اللغةُ والهُويَّة بين الاستلاب الحضاري واستعادة الوعيملفـات

اللغةُ والهُويَّة بين الاستلاب الحضاري واستعادة الوعي (8)

ثامناً: ظهور التيار التأصيلي في النصف الأول من القرن العشرين

(الرافعي وشاكر نموذجاً)

 

تبعاً للنظرية النفسية (المثير والاستجابة) كان الهجوم على اللغة العربية وآدابها أكبر مثير لرواد الفكر واللغة العرب في مدافعة تلك الهجمة التغريبية ورد عاديتها. وقد عرفنا فيما سبق أن تلك الهجمة استخدمت أساليب كثيرة في زحزحة اللغة عن التفاعل المجتمعي وتجفيف منابع الفكر الإسلامي.. وكان من أهم أساليبها وأخطرها:

أولاً: التهوين من شأن اللغة العربية في نفوس الناشئة من خلال عدم الاهتمام بتعلمها وتعليمها في المدارس، ثم تحييدها وإزاحتها عن الواجهة المجتمعية من خلال الدعوة إلى العامية وجعل الكتابة بالحرف اللاتيني.

ثانياً: الهجوم على الأدب العربي- شعراً ونثراً- وإظهار احتقاره والاستهانة به، والدعوة إلى دفنه بعد موت أحمد شوقي، والاحتفاء بالفنون الأدبية الحديثة كالقصة والرواية على حساب الشعر الذي هو وعاء العربية.

ثالثاً: الدعوة إلى تجزئة الأدب العربي من خلال اهتمام كل بلد عربي ناشيء (حسب سايكس بيكو) بأدبه الخاص (مصري، سوري عراقي.. إلخ)، ثم التركيز على الأدب الشعبي (الفلكلوري).

رابعاً: استيراد المذاهب الأدبية الحديثة؛ كالكلاسيكية، والرومانسية، ثم التفكيكية والبنيوية وغيرها.. مما أثر على طبيعة الأدب العربي ومنهجه النقدي الخاص به.

إرهاصات التيار التأصيلي في النصف الأول من القرن العشرين:

أدت الهجمات التغريبية السابقة الذكر إلى ظهور تيار تأصيلي في الثقافة والأدب العربيين، بل وأدت بعضُ تطبيقاتها إلى تذبذب بعض دعاتها بين القبول والرفض لهذه الهجمات الفكرة والأدبية المتطرفة، وكان ذلك نتيجة للانفتاح الشديد من قبل المثقفين والمفكرين العرب على الأفكار المستوردة التي فُتحت أبوابها فانهالت من كل جانب حتى أوقفت العقل العربي حائراً بين الأشباح المتصارعة لا يدري ما يأخذ ولا ما يدع.

ولم يكن غريباً أن يتراوح المفكر الواحد بين الرأي ونقيضه؛ فهذا محمد حسين هيكل يكتب في مقدمة كتابه (في منزل الوحي) قائلاً :” طالما التمسنا في شرقنا الأدنى أسباب النهوض بعلمنا لنقف إلى جانب الإنسانية المهذبة.. ولقد خيل إليَّ زمناً كما لا يزال يخيل إلى أصحابي أن نقل حياة الغرب العقلية والروحية سبيلنا إلى النهوض، وما أزال أشارك أصحابي في أنَّا ما نزال في حاجة إلى أن ننقل من حياة الغرب العقلية كل ما نستطيع نقله، لكني أصبحت أخالفهم الرأي في أمر الحياة الروحية، وأرى أن ما في الغرب منها غير صالح لأن ننقله؛ فتاريخنا الروحي غير تاريخ الغرب وثقافتنا الروحية غير ثقافته.. خضع الغرب للتفكير الكنسي على ما أقرته البابوية المسيحية منذ عهدها الأول وبقي الشرق بريئاً من الخضوع لهذا التفكير، بل حوربت المذاهب الإسلامية التي أرادت أن تقيم في العالم الإسلامي نظاماً كنسياً.. وبذلك بقي الشرق مطهراً من الأسباب التي أدت إلى اضطراب الغرب الروحي وإلى ثوراته السياسية التي نشأت عن هذا الاضطراب.. لم تعرف عصور الازدهار الإسلامي قيداً لحرية الفكر ما كان صاحبه بريء القصد يبتغي برأيه سبيل الحق ، ولم يعرف المسلمون أن الذنوب يغفرها غير الله .. كيف نستطيع أن ننقل ثقافة الغرب في التاريخ ، وفي الثقافة الروحية هذا التفاوت العظيم؟؟ لا مفر إذن أن نلتمس في تاريخنا وثقافتنا وفي أعماق قلوبنا وفي أطواء ماضينا هذه الحياة الروحية نحيي بها ما افتر من أذهاننا وخمد من قرائحنا وجمد من قلوبنا”.([1])

وهذا منصور فهمي بعد أن يضع أطروحته للدكتوراه بعنوان (حالة المرأة في التقاليد الإسلامية وتطوراتها) والتي نهج فيها النقد التاريخي العلمي المتحرر من الالتزام بحقيقة الوحي في تفسير سلوك النبي صلى الله عليه وسلم وتشريعاته؛ يصل إلى قناعة راجحة تستند إلى نداء من أعماق القلب، يؤكد فيها أن نمط الحياة الأوروبية لا يمكن أن يكون مثالاً يحتذى به في أمتنا؛ فيقول:” فليست بيئتي التي أعيش بها ولها وفيها هي بيئة الغرب؛ فهذه سماؤها غير سماء الغرب، وهذه تربتها غير تربته، وهذا موقعها في ملكوت الله غير موقعه وهذه لغتنا غير لغته، وهذا ما ورثناه من عادات ومحن وظروف وصروف غير ما ورث الغرب.. ثم يراد بنا أن نكون كالغربيين، ويحاول داعية صريح أن يقنعنا بأن نتخذ من الغرب إماماً نأتم به في كليات ما يسير عليه الغرب وفي جزيئاته”.([2])

وهذه الثنائية المتناقضة التي حملها المفكر العربي في مطلع ما سُميَ بعصر التجديد تدل دلالة واضحة على مدى التردد والحيرة وعدم الثبات الذي وقع فيه المفكر العربي؛ لأنه لم يستطع- آنذاك- أن يلتقط أنفاسه وهو يركض خلف المفاهيم والأيدلوجيات التي غمرت روحه وقلبه وفكره، وتوالت ضاغطة عليه من الشرق والغرب، وزاد من فداحة الخطب أن عقله لم يكن مكتملاً ومستغنياً بتراثه وحضارته؛ فقد كان خالي الوفاض من جذوره الأصيلة التي صورت له على أنها انعكاس لقرون التخلف والظلام. ولكن الغريب بعد كل هذا أننا وجدنا هوية العروبة والإسلام تكمن صامدة أمام التحديات كمون النواة والجوهر والحقيقة المطلقة.

