التسميم الفكري والحضاري
مقدمة:
يعد استدعاء الأسئلة مسلكاً دافعاً لبناء منهجية ضرورية توصل بين التفكير والتدبير، ومن خلالها يرتبط المثال والواقع، والتحدي والاستجابة، ذلك أن الأسئلة تمثل بحد ذاتها جزءاً مهماً في منظومة التفكير التي يدفع باتجاهها القلق المعرفي واستهداف الوعي أو إعادة تجديده بحسب ما تستدعيه مقتضيات الواقع والتنزيل فيه أو التعاطي معه فهماً ومعرفة، أو تغييراً وتنمية.
ومن هنا فإن أهمية السؤال والتساؤل تكمن في التفاعل مع سياقات البناء الفكري، وتحديد الإشكالات الفكرية الكبرى التي تواجه المسلم المعاصر، وصياغة هذه الإشكاليات التي من شأنها الإسهام في إطلاق حركة فكرية مجددة، ولا شك أن هناك فارقاً مميزاً بين العقلية التساؤلية والعقلية الوعائية، فإن الأخيرة على ما فيها من الخير لا تعدو أن تكون وظيفتها دائرة مع الحفظ والمحاكاة والتقليد بعد التلقين.
ولسنا بمعزل في هذا الإطار الذي نؤصل فيه القيمة المنهجية للسؤال والتساؤل -جنساً ونوعاً- بوصفهما مسلكاً من مسالك بناء الخطاب عن المنهجية المعرفية القرآنية التي جعلت من مضامينها المنهجية البناء بالسؤال، بل كانت كبريات المسائل الكونية والشرعية مضمنة في سياقات تساؤلية، نبهت إلى جملة من القضايا التي حرص واضع الشريعة إثارتها أو مهد أسباب إثارتها في الوقائع والحوادث زمن التنزيل القرآني، وهاك مثالاً يمكن تعديته إلى غيره تنبيهاً وإرشاداً، وإن كنا سنضمن البحث أمثلة أخرى في سياق متفرق: قوله تعالى: ﴿عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ . عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ . الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ . كَلَّا سَيَعْلَمُونَ . ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ﴾[النبأ: آية 1-5]، فتساؤل القرآن هنا عن السؤال الذي أثاره المشركون حول قضية تعد من اليقينيات الكبرى التي يلزم المرءَ معرفتها والإيمان، وهي قضية الإيمان باليوم الآخر، فلم يكن السؤال بقصد معرفة الجواب منهم، وإنما كان للتعجيب من حالهم وتوجيه النظر إلى غرابة تساؤلهم، بكشف الأمر الذي يتساءلون عنه وبيان حقيقته[1] وتصحيح مساره، فجاءت إثارته للتساؤل بقصد تعديل مسار السؤال نفسه إلى حيثيته ومكانه الذي يلزم أن يكون فيه.
وليس غريباً بعد هذا التنبيه أن يتصدى العلماء والمتخصصون في بيان أهمية السؤال وضرورة حمايته من عمليات الإقلاب الوظيفي التي يمكن أن تجعله معرضاً للتحريف والتصحيف في سياقاته اللفظية والمعنوية، فيؤول أمره إما إلى العبث الذي يفرغه من مضمونه، وإما إلى التوظيف الذي يحرفه عن مساره، وفي هذا يقول الشاطبي موضحاً البعد القيمي العملي للسؤال ومضمونه وتحذيره من العبث الذي يمكن أن يصب فيه السؤال: “كل مسألة لا ينبني عليها عمل، فالخوض فيها خوض فيما لم يدل على استحسانه دليل شرعي، وأعني بالعمل: عمل القلب وعمل الجوارح، من حيث مطلوب شرعاً”[2].
فهنا نبه الشاطبي إلى البعد الوظيفي الذي يتبوؤه السؤال والكيفية التي يلزم بها استثماره والتعاطي معه، ولذلك ساق جملة من النصوص والأخبار دعماً لهذا التأصيل والتقرير وصولاً إلى بيان رأي الشارع في الإعراض عما لا يفيد عملاً مكلفاً به، بانياً ما يمكن تسميته حسب نحت الدكتور حامد ربيع استراتيجية السؤال تمييزاً بين السؤال الذي ينبني عليه العمل والسؤال الذي لا ينبني عليه العمل، وتفريقاً بين السؤال تفقهاً والسؤال تعنتاً، وخبر علي بن أبي طالب رضي الله عنه آخذ بهذا الاعتبار، فحين سأله ابن الكواء عن قوله تعالى: ﴿وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا﴾[الذاريات: آية 1]، قال له علي: “ويلك، سل تفقهاً ولا تسأل تعنتاً”[3].
إلا أن الأخطر والأكثر إشكالاً أن يؤول السؤال إلى أبعد من دائرة العبث، يؤول أمره إلى عملية اختطاف توظف فيها عمليات الإقلاب الوظيفي التي تستثمر في دائرة أكبر من دوائر السؤال نفسها، إلى حيث اختطاف الإسلام وحرفه عن مساره بعيداً عن مقاصد وغايات واضعه في الأصل، ولئن كانت الشريعة موضوعة لإخراج المكلف من داعية الهوى إلى حيث يكون عبداً صالحاً لله يقيم خلافته في الأرض، فإن مقاصد الخاطفين دائرة في وضع إسلام يجعل المسلمين به في دائرة الاستتباع للغرب أو الشرق فيأتي على وظيفته الحضارية ومنظوره الحضاري بالإبطال، فيتخلف عند ذلك شهوده وحضوره، ويدخل في دائرة العطالة والبطالة وتتداعى عليه الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها كما في البيان النبوي.
وبناء على ذلك يأتي هذا البحث بقصد إثارة هذه الإشكالية المنهجية في التعاطي مع الأسئلة في دائرة الاختطاف، واقفاً عند جملة من المحددات المنهجية التي يمكن من خلالها تحقيق مقاصد البحث وأغراضه، فيقف عند بواعث الاختطاف وقواه الفاعلة ووسائلها وأهدافها وغاياتها من الاختطاف، وصولاً إلى بيان وسائل المواجهة، مع الأخذ بنظر الاعتبار أن البحث ينظم نفسه في سياق مشروع جامع يستهدف بيان أوجه اختطاف الإسلام وكيفية مواجهتها.
المبحث الأول: بواعث اختطاف الأسئلة:
تتغاير بواعث الاختطاف بحسب تغاير القوى الفاعلة فيه وحجم ومستوى فعلهم وتأثيرهم في مسار ما يراد اختطافه، والأسئلة وبحكم كونها وعاءً لبناء الأفكار ونقلها في سياق التفاكر والتشكيل العقلي، فإنه ينظر إليها على أنها من الوسائل التي يلزم حرفها عن مسارها؛ لتشكل بذلك وسيلة لتقديم إسلام بصبغات مباينة لأصله؛ يُقصد بها -حصراً وقصراً- إقناع العامة بأن هذا هو الإسلام الذي يُراد ويُرتجى، وما سواه فلا يعدو أن يكون تحريفاً وتغييراً، كما دلت عليه نوافذهم ومنتدياتهم التي سنقف معها في سياق وسائل الاختطاف.
ولذلك يحاولون ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً أن يغيروا قناعات العامة بل والخاصة على حد سواء من أجل جذبها باتجاه ما يرسمونه ويخططون له من سياسات شائهة في مختلف المجالات، فيحدثوا والحالة هذه في صورة من التضليل تُبث فيها هالة من التسميم الفكري والسياسي والإعلامي … في غيرها، وعندها يغلب ويسيطر عليها العمه الذي لا تلوي معه على أحد إلا الذين شكلوا وركبوا عقولهم، فيكونوا -أي العامة ومن في حكمهم- ضحية هذا التضليل والتسميم لا يستطيعون معه التمييز بين المعروف والمنكر، بل يغلب عليهم الوصف النبوي: “لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه”[4]، فيكون ضحية الحرب بالفتنة التي تحيط بالمرء من كل جانب فلا يستطيع الفكاك منها إلا بمن يفتح قُفْلها وغُلْقها[5] وهم العلماء الربانيون والمفكرون الأحرار.
وهذه المنهجية التي يسلكها الخاطفون في حقيقة الأمر ما هي إلا اقتباس فرعوني يُقصد به تغييب العقول عن وظيفتها الفرقانية التي تميز بين الحق وأنواع الأباطيل، ثم بكسبها الذي يؤول إلى جعلها إحدى أدوات الاختطاف نفسها، ولقد قال الله تعالى عن ذلكم الاختطاف الفرعوني في سياقات قرآنية عدة: ﴿إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ﴾[غافر: آية 26]، ﴿قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلا سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾[غافر: آية 29]، قال الشنقيطي: “وكان غرض فرعون بهذا الكذب التدليس والتمويه؛ ليظن جهلة قومه أن معه الحق، كما أشار تعالى إلى ذلك في قوله: ﴿فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ﴾[الزخرف: آية 54]“[6].
ولو تأملنا في سياق بحثنا لاختطاف الأسئلة وإشكالية الاستخفاف التي أصلها القرآن المجيد، نستطيع أن ندرك أن للأسئلة تأثيراً كبيراً في توعية العقل وتنويره؛ إذ تعد دليلاً -حال كونها استفهامية استكشافية معرفية- على ارتقاء المعرفة وإحسان الفهم باتجاه دراية العقل بالظاهرة موضع الدراسة ومحاولة اكتشاف سننها ومسارها، فاللسان السؤول يبرهن على وجود تأمل عميق في دائرة التفكير لأجل التفكير قاصداً الوعي، ونظرية الاستخفاف لا يمكن أن تتناغم من الوعي الذي يمثل حالة إدراك بالأزمات في مستوى تشخيصها ثم في مستوى تغييرها.
ولذلك نرى في الأنموذج الفرعوني الذي أشار إليه القرآن كيف تدرج بصاحبه من مرحلة الاستخفاف إلى مرحلة الاستبداد وصولاً إلى الفساد الذي يتلازم معه وجوداً وعدماً، فالسؤال في مساره الصحيح يحيي في صاحبه خاصية المعرفة التي تُستجلى بها الجهالات، فتأخذ بصاحبها من الظلمات إلى النور ما دام مسترشداً بالمنهجية المعرفية القرآنية، بخلاف المستخف والمستبد، فإن خوفه من الأسئلة الصحيحة والبانية والآيلة إلى العلم والمعرفة تفضحه وتخرج زيفه، فمن خواص العلم التي تستجليها الأسئلة أنه باعث إلى العمل الذي هو قوام التفعيل والتغيير في البنية المجتمعية.
ولذلك يرسم لنا الكواكبي حالة المستبد في خوفه من العلم الذي تولده الأسئلة وتكثِّره، فيقول في خلاصةٍ بعد تطواف في علاقة الاستبداد بالعلم: “والخلاصة أن الاستبداد والعلم ضدان متغالبان؛ فكل إدارة مستبدة تسعى جهدها في إطفاء نور العلم، وحصر الرعية في حالك الجهل. والعلماء الحكماء الذين ينبتون أحياناً في مضايق صخور الاستبداد يسعون جهدهم في تنوير أفكار الناس، والغالب أن رجال الاستبداد يطاردون رجال العلم وينكلون بهم، فالسعيد منهم من يتمكن من مهاجرة دياره، وهذا سبب أن كل الأنبياء العظام عليهم الصلاة والسلام وأكثر العلماء والأدباء والنبلاء تقلبوا في البلاد وماتوا غرباء.
