اللغةُ والهُويَّة بين الاستلاب الحضاري واستعادة الوعيملفـات

اللغةُ والهُويَّة بين الاستلاب الحضاري واستعادة الوعي (4)

رابعاً: منهج التذوق، خصائصه وإجراءات:

المنهج العربي الأصيل:

الحديث عن المنهج العربي الأصيل كالحديث عن النظرية الأدبية العربية الأصيلة مرده- غالباً- إلى اتخاذ موقفي الهجوم والدفاع اللذَيْن تترس خلفهما غالبُ دعاةِ الحداثة والمعاصرة من جهة، وغالب دعاة المحافظة والأصالة من جهة أخرى، وقد كانت المثاقفة (السلبية والإيجابية) مع الغرب سبباً في إثارة عدة إشكالات حضارية وثقافية وأدبية كثيرة يدور أغلبها- في مجال الأدب- حول التساؤل عن وجود النظرية الأدبية العربية بخصائصها المتفردة ومقاييسها الخاصة، وما يستتبع ذلك من وجود منهج نقدي مصاحب لهذه النظرية إن وُجدت.

وهذا التساؤل الغريب إنما نشأ أصلاً من جعل الغرب مثالاً يُقاس عليه؛ فما دام الغرب امتلك (نظرية ومنهجاً) فلا بد للعرب من امتلاك (نظرية ومنهج) تُماثل تماماً نظرية الغرب ومنهجه، فإن اختلفت قليلاً تبعاً لاختلاف الأدب العربي وخصوصيته التي تميز بها عن غيره؛ فلا يمكن أن تسمى هذه النظرية العربية المختلفة (نظرية) لأنها لا تماثل في خصائصها ومكوناتها ومقاييسها نظرية الأدب الغربي!!

ومعلوم أن هذا المنطق يرتد في ذاته إلى الهزيمة الروحية التي مُني بها العرب في عصورهم المتأخرة أمام الغرب وانسحبت هذه الهزيمة على مجالات عدة من مجالات الحياة العربية اجتماعياً وسياسياً وثقافياً وأدبياً وعسكرياً؛ بل ودينياً أيضاً. وهذا شبيهٌ بقول بني إسرائيل لموسى:” اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة”؛ فهم لم يطلبوا (الإله) من موسى إلا بعد أن رأوا ما ظنوه (آلهة) خيراً من إلههم، بينما هي مجرد أصنام لا تضر ولا تنفع، ولو لم يروا ذلك ما طلبوا من موسى هذا الطلب الذي دل على هزيمة روحية كبيرة وشعور بالنقص عظيم، ثم إن طلبهم هذا جاء مشروطاً بتماثل الإله المطلوب من موسى مع الآلهة التي رأوها؛ فكأنهم وضعوا صفات خاصة في الإله المطلوب لا يجوز أن تختلف عن صفات الآلهة التي أعجبتهم. وقد رد عليهم موسى قائلاً: ” إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ، إِنَّ هَٰؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَٰهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ”، ورغم هذا التفضيل الذي خصهم الله جل وعلا به إلا أن جهلهم المرتكز على هزيمتهم الروحية أوقعهم في الافتتان بالظواهر وطلب ما هم في غنى عنه، والتطلع إلى الذي هو أدنى مع امتلاكهم لما هو خير.

وهذه الرؤية من بني إسرائيل تشبه إلى حدٍ بعيد المثاقفة السلبية التي وقع فيها عرب البعثات الأولى للغرب وما تلا ذلك من استلاب فكري استمر منذ أواخر القرن التاسع عشر الميلادي إلى الآن.

ومن الثابت عقلاً أن النظريات والمناهج لا تُستنبت استنباتاً كلما عَنَّ لأمة أن تقلد أمة أخرى، ولكنها تتطور في بيئة خاصة تبعاً لإشكالات خاصة، وتظل تتدرج من خلال تلاقح الأفكار وتفاعل التجارب حتى يصح أن تسمى نظرية، تماماً كما حدث مع النظريات الأدبية الغربية الكبرى. وغالب المنكرين لوجود نظرية أدبية عربية ومنهج عربي أصيل وقعوا في شَرَك اتخاذ المثال الغربي مقياساً يقيسون عليه الواقع الأدبي العربي، كما أن غالب المثبتين لوجود هذه النظرية وذلك المنهج وقعوا في شَرَك ردة الفعل المدافعة عن الثقافة والأدب العربيين، وكلاهما انطلق- مهاجماً أو مدافعاً- من المفهوم الخاص الذي أنتجته الثقافة الغربية (للنظرية والمنهج). ولو استطعنا أن نخلع- قليلاً- هؤلاء وأولئك وننظر إلى مفهوم (الأدب) و(وظيفة النقد) لاستطعنا أن نضع أيدينا على منهج عربي أصيل مستمد من نظرية عربية أصيلة؛ ولأن (العمل الأدبي) هو موضوع (النقد الأدبي) فإننا لن نصل إلى مفهوم جامع مانع للمنهج الأصيل أو ملامح واضحة له ما لم نفهم طبيعة العمل الأدبي وماهيته وقيمه وأصوله.

العمل الأدبي:

فالعمل الأدبي في أبسط تعريفاته هو:” التعبير عن تجربة شعورية في صورة موحية.”([1])؛ (فالتعبير) يصور لنا طبيعة العمل ونوعه، وأنه كلام مؤلف من ألفاظ ذات دلالة معنوية، و(التجربة الشعورية) تبين لنا مادة العمل وموضوعه، (والصورة الموحية) تحدد لنا شروط العمل وغايته.