وعليه؛ فإننا لا نكاد نجد مفكراً أو أديباً في ذلك العصر إلا ووجدنا له آراء مختلفة، وربما متناقضة في عامة القضايا التي شهدت صراعاً ثقافياً وفكرياً. وسواء أكان ذلك عائداً إلى تقدم السن ونضوج العقل، أو راجعاً إلى التذبذب الطبيعي الذي يصيب العقل أحياناً بفعل تسارع الأفكار وتواليها، مما يجعل العقل عاجزاً عن التثبت والتمحيص والتفكير المتأني.. سواءٌ أكان هذا أم ذاك؛ فإن كثيراً من دعاة التغريب- قصداً أو تقليداً، بسوء نية أو بحسن نية- في ذلك العصر؛ لم يكونوا على مستوى واحد من الإيمان بتلك الأفكار الجديدة التي كانوا يدعون إليها، حتى ليلمح  القارئ لتغريبي كبير مثل طه حسين مثلاً، رأياً تأصيلياً في اللغة أو الأدب أو الثقافة أو الدين؛ يبعث على العجب والتوقف وإعادة التفكير في كثير من الآراء المتطرفة التي كان ينادي بها من قبل أو من بعد.

وهذا التناقض أو الثنائية التي وقع فيها هؤلاء نتجت عن انقسام أنفسهم وعقولهم بين الشرق والغرب، بين وهم التحديث ووهم التخلف، بين ما ظنوه جموداً ورجعية وتقليداً، وما ظنوه حداثة وتقدمية وتنويراً، فهم كانوا يأخذون من الغرب ضغثاً يظنون معه أنهم صاروا منه، ثم يستيقظون من وهمهم على واقعهم العربي الذي لا يصلح تطبيق هذا الضغث المأخوذ فيه.

وقد سلم من هذه الثنائية وذلك التناقض أعلام كانت ذخيرتهم العربية وجذورهم الإسلامية دريئةً لهم من أن يقعوا في وهم التحديث أو وهم التخلف، ومثلوا تياراً تأصيلياً خلا من التبعية السلبية المتعصبة للقديم العربي وإن انطلق منه، ومن التبعية للحديث الغربي وإن أفاد منه، وكان على رأس هذا التيار علمان كبيران من أعلام الثقافة والأدب والفكر العربي، هما: مصطفى صادق الرافعي، ومحمود محمد شاكر اللذين انطلقا من الجذور والثوابت العربية، غير عابئين بالجديد الذي يخطف بريقه الأبصار، بينما هو في الحقيقة كالدرهم الزائف الذي يتأكد للرائي زيفُه كلما اشتد لمعانه، وخاضا- ومعهما كثير من أمثالهما- العديدَ من المعارك الأدبية والفكرية للرد على الدعاوى الهدامة ودحض مزاعم أصحابها، ومنها: معارك الفصحى والعامية، ومعركة الأدب المكشوف، ومعركة غاية الأدب، ومعركة الأسلوب والمضمون، ومعركة مقومات الأدب العربي، ومعركة الأدب بين التجديد والانحراف.. وغيرها من المعارك التي أظهرت طائفة عريضة من أنصار التيار التأصيلي في الأدب العربي بأقلامهم الجريئة وفكرهم الصافي.([3])

كما صدرت مجلات ودوريات تحمل فكر أنصار التيار التأصيلي رداً على مجلات وصحف أنصار التغريب؛ فصدرت مجلات مثل: الفتح، والرسالة، والنذير، ودار العلوم، ونور الإسلام، والنهضة الفكرية، والمنار.. وغيرها من المجلات والصحف التي استطاعت هذه الأقلام من خلالها أن تجسد تياراً أدبياً له سماته وخصائصه المميزة التي تنطلق من قيم التراث العربي والثقافة الإسلامية؛ بل وصدرت العديد من الأعمال الأدبية  والفكرية لأنصار ذلك التيار.([4])

وقد كان من أجلِّ أعمال هذا التيار التأصيلي (ممثلاً في الرافعي وشاكر) أنه لم ينقضِ زمنُ أصحابه بانتقالهم إلى الرفيق الأعلى إلا وقد أعادوا للأمة أصالتها الفكرية والأدبية والثقافية؛ فلم يكن الأمر بينهم وبين التيار التغريبي مقتصراً على الردود العلمية في المعارك الفكرية والأدبية التي دارت بين التيارين؛ بل استطاعوا تجاوز سببية هذه المعارك إلى إعادة التأصيل المنهجي للفكر الإسلامي الذي شمل اللغة العربية وآدابها وثقافتها.. ولأن الأصالة هي الاستناد إلى أصل واحد متماسك ثابت الجذور والأسس؛ فقد رَدَّ التيار التأصيلي الأمور إلى نصابها، وحرر محل النزاع، وأزاح غبار العصور المتعاقبة عن جوهر الحضارة العربية الإسلامية بفكرها وثقافتها وآدابها من خلال تأسيسه لجذرين عظيمين في بناء الحضارة الإسلامية، هما: التأصيل الثقافي، والتأصيل الأدبي.

التأصيل الثقافي:

الثقافة- كما يرى شاكر- لفظٌ جامع يُقصد به الدلالة على شيئين أحدهما مبني على الآخر([5]):

الأول: أصول ثابتة مكتسبة تنغرس في نفس الإنسان منذ مولده ونشأته الأولى حتى يشارف حد الإدراك البيِّن، جُماعها كل ما يتلقاه عن أبويه وأهله وعشيرته ومعلميه ومؤدبيه حتى يصبح قادراً على أن يستقل بنفسه وبعقله.. ولأنه منذ مولده قد استُودع فطرة باطنة بعيدة الغور في أعماقه توجهه إلى عبادة رب يدرك إدراكاً مبهماً أنه خالقه وحافظه ومعينه؛ فهو لذلك سريع الاستجابة إلى كل ما يلبي حاجة هذه الفطرة الخفية الكامنة في نفسه، وكل ما يلبي هذه الحاجة هو الذي هدى الله عباده أن يسموه (الدين)، ولا سبيل إلى وضوح هذا الدين في ذاته إلا عن طريق اللغة التي لا يعمل العقل إلا بها؛ فالدين واللغة منذ النشأة الأولى مُتداخلان تداخلاً ليس قابلاً للفصل.

