اللغةُ والهُويَّة بين الاستلاب الحضاري واستعادة الوعي (6)
سادساً: اللغة العربية من الخمول إلى اليقظة:
حال اللغة العربية في بدايات القرن التاسع عشر:
مَثَّل حالُ اللغة العربية في النصف الأول من القرن التاسع عشر امتداداً لما كانت عليه من ضعف وخمول في أواخر عهدي الدولة العثمانية والمملوكية، ولأن الشعر والنثر هما جناحا اللغة وصورتها العاكسة لضعفها أو قوتها؛ فقد كانا- آنذاك- في غاية الضعف والخمول؛ يدلنا على ذلك- في الشعر- العنايةُ الفائقة بالبديع وضروب التكلف اللفظي واختفاء الأغراض الشعرية التقليدية ليحل بدلاً منها التشطير والتخميس وحساب الجُمَّل، وغيرها من الألعاب اللفظية التي جعلت الشعر ضرباً من ضروب التكلف والتعقيد والإلغاز، وفرغته من الإبداع والابتكار والجمال. ونظرة سريعة إلى دواوين شعراء عصر محمد علي، وعباس الأول، وسعيد، من أمثال إسماعيل الخشاب، والشيخ حسن العطار، والشيخ محمد شهاب الدين، والسيد الدرويش، تدلنا على أن غالب الشعراء كانوا نسخاً متشابهة في ذات الموضوعات والأساليب لا يتميز من بينهم شاعرٌ عن شاعر، لا بوِجهةٍ عاطفية ولا بنزعة فكرية ولا بِسِمةٍ شخصية، حتى لم يعد لهم من هم سوى التهنئة بمولود أو رثاء شخص أو تقريظ كتاب، حتى تدثر الشعر آنذاك بصور لفظية غليظة من محسنات البديع وألاعيب الألغاز دون شعور أو عاطفة..([1])
أما النثر فقد كان هو الآخر رکيك الأسلوب ضعيف العبارة معتمداً على المحسنات البديعية، تسيطر على أساليبه طريقة القاضي الفاضل في التكلف وتتبع السجعة على حساب المعني والإيغال في الصنعة وتعمد اصطياد الألفاظ ذات البريق واللمعان([2])، حتى أصبحت”القرائح حبيسة الأغراض الضيقة والمعاني التافهة، وقلّما کانت تتجاوز الرسائل الإخوانية من تهنئة بمولود، أو تعزية بفقيد، أو معاتبة لصديق، وقلّما تعدی موضوع النثر هذه الحدود الضيقة ليلامس اهتمام الناس ويعالج شؤون المجتمع”.([3])
وكان المظنون- كما يرى شوقي ضيف- أن يتغير الأدب شعره ونثره بعد الحملة الفرنسية على مصر، وظهور أنماط عقلية جديدة تستتبع التطور والتقدم والمعاصرة، إلا أن هذا التغير لم يحدث وبقي الشعراء والكتاب في حياتهم الفنية مع القديم يحجلون في ظل السلاسل الممقوتة من البديع الذي لا تقبله النفس ولا يرتاح له الحس.. ويعلل شوقي ضيف هذا الجمود الأدبي رغم اتصالنا بالحياة الغربية بكون الحياة الغربية آنذاك لم تتعمق إحساس الشعراء ولم يتشربوها تشرباً كاملاً.([4])
وواضح أن شوقي ضيف يتابع في هذا الرأي (المظنون) الفرضيةَ التغريبيةَ التي ربطت النهضة الحديثة بالحملة الفرنسية والاحتكاك بالغرب. ولا يجادل أحدٌ في أن الاتصال بالغرب في عصر محمد على وخلفائه قد أفادنا في العلوم البحتة التي لا تمثل خصوصية ثقافية لأمة بعينها وإنما هي مشاع بين الأمم؛ مَن أخذها بحقها وأبدع فيها تطور بها دون أن يمثل أخذها وتبنيها انتقاصاً أو ثلماً في خصوصية ثقافة الأمة الآخذة وأصالة تراثها.
وهذه الفرضية إن صحت في مجال النهضة العلمية والتقنية- رغم أن غالب علومها ليست سوى بضاعتنا رُدت إلينا- فلا يمكن أن تصح في مجال النهضة الأدبية؛ لأن الأدب في كل أمة وجه من وجوه خصوصيتها الثقافية، بل هو من أخص خصوصياتها التي تمثل هُويتها وذاتها وأسس تكوينها، ولا يمكن بحال أن تُرتهن نهضة أمة في أخص خصوصياتها لمجرد لقائها بأمة أخرى لم تكن أدوات اللقاء بينهما سوى السيف والبندقية. وقد احتك المهاجرون الشوام بالغرب تبشيراً واستشراقاً قبل هجرتهم إلى مصر، فما غَيَّرَ ذلك في أساليبهم النثرية والشعرية شيئاً، وما تطور أدبهم أو فنهم بمجرد احتكاكهم بالغرب في العلم والثقافة، وما ظهر التغير المنشود في أدبهم إلا بعد أن تعرضوا لما تعرض له المصريون من عوامل النهضة الأدبية التي لم يكن سببها الرئيس الاحتكاك بالغرب أو الأخذ عنه أو التأثر به في ذلك العصر الأول. بل إن الطهطاوي ذاته- وهو من أوائل طلاب البعثات والمترجمين- كان غالب نثره وشعره يسير على ذات الطريقة المتكلفة التي كان يسير عليها شعراء عصره، وكانت ترجمته في بداياته مثقلة بالبديع وتَكَلُّفِ السجع، ولعل هذا من أعجب العجب؛ فكأن الطهطاوي كان يقرأ النص الفرنسي الأصلي سهلاً سلسلاً ثم ينقله إلى العربية صعباً ضيقاً مثقلاً بالمحسنات والسجع على عادة أدب عصره دون أن يتأثر بسلاسة الأصل وسهولته، أو يفكر في تغيير طريقته تقليداً للنصوص الفرنسية التي كان يترجمها بنفسه أو يشرف على ترجمتها من خلال تلاميذه. فلو صح أن الاحتكاك بالغرب في ذلك العصر كان يجب أن يؤثر في الأدب العربي لكان الطهطاوي هو البارودي، أو المهاجرون الشوام هم جماعة أبولو أو جماعة الديوان.