وهذه المحترزات كلها مرتبطٌ بعضها ببعض، يسقط العمل الأدبي بسقوط واحد منها؛ فالتعبير الذي هو ألفاظ ذات دلالة لا يصبح عملاً أدبياً ما لم يتناول تجربة شعورية معينة، والتجربة الشعورية لا تصبح عملاً أدبياً ما لم يُعبَر عنها بصورة موحية، ولا دخل بعد ذلك لموضوع العمل الأدبي في تحديد أدبية العمل؛ فالمواضيع تختلف باختلاف الأغراض والفنون، ويبقى التعبير عن الانفعال الوجداني- بأي موضوع كان- هو وحده العمل الأدبي لأنه ببساطة: تعبير عن تجربة شعورية سيطرت على وجدان الأديب فصبها في قالب فني، واستطاع المتلقي استقبالها والشعور بما شعر به الأديب وقت التعبير عنها؛ فمناط الحكم على العمل الأدبي هو كمال تصوير الأديب لتجربته الشعورية ونقلها نقلاً موحياً يثير في النفس انفعالاً مستمداً من الانفعال الذي صاحبها في نفس قائلها. أما الحقائق العقلية والعلمية فلا تحدد مكانة العمل الأدبي إلا إذا تم الانفعال الوجداني بها، وامتزجت بالشعور الإنساني وتداخلت في صميم (التجربة الشعورية) وانطوت عليها. ولا يعني هذا أن الأدب عدو للحقائق الواقعية؛ بل المهم أن تصبح هذه الحقائق شعورية فتتجاوز المنطقة العقلية الباردة إلى المنطقة الشعورية الحارة.([2])

والتجربة الشعورية حالةٌ من حالات امتلاء النفس بموضوع ما- عاماً كان أم خاصاً- وهي مرحلة أولية لازمة للعمل الأدبي لا يمكن أن يظهر العمل الأدبي دون المرور عليها، كما أنها لا يمكن أن تُفهم أو تُحس إلا إذا شُفعت بالتجربة التعبيرية التي هي بمثابة الإطار العام المعبر عنها؛ فالشعور والتعبير هما قوام العمل الأدبي اللذان لا يمكن فصلهما عن بعضهما، وليست الصور التعبيرية إلا ثمرة للشعور الداخلي، والشعور الداخلي لا يمكن أن يُفهم إلا من خلال الصور التعبيرية.

ولذلك؛ فإن من أخص خصائص القيم الشعورية غلبة الذاتية والشخصية عليها لأنه لا يمكن بحال أن يتفق مبدعان أو أديبان على شعور متماثل في موضوع بعينه. والأديب المبدع هو الذي يدلنا على ميسمه الخاص، ليس من خلال طرائق تعبيره فقط، بل من خلال طريقة شعوره أيضاً؛ فنحن مثلاً لا نستطيع أن نلمس تشابهاً وتماثلاً في الصور التي تمر على أخيلتنا عندما نذكر اسم ( المتنبي، وأبا نواس، وأبا العتاهية، والمعري)، ورغم أن هذه الأسماء كلها اتفقت في فن واحد هو الشعر؛ إلا أن قوة إبداعها وعمق تجربتها الشعورية واختلافها، تجعلنا نشعر بتباين العوالم الشعورية في أنفسنا كلما ذكر اسم من هذه الأسماء أمامنا حتى كأن شخصية الشاعر بملامحها وخصائصها النفسية والفنية تتجسد في مخيلتنا واضحة ومباينة لشخصية غيره. ومرد ذلك إلى اقتدار هؤلاء الشعراء في خلق عوالمهم الشعورية الخاصة والصدق في إحساسهم بالحياة وعمق اتصالهم بالحقائق الإنسانية والكونية الكبرى، حتى صرنا ندرك- من خلال ذكر الاسم فقط- مفتاح شخصية المتنبي، ومفتاح شخصية البحتري، ومفتاح شخصية المعري، ومفاتيح شخصيات غيرهم من الشعراء المبدعين.

أما القيم التعبيرية فهي الصورة اللفظية التي تظهر من خلالها القيم الشعورية، وهي ليست ألفاظاً فقط- وإن كانت الألفاظ هي الإطار العام الذي يحمل التجارب الشعورية ويوصلها للمتلقي- ولكنها نظامٌ متكامل يتألف من تنسيق العبارات وترتيبها ووضعها في مواضعها ومراعاة ما قبلها لما بعدها، وانتظام الجرس الموسيقي الداخلي والخارجي لحروف اللفظ ومخارجه، وظلال الكلمات وصورها وأخيلتها التي تخلفها في النفس بعد أن تنتظم في نسق أدبي معين.

وعليه؛ فإن وظيفة التعبير في الأدب لا تنتهي عند الدلالة المعنوية للألفاظ والعبارات والجمل والكلمات؛ بل هناك مؤثرات أصيلة في التعبير الأدبي يكمل بها العمل الفني ليس أقلها الإيقاع الموسيقي للكلمات والعبارات، والصور والظلال التي يشيعها اللفظُ والعبارةُ في نفس المتلقي، والأسلوب والطريقة التي تُعرض من خلاله التجارب الشعورية وتُنسق على أساسه الكلمات والعبارات.([3])

والحديث عن العبارة في العمل الأدبي متصلٌ بالحديث عن اللفظ المعبر؛ فالعبارة مجموعة ألفاظ منسقة على نحو معين لأداء معنى ذهني أو معنى شعوري، والألفاظ لا تستطيع أن تعطي دلالتها كاملة إلا من خلال نسق معين، ثم من خلال الإيقاع الموسيقي الناشئ عن مجموعة إيقاعات الألفاظ المتناغمة بعضها مع بعض، ثم من الصور والظلال التي توحي بها الألفاظ المتناسقة في العبارة. والألفاظ التي يختارها الأديب والنسق الذي يرتبها فيه عنصران أصيلان في تعبيره الفني وفي قيمة عمله الأدبي لأنهما وحدهما اللذان ينقلان إلينا كامل شعوره.