الثاني: فروع منبثقة عن هذه الأصول المكتسبة بالنشأة، تُخرج الإنسان من إطار التسخير الأول إلى إطار التفكير الثاني؛ فيبدأ العقل عمله المستتب في الاستقلال بنفسه، وممارسة التفكير والتنقيب والفحص، ومعالجة التعبير عن الرأي الذي هو نتاج مزاولة العقل لعمله، وعندئذ تكون النواة الأولى لما يمكن أن يسمى (ثقافة)، ولا سبيل إلى تحقيق ذلك إلا من خلال اللغة والمعارف الأولى التي كانت في طورها الأول مصبوغة بصبغة الدين، حتى لو استعملها الإنسان في الخروج على الدين الموروث ومناقشته رفضاً له أو لبعض تفاصيله.. وهذه هي حال النشء الصغار حتى يبلغوا مبلغ الإدراك المستقل المفضي إلى حيز الثقافة.

فثقافة كل أمة وكل لغة هي حصيلة أبنائها المثقفين بقدر مشترك من أصولٍ وفروعٍ كلها مغموس في الدين المتلقى عند النشأة، وما دام الدين واللغة هما أساس ثقافة كل أمة فباطل كل البطلان أن يكون في هذه الدنيا على ما هي عليه ثقافة يمكن أن تكون ثقافة عالمية يشترك فيها البشر جميعاً على اختلاف لغاتهم ومللهم ونحلهم وأجناسهم وأوطانهم؛ فهذا- كما يرى شاكر- تدليس كبير يراد به فرض سيطرة أمة غالبة على أمم مغلوبة.([6])

وهذا التدليس الذي شعر به شاكر وأحسه في أسس ومبادئ التيارات الثقافية الجديدة في جيله، والتي مثلت في نظره خروجاً عن مبادئ الثقافة العربية الإسلامية، هو الذي جعله ينطلق في تأصيله الثقافي من فكرة الصراع الحضاري الذي نشب بين الحضارتين: العربية والغربية، مؤكداً على أن الفساد لم يدخل إلى ثقافتنا إلا بعد الاحتكاك الصامت المخيف الذي حدث بيننا وبين الثقافة الغربية الحديثة المتغلبة..

ورغم أن هذا الصراع ليس جديداً تماماً ؛ فهو ممتد عبر تاريخ الأمة الإسلامية منذ أول يوم من أيامها، وقد مر بمراحل عديدة وشهد جولات كثيرة، إلا أن الجولة الجديدة من هذا الصراع قد اكتسبت سمات نوعية جديدة؛ لأن الخصم هذه المرة بات يعرف خصمه جيداً؛ فهو قد أدرك بعد الجولات الدموية السابقة أن قهر المسلمين والانتصار عليهم بالقوة العسكرية أمر صعب شديد الوعورة، وأن تفكيك المسلمين للقضاء عليهم هو عملية تفكيك ثقافي بالدرجة الأولى، تمحو هويتهم وتطمس دينهم ولغتهم وبنيانهم السياسي والاجتماعي.

وعليه؛ فإن شاكر لا يرى التغيرات الفكرية العميقة التي طرأت على الثقافة العربية إلا في سياق صراع تاريخي قديم متجدّد بين العالم الإسلامي والعالم الغربي المسيحي، وأن ما سُمى بالنهضة العربية الحديثة كانت هي البداية الحقيقية لفساد حياتنا الأدبية والاجتماعية بمعناها الشامل، أي فساد حياتنا الثقافية؛ ” لأن هذا الفساد لم يدخل على ثقافتنا دخولاً يوشك أن يطمس معالمها ويطفئ أنوارها، إلا بعد التصادم الصامت المخيف الذي حدث بينها وبين الثقافة الأوروبية الحاضرة، وإذا نحن أغفلنا هذا التاريخ ولم نتبينه تبيناً واضحاً، فكأننا أغفلنا القضية كلها، وأسقطناها إسقاطاً من عقولنا، وخالفنا سنة العقلاء والمميزين في التبصر والتبين وترك التساهل عند مواطن الخطر”.([7])

ومن هنا انطلق التيار التأصيلي في رؤيته الثقافية مؤكداً على أن التجديد لا بد أن يكون تجديداً تأصيلياً ذا معنىً مفهوم، وينشأ نشأةً طبيعية داخل الثقافة العربية المترابطة الحية في نفوس أصحابها، ثم هو لا يأتي إلا من متمكن النشأة في ثقافته ولسانه ولغته، متذوقٍ لما هو ناشئ فيه من آداب وفنون ومعارف، مغروسٍ تاريخه في تاريخ أمته وعقائدها في زمان قوتها وضعفها، محساً بذلك كله إحساساً خالياً من الشوائب، ثم لا يكون التجديد تجديداً إلا من خلال حوار ذكي فاعلٍ بَنَّاءٍ بين تفاصيل كثيرة مترابطة تنطوي عليها هذه الثقافة، وبين رؤية جديدة نافذة حين يلوح للمجدد طريق آخر يمكن سلوكه؛ فيقطع تشابكاً من ناحية ليصله بناحية أخرى وصلاً يجعله أكثر استقامة ووضوحاً، ويحل عقدة من طرف ليربطها من طرف آخر ربطاً يزيدها قوة وسلاسة. فالتجديد حركة دائبة داخل ثقافة متكاملة مترابطة يتولاها الذين يتحركون في داخلها حركة دائبة، عمادها الخبرة والتذوق والإحساس المرهف بالخطر عند الإقدام على القطع والوصل والحل والربط، فإذا فُقد هذا كله كان القطع والحل سلاحاً مدمراً للأمة ولثقافتها، وينتهي الأمر بأجيالها إلى الحيرة والتفكك؛ إذ يورث كلُّ جيلٍ منها جيلاً بعده ما يكون به أشد منه حيرة وتفككاً.([8])

ولا شك أن المتأمل لهذه الرؤية التأصيلية بمحترزاتها الواقعية سيكتشف مدى العمق الذي وصل إليه التأصيليون في تأصيلهم للثقافة العربية الإسلامية من خلال ما يمكن أن يٌسمى بـ (التجديد التأصيلي أو التأصيل التجديدي) الذي يفارق كل المفارقة ما كان يدعو إليه أمثال طه حسين في كتابه (مستقبل الثقافة في مصر) حين نادى بأن نسير سيرة الأوربيين ونكون شركاء لهم في الحضارة، خيرها وشرها، حلوها ومُرِّهَا، ما يحب منها وما يكره، وما يحمد منها وما يُعاب.. لنتخلص- بجرة قلم- من الثقافة العربية المتكاملة المغزوة، ونُحِلَّ محلها الثقافة الأوربية الغازية.. وواضحٌ أن هذه الرؤية رؤية استلابية تغريبية مشوهة دعا إليها (نهضويون وتنويريون!!) مثل سلامة موسى، ولويس عوض، وطه حسين، وقامت على مسلمة تغريبية مضلِلة مفادها أن كل شيء في الغرب مرتبط بعضه ببعض؛ فإما أن نأخذه كله أو نتركه كله.([9])