وهذا التلازم الغريب بين النهضتين العلمية والأدبية في عقول كثير من الكتاب العرب يُظهر مدى تغلغل الفرضيات التغريبية التي أطلقها المستشرقون المغرضون وتابعهم فيها الكتاب العرب بحسن نية غالباً، وبسوء نية أحياناً؛ فليس ثمة تلازم بين النهضتين؛ لأن العامل الأساس في النهضة الأدبية كان هو ظهور الطباعة والصحف التي طبعت ونشرت نفائس وذخائر وكنوز الأدب العربي في عصوره الزاهرة ليطلع عليها الكتاب والشعراء، ويسيروا على نهجها، ويسلكوا سبيلها تقليداً ومتابعة للنبع الأصيل الذي يمتد من الأدب الجاهلي إلى عصور الازدهار في الأدب العباسي، مروراً بالأدب الأموي، دون أن نغفل مع هذا العامل عامل ظهور التيارات الوطنية والسياسية المختلفة، والتي تسبب في ظهوره ما كان يموج به ذلك العصر من حراك اجتماعي متصاعد وإحساس بالحقوق القومية والسعي إلى التخلص من الاستبداد والظلم والبحث عن العدالة والحرية.. وغيرها من المعاني والمفاهيم التي صبغت شعر ما سُمي بعد ذلك بمدرسة (البعث والإحياء)، ونثر الرواد الأوائل أمثال: جمال الدين الأفغاني، والمرصفي، ومحمد عبده، وعبدالله فكري، والمويلحي، والشدياق، واليازجي.. وغيرهم.
ورغم أن شوقي ضيف أكد مراراً على العاملين الحقيقيين في النهضة الأدبية واللذين تمثلا في الاطلاع على التراث العربي الأصيل، وظهور التيارات الوطنية، إلا أنه كان دائم الربط بينهما وبين الاطلاع على الأدب الغربي الحديث، وهذا إن صح فإنما يصح في الجيل التالي لرواد البعث والنهضة والتأصيل الذي مثله أحمد شوقي، وحافظ إبراهيم، وخليل مطران في الشعر، ومصطفى لطفي المنفلوطي في النثر، رغم ما يمثله هؤلاء من أصالة عربية صافية لم يؤثر فيها إفادتهم من بعض الموضوعات والفنون الأدبية الغربية، ثم في الجيل التالي لهؤلاء من الذين تأثروا ببعض المذاهب الغربية في الأدب: كالرومانسية عند جماعة أبولو والمهجر، ونظرات التجديد الذاتية عند جماعة الديوان. أما الرواد الأوائل كالبارودي، والساعاتي، وعلي أبو النصر، وعبدالله فكري، وعلي الليثي، وعبدالله النديم، وعائشة التيمورية؛ فقد كان أدبهم عربياً خالصاً، وإن لم يتخلصوا تماماً من قيود السجع والبديع كما تخلص البارودي.
مظاهر قلق الرواد الأوائل في العصر الحديث:
كانت اليقظة اللغوية الأولى عربية خالصة مَثَّلَ قلقُ الرواد الأوائل فيها على حال اللغة والأدب حجر الزاوية في اكتمال بنائها واتضاح أبعادها، وتجلت مظاهر هذا القلق في مواقف تستعصي على الحصر لرواد كبار لا يقلل من قيمة جهودهم في مجال اللغة والأدب ما أشيع عنهم- حقاً كان أم باطلاً، مبرراً كان أم غير مبرر- في مجالات أخرى رأى كثيرٌ من المؤرخين أنهم ساعدوا فيها في تغريب المجتمع من خلال متابعتهم لآراء المستشرقين والانبهار بالغرب والنقل عنه دون تمحيص أو روية من أمثال: العطار، والطهطاوي، ومحمد عبده، وغيرهم.([5])
ولأن مظاهر قلق الرواد الأوائل أكثر من أن تذكر في هذه العُجالة فقد اخترنا أربعة مظاهر رأينا أنها الأكثر تأثيراً في تيار اليقظة اللغوية والنهضة الأدبية في العصر الحديث، لما كان لأصحابها من تأثير عام لم يتوفر- كما نظن- لغيرهم في أوائل القرن التاسع عشر الميلاد.
أولاً: حركة الشيخ حسن العطار الإصلاحية:
كان الشيخ حسن العطار أحد الموجهين الأساسيين للنهضة الأدبية والفكرية الحديثة في مصر والعالم العربي، ولعل تتلمذه على يدي علمين كبيرين من أعلام النهضة الأولى، هما: الزبيدي في اللغة، والجبرتي الكبير في الرياضة والآلات، مع تبحره في العلوم الدينية؛ جعله يضع يده على مكمن الداء في ذلك العصر، وهو الخلل الناتج عن عدم الأخذ بعلوم الدنيا، والتقليد الشديد في الأخذ بعلوم الدين؛ فاهتم اهتماماً شديداً بما أخذه عن شيخيه، ودعا- قبل الحملة الفرنسية- إلى الاهتمام بعلوم الرياضة والآلات، وكان أول صوتٍ طالَب بإصلاح الأزهر الشريف؛ فنبه الأزهريين في عصره إلى واقعهم الثقافي والتعليمي، وبين ضرورة إدخالهم المواد المهجورة: كالفلسفة والأدب والجغرافيا والتاريخ والعلوم الطبيعية، كما بين ضرورة إقلاعهم عن أساليبهم في التدريس ووجوب الرجوع إلى الكتب الأصول وعدم الاكتفاء بالملخصات والمتون المتداولة. وقد كان دائب التحسر والتوجع على ما آل إليه حال العلم وأهله واللغة وأصحابها؛ ففي حاشيته على شرح (الجلال المحلى) على (جمع الجوامع) يأسف على إهمال علماء عصره لعلوم الحكمة واللغة رغم أن علماء المسلمين القدماء كانوا- مع رسوخ أقدامهم في العلوم الشرعية- على علم واسع بالعلوم التطبيقية وإحاطة تامة بكلياتها وجزئياتها وتبحر في علوم اللغة والأدب؛ جَسَّدَهُ ما كان بينهم من المراسلات البليغة والأشعار الرقيقة، وأن علماء عصره اكتفوا بتقليد القدماء دون أن يبدعوا شيئاً من عند أنفسهم، حتى أصبحت نسبتهم إلى العلماء القدماء كنسبة عوام الزمن القديم إلى علمائه، وحتى صار الأدب عندهم من علوم أهل البطالة، يقول:”.. وإذا اجتمع جماعة منا في مجلس فالمخاطبات مخاطبات العامة والحديث حديثهم؛ فإذا جرى في المجلس نكتة أدبية ربما لا نتفطن لها، وإن تفطنا لها بالغنا في إنكارها والإغماض عن قائلها إن كان مساوياً، وإيذائه بشناعة القول إن كان أدنى، ونسبناه إلى عدم الحشمة وقلة الأدب… فحالنا الآن كما قال ابن الجوزي في مجلس وعظ ببغداد:
