ القاهرة1991م ـ ص63.
[32]ـ الأدب الإسلامي مسيرة وتاريخ ـ عبد القدوس أبو صالح .
[33]ـ الأدب الإسلامي ضرورة ـ عبده زايد ـ مرجع سابق ـ ص72ـ 73.
[34]ـ نحو مذهب إسلامي في الأدب والنقد ـ عبد الرحمن الباشا ـ الرياض1985م ـ ص120.
[35]ـ المرجع السابق ـ ص 121.
[36]ـ من قضايا الفكر الإسلامي المعاصر ـ محمد قطب ـ دار الشروق ـ ط1 ـ القاهرة 2003م ـ ص162.