ثم إن الثقافات المتباينة- كما يؤكد شاكر- تتحاور وتتناقش وتتناظر، ولكنها لا تتداخل تداخلاً يؤدي إلى الامتزاج الكامل أو الجزئي، ولا يأخذ بعضها عن بعض شيئاً إلا بعد عرضه على أسلوبها في التفكير والنظر والاستدلال؛ فإن استجابت له أخذته وعدلته وخلصته من الشوائب، وإن استعصى نبذته وتركته.. ولذلك نرى شاكر ينتقد بشدة استخدام ألفاظٍ مثل: الخطيئة، والخلاص، والفداء، والصلب، التي انتشرت على ألسنة الشعراء والأدباء في ستينيات القرن العشرين؛ لأنه رأى أن هذه الألفاظ بدلالتها العقدية لا تمت إلى العقيدة الإسلامية التي هي أساس الثقافة العربية الإسلامية بصلة. وقد فصَّل شاكر القولَ في هذه الألفاظ وأعادها إلى جذورها الأولى حين ردَّ على محمد مندور الذي دافع عن لويس عوض في معركة (أباطيل وأسمار) الشهيرة، مدعياً أن المسلمين يعتبرون أن جميع الديانات السماوية جزءاً من تراثهم الروحي، بل جزءاً من تراث البشرية جمعاء، وأن مثل هذه الألفاظ لا تمثل خروجاً عن الإسلام ولا عن الثقافة العربية الإسلامية.. فكان أن وقف شاكر في وجه مندور كما وقف في وجه لويس عوض، وبيَّن دلالة هذه الألفاظ الأربعة في العقيدة النصرانية، وأنها تتعلق بالمعصية الأولى لأبينا آدم حين أكل من الشجرة هو وزوجه بعد أن أزلهما الشيطان عنها، فصارت معصيته (خطيئة) عند النصارى أوقعته هو وأبناءه تحت سلطان العقوبة التي يستحقها البشر جميعاً بسببها، لتحقيق ناموس العدل الذي ناقض- في العقيدة النصرانية- ناموس الرحمة؛ فكان لا بد من إيجاد شيء يجمع بين الرحمة والعدل ليُقدم كفدية للبشر حتى يتخلصوا من عقوبة خطيئة أبيهم آدم، ولأنه لا بد للفدية أن تكون طاهرة غير مدنسة، وليس في الكون ما هو طاهر بلا دنس إلا الله سبحانه وتعالى، أوجبت المشيئة أن يتخذ الله جسداً يتحد فيه اللاهوت والناسوت في بطن امرأة من ذرية آدم هي مريم،” فيكون ولدها إنساناً كاملاً من حيث هو ولدها، وكان الله- تعالى عن ذلك علواً كبيراً- في الجسد إلهاً كاملاً، فكان المسيح الذي أتى ليكون فدية لخلقه، وهذا هو (الفداء)، ثم احتمل هذا الإنسان الكامل والإله الكامل أن يُقدم ذبيحةً ليكون ذبحه تمزيقاً لصك الدينونة المصلت على رأس بني آدم، فمات المسيح على الصليب، فاستوفى ناموس العدل بذلك حقه، واستوفى ناموس الرحمة بذلك حقه، وهذا هو (الصلب)، وكان احتمال ذلك كله كفارة لخطايا العالمين تخلصهم من ناموس هلاك الأبد، وهذا هو (الخلاص)، ولما كان البشر كلهم خُطاة بخطيئة أبيهم آدم وأمهم، فهم هالكون هلاك الأبد، ولا ينجيهم من عقاب الشريعة الإلهية العادل المخيف سوى إيمانهم بالمسيح الفادي”.([10])

وظاهرٌ أن عقيدة التوحيد الإسلامية لا تؤمن بمثل هذه الدلالات لهذه الألفاظ، وليس لهذه الألفاظ عند المسلمين ولا عند عرب الجاهلية هذه المعاني، حتى ولو كانت الألفاظ واحدة، ومعصية آدم عند المسلمين معصية كسائر المعاصي تمحوها التوبة والاستغفار، وليس لمولود أن يرث خطيئة والده، فليس للإنسان إلا ما سعى، ولا تزر وازرة وزر أخرى، فإذا مُحيت المعصية بالتوبة، وبطل أن يرث الولد معصية أبيه، بطلت فكرة الخطيئة من أساسها، وإذا بطلت فكرة الخطيئة من أساسها بطل تبعاً لذلك ما ترتب عليها من (فداء وصلب وخلاص).

وعلى هذا النسق التحليلي التأصيلي سار تيار التأصيل مواجهاً دعاة التغريب الذين كان غالب همهم تحقيق الغلبة للثقافة الغربية في مجتمعنا وعلى ثقافتنا؛ فكانت غالبُ معاركه- حتى ما كان ظاهرها أدبياً بحتاً- تأصيلاً ثقافياً يرد به عليهم، وقد وصل في هذا الأمر حد انتقاد لافتات أسماء المحال التجارية في شوارع العواصم العربية التي لا يكاد زائرها يجد بين ألف محل منها محلاً باسمٍ عربي خالص ، بينما يحرص عدو الأمة على تأصيل ذاته في الأرض المغتصبة؛ فنراه يسمي الضفة الغربية لنهر الأردن بـ (يهوذا والسامرة).. كما نعى على أنظمة التعليم في كثير من البلدان العربية تدريسها العلوم باللغة الأجنبية وعدم تعريبها، ورأى أن الطريق إلى التأصيل الثقافي يبدأ من اللغة التي يجب أن يشعر كل واحد منا أنه ليس موجوداً إلا بها، وأنها هويتُه وكيانُه وشرفُه.([11])

ومن هنا كانت عناية هذا التيار الفائقة بالتراث وخبرته العميقة به، وعمله الدائب في استخراج كنوزه ونشرها على الناس في إطار التأصيل التجديدي والتجديد التأصيلي للثقافة العربية الإسلامية والدفاع عنها، والوقوف في وجه (التنويريين!!) الذين عُنوا بنقل تجارب الغرب الحضارية، مدفوعين في ذلك- إن أحسنا الظن بنواياهم- بما يروه من تقدم تقني وعلمي غربي، أو بما سيطر على فكرهم  من وجوب مواكبة العصر واعتبار عامل الزمن، مع أن وجوب مواكبة العصر واعتبار عامل الزمن لا يستلزم الحط من قدر ثقافةٍ قدمت للبشرية في وقت من الأوقات كثيراً من الخير والنفع، وما زالت قادرة على تقديم هذا الخير والنفع شريطة أن يُحسَنَ فهمها ويُحسَنَ تقديمها، ولا يستلزم أيضاً التشكيك في دين الأمة وقرآنها، أو رفض التراث جملةً والسخرية منه ومن رموزه، والدعوة إلى نبذه واستبداله بغيره.