ما في الديار أخو وجد تطارحه حديث نجد ولا خل تجاريه
وهذه نفثة مصدور فنسأل الله السلامة واللطف”.([6])
ورغم أنه لم يوفق في دعوته لإصلاح الأزهر حتى بعد أن تولى مشيخته؛ إلا أنه رُزق حظاً كبيراً من التوفيق في الدعوة إلى إصلاح التعليم بالبلاد كلها؛ فقد عمل على اصطناع رجال الإصلاح بعده، ومكنه قربه من محمد علي من الإيعاز إليه بإرسال البعثات إلى أوروبا، وأوصى بوضع تلميذه رفاعة الطهطاوي إمام صلاة لإحدى البعثات إلى فرنسا، ثم أوصى تلميذه الطهطاوي بأن يفتح عينيه وعقله وأن يدون يوميات عن رحلته، وقد عمل الطهطاوي بنصيحة شيخه فكتب يومياته التي نشرت فيما بعد باسم (تخليص الإبريز في تلخيص باريز)، كما أوعز إلى تلميذه محمد عياد الطنطاوي أن يدرس الأدب في الأزهر، وابتدأ الطنطاوي بتدريسه فيه من خلال شرح مقامات الحريري سنة (1827م)، وأوعز أيضاً إلى تلميذه الطهطاوي أن يدرس الحديث والسنة بطريقة المحاضرة وبلا نص، حتى يستغني عن المتون التقليدية التي كبلت علم الأزهر وقللت نفعه.([7])، كما عقد هو نفسُه مجلساً لقراءة تفسير البيضاوي الذي مضت عليه مدة لا يقرؤه أحد، وذكر علي مبارك أن” كبار المشايخ كانوا إذا جلس للدرس تركوا حلقهم وقاموا إلى درسه”([8])، وقيام زملائه الشيوخ إلى حلقته، مع اشتداد معارضتهم له ونقمتهم عليه لنزعته التجديدية ولحملاته على تقصيرهم العلمي يدل دلالة واضحة على أن التربة حول العطار لم تكن مواتاً تماماً.([9])
وعليه؛ فقد كان المحور الأساس في دعوة العطار الإصلاحية يتمثل في مناداته بضرورة تطوير مناهج ومواد الدراسة في الأزهر من خلال الرجوع إلى المصادر الأصلية للتراث العربي الأصيل، والاستفادة بعلوم الآخرين التي أخذوا أصولها عنا ثم طوروها بجدهم واجتهادهم. ومن هذه الزاوية نستطيع أن نفسر- مع حسن الظن- علاقة الشيخ حسن العطار الملتبسة بقادة وعلماء الحملة الفرنسية، وتعاونه معهم وأخذه عنهم وتدريسه العربيةَ لبعضهم([10])، ثم نفسر أيضاً علاقته بمحمد علي التي ربما استغلها كلاهما في الوصول إلى هدفهما.. وشتان ما بين الهدفين.
ثانياً: الشيخ حسين المرصفي وكتاب الوسيلة الأدبية:
لم يكن الشيخ حسين المرصفي رائداً بالمعنى المفهوم للرائد الذي يختط طريقاً مجهولاً، أو يُنشئُ علماً جديداً أو يستنبت فناً على غير مثال؛ وإنما كانت ريادته أقرب شبهاً بريادة المصلح المجدد الذي يرى في حاضر أمته من الجمود والتخلف ما يدفعه إلى التنقيب عن الفترات المضيئة في تاريخها الماضي والعودة بها إلى عصور ازدهارها ومجدها، حتى كأن عمله يقتصر على أن يقدم لأمته من ماضيها عوامل النهضة في حاضرها؛ فيكون بذلك أشبه بالدليل والمرشد الذي ينبه العقول والقرائح إلى عوامل النهضة والتقدم في تراث أمته المنسي.
ويظهر هؤلاء الرواد عادة في فترة تكون فيها أمتهم في أمس الحاجة إلى ظهورهم، حتى كأنها تستنبتهم أو تستدعيهم؛ ليجددوا لها ما رث من حضارتها ويصلحوا لها ما فسد من ثقافتها ويؤصلوا لها ما اهتز أو اضطرب من أفكارها، ثم يرحلون صامتين بعد أن يكونوا قد وضعوا أسس العودة الإيجابية الإصلاحية؛ ليختط من بَعْدَهُم- من تلاميذهم- طرائق التجديد والتطور من خلال هذه العوامل التي نبهوا إليها ودلوا عليها.
وقد مَثَّلَ المرصفي رحمه الله هذا الدليل وذلك المرشد في علوم العربية وآدابها في أواخر القرن التاسع عشر، وكان بمثابة المعلم الأول الذي ينبه تلاميذه ويرشدهم إلى السبيل والطريقة والمنهج، ثم يتركهم بعد ذلك وقد امتلكوا من فهم الأصول والثوابت ما يؤهلهم للنهضة بأمتهم من خلال هذه الأصول والثوابت. وحسبنا أن نعلم أن الغالبية العظمى من أعلام النهضة الأدبية والإحياء والتأصيل والتجديد في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين؛ كانوا ممن تلقى العلم مباشرة على يدي المرصفي أو تأثروا بكتابه (الوسيلة الأدبية) في إبداعهم وتجديدهم، ومن هؤلاء: أحمد حسن الزيات، ومصطفى لطفي المنفلوطي، وعبد العزيز البشري، وطه حسين، وحفني ناصف، فضلاً عن عَلمي التأصيل والإحياء والتجديد الشعري الكبيرين محمود سامي البارودي، وأمير الشعراء أحمد شوقي.