إن الإسلامية أول دين حض على العلم، وكفى شاهداً أن أول كلمة أنزلت من القرآن هي الأمر بالقراءة أمراً مكرراً، وأول منة أجلَّها الله وامتن بها على الإنسان هي أنه علمه بالقلم. علمه به ما لم يعلم. وقد فهم السلف الأول من مغزى هذا الأمر وهذا الامتنان وجوب تعلم القراءة والكتابة على كل مسلم، وبذلك عمت القراءة والكتابة في المسلمين أو كادت تعم، وبذلك صار العلم في الأمة حراً مباحاً للكل لا يختص به رجال الدين أو الأشراف كما كان في الأمم السابقة، وبذلك انتشر العلم في سائر الأمم أخذاً على المسلمين! ولكن؛ قاتل الله الاستبداد الذي استهان بالعلم حتى جعله كالسلعة يعطى ويمنح للأميين، ولا يجرؤ أحد على الاعتراض، أجل، قاتل الله الاستبداد الذي رجع بالأمة إلى الأمية، فالتقى آخرها بأولها، ولا حول ولا قوة إلا بالله”[7].
وبالتأمل عن طريق الاستقراء والتتبع ظهرت لنا جملة من البواعث، وهي وإن كانت غير محصورة من حيث عددها، إلا أنها مما يكفي تنبيهاً على غيرها:
-البعد المفاهيمي الحضاري في ظواهر الأسئلة ومكنوناتها:
الأسئلة بما تنطوي عليه من مضامين من حيث ألفاظها ومعانيها ومقاصدها تسهم بصورة فاعلة في عملية الإبصار في الواقع المعيش وما يحيط به من أزمات وتحديات، فمن المعلوم أن طرح الأسئلة يُحتاج إليه عند التأسيس والبناء الفكري في تحديد التعريفات والمصطلحات التي تتعلق بالظاهرة موضع الدراسة والبحث، ومن خلال هذه التعريفات والمصطلحات تساق المفاهيم التي تشكل البناء العقلي للإنسان، ذلك أن بناء المفاهيم يستلزم القيام بعمليات كبرى نستطيع من خلالها التمييز بين مستويات هذه المفاهيم في سياق ما يُسمى العمران المفاهيمي[8]، وإنما يثير ذلك كله أوعيته ومحاضنه، وأهمها وأكثرها فاعلية السؤال بمختلف صوره وأشكاله.
فالبعد المفاهيمي الذي يبثه السؤال في سياق الرؤية الإسلامية ومنظورها الحضاري يجعل عملية البناء مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالإطار المرجعي الذي يساهم في التأكيد على الهُوية الإسلامية، فيفضي إلى حفظ الكيان وتحصينه من العوارض والقوارض التي تأتي عليه بالإبطال من قواعده، ومن هنا تأتي سؤالات التوحيد والإيمان والتزكية والاتباع والعمران، وسؤالات الفقه والفهم والاجتهاد، وسؤالات الاستقامة والهداية والثبات على النهج … في غيرها.
ولنتأمل أنموذجاً يُعد مثالاً على الأهمية البالغة التي يتبوؤها السؤال في بيان المفاهيم وتجليتها للمتلقي والسامع بما يسهم في البناء المفاهيمي والحصانة المفاهيمية له فيكون بمنأى عن الغزو الفكري، فقد قال أنس بن مالك رضي الله عنه: بينما نحن جلوس مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد دخل رجل على جمل فأناخه في المسجد ثم عقله ثم قال لهم: أيكم محمد -والنبي صلى الله عليه وسلم متكئ بين ظهرانيهم- فقلنا: هذا الرجل الأبيض المتكئ، فقال له الرجل: ابن عبدالمطلب. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: قد أجبتك. فقال الرجل للنبي صلى الله عليه وسلم: إني سائلك فمشدد عليك المسألة، فلا تجد عليَّ في نفسك. فقال سل عما بدا لك. فقال: أسألك بربك ورب من قبلك، آلله أرسلك إلى الناس كلهم؟ فقال: اللهم نعم. قال: أنشدك بالله، آلله أمرك أن نصلي الصلوات الخمس في اليوم والليلة؟ قال: اللهم نعم. قال: أنشدك بالله، آلله أمرك أن نصوم هذا الشهر من السنة؟ قال: اللهم نعم. قال: أنشدك بالله. آلله أمرك أن تأخذ الصدقة من أغنيائنا فتقسمها على فقرائنا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم نعم. فقال الرجل: آمنت بما جئت به، وأنا رسول من ورائي من قومي، وأنا ضمام بن ثعلبة أخو بني سعد بن بكر[9].
فهذا الحديث بأسئلته المنهجية التي تعرض لها ضمام رضي الله عنه، أفصح عن أهمية السؤال المفتوح المباشر الذي يرتبط بعقيدة المرء ودينه وعلاقته بربه أمراً ونهياً؛ لأنه حسم كثيراً من القضايا الكبرى التي تهم الإنسان في فهمه لقصة حياته ومصيره، إلى الدرجة التي جعلت بعض الصحابة يتمنون الأعراب الذين تغلب عليهم البداوة في كيفية تعاطيهم مع بعض المسائل التي كان الصحابة يتحرجون منها[10]، ولذلك جاء عن عمر رضي الله عنه: “ما رأيت أحداً أحسن مسألة ولا أوجز من ضمام بن ثعلبة”[11].
فالخوف من الأسئلة المنهجية بمقوماتها ومفاهيمها يبعث الخاطفين على حرف مسارها في سياق ما يمكن أن يسمى بالإحلال المضموني، وهو ما سيكون محور البحث في سياق بيان القوى الفاعلة ووسائلها في اختطاف الأسئلة.
-الروح الاستيعابية في السؤال الإسلامي:
السؤال الإسلامي يحمل في أثنائه مقومات الاستيعاب؛ ذلك أن هذا القيد الذي اقترن به وصفاً ونعتاً أضفى عليه خصائص المقترن به ذاته، فإن للطبيعة الرسالية التي يختص بها الإسلام دون غيره جعلت له خصائص تكوينية ووظيفية في ذات الوقت، من شأنها أن تنعكس عليه حضوراً وشهوداً، ولهذا يكون الارتباط وثيقاً ومتلازماً بين البعدين الرسالي والاستيعابي، فالرسالية مجاهدة متواصلة من أجل إقامة الدين في أمتي الإجابة والدعوة،ولئن ختمت النبوة بالنبي الخاتم محمد عليه الصلاة والسلام، فإن الوظيفة الرسالية التي حملتها الأمة مستمرة ما بقي لها وجود في عالم الشهادة.
إن للبعد الرسالي بحسب ما تثيره المنهجية القرآنية ثلاث وظائف رئيسة تنجذب لها فروعها، كلها مرقومة في أربع آيات متفرقات، وهي قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾[البقرة: آية 129]، وقوله تعالى: ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾[البقرة: آية 151]، وقوله تعالى: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾[آل عمران: آية 164]، وقوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾[الجمعة: آية 2].
ففي هذه الآيات تضمين للمهام والوظائف الرسالية التي أمر بها النبي الخاتم عليه الصلاة والسلام، ثم أمته بمقتضى الوظيفة الشهودية التي تحملتها في سياق قوله تعالى: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾[البقرة: آية 143]، وهذه الوظائف هي[12]: وظيفة (التلاوة بمنهج التلقي) وتستلزم ما يسمى بالقراءة التداولية التي تعني الاشتغال الشامل بالقرآن تلاوة وتعلماً وتدارساً وتدبراً وتزكية، ووظيفة (التزكية بمنهج التدبر)، والمقصود بها تزكية النفس عن طريق تنميتها بالخيرات والبركات، وبزكاء النفس وطهارتها يصير الإنسان بحيث يستحق في الدنيا الأوصاف المحمودة، وفي الآخرة الأجر والمثوبة، وإنما قرنت التزكية بالتدبر؛ لكونه طريقاً من طرق المعرفة الربانية، ولذلك لا بد من التعرف على القرآن المجيد تدبراً واكتشافاً، فتدبر القرآن وآياته يعني النظر إلى مآلاتها وعواقبها في النفس والمجتمع، وأخيراً وظيفة (التعلم بمنهج المدارسة)، ومقتضاها الاهتمام بالقرآن من حيث بناء الوعي به، وهذا يعتمد على أمور عدة ترتبط بالبعد الرسالي الاستيعابي للسؤال الإسلامي، أهمها إدراك كون القرآن المجيد كتاباً فيه خاصية التحدي والإعجاز، وهي خاصية لا تتقادم عبر الزمان؛ لكون القرآن حاملاً خصائص الاطلاق، والاستيعاب والتجاوز، والهيمنة والتصديق، ومن هنا كان لزاماً قرن رسالة الإسلام بالحجة الخطابية القرآنية التي من شأنها أن تستوعب البشر وحاجياتهم زماناً ومكاناً.
إن الوظيفة الرسالية التي اقترنت بالرسالة نصاً ومعنى كان لها بعد مقاصدي مبتغى قاصده أن ينظم نفسه في السالكين في طريقه والوصول إليه، وهو بعد لا يقف عند حدود الدنيا، بل يتجاوزها إلى الآخرة، ولعل هذه الوظائف الثلاث وفروعها جعلت الراغب الأصفهاني في الذريعة يمارس التدبر في سياق الآيات القرآنية ليبرز لنا وظيفة هذا الإنسان حين تتحصن فطرته بالوحي، فتنجلي عنه اجتيالات[13] الشياطين، فيقول: “والفعل المختص بالإنسان ثلاثة أشياء: عمارة الأرض في قوله تعالى: ﴿وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾[هود: 61]، وذلك تحصيل ما به تزجية المعاش لنفسه ولغيره. وعبادته المذكورة في قوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾[الذاريات: 56]، وذلك هو الامتثال للباري عز وجل في أوامره ونواهيه. وخلافته المذكورة في قوله تعالى: ﴿وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾[الأعراف: 129]، وغيرها من الآيات، وذلك هو الاقتداء بالباري سبحانه على قدر طاقة البشر في السياسة باستعمال مكارم الشريعة. ومكارم الشريعة هي الحكمة، والقيام بالعدالة بين الناس، والحلم، والإحسان، والفضل، والقصد منها أن تبلغ إلى جنة المأوى، وجوار رب العزة تعالى “[14].
هذه الوظيفة الرسالة تستلزم أن يكون للإسلام دوره في إعادة الاعتبار للإسلام وأمته في الفاعلية الحضارية، بحيث تكون منظومته العقدية والقيمية هي الحاكمة؛ وهنا يأتي سؤال الاستيعاب الذي يسهم في الارتقاء بهذه المنظومة من مستوى الوجدان إلى مستوى المدركات العقلية، أو قل لنجمع في توازن محمود بين الحيز الوجداني والحيز العقلي، ونكون بذلك في دائرة الترشيد لعواطفنا وتحويلها من سياق اللاشعور إلى تفاعلات واعية إرادية، وفي ذات الوقت نكسب منظومتنا العقدية والقيمية أبعاداً معنوية وأخلاقية بحكم التفاعل الوجداني والعقلي اللذين بهما يفعل الإنسان حضارياً[15].
هذه المقومات التي تكوِّن مضامين الروح الاستيعابية ذات البعد الرسالي في السؤال الإسلامي يتخوف منها أعداؤه، فيعمدوا إلى اختطافه بتفريغه من محتواه وحرفه عن مساره، وملئه بروح ورؤى استقطابية تأتي على الوظيفة الرسالية بالعُطْل والإبطال.
-سؤال التحرر من الاستبداد:
إن الروح الاستقطابية لها ارتباط وثيق بالاستبداد، فإذا كان الاستيعاب بمنطق المدافعة والتدافع يفتح الآفاق نحو التجدد والانفتاح الحضاري، فإن الاستبداد يجد له في الاستقطاب محضناً وبيئة صالحة له، ومن هنا فإن سؤال التحرر من الاستبداد يمثل باعثاً من بواعث اختطاف الأسئلة في سياقها الإسلامي؛ لأن من شأن الأسئلة الحرة إظهار الحقائق وتقديم البراهين، وبهذا تكون دائرةً مع الصلاح والإصلاح، ولا يغيبن عن الذهن أن الاستبداد بالرغم من كونه -في الغالب- ذا بعد سياسي، فإن له أبعاداً أخرى يلزم التنبيه عليها تتناغم مع قسيمها السياسي بل تتماهى معه، بحيث يصبح هو وليها وحاكمها، كما أنه هو من يستحوذ ويهيمن عليها.