التأصيل الأدبي:

نستطيع تلمس معالم التأصيل الأدبي عند هذا التيار التأصيلي من خلال المنهج الذي اكتشفه الشيخ محمود شاكر أثناء قراءته المتأنية العميقة للتراث العربي كله تفسيراً، وحديثاً، وفقهاً، وعلوم قرآن، وعلوم كلام، ومللاً ونحلاً، وأدباً، وبلاغة، ونحواً، ولغة، وتاريخاً.. وغيرها من علوم الدين والعربية وتراث المسلمين في شتى المجالات، معتمداً الأقدم فالأقدم حتى انفتح له- كما قال-:” الباب على مصراعيه فرأيتُ عجباً من العجب، وعثرتُ يومئذ على فيض غزير من مساجلات صامتة خفية كالهمس، ومساجلات ناطقة جهيرة الصوت، غير أن جميعها إبانة صادقة عن الأنفس والعقول”.([12])

وقد مر معنا في الحديث عن المنهج الأصيل أن محمود شاكر حَدَّ- من خلال قراءته العميقة للتراث- حدوداً لهذا المنهج وشطره شطرين: شطر في تناول المادة، وشطر في معالجتها بالتطبيق. فأما شطر المادة فيتطلب قبل كل شيء جمعها من مظانّها على وجه الاستيعاب المتيسر، ثم تصنيف هذا المجموع، ثم تمحيص مفرداته تمحيصاً دقيقاً، وذلك بتحليل أجزائها بدقة متناهية، وبمهارة وحذق وحذر، حتى يتيسر للدارس أن يرى ما هو زيف جلياً واضحاً وما هو صحيح بيناً ظاهراً، بلا غفلة وبلا هوى، وبلا تسرع.

وأما شطر التطبيق فيقتضى ترتيب المادة بعد نفي زيفها وتمحيص جيدها باستيعاب أيضاً لكل احتمال للخطأ أو الهوى أو التسرع، ثم على الدارس أن يتحرى لكل حقيقة من الحقائق موضعاً هو حق موضعها، لأن أخفى إساءة في وضع إحدى الحقائق في غير موضعها خليق أن يشوه عمود الصورة تشويهاً بالغ القبح والشناعة.([13])

وقد رأى شاكر أن المنهج الذي اهتدى إليه بشطريه: (تناول المادة، والتطبيق) عامٌ في كل علم، وأصلٌ في كل أمة، وأساس في كل ثقافة حازها البشر على اختلاف ألسنتهم ومللهم، ولكي يُخرج منهجه من هذه العمومية ربطه ابتداءً بما يسميه (ما قبل المنهج) أو (مقدمات المنهج)، فلكي يصل الباحث إلى شطر المادة ويكون قادراً على جمعها من مظانّها على وجه الاستيعاب المتيسر، ثم تصنيف هذا المجموع، ثم تمحيص مفرداته تمحيصاً دقيقاً، ولكي يصل إلى شطر التطبيق ويكون قادراً على ترتيب المادة بعد نفي زيفها وتمحيص جيدها باستيعاب أيضاً لكل احتمال للخطأ أو الهوى أو التسرع يجب أن تكتمل لديه مقومات ما قبل المنهج، وهذه المقومات هي: اللغة، والثقافة، والأصل الأخلاقي.

وشطر التطبيق- كما ذكر شاكر- هو الميدان الذي تصطرع فيه العقول وتتناصى فيه الحجج، وهو المرآة العاكسة لحضارات الأجناس وثقافات الأمم، لأن التطبيق يُظهر بجلاء ووضوح مرجعية الباحث وثوابته المستمدة من ثقافته ولغته ودينه؛ إذ لكل ثقافة وحضارة منهج لا يجوز أن تُدرس علومها وآدبها بغيره؛ ولذلك نجد شاكر دائب التركيز على التأصيل الثقافي للأمة دون أن يغفل التأصيل الأدبي، بل هو ينطلق في تأصيله الأدبي من تأصيله الثقافي؛ ولا نكاد نجد له حديثاً عن التأصيل الأدبي إلا وجدنا له بجانبه حديثاً عن التأصيل الثقافي، وما ذاك إلا لأن شاكر يرى أن سبب الاستلاب والتبعية والتغريب في الأدب والتعليم هو الاستلاب الثقافي الذي أنتج هذا الخلط الهائل في الأدب واللغة؛ لأن الأدب إنما هو مظهر من مظاهر ثقافة الأمة، تتركز فيه خصائصها وسماتها المميزة لها، فإن استُلب هذا الأدب وتغرَّب فلا بد أن تكون الثقافة التي أنتجته مستلبةً أيضاً.

وقد ظهرت ملامح هذا التأصيل في معركة (الجديد والقديم) التي خاضها الرافعي أمام أدعياء التجديد مؤصلاً للتجديد وعلاقته بالأدب العربي من خلال استناده إلى الأدبين: الأموي والعباسي؛ فقال:” وقد نقل عبد الحميد الكاتب أشياء من الأساليب الفارسية فأدخلها في كتابته، وترجم العلماء عن اللغات المختلفة أكثر مما يترجم كُتَّاُب هذه الأيـام.. وظهرت الأفكار المتباينة، وتعددت الأساليب في الكتابة، وافتنَّ المتأخرون من القرن الرابع إلى التاسع في فنون من الجد والهزل، وفي نكتٍ بديعية لم يعرفها العرب إلى أن اختلط لسانهم، وفي كل ذلك لم يقل أديب ولا عالم ولا كاتب أنَّ له مذهباً جديداً من مذهب قديم، لأنهم كانوا أبصر باللغة وأقدر على تصريفها وأعلم بحكمة الوضع فيها وأحرص على وجود الفائدة منهـا والانتفاع بها.”([14])، ومعنى ذلك أنَّ الرافعي لا يحصر فكرة المذهب الجديد في عصر من العصور الأدبية؛ بل يخلص إلى أنه كلما احتجنا إلى تراثنا القديم في كل عصر، كنا في حاجة أَلَحّ إلى بناء معان ومشاعر جديدة، ومن ثم العمل على صهرها في بوتقة واحدة لإنتاج أعمال أدبية راقية.([15])