وقد جاء الكتاب في مجلدين ضخمين ساق فيهما- بطريقة عصرية- قواعد اللغة والنحو والصرف والبلاغة، وعرض هذه القواعد ضمن نماذج رائعة منتخبة من الأدب العربي؛ فأذاع به صور النماذج الفنية الراقية في الشعر والنثر، وأعاد لأسس النقد العربي مكانتها الرائدة، وهيأ أذهان جيل الشباب آنذاك من أمثال: شوقي، وحافظ، ومطران، لتقبل هذه النماذج واحتذائها والنسج على منوالها، وربطهم بماضيهم الناصع وتراثهم العريق. كما أشاد بالبارودي ومعارضاته إشادة واسعة؛ بل وفضل كثيراً من معارضاته على القصائد المُعَارَضَة، وبَيَّنَ أن معارضاته تلك لم تكن نقضاً للقصيدة العباسية القديمة؛ وإنما كانت نهضة وإحياءً ورجوعاً بالشعر إلى صياغته الطبيعية الحرة التي تستمد جمالها من جزالة الأسلوب ورصانته.([11])
وإذا كان كتاب أرسطو (فن الشعر) قد أثر في أوروبا بصورة واسعة واعتُبِر منطلقاً للتجديد في الأدب الأوروبي الحديث؛ فإن كتاب المرصفي (الوسيلة الأدبية) يعتبر بحق حجر الأساس في البناء التأصيلي التجديدي في الأدب والنقد العربيين في العصر الحديث، ونقطة تحول ضخمة في مسيرة الأدب العربي منذ أوليته وحتى عصرنا الحاضر.
وقد يظن المتصفح العَجِلُ للكتاب أنه كتاب تجميعي ككتب الأمالي العربية القديمة يقوم على جمع علوم اللغة والأدب والبلاغة بين دفتين دون رابط أو ترتيب، بيد أن هذا الظن يزول عندما نتذكر أن مادة هذا الكتاب هي نفسها المحاضرات التي كان يلقيها المرصفي على طلبة دار العلوم إبان إنشائها، ثم يُنشر ملخصها تباعاً بعد ذلك في جريدة (روضة المدارس) التي كان يقوم على تحريرها رفاعة الطهطاوي، ومعلوم أن المُحاضِر في المحاضرات الدائمة المتواترة يحرص على أن يرتب محاضراته على نحو تصاعدي يأخذ بعضها بأسباب بعض؛ رابطاً بين المقدمات والنتائج أو بين قواعد العلوم وتطبيقاتها، مقدماً ما يُعتبر أساساً يقوم ما بعده عليه، أو أصلاً لا يُفهم ما بعده إلا بفهمه؛ ليربط بين السابق واللاحق في نسق تصوري واحد لا تختل أجزاؤه بنقصان ما هو فيه، أو زيادة ما ليس منه.
والكتاب في عمومه يُنبئ عن أن المرصفي كان يمتلك تصوراً واضحاً ومحدداً للمنهج النقدي العربي بشقيه النظري والتطبيقي، رابطاً بين الأدب والحياة على نحو يجمع فيه بين أدب السلوك وفن القول، ومؤصلاً- في العصر الحديث- لمفهوم التذوق العربي الأصيل الذي يدرس الأدب من خلال مصافحة النصوص ومعايشتها والموازنة بينها. وكان هذا التأصيل في ذلك الزمن فتحاً كبيراً ونهضة أدبية واستعادةً للغة العربية وأدبها من اختطاف عصور الضعف لها وربطها بعصور القوة والازدهار.
ثالثاً: الأفغاني، ومحمد عبده:
كان لجمال الدين الأفغاني أثر كبير في تحرر الأدب من قيود التكلف والبديع، ورغم أنه لم يكن من المطبوعين على الأساليب العربية الجميلة؛ إلا أنه قدم فيما كتبه من مقالات نماذج جيدة على الأسلوب المتحرر من سخافات الصنعة وتفاهات التكلف، وأرشد تلاميذه الكتاب إلى التحرر من القيود الثقيلة التي كانت ترسف فيها الكتابة الإنشائية، وتجنب المقدمات الطويلة التي كانت تصرفهم عن الاهتمام بالمعاني التي يريدون الإبانة عنها والإفاضة فيها؛ لأن تطويل المقدمات دليل على سقم النتائج، ولأن النثر المقيد بالتكلف والسجع لا يتسع لكل المعاني المراد توضيحها.([12])
ويتضح أثر جمال الدين الأفغاني في النهضة الأدبية من خلال قول تلميذه محمد عبده:” كان أرباب العلم في الديار المصرية القادرون على الإجادة في المواضيع المختلفة منحصرين في عدد قليل، وما كنا نعرف منهم إلاّ عبدالله باشا فكري، وخيري باشا، ومجد باشا سيد أحمد- على ضعف فيه- ومصطفى باشا وهبي- على تخصص فيه- ومن عدا هؤلاء فإما ساجعون في المراسلات الخاصة، وإما مصنفون في بعض الفنون العربية أو الفقهية وما شاكلها، ومن عشر سنوات ترى كَتَبَةً في القطر المصري لا يُشق غبارهم ولا يوطأ مضمارهم، وأغلبهم أحداث في السن، شيوخ في الصنعة، وما منهم إلا أخذ عنه (يقصد الأفغاني) أو عن أحد تلاميذه، أو قلد المتصلين به”.([13])
وكذلك قال عنه الشاعر حافظ إبراهيم:” لقد كان الفضل في القضاء على التقليد لجمال الدين وتلاميذه، أحيا الله بواسطتهم اللغة العربية، وبعث الحياة في رميم الإنشاء، وكان الناس قبل ذلك يدينون باللفظ ويكفرون بالمعنى، فما زال بهم حتى أبصروا نور الهداية، وخرجوا بفضله من ظلمات القرون الوسطى”.([14])