ووظيفة الأديب الفذ حينئذٍ كما يقول سيد قطب:” أن يهيئ للألفاظ نظاماً ونسقاً وجواً يسمح لها بأن تشع أكبر شحنتها من الصور والظلال والإيقاع، وأن تتناسق ظلالها وإيقاعاتها مع الجو الشعوري الذي تريد أن ترسمه، وألا يقف بها عند الدلالة المعنوية الذهنية، وألا يقيم اختياره للألفاظ على هذا الأساس وحده- وإن يكن لا بد منه في التعبير ليفهم الآخرون ما يريده- وأن يَردَّ إلى اللفظ تلك الحياة التي كانت له وهو يُطلق أول مرة ليصور حالة حية قبل أن يصير له معنى ذهني مجرد، فوصول اللفظ إلى الحالة التجريدية معناه أنه مات وأصبح رمزاً فحسب، والأديب الموهوب هو الذي يرد عليه حياته فيجعله يشع صورة وظلاً ويرسم حالة ومشهداً”.([4])

هذا هو مفهوم العمل الأدبي في صورته الأولية التي نستطيع أن نقرر أنها الصورة الأصيلة للأدب في الذهنية العربية التي تعتمد على ( التذوق ) بمعناه الواسع- لفظاً ومعنى- في فهم النصوص والإحساس بها.

وظيفة النقد:

الغرض من تحديد وظيفة النقد هو معرفة المنهج الأكثر قرباً لطبيعة العمل الأدبي كي نواجهه به؛ لأن العمل الأدبي فن من الفنون الجميلة كالنحت والرسم والتصوير والموسيقى، ولكل هذه الفنون مناهج هي أقرب إلى طبيعتها. ثم في العمل الأدبي ذاته أنواع مختلفة كالقصيدة والقصة والرواية والمسرحية، ولكل نوع منهج هو أقرب إلى طبيعته أيضاً- وإن كانت دائرة المناهج هنا تضيق أكثر لأننا في إطار العمل الأدبي بمفهومه الخاص- ثم في القصيدة ذاتها أغراض متعددة تصح أن نجمع لها أكثر من منهج لدراستها حسب إجراءات المنهج التي تنجح في إلقاء الضوء على المناطق المظلمة في القصيدة لتوضيحها وتبيين ما فيها من معان دلت عليها ألفاظها.

وعليه؛ فإن المناهج تتعدد بتعدد الفنون والأنواع والأغراض، ولا يمكن أن نضع قواعد دقيقة للمناهج كدقة القواعد العلمية البحتة، إنما الغرض توضيح الاتجاهات العامة ورصد السمات المتعددة دون مغالاة في التحديد الحاسم الذي ينافي طبيعة الأدب المرنة. وقد لخص سيد قطب وظائف النقد وغاياته في أربع نقاط) هي([5]):

أولاً: تقويم العمل الأدبي فنياً وموضوعياً، وهو تقويم يعتمد على (الذاتية) التي هي أساس (الموضوعية)؛ فمن الغبن تجريد الناقد من ذوقه الخاص وميوله النفسية واستجاباته الذاتية العائدة إلى تجاربه الشعورية السابقة حال نظره إلى العمل الأدبي، بيد أنه من المستطاع أن يتخذ الناقد هذه الذاتية أساساً للحكم الموضوعي فيلاحظ طبيعة العمل الأدبي المنقود وأدواته الميسرة له وأساليب تناوله وقيمه الشعورية والتعبيرية؛ فيخرج بذلك قدر المستطاع من الذاتية الضيقة المعتمدة على شعوره الخاص إلى الموضوعية العامة المعتمدة على القواعد والأصول النقدية التي يفرزها التعايش مع العمل الأدبي.

ثانياً: تعيين مكان العمل الأدبي في خط سير الأدب، وهو تعيين يعتمد على معرفة ما أضافه العمل الأدبي إلى عالم الأدب عموماً، وهل هو نموذج جديد أم تكرار لنماذج سابقة مع شيء من التجديد، وهل هذا التجديد يشفع له في الوجود أم هو فضلة لا يضيف لرصيد الأدب شيئاً.

ثالثاً: تحديد مدى تأثر العمل الأدبي بالمحيط الذي أنتجه ومدى تأثيره فيه، فمن المهم أن نعرف ما أخذه هذا العمل الأدبي من البيئة وما أعطاه لها ، وهي دراسات اجتماعية وتاريخية تضاف إلى الدراسات الفنية.

رابعاً: تصوير سمات صاحب العمل الأدبي من خلال أعماله وبيان خصائصه الشعورية والتعبيرية، وتتبع المؤثرات النفسية التي اشتركت في تكوين هذه الأعمال دون تمحل أو تكلف أو جزم في إطلاق الأحكام.

ومن خلال هذه الوظائف والغايات للنقد نستطيع أن نتبين ملامح المنهج الأصيل الذي جاءت جذوره الأولى عربية خالصة رغم ما شابها بعد ذلك من تحولات إجرائية لم تؤثر في بنيته الأصلية كثيراً.

وهو في مجمله يعتمد على مواجهة العمل الأدبي بالقواعد والأصول الفنية المباشرة، ويقوم على التأثر الذاتي للناقد أولاً، ثم على عناصر موضوعية وأصول فنية لها حظ من الاستقرار ثانياً؛ فهو منهج ذاتي موضوعي وثيق الصلة بطبيعة الأدب خاصة والفنون عامة.

ويشترط في الناقد الذي يواجه العمل الأدبي بهذا المنهج أن يمتلك ذوقاً فنياً رفيعاً واطلاعاً واسعاً على مأثور الأدب والنقد، وحصيلة لغوية وفنية، وموهبة خاصة في التطبيق، ومرونة في تقبل الأنماط الجديدة التي قد لا تكون لها نظائر يقاس عليها فيكون من شأنها تبديل القواعد المقررة والأصول المعروفة.([6])

وقد حفل هذا المنهج بعدة أسماء تداخل بعضها مع بعض فأنتج تباينات عدة في المعنى المراد، إلا أن هذا التباين لم يكن من الحدة بحيث تختلف أصول المنهج وقواعده تبعاً لاختلاف مسمياته؛ فسواءٌ كان منهجاً فنياً أو تأثرياً أو انطباعياً أو ذوقياً أو جمالياً فهو- كما نرى في هذه المسميات- يكاد يصب في مصب واحد، كما أنه يكاد ينبع من منبع واحد على رغم ما في هذه المسميات من معان خاصة وإجراءات مفارقة قد يرى فيها بعض النقاد اختلافاً طفيفاً في كل مسمى عن غيره. ولأنه ليس شيء أقرب إلى الأدب العربي- شعره ونثره – من مفهوم التذوق؛ فقد اخترنا هذه التسمية لهذا المنهج العربي الأصيل وارتضيناها له؛ لعمق دلالة هذا المصطلح على غالب التراث الأدبي العربي.