ثم يدعو الرافعي إلى الاستفادة من كل جديد يكفل لنا التطور بأدبنا في حدود أصولنا وجذورنا؛ فيقول:” وإنْ أرادوا بالمذهب الجديد العلم والتحقيق وتمحيص الرأي والإبداع في المعنى، على أن تبقى اللغة قائمة على أصولها على أن يكون التفنن (طرائق) كما قيل مثلاً في ابتداع القاضي الفاضل الذي سموه الطريقة الفاضلية، لا مذهب يراد به إثبات ومحو، فإننا لا ندفع شيئاً من هذا ولا ننازع فيـه، بل هو رأينا، بل هو رأي الحياة، بل هو قانون الطبيعة، ولكنا مع هذا نزيد عليه أن الأصل في كل ذلك سلامة اللغة وسلامة القومية، فلا ننظر في آراء الأمم إلا على أننا شرقيون، ولا ننقل من لغات الإفرنج إلا على أننا أهل لغة لها خصائصها.. وأما إن أرادوا بالمذهب الجديد أن يكتب الكاتب في العربية منصرفاً إلى المعنى والغرض، تاركاً اللغة وشأنها، متعسفاً فيها، آخذاً ما يتفق كيفما يتفق، وما يجري على قلمه كما يجري، معتبراً ذلك اعتبار من يرى أن مخه بلا غلاف من عظام رأسه، وأن عظام رأسه كعظام رجليه، وأن أصابع قدميه كأهداب عينيه.. إن أرادوا بهذا وأشباهه ما يسمونه المذهب الأدبي الجديد، قلنا: لا، ثم لا، ثم لا، ثلاث مرات”.([16])

وواضح أن الرافعي لا يخوض في الحديث عن الجديد إلا ويفرض شرط إبقاء اللغة على أصولها وجذورها؛ لأن اللغة ليست في حقيقتها ملكاً شخصياً لفرد من الناس رأى أو رُؤي له أن يزيد فيها وينقص زاعماً التجديد والتحديث، بل هي- كما قال-:” مظهر من مظاهر التاريخ، والتاريخ صفة الأمة، والأمة تكاد تكون صفة لغتها، لأنها حاجتها الطبيعية التي لا تنفك عنها، ولا قوام لها بغيرها، فكيفما قلبت أمر اللغة من حيث اتصالها بتاريخ الأمة واتصال الأمة بها، وجدتها الصفة الثابتة التي لا تزول إلا بزوال الجنسية وانسلاخ الأمة من تاريخها واشتمالها جلدة أمة أخرى، فلو بقي للمصريين شيء متميز من نسب الفراعنة لبقيت لهم جملة مستعملة من اللغة الهيروغليفية… وإن في العربية سراً خالداً هو هذا الكتاب المبين الذي يجب أن يؤدى على وجهه العربي الصحيح، ويحكم منطقاً وإعراباً بحيث يكون الإخلال بمخرج الحرف الواحد منه كالزيغ بالكلمة عن وجهتها، وبالجملة عن مؤداها ، وبحيث يستوي فيه اللحن الخفي واللحن الظاهر”.([17])

ثم هو يخير دعاة الجديد في شأن اللغة وعلومها وآدابها بين أمرين لا ثالث لهما: إمَّـا” أنْ نحرص على الأصل الصحيح القوي الذي في أيدينا ونحتمل فيه ضعف الضعفاء ونصبر على مدافعتهم عن إفساده حتى ينشأ جيل أقوى من جيل وتخرج أمة خير من أمة فتجد الأصل سليماً فتبني عليه وتزيد فيه، وإمَّا أن ندع الصلاح للفساد ونتراخى في القوة حتى تحول ضعفاً فإذا جاء من بعدنا وجد الأصل فاسداً فزاده فساداً، ويعود (مذهبنا الجديد) بعد حين من الدهر مذهباً قديماً فيستحدث منه جديد على نمط آخر، ثم يتقادم هذا أيضاً على السُنَّةِ نفسها، وهلمَّ إلى أنْ تصير هذه العربية في بعض أزمانهـا لعنة على كل أزمانها، فتُنسخ جملة واحدة ويصبح الكلام المأنوس الذي نراه اليوم سهلاً ليناً وهو الجاسي الجلف الغليظ الذي لا يحسن ترجمته يومئذ إلا عالم بصير بما كان يسمى من قبل فعلاً واسماً وحرفاً..”.([18])

وهذه النظرة (الرافعية) المثالية للغة، والتي أكسبت اللغة عنده صفة القداسة  لارتباطها بكتاب مقدس أولاً، ولشعوره بقيمتها وجمالها وجلالها في ذاتها ثانياً، هي التي دفعته للتأكيد على أنه لا يمكن أن تقوم للأدب الأصيل قائمة، ولا للتجديد قيمة، إلا إذا استند على تراث هذه اللغة العريقة وجذورها الضاربة في أعماق النفس العربية الأصيلة دون متابعة أو تقليد؛ فالمتابعة موات والتقليد مسخ، ولا يصح أن يسمى الأدب أدباً والأديب أديباً إذا لم يكن فيهما ما يتمايزا به عن غيرهما، فـ” ليس يكون الأدب أدباً إلا إذا ذهب يستحدث ويخترع على ما يصرفه النوابغ من أهله، حتى يؤرخ بهم، فيقال: أدب فلان، وطريقة فلان، ومذهب فلان، إذ لا يجري الأمر فيما علا وتوسط ونزل إلا على إبداع غير تقليد، وتقليد غير اتباع، واتباع غير تسليم.” ، ويقول واصفاً الأديب:” كلما أبدع شيئاً طلب الذي هو أبدع منه “.([19])

وبهذا التأصيل لا يترك الرافعي للمجددين منفذاً ينفذون منه؛ فهو معهم في تجديدهم إن أبقى على الأصول والجذور، فإن رفضوه فإنما يرفضون برفضه الجذور والأصول، فيفتحون بذلك على أنفسهم أبواب شكوك في نواياهم ترتفع عن أن تكون بهتاناً لا دليل عليه أو تهمة لا سند لها. وكأنه يلمح إلى هذه التهم حين يقول في مقاله (الجملة القرآنية) :” نبهتني إحدى الصحف العربية التي تصدر في أمريكا عندما تَنَاولتْ الكلام على (رسائل الأحزان) بقولٍ جاء في بعض معانيه أني لو تركت (الجملة القرآنية) والحديث الشريف ونزعتُ إلى غيرهما لكان ذلك أجدى عليَّ ولملأتُ الدهر ثم لحطمتُ في أهل المذهب الجديد حطمةً لا يبعد في أغلب الظن أن تجعلني في الأدب مذهباً وحدي. ولقد وقفت طويلاً عند قولها (الجملة القرآنية) فظهر لي في نور هذه الكلمة ما لم أكن أراه من قبل، حتى لكأنها (المكروسكوب) وما يجهر به من الجراثيم مما يكون خفيَّاً فيستَعْلِن ودقيقاً فيستعظم، وما يكون كأنه لا شيء ومع ذلك لا تُعرف العلل الكبرى إلا به.”([20])، فالقضية إذن لا تتعلق بالأدب قديمه وجديده، وإنما هي وسائل فنية استخدمت من قبل المستعمرين وأعوانهم؛ ليُتوسل بها إلى تجفيف المنابع الأصيلة وتنحية المصادر الربانية وسلخ الأدب عن معينه القرآني الذي يمده بالجديد الأصيل دائماً.

