تقارير

قضية زواج المسلمة والميراث فى تونس.. انتصار أم تفكيك

 
          “سيأتي فيه اليوم الذى يطالب فيه الرجال بالمساواة مع النساء “

قالها الشيخ عبد الحميد كشك أحد أشهر الدعاة والخطباء في القرن الماضي، فبعد مرور ما يقرب من نصف قرن تتحقق نبوءته وتحديدًا في يوم الأحد  13 أغسطس 2017 بمناسبة العيد الوطني للمرأة بقصر قرطاج، عندما أطلق الرئيس التونسي الباجي قايد السبسي دعوته إلى المساواة بين الرجل والمرأة في جميع المجالات وخاصة في الميراث، وطالب بضرورة مراجعة القانون المتعلق بمنع التونسية من الزواج بغير المسلم، كما أعلن تكوين لجنة تعنى بنقاش سبل تنفيذ المبادرة، قائلًا إنه يعتزم السماح للتونسيات بالزواج بأجنبي دون أن يعتنق بالضرورة الإسلام، مؤكدًا أن هذا الأمر لا يتعارض مع الإسلام.

دستور السبسي وشرع بطيخ

 

https://www.youtube.com/watch?v=VbrG82j1uQs

 

“الإرث مسألة بشرية و حياة يومية.. الله ورسوله تركوها للمواطنين والبشر! ويمكن المضي في المساواة في الإرث بين المرأة والرجل، وهذا رأيي”.

هكذا تحدث السبسي أمام المهللين لخطابه، والذى كان رئيسًا لمجلس النواب التونسي عام 1991، حين اغتيلت الحريات في تونس ببصمته ورضائه الكامل، وكأن في رؤوسنا ذاكرة سمك، نسيت تاريخ الرجل، أو تناست أنه كان يومًا ما في أزمنة القمع التونسي البائدة مديرًا للأمن الوطني ووزيرًا للداخلية، أصبح الآن فجأة تنويريًّا، ينافس محمد عبده والأفغاني والطاهر بن عاشور! (1)

 

لا صوت يعلو

هكذا أعاد السبسي للمرأة حقها في الميراث الذي “اغتصبه” القرآن الكريم عنوة لمصلحة الرجل في سورة  النساء!(2) دون أن ندري بهذه الجريمة القرآنية النكراء، منذ ألف وأربعمائة عام؛ فسارعت دار الإفتاء التونسية – التي تعاقب عليها منذ إنشائها ثمانية مشايخ، ورئيسها الحالي عثمان بطيخ – بمساندة ودعم مبادرة الرئيس «الباجي قايد السبسي»، بشأن «تحقيق المساواة بين المرأة والرجل في الميراث». مفتتحًا مباركته للتصريحات بعبارة «هنيئًا للمرأة التونسية في عيدها الوطني».

 

و خرج البيان مكتفيًا بالقول إن القرآن الكريم قد نص على المساواة المطلقة في قوله تعالى: { وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ}، و لم يكمل البيان الآية: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ}، و هي درجة “القوامة” التكليفية؛ إذ يطالب الرجل بالإنفاق الكامل، و لا تطالب المرأة بأي إنفاق!

 

مواقف ملتبسة

من يستحضر مواقف سابقة يجد أن الموقف الأخير لدار الإفتاء ملتبس، فقبل عام فقط، في يونيو 2016، دعت وزيرة المرأة والأسرة والطفولة، سميرة مرعي فريعة، إلى فتح نقاش مجتمعي حول المساواة في الإرث، وخلال اجتماع للجنة الصحة والشؤون الاجتماعية في مجلس النواب التونسي، خصص للاستماع إلى الوزير فريعة، واستُدعي إلى الاجتماع مفتى الجمهورية الشيخ عثمان بطيخ، وردّ على المطالبين بالمساواة في الإرث بقوله: “لا يجوز الاجتهاد في هذه المسألة، لأنّ النص القرآني صريح في ذلك، وحسم فيها بحكم الآية الواردة في سورة النساء: {يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلَادِكُمْ ۖ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ}”.