منهج التذوق:

جاء في القاموس المحيط مادة ( ذ و ق ):” ذاقه ذوقاً وذواقاً ومذاقاً ومذاقةً: اختبر طعمه، وأذقته أنا… وتذوقه: ذاقه مرة بعد مرة”([7]) ؛ فالذوق بمدلوله اللغوي حاسة تدرك بها الأطعمة والأشربة، أما في اصطلاح العلماء فقد انتقلت  الدلالة اللغوية إلى دلالة اصطلاحية و تباينت الآراء حول مفهوم التذوق الأدبي تبعًا لتباين المدارس الفنية في نظرتها وإدراكها لطبيعة الإبداع الأدبي؛ ولأن طبيعة التذوق لا تخضع لقواعد محددة فقد تشابهت المفاهيم فيه وتعددت التعريفات له، ولكنها أكدت على أنه حاسة شخصية وملكة بيانية وقدرة فنية تساعد صاحبها في الحكم على العمل الأدبي وتقييمه.

وقد عرفه بعضهم بأنه” استعداد خاص يهيئ صاحبه لتقدير الجمال والاستمتاع به ومحاكاته بقدر ما يستطيع في أعماله وأقواله وأفكاره.”([8])، وعرفه بعضهم بـ” الموهبة الإنسانية التي أنضجتها رواسب الأجيال السابقة وتيارات الثقافات المعاصرة التي امتزجت جميعها فكونت هذا الشيء المسمى بحاسة التمييز أو التذوق الأدبي.”([9])، ونعته بعضهم بأنه” قوة نقدر بها الأثر الفني”.([10])، أو” قدرة يُميز بها جمال النص الأدبي أو رداءته.”([11])

وقد أشار ابن خلدون إلى أن الذوق لفظة يتداولها المعتنون بفنون البيان العربي، ومعناها: حصول ملكة البلاغة للسان من خلال ممارسة كلام العرب وتكرار سماعه والتفطن لخواص تركيبه.([12])

والملاحظ هنا أن التعريف اللغوي يتفق مع التعريف الاصطلاحي على ضرورة التجربة والاختبار والمعالجة والممارسة في تذوق الأشياء الحسية والمعنوية، والأداة المستخدمة في المعنى اللغوي هي اللسان، وفي المعنى الاصطلاحي هي النفس والعقل وما ينتج عنهما من وجدان وشعور، وهما مَعنيَّان بمعرفة الحَسنِ والقبيح في الشيء المتذوق. ومفاد هذا الاتفاق أن التذوق رغم أنه فطرة من فِطر النفوس إلا أنه لا يتم تمامه ويستقوي ليصبح منهجاً لصاحبه يعرف به الغث من السمين إلا من خلال الممارسة والتجربة وكثرة المعالجة وتكرار التردد بين النصوص والفنون والإيغال في البحث والتنقيب؛ فهو محصلة نهائية لدرس الأدب والنقد والبلاغة، وثمرة من ثمار الممارسة الجادة لهذه الفنون تمنح صاحبها القدرة على إدراك نواحي الجمال والقبح في العمل الأدبي، فلا تكفي الفطرة وحدها للتذوق- وإن كانت فرشاً تمهيدياً له- وإنما لا بد أن تصحبها الدربة والممارسة حتى يصل المتذوق إلى حد استنتاج القواعد والأصول لهذا المنهج من خلال كثرة المعالجة والتجربة، وحتى يجعل للذوق الذي هو شيء لا يُدرك بالحس أصولاً تدرك بالحس، وقواعد يكاد يتفق عليها المتذوقون الأفذاذ. وقديماً أقام الآمدي- كما يذكر محمد زغلول سلام- الذوقَ على ثلاثة أسس:

(الطبع) الذي هو قوةٌ في الناقد يُفطر عليها، واستعدادٌ طبيعي ينشأ معه، و(الحذق) الذي هو قوة يكتسبها الناقد بالممارسة والدُربة وطول الاطلاع على آثار المبدعين والتمرّس بالجيد والقبيح منها لمعرفة الأسباب التي جعلت الجيد جيداً والقبيح قبيحاً، و(الفطنة) التي هي مزيج من الطبع والحذق، أو هي أعلى درجات التذوق، وصاحبها أقدر على التمييز والحكم من صاحب الطبع وحده، أو صاحب الحذق وحده.([13])