وقد صاحب هذا التأصيل في الفكر والمضمون تأصيلٌ آخر في الشكل والأسلوب ظهر بوضوح في أسلوب الكتابة وطرائقها عند أساطين هذا التيار الذين اعتمدوا على أربعة أسس كان لهم أبلغ الأثر في أصالة أساليبهم ولغتهم ومذاهبهم في الكتابة:

الأول: القرآن الكريم والحديث الشريف، وليس أدل على أثر القرآن الكريم والحديث الشريف في أسلوب الرافعي ولغته من كلام ذلك الكاتب الذي كتب في مجلة أمريكية يقول:” لو ترك الرافعي الجملة القرآنية والحديث الشريف ، ونزع إلى غيرهما لكان ذلك أجدى عليه ولملأ الدهر.([21])

الثاني: ما حفظوه من تراث العرب وكلام فصحائهم، وقديماً قال ابن خلدون:” وعلى قدر جودة المحفوظ وطبقته في جنسه وكثرته من قلته، تكون جودة الملكة الحاصلة عنه للحافظ… ثم تكون جودة الاستعمال من بعده، ثم إجادة الملكة من بعدهما.. لأن الطبع إنما ينسج على منوالها”.([22])

الثالث: القراءة الواسعة في شتى فنون الثقافة الإسلامية، حيث لم يكتفوا بالتبحر في علوم الأدب واللغة فقط، بل كانوا ينظرون إلى الثقافة الإسلامية على أنها- بفنونها المختلفة- تراث يكمل بعضه بعضاً لا يجوز للأديب العربي أن يغفل عن قراءته والاطلاع عليه.

الرابع: النظر في الكتب المترجمة والاطلاع على ثقافات الأمم الأخرى وتخير الجيد الملائم فيها للعربية وأساليبها دون تعصب ضدها أو انبهار بها.

ولعل أبرز مثال على التأصيل الأدبي في الأسلوب هو مصطفى صادق الرافعي الذي جمع أسلوبه بين التراثية والتجديد؛ فهو رغم احتفاله الشديد بالتراث وتأثره بطرائق وأساليب أعلامه في الكتابة، إلا أنه لم يكن جامداً في أسلوبه جمود من يحيا في زمن غير زمنه، أو يَعقِلَ نفسه بعقالِ ماضٍ لا يخرج من سجنه ولا يبارح حدوده، وإنما كان أصيلاً تجديدياً لم تؤثر فيه عجمة حاضره، ولا معجمية ماضيه، بل هو بين العجمة والمعجمية دائب التجديد، حسن التصرف، محكم النسج، دقيق المعاني، واسع المجاز، على غموضٍ لم يسلم منه في بداياته حين كان يكتب لنفسه؛ فيرضي فنه غير عابئ بوضوح المعنى لدى قارئه، فلما كتب في (الرسالة)، وواجه الناس مال إلى الوضوح وتبسط في الأسلوب. وقد قال الزيات عن سبب غموض بعض كتاباته:” كان يحمل الفكرة في ذهنه أياماً يعاودها في خلالها الساعة بعد الساعة بالتقليب والتنقيب والملاحظة والتأمل، حتى تتشعب في خياله وتتكاثر في خاطره، ويكون هو لكثرة النظر والإجالة قد سما في فهمها على الذكاء المألوف، فإذا أراد أن يعطيها الصورة ويكسوها اللفظ، جلاها على الوضع الماثل في ذهنه، وأداها بالإيجاز الغالب على فنه، فتأتي في بعض المواضع غامضة ملتوية وهو يحسبها واضحة في نفسك وضوحها في نفسه”.([23])

ملامح التأصيل الأدبي في الأسلوب:

وقد حكمت مذهب الرافعي في الكتابة أصولٌ بنى عليها فنه وأدبه، ولعلنا لا نبعد كثيراً إن جعلنا هذه الأصول الأسلوبية في الكتابة ملامح للتأصيل الأدبي في الأسلوب الكتابي لهذا التيار كله، على تمايز طبعي بين أفراده يُنشئه اختلاف الأذواق وتباين الطبائع. وهذه الملامح هي:

الأول: التوسع في مذاهب العربية:

حيث لم يقتصروا على تقليد أساليب الأوائل؛ لأن الأصالة لا تعني التقليد، وإنما تعني التمثل والتفرد، تمثل أساليب القدماء وهضم طرائقهم، والتفرد في التراكيب والمعاني الخاصة التي تميز كل كاتب عن غيره على أن تكون وفق طبيعة اللغة وأوزانها وقواعدها.

الثاني: العناية بالتراكيب ومراعاة تناسبها وموسيقاها:

وهي صفة أصيلة في كتاب العرب الأفذاذ الذين يغلب في إنشائهم الاحتفاء بالنسق والسياق والنظم أكثر من الاحتفاء باللفظ المفرد، وعلى ذلك قام إعجاز القرآن، وبلاغة الحديث النبوي الشريف.

الثالث: التفرد والتمايز:

فهم كالأصلاء من كتاب العرب القدماء الذين يتمايزون بأساليبهم عن بعضهم البعض، ولا تكاد تجد تشابهاً بين طرائقهم رغم أنها تخرج كلها من معين لغة واحدة.

الرابع:معاودة النظر والتنقيح:

وهذه نقطة من ألصق النقاط بمنهج التأصيل، وهي تعيدنا إلى أسس منهج التذوق الذي من أصوله عند أساطين هذا التيار: شدة التحري، والمبالغة في التوثيق، والغوص على المعاني، وتخير الألفاظ، وأخذ الكتابة مأخذ الجد، وعدم الرضا بالسهولة التي تفضي إلى سقوط المبنى والمعنى، أو بالسطحية التي تؤدي إلى الإخلال بجانب من جوانب الموضوع؛ ليملؤوا بالحبر فراغاً في صحيفة أو بياضاً في كتاب.