 لكنه وبعد دعوة الرئيس باجي قايد السيبسي للمساواة في الإرث، قلب الرجل مواقفه سريعًا وأيّد دعوات الرئيس.

 

 

يُذكر أنه العام الماضي، تقدم 27 نائبًا، من كتل برلمانية مختلفة، بمبادرة تشريعية تتعلق بتحديد نظام المنابات أو الأنصبة، في الميراث.

وتتضمن المبادرة 3 بنود، تقر المساواة في الإرث بين المرأة والرجل، ولاقت معارضة شديدة داخل البرلمان، وتوقفت النقاشات حولها منذ أشهر دون تقديم مبررات لذلك.

وفى الخبر المنشور بجريدة الشروق التونسية بتاريخ ٢٩ يونيو ٢٠١٦ : “اعتبر المساواة في الميراث أداة داعش مخالفة لحكم الله : مفتي الجمهورية يرفض مبادرة بن غربية”. أكد مفتي الجمهورية عثمان بطيخ لدى حضوره جلسة الاستماع في لجنة الصحة والشئون الاجتماعية في البرلمان بشأن إبداء الرأي الشرعي في مبادرة النائب مهدى بن غربية في تحديد منابات الميراث، أنها مخالفة للشرع ولا يمكن اعتمادها.

 

بطيخ عام 2016: “اعتبر المساواة في الميراث أداة داعش ومخالفة لحكم الله”.

موضحًا أن مناقشة مبادرة بمثل هذه الجرأة من شأنها أن تكون أداة في يد الدواعش للتأكيد على كفر الدولة، وتقدم برأيه المبادرة فرصة على طبق من ذهب في التأليب على الدولة. موضحًا موقف دار الإفتاء باعتبار قاعدة الميراث قاعدة ثابتة لا تقبل الجدال والنقاش، ولا يمكن مخالفته بأي حال من الأحوال، ولا يجب تقليد كل ما تأتيه العلمانية والكفار، على حد قوله.

وكان المفتي بطيخ قد صرّح، في مايو 2016 لإذاعة موزاييك، بأن طرح موضوع المساواة في الميراث “ليس مُناسبا اليوم أو غدًا”، وفق تعبيره.

هكذا عام واحد يفصل بين الرفض التام لمناقشة وطرح مسألة الميراث، وبين الإذعان الكامل لطرح مبادرة السبسي

 

القضاء التونسي يتهم المفتي بالفساد

وسط جدل يثار حاليًا حول المؤسسة الدينية في تونس، أفادت مصادر قضائية بتوجيه القضاء التونسي تهم فساد لمفتي الديار عثمان بطيخ، ونشرت وسائل إعلام محلية أن ملف الفساد يتعلق بتجاوزات في موسم الحج 2015، حين كان عثمان بطيخ وزيرًا للشؤون الدينية.

فيبدو أن دائرة الجدل حول المؤسسة الدينية في تونس تتسع، وذلك بعد أن قدمت حكومة الحبيب الصيد شكوى للنيابة العامة ضد مفتي البلاد. تقول وسائل إعلام تونسية إن الشكوى كانت مرفقة بوثائق تتعلق بارتكاب بطيخ تجاوزات في اختيار المرشدين الذين يرافقون الحجاج على نفقة الدولة التونسية، وتحديدًا تهم بالمحاباة في اختيار بعضهم.

وفي يناير 2016 تمّ تعيين عثمان بطيخ مرة أخرى مفتيًا للجمهورية التونسية، وذلك بعد إقالته من منصبه فترة حكم منصف المرزوقي الريئس التونسي السابق، لكن التحقيق في القضية لم يتوقف ليحال المفتي الآن إلى القضاء.

 

تفاعل وجدل

لم يمض وقت طويل على دعوة الرئيس الباجي قائد السبسي للمساواة في الميراث بين الرجل والمرأة، حتى تفجر جدل واسع في داخل تونس وخارجها. وتونس واحدة من أكثر الدول العربية انفتاحًا فيما يسمونه مجال تحرر المرأة، ورغم ذلك ظل موضوع المساواة في الميراث أمرًا بالغ الحساسية ولم يسبق لمسؤولين تونسيين إثارته، وأعادت مبادرة السبسي إبراز الانقسام في صفوف التونسيين بشأن دور الدين في المجتمع، والذي برز منذ ثورة 2011 بين الشق العلماني والشق المحافظ.