وليس الذوق ملكة بسيطة كما قد يظن المتعجل، ولكنه مزيج من عناصر ثلاثة: (العاطفة، والعقل، والحس)، ورغم أن للعاطفة سلطاناً كبيراً فيه على عنصريه الآخرين : العقل والحس؛ إلا أن اختلاف حظوظ الناس من هذه العناصر الثلاثة يجعل لكل عنصر منها قيمة مختلفة تبعاً لاختلاف نصيب كل إنسان منها؛ فثمة من يغلب عليه عنصر العقل والفكر فيميل مثلاً إلى شعراء المعاني كأبي تمام، وابن الرومي، والمعري، وثمة من تغلب عليه العاطفة فيميل إلى شعراء النسيب وكل رقيق عذب من القول، كجميل بثينة، وكُثِّير عزة، وعمر بن أبي ربيعة، والعباس بن الأحنف، أما من غلب عليه الحس فهو إلى أسلوب شعراء الطبع والسهولة أميل وبهم ألصق، كالبحتري، وعدي بن زيد. غير أن هؤلاء رغم اختلاف طبائعهم وتباين ميولهم يستظلون جميعاً بمظلة التذوق فيأخذون من كل عنصر من هذه العناصر على قدر ما خُلقوا به وغلب عليهم، ثم على قدر ما دَرَّبُوا أنفسهم على مثيله، وطوروا ملكاتهم بجنسه؛ لأن مصادر الذوق: (هبةُ ودربة)؛ فأما الهبة فهي: طبيعية تولد مع الإنسان ويُعبر عنها بصفاء الذهن وخصب القريحة وظهور الاستعداد، ويتضح ذلك في ميل الناشئ الموهوب منذ الطفولة إلى كل جميل من الأدب والفن، ومحاولة تقليده ونجاحه في ذلك دون غيره ممن حرموا هذا الاستعداد. وأما الدربة فهي: التهذيب والتعليم الذي ينمي الذوق ويهذبه ويسمو به؛ فالأديب ذو الفطرة الذواقة يفيد من قراءة الأدب وممارسة الفنون فتراه بعد قليل مصقول الذوق ثاقب الذهن يضع يده على العبارة البليغة والخيال الجميل، ويدرك صدق العاطفة وينفر من كل مضطرب من الأدب، ويكون لتربيته العقلية والعلمية دخل كبير في كمال أحكامه الأدبية واتزانها كما يكون أقدر على إنشاء الأساليب البليغة، وصوغ الأخيلة الجميلة وصدق التعبير عن العواطف، والقدرة على التعليل إذا صادف تعبيراً بلاغياً.

والذوق عامةً: سليمٌ وسقيم؛ فالسليم هو: الحسن الصحيح المهذب الذي يستطيع تمييز الأدب العالي الجميل والأدب المتكلف السخيف، والسقيم هو: الرديء الفاسد الذي لا يحسن التفرقة بين أنواع الأدب من حيث القيمة الفنية، أو الذي يُؤثِرُ السخيف المطرح، أو الذي لا يحسن شيئاً مطلقاً.

والنوع الأول هو المراد في باب النقد وإليه تنصرف كلمة الذوق إذا أطلقت، وقد وصفه القاضي الجرجاني في الوساطة بقوله:” المهذب الذي صقله الأدب وشحذته الرواية وجلته الفطنة وأُلهِمَ الفصل بين الرديء والجيد وتصور أمثلة الحسن والقبيح، وأصحاب الذوق السليم قليلون وهم مضطرون دائما إلى حفظ أذواقهم من الآفات التي تفسدها”.([14])

وقد يكون الذوق السليم سلبياً: حين يُدرك الجمال ويعجز عن تعليله، وصاحب هذا النوع يكتفي بالمتعة الأدبية التي تضئ نفسه وتسعد وجدانه، وإيجابياً: حين يدرك الجمال ويعلله. وصاحب هذا النوع يستطيع أن يضع يده على مواطن الحسن والقبح في النص المتذَوَّق ، ذاكراً ومبيناً أسباب ذلك ، ومقترحاً ما يجب أن يكون.

ومن الذوق ما هو عامٌ يشمل أبناء الجيل الواحد في البيئة الواحدة وفي البلد الواحد، من حيث تأثرهم بظروف مشتركة تطبعهم جميعاً بطابع عام يجمعهم ويؤلف بينهم، ومنه ما هو خاص تتصف به جماعة خاصة لخصوصية البيئة أو الثقافة أو الشخصية الفردية، وكل ذلك داخلَ إطار الذوق العام لأهل البلد المعين الذين يختلفون فيما بينهم أيضاً بحسب مصادر ثقافتهم. ويمكن أن يضاف إلى هذين قسم ثالث هو: الذوق الأعم الذي يشترك فيه الناس بحكم طبيعتهم الإنسانية التي تحب الجمال وتتذوقه، وهذا القدر المشترك بين النفوس البشرية هو الذي يجمع بينها، أو بين المتأدبين منها في الاتفاق على الإعجاب بكبار الأدباء والشعراء في كل أمة أو حضارة، ثم الاتفاق على الإعجاب بمشاهد الطبيعة الجميلة، أو الفضائل العامة والأفعال المجيدة.

كما يخضع الذوق الأدبي العام لمؤثرات كثيرة تتوارد عليه فتخالف بين ذوق وذوق ، ومن هذه المؤثرات:

ـ البيئة: وهي الخواص الطبيعية والاجتماعية التي تتوافر في مكان ما ، فتؤثر فيما تحيط به ، وتمايز بينه وبين غيره، كخواص البادية والحاضرة، أو الريف والمدينة؛ فأهل البادية مثلاً كانوا يميلون قديماً إلى شعر زهير بن أبي سلمى وشعر ذي الرمة؛ لأنه كان شعراً بدوياً خالصاً لفظاً ومعنى وخيالاً، بينما كان أهل الحاضرة كالكوفيين يميلون إلى الأعشى وعدي بن زيد اللذين تحضرا فلان شعرهما واكتسب رقة وسلاسة.

ـ الزمان: ويراد به العوامل المستحدثة التي تتوافر لشعب ما في فترة من الفترات، فتنقله في درجات الرقي والحضارة؛ ليتشكل من هذا النقل ذوق عام يتأثر بما يتقرر في عصره من ثقافة ومذاهب مبتكرة، ويكون هذا الذوق حلقة تاريخية تصور خلاصة الجهود الثقافية والتهذيبية لعصر من عصور التاريخ الأدبي، ومرآة تعكس تحولات الأذواق واختلافها في الأزمنة المتلاحقة، كاختلاف الذوق الأدبي في العصر العباسي عنه في العصر الجاهلي؛ ففي العصر العباسي وجد ذوق جديد ينعى على الأدب القديم طرائقه في الأداء وينكر على مقلديه انصرافهم إلى الماضي البعيد بدلاً من الحاضر القريب.

ـ الجنس: ويراد به الجماعة التي سكنت مكاناً واحداً وخضعت في حياتها لعوامله عهوداً طويلة فنشأت فيهم طائفة من العادات والأخلاق وطرق الفهم والإدراك يخالفون فيها سواهم من الأجناس الأخرى التي أنجبتهم بيئات مغايرة، ولكل جنس طابع عام في الذوق الأدبي.

