اللغةُ والهُويَّة بين الاستلاب الحضاري واستعادة الوعي (المقدمة)
مقدمة المقالات
اللغةُ بِذرةُ الهُوية، والدين جِذرُها؛ فلا هُوية دون لغة، ولا ديمومة لهُويةٍ دون دين!!
والهُوية العربية- كغيرها من الهُويات- لم تنشأ بشكل عفوي أو ارتجالي؛ بل تكونت عبر عملية معقدة ومتشابكة تفاعلت فيها مكونات روحية ومادية خاصة، مَثلت اللغةُ العربية فيها بذرة أولية أساسية حملت داخلها الجينات الأولى للثقافة والأدب العربيين، كما كانت الوعاء الأول الذي قدم الإسلام للعرب في البداية، ثم طبعها الإسلام بطابعه الخاص ليقدمها بعد ذلك للعالم أجمع في صورة ثقافة روحية ومادية رائدة أسهمت في تمايز الهُوية العربية الإسلامية عن غيرها ضمن المفهوم العام للهُوية، وحملت تصورات الأمة عن ذاتها ومكنوناتها الثقافية والحضارية؛ حتى ارتبط إدراك الثقافة بمعناها التكاملي بفهم اللغة والإحاطة بأسرارها وأساليبها التي تجمعت وتشابكت على مر القرون البعيدة؛ فصارت ألفاظها وتراكيبها الموروثة والمستخدمة تحمل من كل زمان مضى وكل جيل سبق نفحة من نفحات البيان الإنساني بخصائصه المعقدة والمكتَّمة أو خصائصه السمحة والمُستَعلنة.
وعند البحث المقارن في تاريخ اللغات سنجد أن العربية الفصيحة كان لها أكبر نصيب عرفته لغة في سعة الانتشار في العالم منذ فجر التاريخ حتى عصر النهضة الأوروبية الحديثة؛ ففي عصور ازدهار الحضارة الإسلامية ومنذ أن تألقت تلك الحضارة فغدت درة في مفرق الزمان؛ استوعبت تلك الحضارة في هذه الفترة كل ما سبقها من حضارات
وعند البحث المقارن في تاريخ اللغات سنجد أن العربية الفصيحة كان لها أكبر نصيب عرفته لغة في سعة الانتشار في العالم منذ فجر التاريخ حتى عصر النهضة الأوروبية الحديثة؛ ففي عصور ازدهار الحضارة الإسلامية ومنذ أن تألقت تلك الحضارة فغدت درة في مفرق الزمان؛ استوعبت تلك الحضارة في هذه الفترة كل ما سبقها من حضارات فانصهرت في بوتقتها حضارات الشرق كلها؛ كالحضارة الفارسية والهندية والصينية، وحضارات الغرب كلها؛ كالحضارة اليونانية والبيزنطية والرومانية الغربية، وامتد مع هذا السلطان الحضاري السلطان اللغوي فسادت اللغة العربية أغلب بقاع العالم القديم وبرزت لغة عملاقة تضاءلت أمامها كل لغات الأمم خلال فترة لا تقل عن خمسة قرون، وفي هذه الفترة ترجمت إليها خلاصات الفكر اليوناني والفارسي والهندي فاستوعبتها جميعاً وأبرت بها.
ولا يعود ذلك للفرضية المشهورة عن تغلب لغة الغالب على لغة المغلوب؛ ولكنه يعود لخصوصيةٍ وقوةٍ انفردت بها هذه اللغة في تاريخها وبنيتها وسعة مفرداتها واشتقاقاتها عما سواها من لغات العالم. وقد كانت خصوصية هذه اللغة عاملاً مهماً في خصوصية الحضارة والثقافة العربيتين؛ حيث صبغتهما بخصائصها وطبعتهما بطابعها، وأمدتهما بمدد من روحها الحية المتجددة التي لم تقف عاجزة في مرحلة من مراحل تطورها عن مواكبتهما وإمدادهما بما يحتاجان من مصطلحات علمية وفكرية شكلت بنية الثقافة العربية وروح حضارتها.
وقد يسر الله- بفضله وكرمه- كتابة هذه المقالات المتتابعة عن اللغة العربية وخصائصها ومحوريتها في الحضارة العربية الإسلامية؛ فجاءت على النحو التالي:
أولاً:
مقدمةٌ في تمايز الهُويات الحضارية ومشتركاتها: تم الحديث فيها عن تداخل الحضارات وأثر بعضها في بعض، وتنقلها في أقاليم الأرض، وتمايز الهُويات ومشتركاتها، وخصوصية الحضارات وعموميتها؛ وعوامل إقبالها وإدبارها؛ مما ينفي وجود الحضارة الخالصة لأصحابها أو وجود أجناس عليا وأجناس دُنيا.