 

 

وفور صدور المبادرة وصفها البعض بـ “ثورة جديدة واستكمال لمسار تحرير المرأة التونسية”، التي بدأها الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة، في المقابل لم تخف شريحة واسعة من التونسيين امتعاضها من المبادرة، قائلة إنها تتجاوز نصوصًا دينية صريحة. فيما اتهم عدد من السياسيين السبسي ببدء حملة انتخابية مبكرة استعدادًا للانتخابات الرئاسية المقبلة في 2019.

لم تخف شريحة واسعة من التونسيين امتعاضها من المبادرة، قائلة إنها تتجاوز نصوصًا دينية صريحة

الخلفيات السياسية لدعوة الرئيس السبسي كشف عنها كذلك رئيس تونس السابق، منصف المرزوقي، الذي قال إن السبسي “يريد إضعاف النهضة وإذلالها”، مؤكدًا: “نحن أمام عملية سياسية بامتياز للتعمية على الإخفاق المهين للرجل (السبسي) ولحزبه… لخلق شرخ بين التونسيين في موضوع خلافي بامتياز يجب تركه للوقت ولحوار مجتمعي معمّق.. ويجب رفض هذه المهاترات التي تفرّق، وتجميع الناس حول القضايا المصيرية”.

وقد أزكى الجدال حول تصريحات الرئيس السبسي بين التونسيين، الموقف الملتبس لدار الإفتاء التونسية، التي عبرت عن موقف غير واضح تمامًا من تصريحات الرئيس، على خلاف مواقف رافضة عبّرت عنها سابقا.

ما هي دواعي هذه الخطوة؟ وما هي خلفياتها الفكرية والسياسية؟

برّر الرئيس السبسي دعوته إلى المساواة الكاملة بين الرجال والنساء، بما فيها الإرث، بواقع المرأة التونسية، وبمعطيات إحصائية واجتماعية من واقع المرأة في تونس، فمن “بين 217 مقعدًا في مجلس نواب الشعب، توجد 75 امرأة، وقدمت النساء البرلمانيات إضافة لا يستهان بها في مجال التشريع”، وتمثل المرأة في تونس 60 في المائة من العاملين في مجال الطب والصيدلة، و35 في المائة في الهندسة، و41 في المائة في القضاء، و43 في المائة في مهنة المحاماة، و60 في المائة من حاملي الشهادات العليا، و45 في المائة من النساء ينفقن على أسرهن، وأضاف السبسي أن “المجتمع المدني في تونس يقوم على المرأة أساسًا”.

 

 

وكانت وزير المرأة في تونس، نزيهة العبيدي، قد ذكرت أن المرأة التونسية تعمل ثماني مرات أكثر من الرجل، بحسب دراسة أنجزتها وزارة المرأة، وذلك خلال الجلسة العامة بمجلس النواب، حيث تجري مناقشات خاصة بمشروع القانون الأساسي المتعلق بالقضاء على العنف ضد المرأة.

وكان تقرير للأمم المتحدة قد أكد في عام 2016 أن المرأة في تونس تعمل أكثر من الرجل؛ حيث تعمل المرأة بمعدل 7.2 ساعة يوميًّا، أما الرجل فيعمل 5.9 ساعة في اليوم.

المرأة التونسية تعمل ثماني مرات أكثر من الرجل، بحسب دراسة أنجزتها وزارة المرأة

من بين هذه المعطيات الرسمية التي تم التركيز عليها، أن النفقة على الأسرة لم تعد حكرًا على الرجال في تونس، بل إن المرأة باتت تنفق بدورها بنسبة مرتفعة جدًّا، وهي إشارة إلى أن التساوي في النفقة يوجب المساواة في الإرث.