ـ التربية: ويراد بها آثار الأسرة والتعليم والتنشئة الخاصة؛ فقد تجد جماعة من جنس واحد وبيئة واحدة وزمان واحد وهم مع ذلك متباينون في الأذواق مختلفون في الاتجاهات بسبب خصوصية التنشئة وتمايز التهذيب ومقادير الثقافة والدراسة التي ظفر بها كلٌّ منهم.

ـ المزاج الخاص: وهو الشخصية الفطرية الطبيعية الخاصة بكل فرد والمميزة له ميولاً ووجداناً وتفكيراً، وهي من أكثر العوامل تأثيراً في سلوك الإنسان وذوقه واختياراته وميوله، وتندرج تحتها الحالات النفسية التي تستأثر ببعض النفوس فتحملها على إنشاء أو استحسان فن خاص من الشعر أو النثر.

أهمية منهج التذوق:

وللتذوق أهمية كبرى للمبدع والمتلقي على حد سواء، وتتضح أهميته للمبدع بعد انتهائه من عمله إبداعاً وتأليفاً حين يعود إليه لينقحه ويراجعه مستصحباً معه حاسة التذوق فيضيف كلمة أو يحذف أخرى أو يغير في عناصر الصورة الأدبية، أو يعدل فكرة العمل كلية، وهو في عملية المراجعة هذه نراه يأخذ مقعده بجوار المتلقي؛ فيرى العمل الأدبي بعين أخرى غير العين التي أبدعت وأنتجت.

أما أهميته بالنسبة للمتلقي فتبرز في معايشته للعمل الأدبي معايشة تكاد تكون كاملة من خلال التعرف على مواطن الجمال وانعكاسها على صفحة روحه ونفسه، أو مواطن القبح واستثقال روحه ونفسه لها، مما يجعل المتلقي كأنه مشارك للمبدع في إبداعه من حيث إحساسه بطرافة الفكرة، وجمال اللفظ جرساً ومعني، وجمال الصورة تركيباً وبناءً، وجمال الأسلوب تأليفاً وتكويناً، وصدق العاطفة والشعور، أو إحساسه بتقصير المبدع في إتمام مواطن الجمال هذه أو بعضها.

منهج التذوق بين الشكل والمضمون:

ولا يقع التذوق على شكل العمل الأدبي فقط ؛ فكثيراً ما يقال: إن العمل الأدبي يتألف من شكل ومضمون مما قد يوحى بأن من الممكن فصل أحدهما عن الآخر، بيد أن شكل العمل الأدبي في الواقع لا يمكن أن ينفصل عن مضمونه وإن اضطررنا في حديثنا النظري إلى الكلام عن كل منهما وكأنه مستقل عن صاحبه. ويترتب على هذا أننا حين نتذوق العمل الأدبي فإنما نتذوقه كله لا شكله فحسب، بيد أن بعض الدارسين يرون أن التذوق أو النقد التذوقي ينبغي أن ينصب فقط على شكل العمل الأدبي دون النظر إلى مضمونه ([15])، وهو رأي لا يمكن التسليم به؛ لأن العمل الأدبي أشبه بالورقة الواحدة التي يمثل الشكل والمضمون وجهيها اللذين لا يمكن الفصل بينهما، وتذوق النص لا يقتصر واقعياً على الجانب الفني الذي يتمثل في الموسيقى أو التصوير أو السرد أو الحوار أو العقدة، أو غيرها من عناصر الشكل؛ لأن هذا الجانب الفني لا وجود له في الحقيقة بعيداً عن مضمون النص، إذ كيف توجد عقدة القصة أو الرواية مثلاً دون أن تكون هناك أحداث تمثل مضاميناً يرتبها الأديب على نحوٍ متصاعد، وكيف يمكن أن تنفصل الموسيقى في القصيدة عن الألفاظ التي ينسقها وينظمها الشاعر بطريقة معينة لتشير إلى مضامين وتدل على أفكار وتعبر عن مشاعر.([16])

إن منهج التذوق أوسع من مجرد التشكيل اللغوي أو البناء الفني، ومقاييسه لا تنحصر في الجانب الشكلي وحده، بل تشمل العاطفة والخيال والفكرة والصورة الأدبية([17])؛ فالعمل الأدبي كيان واحد وكتلة واحدة، ورغم ما يتطلبه التفصيل أحياناً أثناء المناقشات النظرية من الحديث عن شكله ومضمونه حديثاً يُفهم منه إمكان فصل أحدهما عن الآخر؛ إلا أن التذوق الأدبي يشمل الجانبين معاً ويمتد إلى كل عنصر من عناصر العمل الأدبي لغةً وموسيقى وبناءً فنياً وأفكاراً وعواطف  وخيالات وقيماً اجتماعية أو سياسية أو دينية أو غيرها، وهذا ما يؤكده جيروم ستولنتز بقوله:” لا بد للناقد لكي يبين أن العمل جيد من أن يوضح ما الذي يُسهم في قيمته من بين عناصره، وهو قد يتحدث في هذا الصدد عن جماله أو وضوح بنائه الشكلي أو عن الانفعال الذي يثيره أو دقة الحقيقة التي يعبر عنها ، ولا بد له أن يبحث في عناصر العمل فرادى، وكذلك في علاقتها بعضها ببعض.”([18])، ويذهب إروين إدمان إلى أبعد من ذلك حين يرى أن الشعر بل الأدب كله هو حلم أو خيال اندمجت فيه الصور والتأملات والأفكار في وحدةٍ واحدة، وأن الشعر ليس موسيقى فحسب ، بل كلمات ذات معانٍ لها قصد منطقي ومضمون نفسي وظلال إيحائية، وهذه الكلمات هي وسيلة الشاعر التي يعبر من خلالها عما استثار فكره وحرك وجدانه ، بل إنه ليهاجم من يزعمون وجود خصومة بين الفلسفة والشعر ، مؤكداً أن الحيوية والحرارة تدبان في الأفكار إذا نُظِمَتْ شعراً.([19])