ولذلك يأتي نص حر من نصوص المقدمة لابن خلدون يفصح عن مدى تأثير الاستبداد في مفاصل الحياة، بحيث يؤول أمرها إلى المستبد والرويبضة، الذي يتحكم في كل شيء ويتسلط على كل شيء ويستعبد كل شيء، ويتعسف في كل شيء، فلا يبقى للحياة طعم ولا ذوق ولا حقيقة ولا صدق، فيكون الاستبداد أصل كل فساد يحدث في المجتمع والدولة والأمة، بل وفي البشرية كلها، وإلى نص ابن خلدون في هذا السياق، فيقول: “ومن كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلمين .. سطا به القهر وضيق عن النفس في انبساطها ودعاه إلى الكسل وحمل على الكذب والخبث، وهو التظاهر بغير ما في ضميره خوفاً من انبساط الأيدي بالقهر عليه، وعلمه المكر والخديعة لذلك، وصارت له هذه عادة وخلقاً، وفسدت معاني الإنسانية التي له من حيث الاجتماع والتمدن، و هي الحمية والمدافعة عن نفسه ومنزله. وصار عيالاً على غيره في ذلك بل وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل فانقبضت عن غايتها ومدى إنسانيتها فارتكس وعاد في أسفل السافلين. وهكذا وقع لكل أمة حصلت في قبضة القهر ونال منها العسف واعتبره في كل من يملك أمره عليه ..”[16].
المبحث الثاني: القوى الفاعلة في اختطاف الأسئلة ووسائلها:
تكشف لنا بواعث الاختطاف صوراً مختلفة ومتعددة من القوى الفاعلة في رسم الاختطاف والتخطيط له وتنفيذه، وعلى هذا الأساس لا ينبغي ونحن نواجه الاختطاف وفواعله ووسائله واستراتيجياته أن تكون قراءتنا لظاهرة الاختطاف في سياق تجزيئي منعزلة أجزاؤه بعضها عن بعض؛ لأن القراءة التجزيئية تجعل الإدراك مشوشاً غير مكتمل، فضلاً عن غياب أو اختلال الميزان والمعيار في قياس الأولويات في المواجهة لهذه القوى التي ولا شك تتفاوت قدراتها وأدوارها في ممارسة الاختطاف.
ومن هنا فإن أهم ملمح ونحن نستعرض القوى الفاعلة في مشروع الاختطاف، ومنه اختطاف الأسئلة، أن نشير إلى ذلكم التساند والتظاهر الذي يتصف به الخاطفون فيما بينهم، والتواصي بالمكر الذي يقصدون به الاختطاف، بحيث يكون عملهم في شبكية متداخلة تتفاوت وظائفها وخطاباتها بالقدر الذي يلبسون ويدلسون به على العامة، بل والخاصة كذلك ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، ولا يخفى التحذير القرآني الذي يستفز عقل المسلم بضرورة التنبه المبكر لصنائع المكر الكبار الذي يقوم به الخاطفون وأتباعهم أنساً وجناً، إذ يقول سبحانه كاشفاً سرائرهم وبواطنهم: ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾[البقرة: آية 14]، ﴿وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ﴾[محمد: آية 30].
فالآيتان هنا كاشفتان عن شبكة من العلاقات الفاعلة في محاربة الإسلام وأهله، ولكن شتان بين عدو ظاهر يجاهر بعداوته ويصرح بها، وبين من يتغلغل في صفوف المسلمين ويخالطهم مدعياً الإيمان والصلاح، إلى القدر الذي يحتاج معه إلى مؤكدات خطابية يستجلب بها إرضاء الأسياد والأكابر والمتبوعين، وإظهار ثباتهم على الكفر، ولذلك قال ابن عاشور: “وأما قولهم لقومهم إنا معكم بالتأكيد، فذلك لأنه لما بدا من إبداعهم في النفاق عند لقاء المسلمين ما يوجب شك كبرائهم في البقاء على الكفر وتطرق به التهمة أبواب قلوبهم احتاجوا إلى تأكيد ما يدل على أنهم باقون على دينهم. وكذلك قولهم إنما نحن مستهزئون فقد أبدوا به وجه ما أظهروه للمؤمنين وجاءوا فيه بصيغة قصر القلب لرد اعتقاد شياطينهم فيهم إن ما أظهروه للمؤمنين حقيقة وإيمان صادق”[17].
وبناء على ذلك فإن هناك عدة قوى تمارس اختطاف الأسئلة في السياق العام لاختطاف الإسلام بغية نقده ونقضه بصورته الحقة، وتقديم صورة مشوهة عنه لأبناء المسلمين وتأطيره بشهادات زور وأدلة ظاهرها الصحة وباطنها الفساد بتغيير دلالاتها واستحضار منهجية رجوع الاستظهار، فتُلوى أعناق النصوص وتُحرف سياقاتها، وقد قاسموا المسلمين بأنهم لمن الناصحين، وإنما حقيقة أمرهم مكر وخداع كما قال تعالى في توصيفه: ﴿وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ﴾[إبراهيم: آية 46].
أولاً: المنظومة الغربية:
بالرغم من التباين الفكري والاختلاف في السياسات والطبائع والتوجهات التي تقوم عليها المنظومة الغربية من حيث مقوماتها، إلا أن هناك بعداً جامعاً غلب على العقلية الغربية يكاد يجعل منظومتها كياناً واحداً، ويبرز هذا عندما يتعلق الأمر بالجوانب الفكرية المتعلقة بعلاقاته مع الحضارات الأخرى والديانات التي تختلف عن ديانات الغرب، فتعدد المدارس الفلسفية والفكرية في الغرب لا تجعله أوزاعاً متفرقة لا ناظم لها، بل هناك قدر مشترك من المفاهيم الأساسية الناظمة للغرب عندما يتعلق الأمر برؤيته للعالم، ونظره الكلي حول مستقبل البشرية، وهدف الإنسان من الحياة على الأرض[18].
وتظهر المنهجية التشريحية للناظم الفكري والمعرفي للمنظومة الغربية إلى تمكن الغرب من بناء نموذجه الثقافي بمظاهره العلمية والفلسفية والسياسية والاقتصادية منذ عصر النهضة وبفعل جملة التطورات الخاصة به، وتمركز ذلك النموذج حول ذاته في حركة محورية، وقد أدى ذلك إلى ظهور المركزية الغربية بكل إشكالياتها التي صاغت الفكر الغربي الحديث صوغاً يوافق نوعاً من آيديولوجيا التفوق العرقي والثقافي والديني وتطورات نزعة التمركز، فطرحت مفهوماً متصلاً بفرضية التمركز نفسها، وهو مفهوم الكونية أو العولمة، وبهذا امتد الطموح ليشمل العالم بأجمعه، ويدرجه ضمن رؤية غربية مستمدة من الفرضية المذكورة، مع مراعاة شرط الترتيب والتفاضل والتمايز بين ما هو غربي وما ليس كذلك[19].
ولهذا ترى أن رؤية الغرب للعالم بما تتضمنه من أنساق عقدية ومعرفية وقيمية وإطار مرجعي تدور حول فكرة التمركز الذاتي والمعرفي، وأنه يمثل النموذج الأمثل للتعميم والتحقيق في واقع الحياة؛ بوصفه نقطة النهاية في مسيرة التطور والمسار الحضاري، ولكن من خلال المراجعة التاريخية الممتدة حتى يومنا هذا يمكن إدراك القيمة العليا للناظم المنهجي الذي تنطوي عليه الرؤية الإسلامية في مقابل الرؤى الغربية، إذ ثبت تاريخياً أن الإسلام يسير دائماً باتجاه إثبات ضعف الغرب في رؤاه وفي مناهجه ونظرته الكونية وفي تعاطيه للأزمات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وغيرها، هذا فضلاً عن قدرة الإسلام بأطره المرجعية وتصوره الجامع ورؤيته الكونية على استيعاب البشرية وحاجاتهم زماناً ومكاناً[20].
وهذا التقابل غير المتكافئ بين الرؤيتين من حيث البناء الحِجاجي وأثره في الاستيعاب دفع الغرب إلى مواجهة الإسلام ومحاربته والإصرار على نفي أثره في الحضارة الإنسانية في بعدها التاريخي وتشويهه، والحيلولة دون تفعيل أصول الإسلام الحضارية والتاريخية التي ساهمت في تطور البشرية واكتمال بنيتها الحضارية في واقع الناس سواء في الغرب أو غيره، ولهذا يمارس الغرب بأدواته الاختطاف للإسلام وما يرتبط به قاصداً عزله عن البشرية، وتقديم صورة شائهة عنه لا تمت إلى أصوله وجذوره بصلة[21]، وفي بحثنا عن اختطاف الأسئلة وتضمينها منهجية التسميم الفكري والحضاري نقف عند أداتين ووسيلتين غاية في الخطورة كان لهما الأثر ولا زالا في محاولة تغيير المفاهيم وحرفها عن مسارها، وهما التبشير والاستشراق.
أما التبشير، فقد غلب من حيث إطلاقه مفهوماً في الكتابات عن التنصير والمنصرين وبيان أساليبهم وأهدافهم في العالم الإسلامي، ومرجع ذلك غلبة اللفظة المترجمة على تصويب الوضع الاستعمالي في توصيف هذه الظاهرة الخطيرة، ويشير الحناشي إلى أن التبشير في معناه الأصلي والاشتقاقي هو دعوة لاتباع ما جاء به الإنجيل من عقائد وتعاليم، فلفظة الإنجيل (evangelist-evangelism) ذاتها تفيد معنى التبشير، أي حمل الناس بصورة أو بأخرى فرادى أو جماعات من عقيدة ما إلى العقيدة المسيحية. وقد تعاطى رجال الدين المسيحيون الغربيون هذه الصناعة وجعلوا منها علماً لاهوتياً، وساند البابوات هذا العمل، وقد جاء في الموسوعة الكاثوليكية أن التبشير بمعنى: عمل كنسي لتوسيع آفاق الإشعاع المسيحي، واستجابة لرغبة المسيح[22].
وهذه المواضعة في اللفظ والاستعمال تعد في ظننا نوعاً من أنواع الاختطاف في المفاهيم؛ ذلك أن مفهوم التبشير بمادته جاء في كتاب الله تعالى فيما نحن بصدده حول الإخبار بالبشرى والبشارة، وهي الحادث المسر لمن يخبر به والوعد بالعطية، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا . وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا﴾[الأحزاب: آية 45-46]، فالنبي صلى الله عليه وسلم كما دلت عليه الآية مبشر لأهل الإيمان والمطيعين بمراتب فوزهم، وقد تضمن هذا الوصف ما اشتملت عليه الشريعة من الدعاء إلى الخير من الأوامر، والمأمورات متضمنة المصالح فهي مقتضية بشارة فاعليها بحسن الحال في العاجل والآجل[23]، ولهذا يكون الأوفق والأليق التوصيف بالتنصير؛ حفاظاً على خصوصية التبشير بهذه الأمة بمقتضى الإطلاق القرآني، فضلاً عن الفارق الكبير بين مضامين التبشير التي تضمنتها شريعة الإسلام المعصومة وبين مضامين النصرانية المنحرفة، ولذلك يقول الدكتور محمد عمارة: “الأدق في التعبير عن الدعوة إلى النصرانية هو مصطلح التنصير”[24]؛ ومرجع هذا أن مفهوم التبشير من حيث معناه اللغوي والوظيفي على الرغم من كونه يسع الأنبياء كلهم كما صرح بذلك القرآن الكريم في قوله تعالى على لسان عيسى عليه السلام: ﴿وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ﴾[الصف: آية 6]، إلا أن منهجية التحريف التي عمد إليها النصارى فيما بعد تلزمنا مخالفتهم بمقتضى السياق القرآني والأوامر النبوية فيما يعد من شعارهم وشعائر دينهم، كما في قوله تعالى: ﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ﴾[المائدة: آية 13] في آيات أخر، وما أكده البيان النبوي في جملة من النصوص الزاجرة عن التشبه بهم.