بل إن الأفغاني كان يربط في ذلك العصر المبكر بين بلاغة القول والإيجاز، وبين عزة سلطان الأمة؛ فيقول:” إن ثمة علاقة بين بلاغة القول والإيجاز، وبين عزة سلطان الأمة وزمن فتوتها، وإن معين الحكمة وحسن البيان مع الإيجاز، ما زالا يجريان مع الدولة صعوداً وارتقاءً وانبساطاً، حتى إذا أتى دور التقهقر والانحطاط أخذ اللسان وحسن البيان وتلك البلاغة والفصاحة في السقوط والسخافة وفساد التركيب وسقم المعاني وسوء اختيار الألفاظ لدرجة يتعذر على الغالب معها فهم المراد… ولا أرى حاجة للإتيان بأمثلة لأننا من المعاصرين لابتلاء اللسان بهذا الداء”.([15])
أما محمد عبده فقد ارتفع صوته في ذلك العصر:” بالدعوة إلى أمرين عظيمين: الأول: تحرير الفكر من قيد التقليد وفهم الدين على طريقة سلف الأمة قبل ظهور الخلاف، والرجوع في كسب معارفه إلى ينابيعها الأولى، واعتباره من ضمن موازين العقل البشري التي وضعها الله لـترد من شططه، وتقلل من خلطـه وخبطـه.. والأمر الثاني: إصلاح أساليب اللغة العربية في التحرير سواء كان في المخاطبات الرسمية أو المراسلات بين الناس”.([16])
ورغم أن محمد عبده لا يُعدُّ في جملة الأدباء والنقاد، كما أنه لم يترك مؤلفات أدبية خالصة في حياته لانشغاله بالأحوال السياسية والاجتماعية والدينية ، إلا أن تأثيره كان فعالاً وعميقاً في الجو الأدبي في ذلك العصر؛ فقد كان من أكثر الإصلاحيين اهتماماً بشأن اللغة، وطبق آراءه في مقالاته تطبيقاً فعلياً حين تخلص من مظاهر التكلف والسجع والتعقيد التي كانت غالبة على نثره كعادة كتاب عصره؛ فأخرج بذلك الكتابة الصحفية خاصة، والكتابة النثرية عامة من الضيق إلى السعة ومن التقييد إلى الحرية، وكَوَّنَ لنفسه ولمن جاء بعده أسلوباً قوياً جزلاً، ومرنه على تحمل المعاني السياسية والاجتماعية الجديدة والأفكار العالية، وكان يلفت نظر أصحاب الجرائد إلى سوء أساليب كتابها، ويلزمهم أن يختاروا من يرفع مستوى الكتابة فيها؛ فطور بذلك النثر العربي من حيث الشكل والمضمون. ولعل مقالاته في الرد على (هانوتو) أفضل مثال يمكن أن يستشهد به في هذا المجال؛ لما فيها من البساطة والجمال وتدفق المعاني وسهولة الألفاظ وسلاستها.([17])
كما دعا إلى إصلاح جذري في اللغة شبيه بما فعله الغربيون وغيرهم من الشعوب في أوروبا، وطالب بتأليف المجامع اللغوية ووضْع معاجم حديثة تصنف فيها مفردات اللغة العربية، وتضم بين دفتيها ما جد في حياة العرب المعاصرة من اصطلاح ومعرب، كما طالب بوضْع معاجم أخرى علمية وفلسفية على النمط الموسوعي الحديث، ولعل أجلَّ فكرة صدرت عنه في هذا الشأن اقتراحه أن يكون للعرب في هذا العصر معجم تاريخي يكشف عن تطور الكلمة العربية وتاريخها؛ ليتم في ضوء ذلك دراسة اللغة وإغناؤها والمضي بها إلى مستوى اللغات الحية، وقد أدرك محمد عبده بثاقب نظره أن مطلبه هذا ليس يسير المنال في أواخر القرن التاسع عشر، بل يتطلب جهداً ودأباً ووقتاً.. يقول مخاطباً السيد رشيد رضا:” إن هذا النوع من الإصلاح لا يُرجى لنا بلوغ شأو الفرنسيين فيه إلا باشتغال جدي مدة خمسين سنة”.([18])
كما أسس (جمعية إحياء الكتب العربية) التي عنيت بنشر التراث العربي، وكانت فاتحة أعمالها نشر كتابي: المخصص في اللغة، ومدونة مالك، ودلائل الإعجازـ، وأسرار البلاغة للجرجاني ودَرَّسهما في المدرسة السلطانية ببيروت ثم في الأزهر الشريف، وعهد إلى الأستاذ سيد المرصفي تدريس: الكامل للمبرد، وديوان الحماسة في الأزهر أيضاً؛ فوضع بذلك لبنة جديدة في تدريس النقد الأدبي بعد أن تحجر خلال عهود الانحدار وآل أمره إلى دراسة مكرورة لضروب محددة من البيان والبديع والزخرف اللفظي من خلال متون جامدة وقوالب متخشبة. ومن طريف ما يذكره الشيخ محمد المهدي في هذا الصدد عن الدرس الأول في الأزهر قوله:” إننا قد اكتشفنا في هذه الليلة معنى علم البيان”.([19])
وقد تأثر بدروس محمد عبده وإصلاحاته الأدبية والفكرية ثلة من تلاميذه مثلوا الجيل الثاني في تيار التأصيل العربي للأدب، مثل: مصطفى صادق الرافعي، ومصطفى لطفي المنفلوطي، وشكيب أرسلان، ورشيد رضا، وحافظ إبراهيم.. وعشرات غيرهم صاروا بعد ذلك أعلاماً يمثلون اتجاهات إصلاحية تبتعد عن تيار التأصيل العربي حيناً وتقترب منه أحياناً.