وأكد السبسي أن الدولة التونسية وإن كانت مدنية، فإن الشعب الذي تعبر عنه هذه الدولة، هو “شعب مسلم”، وقال: “لن نمضي في إصلاحات قد تصدم مشاعر الشعب، الذي في أغلبه مسلم، ولكننا نتجه نحو المساواة في جميع الميادين”. وشدد من جهته أن “العقل القانوني التونسي سيجد الصيغ الملائمة التي لا تتعارض مع الدين ومقاصده، ولا مع الدستور ومبادئه”.

 

“لن نمضي في إصلاحات قد تصدم مشاعر الشعب، الذي في أغلبه مسلم، ولكننا نتجه نحو المساواة في جميع الميادين”.

بمعنى آخر، يريد السبسي مساواة كاملة في الإرث، لكن في إطار احترام نصوص الإسلام وروحها، وهي معادلة صعبة، خاصة وأن أغلب فقهاء الشريعة يعتبرون أن أحكام الإرث قطعية وغير قابلة للتغيير.

 

مؤيدو المبادرة

طالبت تسع جمعيات ومنظمات في بيان مشترك بـ”ترجمة طرح الرئيس قايد السبسي بخصوص المساواة في الإرث إلى مبادرة تشريعية”، بحسب ما نقلته وكالة أنباء إفريقيا الرسمية.

وصدر البيان عن “اللجنة من أجل احترام الحريات وحقوق الإنسان في تونس”، و”المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية”، و”نقابة الصحفيين”، و”رابطة الدفاع عن حقوق الإنسان”، و”جمعية النساء للبحث حول التنمية”، و”فيدرالية المواطنة بالضفتين”، و”جمعية يقظة من أجل الديمقراطية والدولة المدنية”، و”منظمة 23-10 لدعم المسار الديمقراطي”، و”جمعية الدفاع عن القيم الجامعية”. وفي الصباح التونسية، كتبت منى اليحياوي تحذر من أن يكون “الانتصار للمرأة مجرد حملات انتخابية”؛ “فلا يجب أن ننظر إلي قضايا المراة فقط بأطماع انتخابية تزدهر شعلتها وتبلغ ذروة حماستها إبان الحملات الانتخابية، لكنها سرعان ما تصطدم في أول امتحان بـ(عقلية ذكورية) للأسف تستحوذ وتسيطر على توزيع المناصب العليا في السلطة وعلى مواقع القرار المتقدمة”.

 

 

وفي جريدة الصحافة التونسية احتفى خليل الرقيق بالمرأة التونسية التي وصفها بـ”قاهرة الظلام”، وقال الرقيق: “يمكن القول إن الطور المساواتي الذي ناضلت من أجله أجيال متعاقبة من التوانسة، قد بدأ يتحسس طريقه إلى التبلور الفعلي، وفي صيغة نهائية غير قابلة للتراجع؛ لكن المعركة ما تزال طويلة، فأن تقتلع الداء بقوة القانون، أيسر من أن تقتلع الأفكار السوداء بقوة الثقافة”.

وتهنئ روضة القرافي في صحيفة الصباح التونسية النساء التونسيات بما تحقق لهن من مكاسب وتشريعات “مثلت ثورة في القطع مع أوضاع القصور والتبعية التي كانت تكبل المرأة التونسية، ويرزح جراءها كامل المجتمع التونسي تحت نير التخلف؛ لفقدانه لنصف طاقاته الخلاقة والمنتجة الكامنة في النساء”.

وتقول جيهان غديرة في الصدى التونسي: إن “العقلية السائدة هي جوهر المشكلة”، وترى غديرة أن “واقع المرأة التونسية اليوم تحدده مسألة من أعقد المسائل وتتمثل في أن المجتمع برجاله ونسائه لم يستوعب جيدًا الواقع الجديد للمرأة، وما زال جزء كبير منه ينظر إلى المساواة على أنها استنقاص من شأن الرجل، ومازال ينظر إلى حرية المرأة على أنها انسياق منها وراء أهوائها ورغباتها”.