وعند النظر في مسار التنصير وأنشطته نقف عند حقيقة يلزم بيانها ونحن نعرض لاختطاف الأسئلة في سياق اختطاف الإسلام في واقعه المعاصر، وهي حقيقة لا نبثها في إطار ما يسمى بخطاب المؤامرة والتهويل فيه، بل هي حقيقة أظهرتها وقائع التاريخ، وقد استطرد واستفاض في بيانها الأستاذ محمود شاكر رحمه الله في سياق رده على بعض أساليب الاستعمار (الاستدمار والاستخراب في حقيقته) في مواجهة العالم الإسلامي، وأشار إلى أن مواجهة العالم الغربي معه تستدعي الحكمة فيها حسن التدبير واتقاء العواقب، وهذا يكون بتنقص أطراف العالم الإسلامي بمهارة وحذر، حتى لا يرتاع قلب هذا العالم الغافل، فعمد الغربيون إلى الغزو المعنوي والفكري الذي تجسد في عدة وسائل وأساليب، وكان أخطرها التنصير، ولهذا كانت صرخة شاكر مدوية في وجوب مواجهة التنصير وبيان خطره وآثاره على العالم الإسلامي، فلا يحل لأحد على حد بيانه ممن يتعاطى النظر في البلاد التي وقعت نهباً للغزو الأوربي، أني يغفل أمر التنصير، ولا أن يتجاهل آثاره، ولا أن يغضي الطرف عن وسائله؛ لأنه هو في الحقيقة أقوى العوامل التي مكنت للاستعمار في بلادنا وجعلتنا في حال التداعي[25].
وأما الاستشراق، فلا يخفى على مستوى جذره ونشأته الأساس النصراني والكنسي الذي نشأ فيه وترعرع وشهد أوائل ظهوره التاريخي، ذلك أن أكثر المهتمين بالظاهرة الاستشراقية والمتخصصين فيها يرون أن بداية النشأة لها تعود إلى عام 1312م حينما عقد مؤتمر مجمع فيينا الكنسي، ونادى بإنشاء كراسي للعبرية والعربية والسريانية في روما على نفقة الفاتيكان، وفي باريس على نفقة ملك فرنسا، وفي أكسفورد على نفقة ملك إنجلترا، وفي بولونيا على نفقة رجال الدين فيها. وأنشئت هذه الكراسي ونشطت الدراسات الاستشراقية، فدرست اللغة العربية وعلوم المسلمين، وترجمت الكتب من اللغة العربية إلى اللغة اللاتينية[26].
ومن هنا وبعيداً عن خطاب التهويل بالمؤامرة على الإسلام والمسلمين، فإن هناك أدواراً متداخلة ومتكاملة يقوم بها التنصير والاستشراق ودوائرهما؛ بوصفهما وسائل منظومة جامعة، ولهذا فمن الخطأ البين تناول هذه الظاهرات بصورة متفرقة كل على حدة دون النظر في سياقها الجامعي وخيوطها الشبكية المتداخلة والممتدة وسائل وأهدافاً واستراتيجيات، وهذا الاستنتاج تشهد له وسائلهم وسياساتهم كما سنعرضها في هذا سياق اختطاف الأسئلة شكلاً ومضموناً، بل يشهد به بعض أرِبَّائهم ممن هُدي إلى الإسلام بعد صولات وجولات في دوائرهم[27].
وسائل وآليات اختطاف الأسئلة:
عمد التنصير والاستشراق إلى جملة من الوسائل والآليات التي يتوسلون بها في الوصول إلى أهدافهم وغاياتهم في اختطاف الإسلام وأسئلته الكبرى، ومنها أسئلة التشكيك والشبهات: فمن الوسائل التي يستثمرها المنصرون والمستشرقون في سياق اختطاف الأسئلة ما يمكن تسميته بالأسئلة التشكيكية وأسئلة الشبهات التي يتوسلون بها إلى تشويه عقائد المسلمين ومفاهيمهم وتشويه النظم الإسلامية وسائر الأحكام التشريعية والأخلاقية، بل ومن خلالها أيضاً يتعرضون إلى التراث الإسلامي وتاريخ ا لمسلمين، فالشبهة وظيفتها عند مثيرها الإلباس والتخليط في ذهن المتلقي، يقول الإمام ابن القيم: “وإنما سميت الشبهة شبهة لاشتباه الحق بالباطل فيها فإنها تلبس ثوب الحق على جسم الباطل”[28]:
–ومن الأمثلة الظاهرة في هذا المجال الأسئلة التي تضمنها خطاب إحدى المؤسسات التنصيرية العاملة تحت ما يسمى تنظيم الآباء البيض في إسبانيا، وقد دار موضوع الأسئلة حول جملة من القضايا التي تمس المفاهيم الإسلامية والأحكام الشرعية المتعلقة بأبواب العبادات والمعاملات بشكل عام، وهي سؤالات في حقيقتها لا تخرج عن دائرة التشكيك التاريخي التي واجهها الإسلام على مدار تاريخه الممتد من طوائف مختلفة زماناً ومكاناً[29]، وفيما يأتي أبرز مضامينها[30]:
*الربط بين حرية التفكير والاعتقاد وحكم الردة.
*زواج المسلمة بغير المسلم.
*أحكام الحدود: حد السرقة والزنا والردة .. .
*قضية المساواة الدينية وتفضيل المسلم على غيره.
*مسألة تطبيق الشريعة وقضية التعايش وعلاقة المسلمين بغيرهم.
*تعدد الزوجات دون تعدد الأزواج.
*أحكام الميراث وتفضيل الرجل على المرأة فيه.
*الأحكام المتعلقة بالجهاد وقتال الكفار.
*التعددية السياسية في المجتمع الواحد وكيفية تعاطي المسلمين وشرعهم معها.
-ولم يكن الاستشراق وصنائعه بعيداً عن هذه الحراك التشكيكي الذي مارسه المنصرون؛ بوصفهما جناحي المنظومة الغربية، ولكن الذي يميز الاستشراق عن التنصير كونه منصباً على البعد المعرفي والعلمي، ويشير بعض الباحثين إلى أن المستشرقين قد استثمروا مناهج علماء الاجتماع التي تربط نشأة المعتقدات الوثنية بالبيئات والمجتمعات، وممن استخدمها في دراسة الإسلام وعقيدته مونتجمري واط الذي قال: إن الإسلام بعقيدته عبارة عن إبداع إنساني ونتاج بيئة من حيث الزمان والمكان. معلناً بصراحة أن محمد صلى الله عليه وسلم في عقيدته قد تأثر بالتقاليد العربية الشركية في الجاهلية، مستدلاً على ذلك بقصة الغرانيق العلى التي ذكرها الطبري دون طعن فيها[31].
ومثله مقالة ماكدونالد في دائرة المعارف الإسلامية تحت عنوان (الله الكائن الأعلى عند المسلمين) فيقول: “مما لا شك فيه أن العرب قبل محمد قالوا بوجود إله على نحو ما سموه (الله) … وكانوا يعترفون بالله ويقسمون به جهد أيمانهم … وليس من السهل دائماً أن نميز بين آرائهم وبين تفسير محمد لهذا الرأي”، وهنا ماكدونالد لم يخرج عن القول بأن البيئة أثرت في عقيدة محمد صلى الله عليه وسلم وعقائد بيئته واضحة[32]، وهو منهج واضح المعالم في مساره التشكيكي الذي يحاول زعزعة عقائد المسلمين في نفوسهم، وعلى هذا الأساس تعرضوا إلى أصول العقيدة الإسلامية التي تنضوي تحت أركان الإيمان الستة.
ومنها أيضاً أسئلة التفتيت والتشتيت، ذلك أن المنظومة الغربية عمدت إلى استغلال عوامل التنوع والتعدد في البنية الإسلامية بإثارة جملة من الأسئلة التي تجعلها دائرة مع التفتيت والتشتيت بعد أن كانت عوامل مستوعَبة استُثمرت في إطار الأمة الجامعة تظاهراً وتسانداً، والتاريخ أثبت بوقائعه أن ظاهرة الوحدة والتنوع في الأمة كانتا متناغمتين لتشكلا إحدى خصائصها ولتكون صور التعدد في البنية الإسلامية رافداً للأمة الجامعة، وهذا بحد ذاته يعد نموذجاً فريداً في تماسك الأمة، دون أن يفضي إلى إلغاء هوية الآخر وخصوصيته، أو يرغمه على الاندماج في العقيدة أو الدين الإسلامي[33].
وهي صورة مغايرة لما يحدث في الغرب ودوله في كيفية تعامله مع الأقليات المسلمة وغيرها، إذ تحاول صهرها في بوتقة المجتمع الغربي على حساب خصوصيتها الفكرية والحضارية، وهو ما لم يحدث في تاريخ الأمة المسلمة، ولكن في حاضرها أضحى هذا التنوع والتعدد في بنيتها مرتكزا وأساساً استغله الغرب في إطار الصراع والتناحر، فعمل على تغذيته وتنميته في سياق ثنائيات مفتعلة مستثمراً إياه في مشاريع تجزئة تأتي من رحم الأمة، وإنما تأتى له ذلك بسبب غياب الوعي بالانتماء للأمة الواحدة والجهل المركب الذي تلبسوا به بموجب الأسئلة التي تتعلق بهذه الثنائيات والتصديق بافتراض الصراع الذي يلغي فكرة التراحم بين هذه الثنائيات، فكان المحفز لهم في حقيقة الأمر تلكم القابلية التي طرأت على النفوس فانفك عندهم الشعور بالانتماء إلى الأمة الواحدة الجامعة، ولهذا كان مالك بن نبي يؤكد دائماً على المعامل الداخلي في قابليته للاستعمار حتى وإن لم يكن متلبساً به، فيقول: “كلما شعرنا بداء المعامل الاستعماري الذي يعترينا من الخارج، فإننا نرى في الوقت نفسه معاملاً باطنياً يستجيب للمعامل الخارجي ويحط من كرامتنا بأيدينا”[34].
ثانياً: الكيان الصهيوني وأسئلة التسميم السياسي:
التسميم السياسي كما يعرفه الأستاذ الدكتور حامد ربيع -رحمه الله-: “هو نوع من أنواع تشكيل القيم السائدة بغرس أو زرع قيم أخرى أو إجراء عملية تبديل داخلية للتوزيع التصاعدي للقيم التاريخية”[35]، وهذا يعني محاولة نشر أفكار أو قيم معينة في مجتمع معين، والعمل على نقل مكانة هذه الأفكار والقيم من مستوى القيم التابعة إلى مستوى القيم العليا في المجتمع المستهدف، ويكون إنجاز هذا الهدف بطريقة غير مباشرة من خلال استقطاب نخب فكرية وثقافية مختارة تتبنى هذه الأفكار والقيم في المرحلة الأولى؛ لتقوم فيما بعد بترويجها بصورة منظمة بين صفوف المجتمع من خلال وسائل الإعلام والثقافة والمناهج التعليمية المختلفة[36].
ويكون التركيز في التسميم السياسي على تشكيك الفرد والمجتمع في عدالة قضاياه بصورة تدريجية ليصل إلى حد خلخلة البنية العقيدية والتماسك النفسي للمجتمع، ووسيلته لأجل إحكام تأثيره وجذبه الفهم الجيد للبنية العقيدية والمركب النفسي للمجتمع لتحديد نقاط الضعف والتسلل من خلالها، وتتعزز هذه العملية عبر تقديم المنظومة القيمية للمهاجم بديلاً أكثر نجاعة.
وفي إطار الآليات والوسائل فإن عملية التسميم السياسي تفترض ثلاث مراحل أساسية: الأولى: مرحلة استقاء المعلومات ومعرفة الخصم مجتمعياً، بأساليب التجسس أو غيرها من الأساليب الحديثة التي تتجه أول ما تتجه إلى الإنسان. والثانية: مرحلة التشكيك في الذات والهوية، وفي التراث الحضاري الذي يتبناه الإنسان. والثالثة مرحلة القدوم العضوي إلى أرض المجتمع، حيث يسهل تطويعه تطويعاً سياسياً كاملاً، ينتج عنه أعلى حالات التبعية[37].