رابعاً: الدعوة إلى إنشاء مجمع لغوي:
لعل أبرز ما يمثل مظاهر القلق من قِبَلِ الرواد الأوائل في العصر الأول، هو ذلك الموقف الذي ارتفعت فيه أصوات المفكرين وذوي الغيرة على العربية مع بداية عهد الخديوي عباس حلمي سنة (1892م)، حين تنادوا إلى ضرورة إنشاء مجمع لغوي يصون اللغة ويضع كلمات جديدة لما يتردد في الصحف والمجلات من ألفاظ فرنسية وإنجليزية وإيطالية ليحد من الفوضى اللغوية التي كانت تنهش اللغة العربية وآدابها على صفحات جرائد والصحف، يؤازرها هجومٌ على اللغة العربية وإصرارٌ على استبدالها بالإنجليزية في المدارس كافة، ودعوةٌ يبثها المهندس الإنجليزي ويلكوكس تنادي بالكتابة باللغة العامية لقدرتها على الوصول على عامة الناس. وكان قد تنبه إلى خطورة هذه الأوضاع رائدان من رواد الصحافة والأدب في ذلك العصر، هما: عبدالله فكري، وعبدالله النديم الذي دعا في صحيفته (التنكيت والتبكيت) إلى فكرة إنشاء المجمع اللغوي سنة (1881م)؛ فافتتح بدعوته تلك سبيلاً لم يكن مطروقاً من قبل.([20])
وتنفيذاً لهذه الفكرة اجتمع في دار السيد توفيق البكري جمهرة من خيرة علماء اللغة والأدب وأصحاب الفكر والرأي، ضمت: الشيخ الشنقيطي الكبير، والشيخ محمد عبده، والشيخ حمزة فتح الله، والشيخ حسن الطويل، وحفني ناصف، ومحمد بيرم، ومحمد المويلحي، ومحمد عثمان جلال، ومحمد كمال.. وغيرهم، وناقش هؤلاء الأعلام فكرة إنشاء مجمع للغة العربية يؤدي لها ما تؤديه الأكاديمية الفرنسية للغتها، وانتخب الحاضرون محمد توفيق البكري رئيساً لهذا المجمع، ومحمد بيرم سكرتيراً له. وقد كان هذا المجمع الذي أطلق عليه (مجمع البكري) أول مجمع لغوي في العالم العربي، غير أنه لم يطل به العهد؛ فلم تنعقد له إلا سبع جلسات، تُليت فيها بعض البحوث ووضعت عشرون كلمة عربية لمثيلاتها الأجنبية، مات معظمها وبقيت عدة كلمات ما نزال نستخدمها حتى اليوم مثل: كلمة (شرطي) في مقابل (بوليس)، و(بهو) في مقابل (صالون)، و(قفاز) في مقابل (جوانتي).([21])
***
اليقظة اللغوية وآثارها في الأدب العربي:
على غرار الأمثلة السابقة يستطيع الباحث أن يضع يديه على مواقف لا تحصى لأعلامِ ورجالاتِ ذلك العصر، مثلت قلقاً بالغاً منهم على حال اللغة والأدب، وكانت بمثابة قرعٍ لنواقيس الخطر، وإشارات تنبيه قوية على طريق اليقظة الأدبية خاصة والفكرية عامة، بل إن جل كتاباتهم في ذلك العصر جسدت مظهراً من مظاهر هذا القلق حاولوا فيها أن يقدموا أمثلة لما يجب أن يكون عليه حال الأدب واللغة، وأن ينفضوا الغبار عن كنوز التراث العربي الأصيل الذي ردمته عوامل التقليد والتكلف، وأن يتكئوا على الماضي في نهضة الحاضر؛ يستوي في ذلك (الفارياق) للشدياق، و(حديث عيسى بن هشام) للمويلحي، و(مجمع البحرين) لليازجي، و(الوسيلة الأدبية للمرصفي)، وعشرات المقالات والدعوات التأصيلية التي زخرت بها الصحف والجرائد والكتب لرواد النهضة وطلائع التأصيل.
وكان من ثمرات هذه اليقظة أن بدأت اللغة- شعراً ونثراً- تتخلص شيئاً فشيئاً من مظاهر الضعف والتكلف والفقر في موضوعاتها وأغراضها وأساليبها معتمدة في ذلك على رافدين مهمين:
الأول: ما أخرجته المطابع من أدب عصور الازدهار الذي فهم الأدباء منه أن الأدب العربي أكثر تحرراً وموضوعية والتصاقاً ببيئته وتعبيراً عنها، من هذا الأدب الذي عهدوه في عصورهم المتأخرة، والذي لا يمثل بيئته في مجمله ولا يعكس أحاسيس الشعراء والكتاب ولا يقدم صورة واضحة للعصر والأديب.
الثاني: ما أفرزه العصر الحديث من تيارات قومية ووطنية نتجت عنها حركات عصرية إصلاحية في الدين والفكر والأدب، وتفاعل الأدباء معها من حيث هي صورة عاكسة للعصر وتطوراته.. وهذا الرافد مرتبط بالمفاهيم التي أسسها الرافد الأول؛ لأن الأدباء عندما اطلعوا على الأدب العربي في صورته الأصيلة في العصور الأولى، تأسس لديهم أن الأدب لا بد أن يكون مرآة صادقة للعصر والأديب، وألا يكون متكلفاً بارداً في موضوعاته وأغراضه وأساليبه؛ فعملوا من خلال هذا المفهوم الأصيل على تطوير أدبهم الحديث.
وبدأ رواد الشعر في استئناف الحياة الخصبة الأولى له من خلال اعتمادهم على تلك الينابيع الصافية للشعر العربي، وأخذت تظهر تباعاً بشائر هذا التحول في الشعر عند محمود صفوت الساعاتي، وعلى أبي النصر، وعبد الله فكري، وعلى الليثي، وعبد الله النديم، وعائشة التيمورية، الذين لم يتخلصوا تماماً من البديعيات والمخمسات والتضمينات.([22])
وإذا كان النصف الأول من القرن التاسع عشر الميلادي قد شهد تفتح الوعي العربي للعمل على ضرورة انطلاقة الأدب إلى عصر جديد؛ فإن التجليات الملموسة لهذه الانطلاقة لم تتحقق إلا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر عندما حمل الشاعر (محمود سامي البارودي) مهمة تحقيقها من خلال شعره المميز الأصيل والواقعي، مما جعل اسمه علامة فارقة بين عصرين أدبيين: عصرٍ وسيط ابتعد فيه الأدب العربي- في مجمله- عن تقاليده الأصلية الزاهية، وعصر حديث انطلق فيه الأدب لتحقيق مهمة إحياء تلك التقاليد الأدبية الزاهية القديمة، وتحقيق أصالة الأدب في مصالحته مع هويته المخلصة لينابيعه القديمة من جهة، والمنطلقة إلى التعبير عن حقيقة قائله في علاقاته الاجتماعية النابضة بالحياة من جهة أخرى.