 

مطالبات بإقالة المفتى

أصدر عدد من الأحزاب السياسية والجمعيات المدنية في تونس بيانًا مشتركًا، عبروا فيه عن رفضهم لمبادرة قائد السبسي حول المساواة في الميراث وزواج التونسية بغير المسلم؛ «لمخالفته لما جاء به الدين الإسلامي، من منطلق أنه لا اجتهاد في نص صريح وآيات محكمات وثابت من ثوابت الدين».

وطالب أئمّة وخطباء ونشطاء التواصل الاجتماعي بإقالة مفتي تونس، أو تقديم استقالته؛ على خلفية بيان أصدره ديوان الإفتاء، مساندًا فيه دعوة الرئيس الباجي قايد السبسي إلى المساواة في الميراث، والسماح للتونسيات بالزواج من أجانب غير مسلمين.

وقال الكاتب العام لنقابة الأئمة، الفاضل عاشور: “إن ديوان الإفتاء دخل في حملة انتخابية مبكرة لجهة سياسية معينة”، في إشارة إلى حركة نداء تونس، مستنكرًا “تحويل المؤسسة الدينية إلى منبر سياسي”، وفق تعبيره. وفي تصريح له لإذاعة شمس أف أم الخاصة قال عاشور: “طالبنا دار الإفتاء بمراجعة موقفها، أو أن يقدم فضيلة المفتي عثمان بطيخ استقالته؛ إذ عليه ألا يبيع آخرته بعرض من الدنيا”. وكنا ننتظر من المفتي أن يخرج ويقول: “صدق الله وكذب الباجي”.

ووصف الإعلامي زياد الهاني المفتي عثمان بطيخ بـ”مفتي السلطان”، معتبرًا بلاغ ديوان الإفتاء “مثيرًا للاشمئزاز في مضمونه التملّقي، ومناقضًا بشكل كامل لموقف سابق للمفتي”، وفق تعبيره.

وتساءل الهاني بمنشور في فيسبوك: “هل يعكس البلاغ غير الممضى موقف مفتي الجمهورية؟ المسألة تتطلب التأكد! وإذا ثبت أن الأمر كذلك، وأن “الشيخ” متقلب في مواقفه بحسب ما يرضي شهوة “السلطان”، فيجب عزله؛ لأنه لا يشرّف مقام الإفتاء، ولا يشرّف الجمهورية!”.

وقال الإعلامي بقناة نسمة الخاصة، حسّان بالواعر، إنّه أصيب بصدمة بعد اطلاعه على بيان المفتي، لافتًا إلى أنّه كان في المباشر لما طلب من زملائه أكثر من مرة التأكّد من صحة البيان، قبل أن يضطر في النهاية إلى التطرق في حديثه عن البيان.

وأضاف بمنشور له في فيسبوك: “أنهيت العمل وغادرت، وإلى الآن غير مصدق”.

 

المبادرة ودور الاتحاد الأوروبي

نشر عدد من النشطاء وثيقة تتضمن نص اتفاقية بين أعضاء الاتحادالأوروبي، (نشرها الاتحاد على موقعه الرسمي) تعود إلى عام 2016، وتنص في المادة 14 على أنه يمكن منح المساعدات لتونس في حال تعهدها بإصلاح قانون الأحوال الشخصية لـ«إلغاء القوانين التي تتضمن تمييزًا ضد المرأة، مثل تلك التي تتعلق بالميراث والزواج»، في إشارة إلى أن مبادرة السبسي جاءت نتيجة ضغوط من الاتحاد الأوروبي.

 

المادة 14 من قرار الاتحاد الأوروبي

 

وكتب المدون ياسين العياري: «المادة 14 من قرار الاتحاد الأوروبي المؤرخ في 14 سبتمبر (أيلول) 2016 تنص على الطلب الرسمي من تونس المساواة في الإرث كشرط من شروط المساعدات، يعني الباجي ليس تقدميًّا ولا تهمه حقوق المرأة. والمشروع حقيقي بما أنه من عند المسؤول الكبير، ولن ترفضه النهضة وسيتم قبوله”.