ثانياً:
تفاعل الثقافات في الحضارة العربية الإسلامية: من خلال إلقاء الضوء على بعض جوانب العصر العباسي بما له من زخم حضاري كبير مَثَّل قمة الهرم في مسيرة الحضارة العربية الإسلامية، وكان مثالاً رائعاً في تمازج الثقافات المختلفة وتفاعلها في بوتقة واحدة دون نفيٍ أو إقصاءٍ غالباً؛ مما كان له أعظم الأثر في تجذر الإسلام والعربية في نفوس وأرواح أصحاب الثقافات الأخرى.
ثالثاً:
خصائص اللغة العربية الشاعرة: وذلك من خلال الحديث عن مسيرة اللغة العربية وأطوارها المختلفة في العلو والصعود حتى نزول القرآن الكريم لحفظها حين وصلت إلى القمة في البلاغة والفصاحة والبيان؛ ذاكرين بعض خصائصها التي تمايزت بها عن غيرها من اللغات.
رابعاً:
منهج التذوق، خصائصه وإجراءاته: وقد مهدنا له بتمهيد عن طبيعة العمل الأدبي ووظيفة النقد لإثبات أن هذا المنهج الذي يقوم على تذوق الكلمة في الجملة وتذوق الجملة في السياق هو ألصق المناهج بمصافحة العمل الأدبي وسبر أغواره، مبينين أهميته شكلاً ومضموناً، ذاكرين بعض إجراءاته النقدية التطبيقية.
خامساً:
أطوار منهج التذوق وتطبيقاته: من خلال إلقاء الضوء على بدايات نشأة هذا المنهج ثم أطواره المختلفة وعلاماته المفصلية في المدونات العربية النقدية القديمة، مثل: كتابات ابن سلام، وابن قتيبة، والآمدي، والقاضي الجرجاني، وعبد القاهر الجرجاني، وصولاً إلى العصر الحديث حين عاد هذا المنهج على يد رواد التأصيل الأوائل من أمثال: الشيخ حسين المرصفي، ومصطفى صادق الرافعي، ومحمود شاكر.
سادساً:
اللغة العربية من الخمول إلى اليقظة: وقد تناول هذا المقال حال اللغة العربية في بدايات القرن التاسع عشر الميلادي، ومظاهر قلق الرواد الأوائل على ما صل إليه الشعر والنثر من جمود وسطحية وجفاف، ورصد بعض الدعوات التي نادت بالعودة إلى الأمثلة العليا للبلاغة والبيان، وأثر هذه الدعوات في إحداث يقظة لغوية- شعراً ونثراً- كان لها أبلغ الأثر في استعادة اللغة العربية نشاطها مرة أخرى على يد شعراء وأدباء كبار، مثل: البارودي، ومحمد عبده، وشوقي، والمنفلوطي، والمويلحي، ومطران.
سابعاً:
الحرب على اللغة العربية وآدابها: من خلال إلقاء الضوء على مظاهر وأسباب وأساليب الاحتلال الغربي في تجفيف منابع اللغة العربية والحرب عليها، والتشكيك في القرآن الكريم والشعر الجاهلي، والدعوة إلى العامية واستخدام الخط اللاتيني في الكتابة، والدعوة إلى الأدب القومي المناطقي، وإبعاد ومحاربة اللغة في مناهج التعليم.. وغيرها من الدعوات التي رافقت الاحتلال الغربي للأمة العربية والإسلامية.
ثامناً:
ظهور التيار التأصيلي في أوائل القرن العشرين: من خلال رصد إرهاصات هذا التيار وبدايات ظهوره كعامل مقاوم لمحاولات التغريب التي رافقت الاحتلالين: الانجليزي والفرنسي للعالم العربي؛ متخذاً (الرافعي وشاكر) نموذجين تأصيليين لإلقاء الضوء على التأصيل الثقافي والأدبي اللذين اشتُهرا به، وملامح هذا التأصيل في منطلقيهما وأسلوبيهما.
وإنني إذ أكتب هذه المقالات عن هذه الموضوعات لا أدعي أني قد أحطت بجوانب موضوعاتها علماً وحصراً؛ بل كان الأمر أشبه بالوقوف على شاطئ بحرٍ لُجيٍّ لم أدرك منه سوى غُرفَةٍ بيدي- والغُرفَة كثيرةٌ أيضاً- ولعل الله يُيسر لغيري من الباحثين إلقاء الضوء على جوانب أخرى قصرتُ في النظر إليها أو الحديث عنها.. والكمال لله وحده.. والله من وراء القصد.