إن المضمون في العمل الأدبي يمثل آراء الأديب في قضايا الحياة الدينية والفلسفية والسياسية والاجتماعية والأخلاقية وغيرها من شؤون الحياة، كما يعطي صورة واضحة المعالم لأفكاره وشخصيته وما يؤمن به وما يرفضه، وهذا المضمون لا يُعرض في العمل الأدبي عرضاً جافاً كما يُعرض في الكتب العلمية والدراسات التحليلية، ولكنه يعرض في صورة حركية حية تستولي على النفوس استيلاءً فتوقظ الأحاسيس الغافية وتؤجج الخيال المكبول وتبعث في النفس نشوةً وسحراً.([20])

إننا عندما نقرأ (ملحمة جلجامش) أو(الإلياذة) أو قصائد الشعر الجاهلي أو(ألف ليلة وليلة) فإننا نطّلع من خلالها على العالم الفكري والاعتقادي والاجتماعي والسياسي عند البابليين والإغريق وعرب الجاهلية ومسلمي العصور المتأخرة، ونتذوق طوايا عقولهم ووجداناتهم وقيمهم تذوقاً يجلو لنا ما خفي منهم عنا، ويضمَّ إلى المعرفة المتعة، وإلى الحقيقة الجمال؛ فمسرحية (أوديب ملكاً)- على سبيل المثال- لخصت رأي سوفوكليس في القدر، وأنه واقعٌ بصاحبه لا محالة حتى لو اطّلع عليه واحترس منه غاية الاحتراس، ومعلقة زهير بن أبى سُلْمَى صورت موقفه من الحرب التي مزقت قبيلتي عبس وذبيان، وأوضحت ورغبته في إطفاء نارها التي كادت أن تأتى على الأخضر واليابس، كما تعرض رسالة (حي بن يقظان) لابن طُّفَيْل رأيه في إمكان استقلال العقل البشرى بمعرفة وجود الله وعظمته وقدرته المطلقة واليوم الآخر بما فيه من ثواب وعقاب، فضلاً عن مقدرة الإنسان بواسطة العقل على مواجهة مشاكل الحياة والتغلب على الصعوبات التي تظهر كل يوم، وبالمثل تتضمن (رسالة التوابع والزوابع) لابن شُهَيْد أفكاره حول عدد من الموضوعات الأدبية والنقدية التي كانت تشغل رجال العلم والأدب في عصره.([21])

وقس على هذا جميع الموضوعات التي حفل بها الأدب بفنونه المختلفة قديماً وحديثاً مما يستهدفه منهج التذوق ويتفاعل معه، تماماً كما يتفاعل مع الحرف والكلمة والعبارة.

أما الشكل فهو يتمثل في الألفاظ والتراكيب والصور والإيحاءات والرموز والموسيقى التي ينثرها الأديب في نصه، ثم في روحه التي يبثها فيه فتغلف العمل الأدبي بغلاف إنساني يستكشف القارئ من خلاله شخصية الأديب وتجربته الشعورية، وهنا يتمايز الأديب بحساسية لغوية لا تتوافر لغيره؛ فمحصوله المعجمي أوسع ومقدرته على التمييز بين الصيغ المختلفة للّفظ الواحد وبين التراكيب بعضها وبعض أكبر، ويسهل عليه- تبعاً لذلك- التقاط الكلمات المؤدية للمعنى المطلوب، وبناء التراكيب الكفيلة بالتعبير عن المراد، واستخراج ما في اللغة من جَرْسٍ موسيقىّ يعضد المعنى المقصود وينقل ما يحيط به داخل نفسه من شحنات وجدانية، ويوصل إلى أكثر الأشكال الفنية ملاءمة لعمله.

فهذا ما يقع عليه منهج التذوق.. العمل الأدبي كله شكله ومضمونه، ثم يختلف بعد ذلك تركيز الناقد على جانب من الجوانب تبعاً لقيمه العليا ومنهجه المتبع؛ فإذا كانت قيمه العليا مرتكزة إلى القيم الفنيّة كان احتفاله بالشكل أكبر، وإذا كانت قيمه العليا مرتكزة إلى القيم الأخلاقية كان اهتمامه بالمضمون أكثر، ثم تظل بعد ذلك جوانب في التذوق تستعصي على التعليل والشرح؛ لقصور اللغات الإنسانية عن الإبانة الكاملة بما يعتمل في صفحة الروح من مشاعر وأحاسيس يحسها الإنسان ويعجزه التعبير عنها كما قال الموصلي:” إن من الأشياء أشياء تحيط بها المعرفة ولا تؤديها الصفة.”([22]) ، وكما قال النفري:” كلما اتسعت الفكرة ضاقت العبارة.”([23]) ولهذا تسرب منهج التذوق إلى كل المناهج النقدية القديمة والحديثة وتغلغل في إجراءاتها التطبيقية، أو بمعنى آخر استعان بالمناهج الأخرى في قراءة العمل الأدبي وسبر أغواره، واستعانت به المناهج الأخرى لتعويض النقص الإجرائي في قراءتها للعمل الأدبي، من حيث كونه لازماً من لوازم المناهج النقدية لا تتم وظيفة النقد بدونه؛ فليس هناك منهج نقدي استطاع وحده أن يُمكِّنَ القارئ من فهم العمل الأدبي فهماً كلياً وتفصيلياً مثل منهج التذوق حيث قبلت إجراءاته إجراءات المناهج الأخرى النفسية والتاريخية والاجتماعية والفنية واللغوية وتفاعلت معها \.

إجراءات منهج التذوق:

جعل الشيخ محمود شاكر هذا المنهج جذراً للمناهج وبطانة ثابتة لها لا يصح الولوج إلى مطلق المنهج دون المرور عليه؛ حتى أنه أسماه: (ما قبل المنهج) وَشَطَرَهُ شطرين:

شطر في تناول المادة، وشطر في معالجة التطبيق، وليس بمستعصٍ على الفهم أن (التناول والمعالجة) هما جناحا التذوق الذي لا ينهض بدونهما.