 

 النهضة .. موقف صادم

بين التأييد والحرية الشخصية، بدت حركة النهضة تتحسس طريقها إلى هذا الجدل المحتدم في تونس، خصوصًا وأن مراقبين محليين رأوا أن خطوة الرئيس السبسي، هي في الواقع “امتحان حقيقي” لحركة النهضة التي أعلنت قبل أشهر فصل نشاطها السياسي عن الدعوي.

وفي تصريح لافت ومثير، اعتبر نائب رئيس حركة النهضة، عبد الفتاح مورو، أن “زواج التونسية بغير المسلم اختيار شخصي”، مشيرًا إلى أنه “يحق للمرأة أن تختار شريك حياتها حتى لو كان غير مسلم”.

وتابع عبد الفتاح: “المرأة تعرف حكم الشرع في الزواج بغير المسلم، ومن حقها أن تختار تجاوزه أو احترامه”، مضيفًا: “ذلك يندرج ضمن حرية الضمير التي نصصنا عليها في الدستور التونسي”.

 

 

واعتبر مورو، وهو أيضًا نائب رئيس البرلمان التونسي، أن “المرأة التونسية تتزوج الأجانب لمجرد الحصول على وثيقة تثبت أنهم مسلمون دون التأكد من ذلك”.

وقال متابعون لهذا الجدل، إن حركة النهضة فضلت أن تظهر بموقفها “المتساهل” مع هذا الموضوع المثير للجدل، وهي التي تعرف صريح النص الشرعي فيه، كي تبدو للتونسيين كما لو أنها حركة مجددة تتعامل مع التفسير الظرفي للأمور الشرعية، خصوصًا وأن هناك جهات خارجية سجلت موقفًا أكثر وضوحًا من  موقف النهضة، كما هي الحال مع مؤسسة الأزهر، التي رأت أن دعوات الرئيس التونسي تعتبر “تبديدًا وليست تجديدًا”.

وقال رئيس المكتب السياسي لحركة النهضة، نور الدين العرباوي: “إن الحركة لا ترى أي إشكال في طرح موضوع المساواة في الإرث بين المرأة والرجل، طالما أن هذه المسألة ستطرح ضمن ثوابت الدستور وفي إطار الالتزام بنص الإسلام وروحه”.

وأوضح العرباوي أن “الحركة ستنتظر ما ستنتهي إليه أعمال اللجنة المكلفة بدراسة الموضوع”، مؤكدًا أن “النهضة لم تُدع للمشاركة في أعمال هذه اللجنة، لكن الموضوع مطروح دينيًّا ومجتمعيًّا، ومن حق الأطراف السياسية والمدنية المشاركة في النقاشات المتعلقة به”.

 

 

بهذا تكون حركة النهضة قد سجلت موقفا مثيرًا، قال عنه المتابعون إنه موقف مخزي من تيار إسلامي، ولا يليق مع الطرح الواضح للمبادرة، عكس موقف العلمانيين وهو الأكثر وضوحًا وجرأة لما يعتقدونه ويؤمنون به.

 

المغرب والمبادرة

أثارت دعوة الرئيس التونسي، الباجي قائد السبسي، للمساواة في الإرث بين الرجال والنساء جدلًا واسعًا داخل البلاد وخارجها، وكشفت انقسامًا داخل المجتمع التونسي، كما وصل صداها إلى بلدان عربية أخرى.

وأعادت إلى أذهان المغاربة الجدل، الذي عاشه المغرب في أكتوبر عام 2015، بعد توصية المجلس الوطني لحقوق الإنسان بالمساواة في الإرث بين الرجال والنساء، وهي التوصية التي لقيت اعتراضًا شديدًا من رئيس الحكومة السابق عبد الإله بن كيران، بينما فضلت المؤسسة الدينية الرسمية الصمت حيال الموضوع.