وفي إطار هذا النهج من التسميم السياسي يأتي الدور الذي لعبه الكيان الصهيوني في إضعاف البنية الحضارية للعالم العربي والإسلامي، ذلك أن المشروع الصهيوني قائم على أساس معادلة جوهرها أن شرط بقائه مرتبط بضعف من حوله[38]، وعلى هذا الأساس كانت استراتيجيته قائمة على ثلاثة أعمدة أساسية كما ذكر ربيع[39]: الأول: إنهاك الجسد العربي والإسلامي وبخاصة دول الطوق العربي حول فلسطين وتحويله إلى كيان مهلهل. والثاني: النظرة إلى منطقة الشرق الأوسط نظرة كلية بأكثر من معنى، من جانب فهي لن تعمد إلى تحطيم فقط الدول المجاورة للكيان الصهيوني، بل سوف تجعل دول هذه المنطقة مسرحاً لعملياتها، ومن جانب آخر أنها لن تنسى ولو في بعد معين الدول الشرق أوسطية غير العربية سواء بمعنى تطويعها أو تمزيقها. والثالث: أنها سوف توظف تحركها في المنطقة لخدمة القوى العظمي بشكل أو بآخر، بطبيعة الحال محورها الحقيقي فيها هو الولايات المتحدة الأمريكية[40].
وهذه الاستراتيجية التي وضعها الكيان الصهيوني اقترنت بها آليتان تسهمان في تحقيقها على الأرض: الأولى: آلية التضليل الذي يقوم على التوظيف المخالف للواقع وللقيم السياسية والدينية. والثانية آلية الترويض التي تجعل تلك القيم البديلة والمواقف الجديدة مستساغة لدى المستهدفين بعملية التسميم السياسي، بل هي وفقاً لتأثير هذه الآلية تكون متماهية مع الإطار أو النظم القائمة بصرف النظر عن طبيعتها الواقعية، ولقد نجحت الدعاية الصهيونية في زرع الكثير من الأفكار الدخيلة ثم تركت لضعاف النفوس وأنصاف المتعلمين رعايتها حتى صارت هذه الأفكار مصدراً لكثير من الفتن والانقسامات داخل البنية العربية والإسلامية، ومن هذه الأفكار الدخيلة القول: بأن الفلسطينيين باعوا أراضيهم – العرب يضيعون فرص السلام مع الإسرائليين – السلام سيضمن التنمية – العرب والمسلمون أمة ميتة فاسدة .. إلخ[41].
ثالثاً: قوى العلمانية والإلحاد والتيارات المدنية:
وهي قوى تتداخل بعض أفكارها وغاياتها وتتقاطع بالرغم مما يظهر فيها من تغاير وتخالف في بعض أطروحاتها، وقد أشار المسيري في هذا السياق إلى الفارق بين ما أسماه العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، بوصف الأولى متعلقة بالفصل بين الدين والدولة وتبقي حيزاً واسعاً للقيم الإنسانية والأخلاقية والدينية ما دامت لا تتدخل في عالم السياسة، بينما العلمانية الشاملة هي رؤية شاملة للكون بكل مستوياته ومجالاته، ترى العالم مكتفياً بذاته متماسكاً بشكل عضوي خاضع لقوانين واحدة كامنة فيه، وهي لا تؤمن بأية مطلقات أو كليات[42].
ولا يعني ذلك سوى الإلحاد وعدم الإيمان بقضية الخالق والخلق، وإن كان مآل العلمانيتين واحداً من حيث النظر إلى الدين وعلاقته بالإنسان والحياة والكون؛ فما فصل الدين عن الدولة إلا نوعاً من الإلحاد ولكن ليس في سياق إنكار الخالق وإنما في إبعاد الشريعة عن الحياة بمختلف مظاهرها.
ولكن لا ينبغي التغافل عند بحث مبررات ومسوغات انتشار هذه الأفكار وهذه المبادئ في بنيتنا الإسلامية إلى القدر الذي أضحت معه تلكم الأفكار مشروع اختطاف للإسلام والمسلمين، أقول لا ينبغي أن نتغافل ونتجاوز عن تلكم العوامل والأسباب التي جعلت هذا المشروع يستحكم في بيئتنا، ويصلح ولا شك تفسيراً لهذه الظاهرة ما أسماه بعض المفكرين المعاصرين بعقلية الوهن في الأمة التي انطلقت من قوله عليه الصلاة والسلام: “يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها”. فقال قائل: ومِن قلَّةٍ نحن يومئذ؟ قال: “بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السَّيل، ولينزعنَّ الله مِن صدور عدوِّكم المهابة منكم، وليقذفنَّ الله في قلوبكم الوَهن”. فقال قائل: يا رسول الله، وما الوَهْن؟ قال: “حبُّ الدُّنيا، وكراهية الموت”[43].
فالحديث من حيث بناؤه ومعناه يأخذ بالمسلم إلى حيث العوامل والأسباب الكامنة وراء ضعفه ووهنه وتمكن الأعداء منه، في إشارة منهجية واضحة إذا أخذنا بالاعتبار الرؤية المنهجية الجامعة بين السياق القرآني وبيانه النبوي، ففي خضم الحادثات التي تعرضت لها الأمة زمن التنزيل وتلقي الوحي وتفاعل الصحابة معها فكراً حركة يأتي القرآن منبهاً إلى حقائق الأمور عند التلبس ببعض هنات الطريق عند سالكيه ظانين أن إسلامهم عاصم لهم فيها، فتأتي الإشارة القرآنية إلى المنهج السنني في التعاطي مع الفعل الحضاري في نسبته إلى فاعله بدقة دون تمويه أو استقالة أو إحالة على الغير، يعلمنا القرآن أمراً بالقول في كل شيء حادث: ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَٰذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ﴾[آل عمران: آية 165]، وفي هذا السياق تفسر عقلية الوهن التي غلبت على أبناء الأمة نخباً وأتباعاً، فجعلتها في دائرة المشهود بعد الشهود، فالعقلية الواهنة هي في حقيقتها عقلية كسلى، يختلف فيها الوهن والضعف والجبن، بالمهانة والترف والغفلة والسفة والتبعية والوهم[44].
وللأسئلة دورها …:
لم تكن الأسئلة بمعزل عن قوى العلمنة والإلحاد في توظيفها لتحقيق مآربهم في اختطاف الإسلام، ولا يخفى عند من وعى الإسلام ومنظومته الجامعة منذ تشريعها الإلهي وختمها بالإتمام والإكمال، ثم التفاعل معها في بعدها التاريخي وصولاً إلى واقعنا المعاصر أن هذا الدين قوامه ثلاث ركائز: التوحيد والإيمان، العبادة والمعاملة، الأخلاق والسلوك، فتوجهت هذه القوى إلى هذه المرتكزات قاصدة زعزعتها في النفسية المسلمة بإثارة الشبهات والتشكيك حولها من خلال عديد من السؤالات والاستفهامات وصولاً إلى نقضها، فكان صنيعهم حرفاً لمنهجية السؤال من دائرة البناء إلى دائرة الهدم بالكر على الثوابت ثم إعادة تركيب العقلية المسلمة من جديد بأطر وهياكل جديدة لا تمت إلى دينه وعقيدته بصلة.
ومن تلكم السؤالات:
–سؤال الإنكار الجزئي، وهو سؤال ذو طبيعة متنقلة، وخاصة في السياق الإسلامي؛ ذلك أن الإلحاد في هذا الإطار لا يحاول ابتداء إنكار الخالق ووجوده، وإنما يقف عند حدود الإنكار بالنسبة لبعض أصول العقائد الكبيرة؛ كإنكار النبوة أو إنكار بعض المغيبات مما تعلق بالجنة والنار وبعض أوصافهما، أو القول بالاتحاد أو غير ذلك[45]، وتوصيفنا لهذا النوع من السؤال بالتنقل مبني على محاولة السائل التنقل بين ثوابت الدين والنظر في مبانيها وما يمكن جعله في دائرة الهجوم، حتى إذا أخذ من العقول مأخذه انتقل إلى غيره، وصولاً إلى إنكار الخالق، كما هو محسوس ومشاهد عند بعض شباب الأمة ممن تأثر بذلك.
–سؤال التهكم والسخرية، وهو سؤال يعمد إليه أهل العلمنة والإلحاد قاصدين به الحط والإساءة لثوابت الإسلام وما يرتبط به، ومن أمثلتها ما قاله سيد القمني بسخرية واستهزاء بالله وبدينه سبحانه: “لقد نجحت القيم الإنسانية في توحيد البشرية وتوجيهها نحو قرية واحدة، بينما لم يتمكن أي دين من ذلك، وعندما أرسل الله نوحاً وأحدث الطوفان، كان الهدف من هذا القرار الرهيب في حق الإنسانية كلها هو التخلص من الآخرين غير المؤمنين لتوحيد البشرية، ومع ذلك لم تتوحد البشرية، فجاء بعد نوح من خرجوا على الدين مرة أخرى ولا شك أن الله كان يعلم ذلك سلفاً، ومع ذلك استجاب لدعوة نبيه ولم يبق على الأرض من الكافرين دياراً، أطفالاً ونساء عجائز وشيوخاً كلت حواسهم عن إتيان المعاصي، مع من تمت إبادتهم. بينما القيم الإنسانية هي التي أدت للإنجاز الذي يتحقق اليوم تدريجياً لتوحيد البشرية بالعولمة، دون دمار وطوفان وخراب ديار وإبادة للإنسانية على الأرض، إنما بمؤتمرات وحوارات بين الثقافات وما تقوم به اليونسكو الآن في حوارات القرن الحادي والعشرين”[46].
–السؤال الأخلاقي، فمن المشكلات العميقة في بنية العلمنة والإلحاد ما يتعلق بالقيم الأخلاقية، وهي مسألة متجاوزة في الحديث عن حسن هذه القيم أو قبحها، إلى السؤال عن وجود هذه القيم وإطلاقيتها كما هو شأن الرؤية الدينية، فالملحد ومن هو في دائرته يتساءل عن المبرر العلمي أو العقلي لاعتقاد وجود مثل هذه القيم الأخلاقية المطلقة؛ بحكم ما يعتقده من أن وجود الكون ووجود الإنسان إنما هو محض صدفة، فيدور خطابه والحالة هذه مع العدمية والعبثية وغيرها[47].
-ومنها أيضاً ما يمكن تسميته بلعبة طرد السؤال الصحيح بالسؤال الردئ؛ ذلك أن السؤال يأخذ أهميته من جهة وظيفيته التي تأخذ بالاعتبار تأسيس العلم أو تأكيده في بناء العقلية المسلمة بل أي عقلية أخرى في إطار من القواعد والقيم الثابتة والحاكمة في ذات الوقت، فيعمد هؤلاء إلى ممارسة التحريف والتصحيف في صياغة السؤال بغية طرده عن دائرة الصحة والصلاحية في بناء الأفكار وتنزيلها على الواقع بتغيير مسارات الأسئلة نحو حقل من الألغام الفكرية التي تأتي على البناء العقائدي والفكري للمسلم بالهدم من قواعده.
رابعاً: الحكومات والجماعات الوظيفية (النفاق بطبعة معاصرة):
لم تكن النسخة العربية من الجماعات والحكومات الوظيفية بعيدة عن ممارسة التسميم السياسي والفكري الموظف في سياق اختطاف الأسئلة؛ وهي بهذا تحاكي طبعتها الأصلية في سياقها الصهيوني إن لم تكن فاقتها خبثاً ومكراً، وهذا ظاهر من خلال صناعة الخطاب المسمَّم والمسمِّم مضموناً ولفظاً، بتوظيف كم هائل من الصياغات اللفظية في صناعة الأسئلة وصياغتها، فهي بذلك تلج إلى مفاصل السؤال بقصد التأثير في وظيفيته، ثم استغلاله في سياق تغيير قناعات الرأي العام وتشكيكها بمسلماتها ودينها، وهنا يمكن الإشارة إلى وسيلتين في غاية الخطورة، لهما دورهما الفاعل في البنية المجتمعية على مختلف الأصعدة؛ وهما المؤسسة الإعلامية، والمؤسسة الإفتائية، وهما مؤسستان يأخذ السؤال فيهما مساحة واسعة يمكن توظيفها في مسارات متعددة لها تأثيرها في مجالات الفكر والقيم وغيرها.