الخامس: الاحتفاء بالمجاز والعناية به:

لأن المجاز حلية العربية، بل حلية كل لغة، ولا يكون الكاتب كاتباً- كما يرى الرافعي مثلاً- حتى يبرع فيه، ولا يفهم العربية على حقيقتها من لا معرفة له بفنون المجاز. وقد أكثر الرافعي من استخدام المجاز رغم أنه (متعب جداً) كما قال، وحسبنا أن نطالع نماذج من نثره الفني في كتبه الثلاثة (حديث القمر ، ورسائل الأحزان ، والسحاب الأحمر) لنجد فنوناً متنوعة من المجاز لم يحو مثلها بين دفتيه كتابٌ في العصر الحديث، حتى أطلق الدكتور أحمد هيكل على أسلوب الرافعي اسم (البيان المقطر) الذي يهتم في المقام الأول بجمال الصياغة، وروعة الديباجة، وبُعد التركيب، واعتصار المعاني، وتوليد الأفكار، من خلال مجازات مركبة، واستعارات بديعة، وكنايات خفية، فيأتي بيانه آخر الأمر أشبه بعملية تقطير ألوان من الزهور المعروفة والورود المألوفة والرياحين الشائعة، لاستخلاص عطر مركب مركز غريب، فيه جمال، ولكن ليس فيه بساطة.([24])

***

ومن الجدير بالذكر- في ختام هذه السلسة- أن نؤكد على جهود هذا التيار لم تقتصر على تلك الحقبة الزمنية حسب؛ بل امتدت جهودهم ورسالتهم الفكرية والأدبية إلى وقتنا هذا، خاصة وأن الهجمات التغريبية لم يهدأ أوارها عبر السنوات والعقود التالية، بل استمرت في تصدير المذاهب والنظريات الأدبية والنقدية الوافدة على بيئتنا وثقافتنا الأصيلة؛ ليتوزع قسم من أدبنا خلف الأيديولوجيات المختلفة، فوجدت الماركسية قبل سقوطها أدباء يجسدون أفكارها ويدعون- من خلال أعمالهم الأدبية- إلى الالتحاق بها، كما وجدت نقاداً يجتهدون في تثبيت الواقعية الاشتراكية (الصياغة الأدبية للماركسية)، وبالمثل تماماً وجدت الكتلة الغربية أبواقاً تدعو بقوة إلى اعتناق حضارتها وتقليد فنونها وآدابها، وهكذا ابتلي الأدب بالمناهج المستوردة التي انتهى منها أصحابها وتم تصديرها بعد تغليفها بغلاف جميل لينبهر بها أدعياء الثقافة عندنا؛ فكانت البنيوية، والحداثة، وما بعد الحداثة، على رأس هذه المذاهب التي استوردت، وتوزع قسم وافر من أدبنا المعاصر وراء هذه المذاهب الأدبية الغربية المستوردة، وحمل أدواتها الفنية من جهة، وقيمها وتصوراتها من جهة أخرى، ففقد كثيراً من ملامح الشخصية العربية.

وظهر- تبعاً لذلك- تيار تأصيلي حديث، وصل ما انقطع وجدد ما رَثَّ، وتولى تحويل الدعوة إلى التأصيل الأدبي إلى واقع عملي يعبر عن نفسه في تطبيقات ميدانية، مثلت الوسطية الأدبية التي استنبتها الدكتور عبد الحميد إبراهيم من الجذور العربية الإسلامية قمتها ومقدمتها، كما كانت الدعوة إلى الأدب الإسلامي بمثابة تتويج عام لجهود هذا التيار الذي انتشر واستوى على سوقه علي يدي سيد قطب، ومحمد قطب، وعبد الرحمن رأفت الباشا، وأبو الحسن الندوي، وعبد القدوس أبوصالح، ونجيب الكيلاني، وعبده زايد، وحلمي القاعود، وعبد الباسط بدر.. وغيرهم من الأدباء والمفكرين الإسلاميين الذين أسهموا وساعدوا في إنشاء رابطة الأدب الإسلامي.

وقد تماهى مع هذا التيار عدة جهود فردية لكتاب وأدباء ومفكرين، ناقشوا الحداثة بمناهجها المختلفة والمتداخلة، وعملوا على التأصيل لنظرية عربية خاصة، من خلال قراءتهم الواعية للتراث الأدبي والنقدي والبلاغي عند العرب القدماء؛ ليخلصوا إلى أن الجديد المستورد ليس جديداً على التراث العربي؛ بل هو جديد على من لم يقرأ هذا التراث ولم يهتم به.. ويأتي الدكتور عبد العزيز حمودة بثلاثيته النقدية: المرايا المحدبة، والمرايا المقعرة، والخروج من التيه، على رأس هؤلاء.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1]ـ في منزل الوحي ـ محمد حسين هيكل ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت 2007م ـ ط2ـ ص 26ـ22.

[2]ـ الأهرام ـ 25 يونيه 1939م ـ وانظر المعارك الأدبية ـ أنور الجندي ـ ص308-310.

[3]ـ انظر بتوسع : المعارك الأدبية ـ أنور الجندي ـ مكتبة الأنجلو المصرية ـ القاهرة 1983م .

[4]ـ يقظة الفكر العربي ـ أنور الجندي ـ  مطبعة الرسالة ـ القاهرة 1971م ـ ص271.

[5]ـ المتنبي ، رسالة في الطريق إلى ثقافتنا ـ محمود شاكر ـ ص72ـ74.

[6]ـ المرجع السابق ـ ص76ـ77.

[7]ـ المرجع سابق ـ ص34.

[8]ـ المرجع السابق ـ ص25ـ26.

[9]ـ نحو ثقافة تأصيلية ، البيان التأصيلي ـ محمد محمود شاويش ـ دار نينوى ـ دمشق2007م ـ ط1ـ ص115.

[10]ـ أباطيل وأسمار ـ محمود شاكر ـ ص210.

[11]ـ محمود محمد شاكر ، قصة قلم ـ عايدة الشريف ـ كتاب الهلال ـ عدد 563 ـ القاهرة ـ 1997م ـ ص 165ـ166.

[12]ـ المتنبي، رسالة في الطريق إلى ثقافتناـ ص8.

[13]ـ المرجع السابق ـ ص22.

[14]ـ تحت راية القرآن ـ الرافعي ـ ص13ـ 14.

[15]ـ القديم والجديد مع مصطفى صادق الرافعي ـ بغداد عبد الرحمن ـ موقع رابطة الشام ـ شبكة المعلومات الدولية (نت) .

[16]ـ تحت راية القرآن ـ الرافعي ـ مرجع سابق ـ ص15ـ 17 .

[17]ـ المرجع السابق ـ ص 49ـ50.

[18]ـ المرجع السابق ـ ص17ـ 18.

[19]ـ وحي القلم ـ الرافعي ـ ج1ـ ص197.

[20]ـ تحت راية القرآن ـ الرافعي ـ ص26.

[21]ـ  المرجع سابق ـ ص26 .

[22]ـ مقدمة ابن خلدون ـ ص578 .

[23]ـ وحي الرسالة ـ أحمد حسن الزيات ـ مكتبة نهضة مصر ـ القاهرة 1956م  ـ ج1 ص440.

24ت تطور الأدب الحديث في مصر ـ د.أحمد هيكل ـ دار المعارف ـ القاهرة 1994ـ ط 6 ـ ص387 ـ 388

زر الذهاب إلى الأعلى