 

 

وإذا كانت تونس تشهد هذه الأيام نقاشًا حادًّا حول الموضوع، بعد انتصار أعلى سلطة في البلاد لدعاة المساواة في الإرث، فإن الحكومات المغربية، ومعها المؤسسة الدينية الرسمية، ظلت ترفض الخوض في الموضوع باعتباره من قطعيات الشريعة، إلا أن توصية المجلس الوطني لحقوق الإنسان كانت قد خلقت نقاشًا واسًعا بين المؤيدين والمعارضين، دون أن يصل ذلك إلى قبة البرلمان ومؤسسات الدولة، خصوصًا المجلس العلمي الأعلى، الذي يترأسه الملك بصفته أميرًا للمؤمنين، وحامي حمى الملة والدين، والضامن لحرية ممارسة الشؤون الدينية بموجب الفصل 41 من الدستور، والذي يعتبر الجهة الوحيدة المؤهلة لإصدار الفتاوى، التي تعتمد رسميًّا.

ويرى محمد جبرون، الباحث في التاريخ، والفكر الإسلامي أن موضوع الإرث، وغيره من القضايا الحساسة يجب أن يناقش من طرف العلماء، وأهل الاختصاص، المدعوين إلى الاجتهاد مراعاة لتطور المجتمع، مبرزًا أن موضوع الإرث لا يجب أن يستغل سياسيًّا، أو تكون وراءه أهداف انتخابية، بينما يحتاج بلد كتونس إلى استعادة عافيته التنموية، والاقتصادية.

جبرون اعتبر أن المغرب له مقاربته الخاصة لمثل هذه المواضيع، إذ إن الشأن الديني يعتبر اختصاصًا حصريًّا لإمارة المؤمنين، التي تحرص على حماية المشترك بين المغاربة، إلا أن هذا لا يعني إغلاق النقاش حول موضوع الإرث في المغرب، فالنقاش الفكري والثقافي نقاش صحي بالأساس، ويجب أن يستمر.

 

 موقف الأزهر واستهجان تونسي

بدورها دخلت مؤسسة الأزهر على الخط وأعلنت موقفًا معارضًا لمبادرة الرئيس التونسي، وقال عباس شومان، وكيل الأزهر في مصر، إن دعوات التسوية بين الرجل والمرأة في الميراث تظلم المرأة ولا تنصفها وتتصادم مع أحكام الشريعة. وأضاف “المواريث مقسمة لا تحتمل الاجتهاد ولا تتغير بتغير المكان والزمان، وهي من الموضوعات القليلة التي وردت في كتاب الله مفصلة”.

 

https://www.youtube.com/watch?v=FARrTkVro5U

 

ولكن تصريحات وكيل الأزهر لاقت استهجانًا من قطاعات في تونس، ممن اعتبروا أن الموضوع شأن داخلي وخط أحمر لا يجب على أي أجنبي التدخل فيه، كما طالب برهان بسيس القيادي بحزب نداء تونس الحاكم بأن نقاش الميراث شأن تونسي داخلي، قائلا إن على التونسيين تحصينه من أي تشويش خارجي.

وفي مقاله بجريدة (المصريون) بعنوان:  هذيان الباجي السبسي وانتهازية الإلحاد المصري، يقول د. حسام عقل الناقد الأدبى ردا علي برهان بسيس: “أليست دار إفتائكم التعسة/ المسيسة، هي التي وصفت الباجي السبسي بـ” أستاذ التونسيين و(غير التونسيين)”؟! فحق إذن لـ”غير التونسيين” أن يردوا! ثم إن الميراث الشرعي الذي عبث به وبأنصبته عجوزكم الداهية، لا يخص معاليك وحدك ولا معاليه، بل هو شأن إسلامي عام يمس نصًّا قرآنيًّا متواترًا، قطعي الدلالة، لن نسمح بأن يتلاعب به صبية السياسة ولا شيوخها!”.

وحول رده على موقف الأزهر الشريف المعارض، أكد عثمان بطيخ أنه يحترم الآراء والمواقف، قائلًا: “كل طرف له موقف، والجميع يخول له إبداء الرأي، لكن أهل مكة أدرى بشعابها، ولا يمكن التدخل فى شأن ونقاش داخلي في تونس، ومع ذلك علينا احترام كل المواقف وكل الآراء”. وأن الشعب التونسى “مثقف وواع ويدرك الحقيقة بشكل جيد”، مختتمًا تصريحه بالقول: “نحن شعب مسلم نحترم ديننا”.