–فالمؤسسة الإعلامية قد فرض التطور التقني الحديث فيها واقعاً أسهم ويسهم بشكل كبير في البناء والتشكيل العقلي برسم ونحت مضامين ورؤى وأفكار بحسب ما يستهدفه أربابها، والرسالة الإعلامية تلعب دوراً محورياً في التأثير سواء أكان سياسياً أو غيره، ويشير بعض المتخصصين إلى أن التأثير الإعلامي لا يقف عند مضمون الرسالة الإعلامية، بل كذلك الوسيلة الإعلامية نفسها تعد هي الرسالة في حد ذاتها؛ ووجه ذلك عنده أن طبيعة كل وسيلة إعلامية هي الأساس في تشكيل المجتمعات[48]، في إشارة واضحة إلى صناعة الصورة وكيفية توظيفها في الفكر والحركة.
وفي سياقنا الاختطافي تعرض قضية التسميم الإعلامي الذي تمارسه الحكومات الوظيفية بمؤسساتها الإعلامية، وحقيقة هذا التسميم انقلاب وظيفي في أداء هذه الوسائل جعلها تصب في خدمة سلطات الاستبداد السياسي ليقهر قوى التحرر، وتشد من أزر الظلم السياسي والاجتماعي، وتقصف به العواطف والوجدان، وتشتت به الانتباه الفردي والجمعي كي يتمكن من تقديم الأكاذيب في صورة حقائق[49]، ولذلك من خلال هذه الوسائل تارة يتم تلقين المتلقي والسامع أسئلة تُختطف من خلالها الأجوبة، فالسؤال يحمل نصف الإجابة كما يقول المتخصصون في التعليم، وتارة أخرى تساق في أثناء السؤال جمل من الألفاظ وتحمل صوراً من التلبيس والتدليس على شاكلة (رمتني بدائها وانسلت)، فتساق فيها ألفاظ: التشدد والتعنت والإرهاب والتنطع والتخوين .. إلخ.
-وأما المؤسسة الإفتائية، فإن السؤال يأخذ فيها حيزاً كبيراً؛ بوصفه ركن الفتوى وأصلها الذي ترتبط به، وهذه المؤسسة في امتدادها التاريخي كان لها دورها في حسم كثير من القضايا والإشكاليات والحوادث والواقعات التي واجهت الأمة فرداً وجماعة، ولئن كان للفتوى الفردية أهميتها من حيث موضوعها، فإن الفتوى المتعلقة بالجماعة تأخذ مجالاً أكثر أهمية وأبعد خطورة، وتاريخياً اشتهرت فتوى الإمام أحمد رحمه الله في مسألة خلق القرآن، وفتوى ابن رشد الجد في الجهاد ضد الصليبيين في الأندلس، وفتوى شيخ الإسلام ابن تيمية في قتال التتار .. في غيرها[50].
ولقد كانت لسؤالات بعض قادة العمل الإسلامي مسوغات استدعتها الخشية على الفتوى من الاختطاف والنأي بها عن حركة الأمة في نهوضها وشهودها الحضاري، فيذكر في سياقها سؤالاً محورياً هو: كيف السبيل إلى إقالة الأمة من عثرتها الحضارية الأليمة بتفعيل آلية الفتوى في تهيئة المناخ لاستعادة لحمة الأمة، والموازنة بين اهتمام واجب بدراسة “نواقض الوضوء” مثلاً، واهتمام أوجب بدراسة “نواقض الحضارة والعمران” التي يجب أن تتطهر منها الأمة عاجلاً غير آجل، من أجل استعادة دورها المنشود في ركب الإنسانية العام ..؟[51]
وهي ذات الصيحة التي دعت نذيراً من النذر العراة الذين آلمهم وأقلقهم حال الأمة في تعاطيها مع قضاياها وأزماتها؛ دفعاً لعوارض وقوارض تطرأ على بنيتها أو رفعاً لها، والفتوى حينما ترتبط بالأمة فإنها تؤسس لموقف، ولهذا يلزم بحسبه -وهو الحق- التحذير من صور اختطاف السؤال الإفتائي، ومنها نموذجاً ومثالاً[52]:
*ظاهرة التفاتي المصنوع والمصطنع (الحالة الفلسطينية وتوصيف جهادها بالإرهاب).
*الفتاوى الملونة (حرب الخليج الثانية فتاوى المكان والمصلحة).
*التحيل في الفتوى (فخ السؤال: تحويل فتاوى الأمة إلى فتاوى فردية: فتوى الإمام مالك، وفتوى الجندي المسلم الأمريكي في الحرب الأمريكية على أفغانستان).
*تحكم الواقع في الفتوى وحرب الفتاوى (تسييس الفتوى واقتناص الأدلة فيها: الطغيان السياسي وطاعة أولي الأمر).
خامساً: الهزيمة النفسية في الأمة:
يسهم بعض أفراد الأمة بقصد أو بغير قصد في عملية الاختطاف من خلال ما يبث من رؤى في عالم الأفكار، أو من خلال ما يتخذ من مواقف في عالم العلاقات، بحيث تأخذ مسارها في إطار عملية التأثير السلبي في تشكيل عقول أبناء الأمة بما يفضي إلى عطالتها وبطالتها الحضارية، فيبث في الأمة كمٌ هائل من المثبطات عن الفعل والعمل العمراني تارة، وكمٌ هائل من الملبِّسات والمدلِّسات تارة أخرى، وهي تقترب من حيث صورها ومن حيث تأثيرها كذلك من الأفكار الميتة والقاتلة التي أشار إليها مالك بن نبي في مشروعه الحضاري عند بحثه العوامل الداخلية في فوضى العالم الإسلامي الحديث[53]، وبحكم سياقنا في اختطاف الأسئلة فإن هناك صوراً ووسائل لاختطاف الأسئلة تعد وتمثل بجملتها قابليات اختطافية في السياق العام، منها:
*الهروب إلى التاريخ بالسؤال أو إحلال الأسئلة التاريخية محل سؤالات الحاضر؛ بقصد الاحتماء به من ضغوط الواقع ورفض التفاعل معه، وهو في هذا السياق لا يملك عدة التحدي أو شروط المواجهة، وهذا النموذج القافل إلى التاريخ بضعف حجته وتهربه من واقعه يعد في حقيقته خداعاً للذات ووهماً من أوهام التصور، وإحالة للأخطاء على الآخر، وهذه التصورات وغيرها مما هي على شاكلتها تترك آثارها بالضرورة على كل العمليات المنهجية والنظرية بل وكذلك انعكاساتها الحركية[54].
*الهروب بالأسئلة إلى المستقبل والحلول فيه، وهو نوع من المسكنات والمهدئات النفسية من ضغوط الواقع كذلك، فيكون والحالة هذه سارياً مع قسيمه الذي يهرب إلى التاريخ، فليست عنده المكنة والقدرة على توظيف الإمكانات والاستطاعات في التفاعل والتفعيل في الواقع، أو هو كسابقه لا يملك عدة التحدي وشروط المواجهة، فيبقي حالة القابلية للاستعمار التي أصلها مالك رحمه الله.
*الهروب بالأسئلة إلى الكليات والتنظيرات بعيداً عن جزئياتها، وهي من الحالات التي قد توصف بالعبثية أو تفضي عند استحكامها إلى العطالة والبطالة الحضارية، ومن القواعد الذهبية التي صاغها الشاطبي في موافقاته: “كل مسألة مرسومة في أصول الفقه لا ينبني عليها فروع فقهية، أو آداب شرعية، أو لا تكون عوناً في ذلك؛ فوضعها في أصول الفقه عارية”[55]، ومثلها أختها في موضع آخر: “كل مسألة لا ينبني عليها عمل؛ فالخوض فيها خوض فيما لم يدل على استحسانه دليل شرعي”[56].
المبحث الثالث: وسائل المواجهة:
يستدعي الحديث عن وسائل المواجهة لاختطاف الإسلام وخاصة في إشكالية اختطاف الأسئلة بوسائل التسميم الفكري والحضاري بيان القيمة التي يتبوؤها السؤال والتساؤل في السياق الفكري والمنهجي، فالسؤال يشكل جزءاً مهماً من منظومة التفكير في العقلية المعاصرة، وطبيعة السؤال المطروح ومستواه يعبران بشكل دقيق عن المستوى العقلي والمعرفي لصاحبه، وإنما يندفع الإنسان إلى السؤال والتساؤل حينما يبصر مساحة فاصلة بين ما هو كائن وبين ما ينبغي أن يكون، ولا يخفى أن إدراك هذه المساحة متوقف على التفاعل والتفعيل في عملية التعلم والتعليم، وقديماً قال السلف: “لا يطلب العلم مستح ولا مستكبر”.
ولذلك أصحاب العقليات الناضجة أو التي في طريقها إلى النضج يتخذون من الأسئلة مفاتيح لأبواب المعرفة المغلقة، كما يتخذون منها أدوات لتجديد الطرح الفكري، وعلى هذا الأساس فإن اختطاف الأسئلة وتوظيفها في سياق التسميم الفكري يعد بحق قطعاً لطريق التجديد والإحياء في الأمة، ولهذا نحن بحاجة إلى طرح الأسئلة من أجل إعادة تحديد التعريفات والمصطلحات، ومن أجل إضاءة مسار الممارسة الإصلاحية في الحياة المسلمة، وكل ذلك من أجل الشعور بأننا ما زلنا نعمل في المسار الصحيح[57].
ومن هنا فإن هناك جملة من الرؤى والأفكار والوسائل التي تضمن الحصانة للأسئلة ومضامينها الإسلامية من الاختطاف، وأهمها ما يأتي:
أولاً: من أهم المداخل في تحقيق الحصانة للأسئلة ومضامينها هو المدخل المقاصدي، ويلزم في هذا المجال بيان أن الأسئلة بوصفها مظهراً من مظاهر الخطاب الذي يعبر عن مرادات العقل وغاياته ومفاهيمه لها ارتباطها الوثيق بالعقل من هذه الجهة، وبحكم كون الأسئلة إحدى وسائل التسميم الفكري والحضاري، فإن من الأهمية بمكان التأكيد على إن مدخل الحصانة والصيانة للأسئلة في سياق هذا المدخل ينطلق من دائرة حفظ العقل المسلم وإعادة تشكيله وفقاً للمنهجية الإسلامية، يقول ابن عاشور: “قال الحكيم: الإنسان عقل تخدمه أعضاء. فإصلاح المخدوم هو ملاك إصلاح خادمه. فإصلاح عقل الإنسان هو أساس إصلاح جميع خصاله، ويجئ بعده الاشتغال بإصلاح أعماله، وعلى هذين الإصلاحين مدار قوانين المجتمع الإسلامي”[58].
وهذا الإصلاح للعقل تسهم فيه دائرتان مقاصديتان، دائرة الحفظ السلبي ودائرة الحفظ الوجودي كما عبر عنها علماء المقاصد، فدائرة الحفظ السلبي مقتضاها حفظ العقل من كل ما يسلبه من أفكار وتسميم وغسيل مخ ومن كل ما يذهبه سواء كان بوسائل مادية أو معنوية، وهنا يمكن تسكين عناصر متعددة تشغل العقلية المسلمة في واقعها وعلاقاتها داخلياً وخارجياً، من مثل ما يسمى بهجرة العقول، وعقلية القطيع والعوام، وغزو العقول، واستلاب العقول .. إلخ، ودائرة الحفظ الوجودي البنائي الجلبي مقتضاها التأكيد على حفظ العقل بوصفه مناط التكليف وقاعدة حمل الأمانة وأساساً لقيمة الاختيار، ومقصود الشارع بحفظ العقل في هذا السياق أن يكون العقل حاضراً بالفعل والفاعلية، بالإرادة والاختيار، بالتدبير والتفكير والتأثير[59].