وقد عبر النقاد والدارسون عن دور البارودي في حمل هذه المهمة الجليلة بمثل قول العقاد عنه:” إمام الشعراء في هذا الطور الحديث هو بلا ريب ولا خلاف محمود سامي البارودي، صاحب الفضل الأول في تجديد أسلوب الشعر وإنقاذه من الصناعة والتكلف العقيم ، ورده إلى صدق الفطرة وسلامة التعبير.”([23])
كما كان له الفضل- تطبيقياً- في إظهار عوار الدعوات التي نادت بخلع أثواب العربية الفصحى عن الأدب الحديث واتخاذ العامية أداةً للتعبير عن المشاعر، والتي كان من روادها محمد عثمان جلال الذي ترجم بعض قصص موليير وأساطير لافونتين شعراً على بحر الرجز بلهجة مصرية دارجة، إلا أن هذه الدعوة لم تنجح في هذا العصر الأول بالذات؛ لأن تيار النهضة التأصيلية العربية كان جارفاً من حيث اعتماده على التراث العربي الأصيل من جهة، ورفضه فصل الشعب المصري عن الأمة العربية والإسلامية من جهة أخرى. وكان البارودي وشعره مثالاً تطبيقياً واضحاً على أن الضعف لم يكن في اللغة العربية وإنما كان في أبنائها الذين سيطر عليهم الجهل بها والابتعاد عنها وعدم التزود بأساليبها الناصعة الشفافة التي لا تحجب معنى أو تفتقر إلى لفظ.([24])
وكان من فضل البارودي أيضاً أنه فتح الباب للشعراء الشباب في ذلك الوقت، أمثال: أحمد شوقي، وحافظ إبراهيم، وخليل مطران؛ لينسجوا على منواله ويقتفوا أثره، فعكفوا على قراءة شعره وقراءة الشعر العباسي ونماذجه المثلى، وما زالوا يتزودون من هذه الينابيع حتى استقامت أساليبهم، ثم أضافوا لهذه الثقافة العربية الخالصة كثيراً من الثقافات الأجنبية التي ظهرت بقوة في عصرهم؛ فوازنوا بذلك بين روح الثقافة العربية والمحافظة على أساليب العرب وصياغاتهم، وبين ما بثوه في شعرهم من معانٍ جديدة وموضوعات عصرية وفنون مستحدثة، ولاءموا ملائمة شديدة بين القديم والجديد، وطوعوا الأسلوب العربي لروح العصر على ما بين ثلاثتهم من فروق فردية تبعدهم أو تقربهم من الأصالة العربية حيناً، والثقافة الأجنبية أحياناً أخرى، دون أن يخرجوا من الدائرة الواسعة المحافظة على الأساليب العربية في الشعر.([25])
أما النثر فقد بدأ رواده أيضاً في استئناف الحياة الخصبة الأولى له وبدأت بشائر التجديد فيه تلوح على استحياء في تاريخ الجبرتي، وبعض كتابات الطهطاوي التي حاولت في كثير من الأحيان أن تتحرر من إسار السجع والمحسنات البديعية، وقد تأثّر بالجبرتي جيلٌ من الكتاب الشباب تخلصوا من ضروب البديع وعمدوا إلى التعبير المرسل، وكان من أشهرهم ناصيف اليازجي، وأحمد فارس الشدياق، كما جاء كتاب (الوسيلة الأدبية) للمرصفي فاتحةً نهضوية نثرية نقدية في العصر الحديث.
وكان للصحافة أثر بالغ في تطور النثر حين نقلت خصائصه من ركاكة الأسلوب وضعف العبارة والإيغال في الصنعة؛ إلى سلامة العبارة وسهولتها وخلوها من الوهن والضعف وتجنب الألفاظ المهجورة والعبارات المسجوعة- إلا ما يأتي عفو الخاطر ولا يثقل السمع والذوق-، وتجريد العبارات من الزيادات والحشو والتكلف لتكون الألفاظ على قدر المعاني، وترتيب الموضوع ترتيباً منطقياً في حلقات متناسقة يسلم بعضها لبعض.([26])
كما نقلت موضوعاته أيضاً من التهنئة والتعزية والمعاتبة والرسائل الإخوانية؛ إلى الاهتمام بشؤون المجتمع وهموم الناس ومحاربة الظلم والدفاع عن المظلومين والسعي في إصلاح المفاسد الاجتماعية والسياسية ومحاربة الاستعمار وأعوانه، وإثارة الحمية الدينية والقومية والوطنية في نفوس الشعوب العربية.([27])
وقد تعددت أنواع النثر بتعدد أنواع الصحف، أو بتعدد اتجاهات الكتاب؛ فظهر النثر الاجتماعي الذي يتطلب صحة العبارة والبعد عن الزخرف والزينة ووضوح الجمل وترك المبالغات وسلامة الحجج وإجراءها علی حكم المنطق الصحيح؛ لأن الغرض منه معالجة الأمر الواقع فلا ينبغي استعمال الأقيسة الشعرية ولا الخيال المجنح. وكذلك ظهر النثر السياسي أو الصحفي الذي يمتاز بالسهولة والوضوح بحيث يكون معناه في ظاهر لفظه؛ لأن الصحف تخاطب الجماهير ويقرؤها الخاصة والعامة. أما النثر الأدبي الفني فهو وإن لم يكن جديداً في هذا العصر أو مرتبطاً بالصحافة، إلا أنه امتاز في صحف هذا العصر وكتبه بحسن تخير اللفظ، والتأنق في النظم، والإشراق في الديباجة.([28])
والحقيقة أن النثر- بعد بذور هذه النهضة- جاء في ثوب أدبي جديد جميل، سواء كان الغرض منه سياسي أو اجتماعي أو أدبي صرف؛ لأن رواد النهضة الأوائل كانوا مع دعواتهم التجديدية والنهضوية أدباء وشعراء من الطراز الأول في عصرهم، ومن الطبيعي أن يأتي عرضهم لأفكارهم التجديدية في الدين والسياسة والاجتماع والثقافة، في ثوب أدبي يعكس حسهم الفني وذوقهم الأدبي.
ولا نبعد كثيراً إذا أكدنا على أن غالب الأسماء اللامعة في ذلك العصر أثرت كتاباتها في تطور النثر وتأصيله تأصيلاً عربياً صافياً، سواء من كان مؤمناً منهم بصواب استلهام التراث العربي الأصيل في تجديد الأدب، أو من كان رافضاً أو متردداً بين قديم لا يعرف عنه الكثير، وجديد بدأت (أنواره المظنونة) تأتينا من وراء البحار لتخطف الأبصار وتذهل العقول.