 

 رأي العلماء

أصدر عدد كبير من علماء ومشائخ جامع «الزيتونة» وأساتذة جامعيون مختصون بالشريعة بيانًا شديد اللهجة، اعتبروا فيه أن مبادرة قائد السبسي الداعية إلى المساواة في الميراث بين الرجل والمرأة والسماح للمرأة التونسية بالزواج من رجل غير مسلم «طعن صريح لثوابت الدين»، مشيرين إلى أن الرئيس التونسي «تدخّل في ثوابت لا مجال لتبديلها، وأحكام المواريث تكفل الله سبحانه بتفصيلها وبيانها في كتابه العزيز {يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلَادِكُمْ ۖ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ}». كما اعتبروا أن زواج المسلمة بغير المسلم هو «محرم بالكتاب والسنة والاجماع، وارتباطها به يعتبر جريمة زنى استنادًا إلى قوله تعالى: {وَلَا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّىٰ يُؤْمِنُوا}.

واستنكر الموقعون على البيان «التهميش المتعمد» للمؤسسات الدينية، وعبروا عن رفضهم موقف مفتي الجمهورية التونسية عثمان بطيخ «الذي تراجع فيه عن فتواه الصادرة في شهر جوان (حزيران) من السنة الماضية، التي حرم فيها المساواة في الميراث»، ودعوا قائد السبسي الذي قالوا إنه «المسؤول الأول عن رعاية الدين وحماية المقدسات» إلى التراجع عن هذه الدعوة الخطيرة.

ووصف مفتي تونس السابق حمدة سعيّد (أحد الموقعين على البيان) مبادرة السبسي بأنها خروج عن الإسلام، مشيرًا إلى أن النصوص «القطعية» الواردة في القرآن لا يمكن الاجتهاد فيها أو تأويلها.

فيما اعتبر الشيخ الزيتوني لطفي الشندرلي رئيس «المركز الدولي لحوار الحضارات والأديان والتعايش السلمي» أن الرئيس قائد السبسي «تجرأ» على القرآن، الذي قال إنه ينادي بعدم المساواة في الميراث بين الجنسين، «فلا مجال للخوض في آيات الله المحكمات لنضعها موضع تحريف أو مزايدات أو كسب نقاط سياسية؛ فتعالى الله وتعالت آياته علوًّا كبيرًا»، مشيرًا إلى أن «تأويل» مفتي تونس عثمان بطيخ لبعض آيات القرآن في اتجاه تأييد مبادرة السبسي “باطل وأُخرج عن فهمه الصحيح”.

 

 

خاتمة

ويبقى السؤال: هل ستشهد الأيام القادمة مخاضًا لدستور جديد بتونس معتبرين أنه شأن بشرى وسياسي، وليس إسلاميًّا عامًّا يمس نصًّا ً قرآنيًّا متواترًا، قطعي الدلالة؟

خاصة وهم يدركون جيدًا أن الإسلام الآن هو “الحائط الواطئ” الذي يمتطيه الجميع ويستبيحونه بلا حساب، أم ستكون ولادة متعسرة يقف أمامها من يظنونه هو الجواد الخاسر ووعي وفطرة الشعب بدينه؟

 

 


 

 

(1) الطاهر بن عاشور، عالم تونسي، سبتمبر ١٨٧٩ إلى ١٢ أغسطس ١٠٧٣، من أبرز مفسري القرآن الكريم في العصر الحديث، ساهم في إصلاح مناهج التعليم في جامع الزيتونة، عرف بالشدة في الحق والجراءة على السلطان، وأثر عنه قوله الشهير: “صدق الله وكذب بورقيبة”.

(2) “الآية ١١ من سورة النساء: {يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلَادِكُمْ ۖ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ}.

زر الذهاب إلى الأعلى