ولكن حفظ العقل لا يكون بمعزل عن الحفظ المنظومي الذي يجعله في سياق أقرانه في الخماسية المقاصدية، ذلك أن هذه المقاصد في حقيقة أمرها مجالات تتداخل في ساحة الفعل الحضاري، بحيث تستوعبها في إطار التفاعلات وعالم الأحداث الناتج عنها أو المرتبط بها، وعليه فإن تحديد هذه المجالات دون ملاحظة إمكانيات تعدي عناصر الحفظ وتأثيرها وتفاعلها في بعضها البعض في شكل منظومي، هي من الأخطاء المنهجية التي ترتكب في هذا المقام، ومن ثم لا ينبغي ترتيب هذه المجالات ترتيباً تصاعدياً من حيث التدرج الذي يشير إلى حال افتراض حدوث تعارض بين المجالات، بل يلزم ابتداء النظر إليها في سياق متوازٍ؛ لكون المقاصد تحفظ ابتداء بالتوازي، فإذا حدث التعارض أو تُوهم عند الناظر، فعند ذلك يعمد إلى الترتيب التصاعدي[60].
ثانياً: صيانة وحصانة الأسئلة من التسميم الفكري والحضاري ترتبط في سياقها العملي -تأسيساً على المدخل المقاصدي في حفظ العقل- بسياسات ثلاث في غاية الأهمية: السياسة التعليمية، السياسة الثقافية، السياسة الإعلامية، فالتحدي الحضاري يكمن في أن هذه السياسات تعد وسائل تشكل بحد ذاتها مسارات مواجهة حضارية تؤكد الأمة من خلالها على هويتها وحصانتها على مستوى علاقاتها المختلفة وتحافظ على العقل المسلم في سياقه الفردي والجمعي، وإلا فإن فساد هذه السياسات يفضي في الغالب إلى تغييب العقل وتزييفه بل وجعله في دائرة القهر والاستبداد، فتعرض عند ذلك أسئلة التسميم بمختلف صورها ومظاهرها.
ثالثاً: التأكيد على دور الأسئلة في التعلم والتعليم والتفكر والتفكير والتدبر والتدبير، فالأسئلة توجه التفكير وتحدد المهام وتعبر عن المشكلات وتصف القضايا، كما أن وظائفها متعددة ومتنوعة بحسب مقاصد البحث وغاياته، فمنها:
-الأسئلة العميقة تحرك التفكير ليغوص في عمق الأشياء وتدفعنا إلى حسن التعامل مع القضايا المعقدة بتفكيكها وإعادة تركيبها منهجياً.
-الأسئلة الهادفة تدفع باتجاه تحديد المهام والوظائف.
-الأسئلة المعلوماتية وظيفتها تفحص مصادر المعلومات وتصنيفها.
-الأسئلة التفسيرية تعمل على تحديد المعاني.
-الأسئلة الافتراضية تمكن من مراجعة الأفكار والرؤى التي ينظر إليها على أنها مسلمات.
-الأسئلة المضامينية والموضوعية وظيفتها تتبع مسار التفكير والتمييز بين ما يرتبط بالسؤال وما لا يتربط به.
-أسئلة الاتساق تدفع باتجاه تفحص التفكير بحثاً عن المتناقضات.
-الأسئلة المنطقية وظيفتها تقويم التفكير ومراجعة أخطائه.
رابعاً: في سياق الأفكار العملية التي تضمن وتكفل حصانة الأسئلة والفكر والعقل المسلم من الاختطاف استثمار قدرات ومكنات الإبداع الفكري للأفراد في العمل في سياقات مؤسسية جماعية، على شاكلة مراكز البحوث والدراسات، والمراكز الاستراتيجية، والفرق والجماعات البحثية، وورش العمل، والمؤتمرات العلمية، والمجامع العلمية، وهذا النَفَس من الأفكار يعضده ويشهد له تلكم الهدايات القرآنية التي تعمل على بث الروح الكفاحية في العقلية المسلمة فتجعلها ذات فاعلية وتأثير في مجتمعها وعالمها وبيئتها ومحيطها وعلاقاتها كلها.
فالروح التي يثيرها في النفس مثلاً قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلًا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ ليَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَروُنَ﴾[التوبة: آية 122]، لبناء العلم والثقافة والحضارة لا تقل أهمية من النفرة إلى الجهاد والقتال، وهذا يستدعي نفرة طائفة من أبناء الأمة والمجتمع، لبناء الأفكار المستقبلية، وتكوين الرؤى الاستراتيجية؛ من أجل صناعة الأحداث وتوجيه حركة الحياة في مراقي التقدم والتطور، إذ بهذا النوع من التفكير يستطيع المسلمون امتلاك زمام المبادرة في بناء المشاريع وتنفيذها على أسس من العلم والمعرفة والبصيرة فيضمنون بها الحصانة والصيانة من التسميم الفكري والحضاري[61].
خامساً: تعد المنافذ الجديدة التي أحدثتها التقنية الحديثة ومخرجات التقدم العلمي والتكنولوجي فرصة حقيقية لاستثمارها في سياقات مواجهة مشاريع الاختطاف، إذ أضحت هذه المنافذ ذات تأثير كبير بشقية السلبي والإيجابي، وحري بأهل الوعي والعلم في الأمة جعل هذه المنافذ وسائل لبث قضايا تشغل العقلية المسلمة وتضمن حفظها من الدواخل التي تأخذ بها إلى حيث العبثية بل والفساد والإفساد، وتعرض في هذا المقام مواقع التواصل الاجتماعي بمختلف أشكالها، ومن أمثلتها في سياق استثمار الأسئلة إطاراً ووسيلة لدفع ورفع الإشكاليات والشبهات في الأمة منصة (باختصار)، وهي وإن كانت حديثة العهد من حيث نشأتها إلا أنها تعد بحق مثالاً وأنموذجاً في استثمار الأسئلة ومواجهة اختطافها، وتدفع باتجاه إبداعات مماثلة.
سادساً: من وسائل مواجهة اختطاف الأسئلة تفعيل منهجية الحِجاج والمناظرة، وفي قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾[البقرة: 258]، دلالة على جواز المجادلة والمناظرة في العقائد الصحيحة وإبطال ما يضادها، والقرآن مملوء بذلك، وأما ما نهي عنه من الجدل، فهو جدال المكابرة والتعصب وترويج الباطل والخطأ[62]، ويدخل في إطار منهجية الحجاج تتبع وسائل الاختطاف في سياقاتها عند فواعلها، وقد لمسنا جوانب متعددة حرص من خلالها الخاطفون على توظيفها في تحقيق أهدافهم واستراتيجياتهم، كما هو الشأن في منهجية التضليل والتشكيك والشبهات وغيرها، وإنما تتم المواجهة بنقض باطلهم وتضليلهم بالحجج والبراهين الواضحة في منهجنا الإسلامي.
خاتمة:
اتخذ هذا البحث بما تعرض له من قضايا وما تضمنه من موضوعات مساراً يقف به مع أقرانه في مشروع مواجهة اختطاف الإسلام، وكان المسار منصباً على مواجهة التسميم الفكري والحضاري من خلال اختطاف الأسئلة بوصفها مثالاً ونموذجاً له، ولكون الأسئلة دائرة في سياق الخطاب وما يحتويه من أفكار ورؤى فقد كان تركيز الخاطفين فيه بمختلف مستوياتهم وأشكالهم -سواء ما كان منها من خارج البنية الإسلامية أو من داخلها- على توظيف مختلف الوسائل والطرق لأجل تحقيق مآربهم في الاختطاف وإخراج نسخة شائهة من الإسلام لا يستطيع المسلمون معها تحقيق فاعليتهم وشهودهم من خلالها، وأثاروا من خلال جملة من الأسئلة الداعمة لمشروعهم في الاختطاف مستغلين بها حالة الوهن التي أصابت الأمة بسبب تراجعهم وتخلفهم الحضاري وقابليتهم النفسية التي زرعت ظاهرة الاستعمار (الاستخراب) في نفوسهم ومجمتعاتهم.
فجاءت أسئلة التشكيك والشبهات، وأسئلة التفتيت والتشتيت، وسياسات التضليل بمختلف صورها، ولعبت الهزيمة النفسية في النفسية المسلمة دورها أيضاً في دعم الخاطفين ودفعهم للإحلال والاحتلال بمساريه المعنوي والمادي، ولأجل دفع ورفع هذا المشروع وقواه ووسائله واستراتيجيه لزم الأمةَ أفراداً وجماعات، نخباً وعامة مواجهة هذا المشروع بمسارين، مسار سلبي تجتهد الأمة من خلاله في نقض شبهات الخاطفين ودحض باطلهم، ومسار جلبي بنائي تحرص من خلاله على إعادة تشكيل العقلية المسلمة وحفظها بما تقتضيه منهجيتها الإسلامية ومقاصدها العامة، فجاء التأكيد في المسارين على اتخاذ وسائل واستراتيجيات يرسم من خلالها المسلم الواعي خطط الحفظ والبناء الحضاري، ويؤسس بمنهجيته خطاباً يحفظ للأمة بيضتها ويضمن لها مساراً في سياق الشهود الحضاري العالمي.
[1] سيد قطب، في ظلال القرآن، القاهرة، دار الشروق، ط32، 1423ه/2003م، ج6ص3803.
[2] أبو إسحاق الشاطبي، الموافقات، الخبر، دار ابن عفان، ط1، 1417ه/1997م، ج1ص43.
[3] المرجع السابق، ج1ص52.
[4] أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب: بيان أن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً، وإنه يأرز بين المسجدين، الرياض، بيت الأفكار الدولية، 1419هـ/1998م، ص82، ح: 144.
[5] جاءت هذه الألفاظ في بعض الآثار عن الصحابة في وصف عمر بن الخطاب رضي الله عنه بأنه (قفل الفتنة)، و(غلق الفتنة)، ومنها: أن عمر رضي الله عنه لقي أبا ذر رضي الله عنه فأخذ بيده فغمزها وكان عمر رجلاً شديداً، فقال له أبو ذر: “أرسل يدي يا قفل الفتنة”، فقال عمر: وما قفل الفتنة؟ قال: جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ورسول الله جالس وقد اجتمع عليه الناس، فجلست في آخرهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا يصيبكم فتنة ما دام هذا فيكم”، ومنها أيضاً: أن عثمان بن مظعون قال لعمر: “يا غلق الفتنة”، فسأله عن ذلك فقال: “مررت ونحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هذا غلق الفتنة، لا يزال بينكم وبين الفتنة باب شديد الغلق ما عاش”. انظر لأثر أبي ذر: الحافظ نور الدين الهيثمي، مجمع البحرين في زوائد المعجمين، الرياض، مكتبة الرشد، ط1، 1413هـ/1992م، ج6ص249، ح: 3669، وانظر لأثر عثمان بن مظعون: الحافظ ابن حجر العسقلاني، فتح الباري بشرح صحيح الإمام البخاري، تحقيق: عبدالقادر شيبة الحمد، ط1، 1421هـ/2001م، ج6ص701.
[6] محمد الأمين الشنقطي، أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، مكة المكرمة، دار عالم الفوائد، ط1، 1426هـ، ج7ص94.
[7] عبدالرحمن الكواكبي، طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، القاهرة، دار البشير، ط3، 1439هـ/2018م، ص101-102.
[8] ينظر في هذا السياق: د.سيف الدين عبدالفتاح، مقدمة أساسية حول عملية بناء المفاهيم، في: د.إبراهيم البيومي غانم وآخرون، بناء المفاهيم: دراسة معرفية ونماذج تطبيقية، القاهرة، دار السلام، ط1، 1429هـ/2008م، ج1ص27 فما بعدها.