ومن هذه الأسماء اللامعة: الطهطاوي، والشدياق، والبستاني، ومحمد عبده، وإبراهيم المويلحي، ومحمد المويلحي، وسليم نقاش، وأديب إسحاق، وعبدالله النديم، وعبد الرحمن الكواكبي، وعلي مظهر، وأحمد تيمور، ورشيد رضا، ومصطفى عبد الرازق.
وعلي يد هذا الجيل الأول تربى الجيل الثاني من أمثال: المنفلوطي، وطه حسين، وأحمد حسن الزيات، ومصطفى صادق الرافعي، والعقاد، والمازني، وشكري.. على اختلاف وفروقات فردية وتأصيلية بين الجيل الأول والجيل الثاني، وفروقات فردية وتأصيلية بين أبناء الجيل الواحد.
ولم يقتصر النثر في هذا العصر الأول على المقالة الصحفية أو المحاضرات التي كانت تنشر في الصحف، أو الخطابة بأنواعها (والتي لم تزدهر ازدهاراً كبيراً إلا بعد الاحتلال الانجليزي)؛ بل تعداه إلى ما يمكن أن يسمى بداية أو إرهاصاً لظهور القصة والرواية، وذلك في مقامات (عيسى بن هشام) لمحمد المويلحي، والتي عدها شوقي ضيف بداية حقيقية للقصة العربية، وأضاف إليها قصة (زينب) لمحمد حسين هيكل، ثم اتسع الطريق بعد الاحتلال الانجليزي أمام النثر لاستحداث فنون جديدة فيه، كان العامل المؤثر الأكبر فيها هو الاحتكاك بالغرب وتقليده والأخذ عنه.([29])
*****
لقد كان المظنون بعد هذه اليقظة اللغوية في أوائل القرن التاسع عشر أن ينداح تيارها ويتأصل في التربة العربية لاستعادة أمجاد هذه اللغة وأهلها بعد طول خمول؛ بيد أن موجة التغريب الثانية التي دهمت العالم العربي والإسلامي مع الاحتلال الغربي له حَجَّمت هذا التيار التأصيلي بشدة- وإن لم تستطع القضاء عليه نهائياً- ليدخل العالم العربي واللغة العربية في طور آخر من تجفيف المنابع دينياً ولغوياً جعل من إضعاف اللغة العربية وإبعادها عن التفاعل المجتمعي هدفاً أساساً لتنحية الدين بغرض السيطرة على مقاليد الأمور في العالم العربي.. وهذا ما سنعرفه بمشيئة الله في المقال القادم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]ـ الأدب العربي المعاصر في مصر ـ شوقي ضيف ـ ص 39 ـ 40 .
[2]ـ المقال وفنونه عند الشيخ علی يوسف ـ طاهر عبداللطيف عوض ـ مکتبة الكليات الأزهرية ـ القاهرة 1989م ـ ص ـ46.
[3]ـ مواكب الأدب العربي عبر العصور ـ د.عمر الدقاق ـ دار طلاس ـ دمشق1988م ـ ص249 .
[4]ـ الأدب العربي المعاصر في مصر ـ شوقي ضيف ـ ص 38 .
[5]ـ انظر في ذلك بتوسع : الاتجاهات الوطنية ـ محمد محمد حسين .
[6]ـ محمد عبده ـ عباس محمود العقاد ـ ص 36 ـ 37 .
[7]ـ من أعلام الفكر الإسلامي الحديث ـ د. محمود حمدي زقزوق ـ المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية – وزارة الأوقاف – العدد (152) صفر 1429هـ – فبراير 2008م. ص ـ 11.
[8]ـ الخطط التوفيقية ـ علي مبارك ـ ط القاهرة 1305 هـ ـ ج 4 ـ ص34 .
[9]ـ أعلام الفكر الإسلامي في العصر الحديث ـ أحمد تيمور ـ لجنة نشر المؤلفات التيمورية ـ القاهرة 1967ـ ص 31.
[10]ـ عجائب الآثار ـ الجبرتي ـ جـ3 ـ ص35.
[11] ـ الأدب العربي المعاصر في مصر ـ شوقي ضيف ـ ص 45 ـ 46 .
[12]ـ في الأدب الحديث ـ د.عمر الدسوقي ـ ج1ـ ص 349.
[13]ـ في الأدب الحديث ـ د.عمر الدسوقي ـ ص337ـ338 .
[14]ـ مواكب الأدب العربي ـ د.عمر الدقاق ـ ص 266 .
[15]ـ مواكب الأدب العربي ـ د.عمر الدقاق ـ 270 .
[16] ـ زعماء الإصلاح في العصر الحديث ـ أحمد أمين ـ مكتبة النهضة المصرية ـ القاهرة 1965م ص 327
[17]ـ الأدب العربي المعاصر في مصر ـ شوقي ضيف ـ ص227.
[18]ـ تاريخ الأستاذ الإمام محمد عبده ـ محمد رشيد رضا ـ دار الفضيلة ـ القاهرة 2006م ـ ج1ـ ص 13 .
[19]ـ ـ زعماء الإصلاح في العصر الحديث ـ أحمد أمين ـ ص 329 .
[20]ـ حاجتنا إلى مجمع لغوي يوثق به ـ مقال لمحب الدين الخطيب ــ مجلة الزهراء ـ ج 5 ـ م4 ـ رجب 1346هـ ـ ص257.
[21]ـ المرجع السابق ـ ص257.
[22]ـ الأدب العربي المعاصر في مصر ـ شوقي ضيف ـ ـ ص 43 ـ 44 .
[23]ـ شعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي ـ عباس محمود العقاد ـ مكتبة النهضة المصرية ـ القاهرة ـ 1965م ـ ط 3 ـ ص12.
[24]ـ الأدب العربي المعاصر في مصر ـ شوقي ضيف ـ ص 45.
[25]ـ المرجع السابق ـ ص 46ـ47 .
[26]ـ الأدب العربي من الانحدار إلی الازدهار ـ جودت الرکابي _ دار الفكر ـ دمشق1996م ـ ط 2 ـ ص ـ327 ـ 328 .
[27]ـ في الأدب الحديث ـ د.عمر الدسوقي ـ ج1 ـ ص340 وما بعدها .
[28]ـ المرجع السابق ـ ج1ـ ص 325 وما بعدها .
[29]ـ الأدب العربي المعاصر في مصر ـ شوقي ضيف ـ مرجع سابق ـ ص 186ـ 187 .