[9] أخرج البخاري، كتاب العلم، باب ما جاء في العلم، وقوله تعالى: ﴿وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾، دمشق، دار ابن كثير، ط1، 1423هـ/2002م، ص27، ح: 63.
[10] جاء في الصحيح عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: “نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء، فكان يعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية، العاقل، فيسأله ونحن نسمع”، أخرج مسلم في صحيحه، مرجع سابق، ص38، ح: 12، وجاء في مسند أبي يعلى عن البراء بن عازب، قال: “إن كان لتأتي عليَّ السنة أريد أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء، فأتهيب منه، وإن كنا لنتمنى الأعراب”، انظر: ابن رجب، جامع العلوم والحكم، دمشق، دار ابن كثير، ط1، 1429هـ/2008م، ص223.
[11] شمس الدين الذهبي، تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام، بيروت، دار الكتاب العربي، ط2، 1410هـ/1990م، ج1ص682.
[12] فريد الأنصاري، مجالس القرآن: مدارسات في رسالات الهدى المنهاجي للقرآن الكريم من التلقي إلى البلاغ، القاهرة، دار السلام، ط1، 1430هـ/2009م، ص64-75.
[13] الاجتيال معناه تحويل الوجهة والمسار عن الأصل المقصود، وقد ورد الاجتيال في حديث عياض المجاشعي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم في خطبته: “ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا، كل مال نحلته عبداً، حلال وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً ..”، أخرج مسلم، كتاب الجنة، باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار، مرجع سابق، ص1148، ح: 2865.
[14] الراغب الأصفهاني، كتاب الذريعة إلى مكارم الشريعة، القاهرة، دار السلام، ط1، 1428هـ/2007م، ص82-83.
[15] د.منى أبو الفضل، الأمة القطب، القاهرة، مكتبة الشروق الدولية، ط1، 1426هـ/2005م، ص36.
[16] عبدالرحمن بن خلدون، مقدمة ابن خلدون، بيروت، دار الفكر، 1421هـ/2001م، ص743.
[17] محمد الطاهر ابن عاشور، تفسير التحرير والتنوير، تونس، الدار التونسية للنشر، 1984م، ج1ص291-292.
[18] د.باسم خفاجي، لماذا يكرهونه؟! الأصول الفكرية لعلاقة الغرب بنبي الإسلام صلى الله عليه وسلم، الرياض، سلسلة كتاب البيان (77)، ط1، 1427ه/2006م، ص15.
[19] د.عبدالله إبراهيم، الثقافة العربية والمرجعيات المستعارة، بيروت، الدار العربية للعلوم ناشرون، ط1، 1431هـ/2010م، ص10.
[20] د.سيف الدين عبدالفتاح، العولمة والإسلام رؤيتان للعالم، دمشق، دار الفكر، ط1، 1430هـ/2009م، ص85-89.
[21] المرجع السابق، ص89.
[22] د.بلقاسم الحناشي، الحركات التبشيرية في المغرب الأقصى في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، تونس، مركز الدراسات والبحوث والعثمانية والموريسكية والتوثيق والمعلومات، 1989م، ص37.
[23] محمد الطاهر ابن عاشور، تفسير التحرير والتنوير، مرجع سابق، ج22ص53.
[24] د.محمد عمارة، معركة المصطلحات بين الغرب والإسلام، القاهرة، نهضة مصر، ط2، 2004م، ص60.
[25] محمود شاكر، أباطيل وأسمار، القاهرة، مكتبة الخانجي، ط3، 2005م، ج1ص149-150.
[26] علي بن إبراهيم النملة، كنه الاستشراق: المفهوم، الأهداف، الارتباطات، بيروت، بيسان للنشر والتوزيع، ط3، 1432ه/2011م، ص54.
[27] انظر مثالاً لهم: إبراهيم خليل أحمد، المستشرقون والمبشرون في العالم العربي والإسلامي، القاهرة، مكتبة الوعي العربي، دون تاريخ.
[28] ابن قيم الجوزية، مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة، بيروت، دار الكتب العلمية، 1419هـ/1998م، ج1ص144.
[29] كما هو الحال مع ابن الراوندي.
[30] عبدالرحمن حسن حبنكة الميداني، أجوبة الأسئلة التشكيكية، مكة المكرمة، مكتبة المنارة، ط1، 1412هـ/1991م، ص8-12.
[31] وملخص القصة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قرأ سورة النجم في مجلس ضم المسلمين والمشركين، فلما وصل في تلاوته إلى قوله تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّىٰ . وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَىٰ﴾[النجم: آية 19-20]، ألقى الشيطان على لسانه: “تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجى”. فقال المشركون: ما ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم، وقد علمنا أن الله يخلق ويرزق ويحيي ويميت، ولكن آلهتنا تشفع عنده. فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم آية السجدة في هذه السورة سجد، وسجد معه المسلمون والمشركون كلهم إلا شيخاً من قريش، رفع إلى جبهته كفاً من حصى فسجد عليه وقال: يكفيني هذا. فحزن النبي صلى الله عليه وسلم حزناً شديداً لما علم بما حدث، وخاف من الله خوفاً عظيماً، فأنزل الله تعالى تسلية له وتخفيفاً عنه قوله تعالى سورة الحج: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾[الحج: آية 52]، فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، وذهب عنه ما وجد في نفسه من الخوف. هذا ملخص القصة، وانظر في إثبات بطلانها ووضعها سنداً ومتناً وفي ضوء النقد التاريخي: صالح أحمد الشامي، الغرانيق قصة دخيلة على السيرة النبوية، بيروت، المكتب الإسلامي، ط1، 1419هـ/1998م.
[32] د.عبدالمنعم فؤاد، من افتراءات المستشرقين على الأصول العقدية في الإسلام عرض ونقد، الرياض، مكتبة العبيكان، ط1، 1422هـ/2001م، ص53-55.
[33] انظر في هذا: د.عماد الدين خليل، الوحدة والتنوع في تاريخ المسلمين بحوث في التاريخ والحضارة الإسلامية، دمشق، دار الفكر، ط1، 1423ه/2002م.
[34] مالك بن نبي، شروط النهضة، دمشق، دار الفكر، 1406هـ/1986م، ص153.
[35] د.حامد عبدالله ربيع، نظرية القيم السياسية، مذكرات غير منشورة، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة، 1972م، ص22.
[36] وليد عبدالحي، النظام الإقليمي العربي: استراتيجية الاختراق وإعادة التشكل، بحث منشور ضمن: مجموعة مؤلفين، التداعيات الجيوستراتيجية للثورات العربية، قطر، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ط1، 2014م، ص86.
[37] د.حسن يوسف الشريف، العقل العربي .. هل تستمر عمليات تسميمه؟، موقع يقظة فكر، تاريخ النشر: 21/6/2011م.
[38] محسن صالح، الأهداف والمصالح الإسرائيلية في النظام العربي، بحث منشور ضمن: التداعيات الجيوستراتيجية للثورات العربية، المرجع السابق، ص455.
[39] د.حامد عبدالله ربيع، كيف تفكر إسرائيل؟، ضمن سلسلة قراءة في فكر علماء الاستراتيجية، المنصورة، دار الوفاء، ط1، 1419هـ/1999م، ص135.
[40] هذه الخريطة الإدراكية تعبر عن مستوى من التحليل عميق استشرف ربيع من خلالها مسارات هذا الكيان وداعميه من القوى الكبرى كما هو منظور في المرحلة التي تعيشها أمتنا اليوم، بالقدر الذي يظهر حاجتها الماسة إلى مفكرين استراتيجيين من هذا النوع في سياق مراكز ومؤسسات تعنى بالعقل الاستراتيجي فكراً وحركة.
[41] د.عبدالفتاح ماضي، التسميم السياسي للمصريين والعرب، الموقع الشخصي، تاريخ النشر: 11/4/2012م.
[42] د.عبدالوهاب المسيري، العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، القاهرة، دار الشروق، ط1، 1423هـ/2002م، ج2ص471-472.
[43] سليمان بن الأشعث السجستاني، سنن أبي داود، دمشق، دار الرسالة العالمية، 1430هـ/2009م، ج6ص354، ح4297.
[44] د.سيف الدين عبدالفتاح، عقلية الوهن: دراسة لأزمة الخليج، القاهرة، دار القارئ العربي، ط1، 1412هـ/1991م، ص45-47.
[45] انظر: عبدالله بن صالح العجيري، مليشيا الإلحاد: مدخل لفهم الإلحاد الجديد، لندن، مركز تكوين للدراسات والأبحاث، ط2، 1435هـ/2014م، ص19.
[46] سيد القمني، انتكاسة المسلمين إلى الوثنية: التشخيص قبل الإصلاح، بيروت، مؤسسة الانتشار العربي، ط1، 2010م، ص250-251، وانظر قراءة نقدية للعلمانية العربية: مصطفى باحو، العلمانيون العرب وموقفهم من الإسلام، القاهرة، المكتبة الإسلامية، ط1، 1433هـ/2012م.
[47] عبدالله بن صالح العجيري، مرجع سابق، ص148-149.
[48] د.حنان عبدالمجيد إبراهيم، التنشئة السياسية على خلفية المضامين الإعلامية، بحث منشور ضمن: مجموعة مؤلفين، موسوعة التنشئة السياسية الإسلامية: التأصيل والممارسات المعاصرة، القاهرة، دار السلام، ط1، 1434هـ/2013م، ج2ص592.
[49] د.إبراهيم البيومي غانم، التسميم الإعلامي للوعي الجماعي، موقع إضاءات، تاريخ النشر: 14/5/2018م.
[50] د.محمد يسري إبراهيم، الفتوى أهميتها، ضوابطها، آثارها، القاهرة، دار اليسر، ط1، 1428هـ/2007م، ص174.
[51] د.عصام البشير، عالم الإفتاء وعثرات المفتين، الخرطوم، شركة مطابع السودان للعملة المحدودة، ط2، 1436هـ/2015م، ص9.
[52] د.سيف الدين عبدالفتاح، مدخل لفهم فتاوى الأمة، حولية أمتي في العالم، العدد الخامس، الجزء الأول، ص550 فما بعدها.
[53] انظر: مالك بن نبي، وجهة العالم الإسلامي، دمشق، دار الفكر، إعادة ط 1، 1423هـ/2002م، ص77 فما بعدها.
[54] انظر د.عبدالوهاب المسيري (تحرير)، إشكالية التحيز رؤية معرفية ودعوة للاجتهاد، هيرندون فرجينيا، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط2، 1418هـ/1997م، ج2ص312-313.
[55] أبو إسحاق الشاطبي، الموافقات، مرجع سابق، ج1ص37.
[56] المرجع السابق، ج1ص43.
[57] د.عبدالكريم بكار، المناعة الفكرية ومقولات أخرى، الرياض، مؤسسة الإسلام اليوم، ط4، 1435هـ/2014م، ص47.
[58] محمد الطاهر ابن عاشور، أصول النظام الاجتماعي في الإسلام، القاهرة، دار السلام، ط1، 1426هـ/2005م، ص41.
[59] د.سيف الدين عبدالفتاح، مدخل القيم: إطار مرجعي لدراسة العلاقات الدولية في الإسلام، القاهرة، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط1، 1419هـ/1999م، ص508.
[60] د.سيف الدين عبدالفتاح، نحو تفعيل النموذج المقاصدي في المجال السياسي والاجتماعي، بحث منشور في: مقاصد الشريعة وقضايا العصر (مجموعة بحوث)، لندن، مركز دراسات مقاصد الشريعة الإسلامية التابع لمؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، ط1، 2007م، ص168.
[61] د.فتحي حسن ملكاوي، البناء الفكري: مفهومه ومستوياته وخرائطه، هرندن فرجينيا، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط1، 1436هـ/2015م، ص253.
[62] محمد الطاهر ابن عاشور، تفسير التحرير والتنوير، مرجع سابق، ج3ص34.