فشطر تناول المادة يتطلب أربعة أمور([24]): جمع المادة من مظانها على وجه الاستيعاب المتيسر، ثم تصنيف المجموع تصنيفاً يوائم بين أجزائه ويلائم بين متنافره، ثم تمحيص مفردات المجموع تمحيصاً دقيقاً، ثم تحليل أجزاء المجموع الذي تم تمحيصه بدقة ومهارة وحذق وحذر. وأما شطر التطبيق فيقتضي ثلاثة أمور: ترتيب المادة بعد نفي زيفها وتمحيص جيدِّها، ثم استيعاب احتمالات الخطأ أو الهوى أو التسرع، ثم تحري الدقة في وضع كل حقيقة من الحقائق في موضع هو حق موضعها؛ “لأن أخفى إساءة في وضع إحدى الحقائق في غير موضعها خليق أن يشوه عمود الصورة تشويهاً بالغ القبح والشناعة”.([25])

وقد عَدَّ الشيخُ محمود شاكر شطرَ التطبيق ميداناً لتصارع العقول والأذواق ينتج عنه استنبات المناهج وتوالد الطرائق والمذاهب؛ فشطر المادة وجمعها قد يحسنه كل أحد على وجه من الوجوه، أما شطر التطبيق فهو درب زلق لا يثبت فيه إلا من اكتملت أدواته وتمت إمكاناته واستطاع أن يُرَادَّ القول مع غيره، ويقارع الحجج بالحجج مع نظيره، فتظهر بذلك المذاهب والمناهج وتتأصل أصولها وقواعدها.([26])

وهذه المناهج المختلفة التي تظهر من خلال آراء الكتاب إنما هي وليدة شطر التطبيق الذي هو جناح من أجنحة التذوق؛ فكأن هذا المنهج أصل للمناهج جميعها، وقاعدة لها ومنطلقاً ينطلق منه النقاد والأدباء في استنبات الاتجاهات والتيارات المتباينة التي تجد لها بعد ذلك حظاً من الاستقرار والتأصيل فتُسمى مناهج أدبية، وهي في أصلها وليدة لشطر من شطري التذوق.

ونحن إذا ربطنا المعنى اللغوي للتذوق بالمعنى الاصطلاحي له؛ وضح لنا أن هذا المنهج لم يكن قاصراً في الحضارة العربية الإسلامية على التراث الأدبي فقط، بل كان ممتداً إلى التراث الفكري بشتى جوانبه والتراث العلمي بجميع علومه، وما دام الأمر متعلقاً بالتجريب والممارسة والدربة فإن كل العلوم الإنسانية والطبيعية يصلح لها هذا المنهج رغم أن صلته بالأدب والفنون كانت أوثق، ونظرة سريعة على مناهج البحث وطرائق التأليف عند العلماء العرب والمسلمين في حقول المعرفة المختلفة تبين لنا محورية هذا المنهج في كتبهم وتآليفهم؛ ولذلك يقول الشيخ محمود شاكر:” تبين لي يومئذ تبيّناً واضحاً أن شطري المنهج- المادة والتطبيق كما وصفتهما لك في أول هذه الفقرة- مكتملتان اكتمالاً مذهلاً يحير العقل منذ أوليّة هذه الأمة العربية المسلمة صاحبة اللسان العربي، ثم يزدادان اتساعاً واكتمالاً وتنوعاً على مر السنين وتعاقب العلماء والكتاب في كل علم وفنّ، وأقول لك غير متردد أن الذي كان عندهم من ذلك لم يكن قط عند أمة سابقة من الأمم حتى اليونان، وأكاد أقول لك غير متردد أيضاً أنهم بلغوا في ذلك مبلغاً لم تدرك ذروته الثقافة الأوروبية الحاضرة اليوم وهي في قمة مجدها وازدهارها وسطوتها على العلم والمعرفة”. ([27])

بل إن هذا المنهج- في رأي شاكر- لا تقوم حضارة من الحضارات إلا به وعليه، يقول:” كلّ حضارة بالغة تفقد دقّة التذوّق تفقد معها أسباب بقائها، والتذوّق ليس قواماً للآداب والفنون وحدها، بل هو أيضاً قوامٌ لكلّ علمٍ وصناعة- على اختلاف بابات ذلك كلّه وتباين أنواعه وضروبه- وكلّ حضارة نامية تريد أن تفرض وجودها وتبلغ تمام تكوينها إذا لم تستقلّ بتذوّق حسّاسٍ حادٍّ نافذٍ تختصّ به وتنفرد لم يكن لإرادتها في فرض وجودها معنىً يُعقل، بل تكاد هذه الإرادة أن تكون ضرباً من التوهّم والأحلام لا خير فيه؛ فحسن التذوّق يعني سلامة العقل والنفس والقلب من الآفات، فهو لب الحضارة وقوامها؛ لأنه أيضاً قوام الإنسان العاقل المدرك التي تقوم به الحضارة”.([28])

وهذه الشروط والإجراءات التي وضعها الشيخ محمود شاكر لمنهج التذوق بشطريه؛ هي ذاتها التي سار عليها أدباء العربية قديماً في تآليفهم وكتبهم ونظراتهم النقدية؛ فكأنه استنبطها من تطبيقاتهم الفعلية لهذا المنهج حين بدأ عصر التدوين والتأليف في النقد والأدب وسائر العلوم العربية والدينية بعد أن كان هذا المنهج يظهر في مظهر تأثري بحت حين كان الرجل يسمع البيت أو الأبيات من الشعر؛ فيعجب بها أو يستهجنها ثم لا يعلل لإعجابه أو لاستهجانه بعلة؛ لأنه لم يكن مدفوعاً- غالباً- من قِبَل بيئته إلى التعليل؛ فالتشابه في الذوق غالبٌ على البيئة ولا حاجة لتعريف المعروف وتوضيح الواضح والإبانة عن الفطرة والسليقة.

وقد استمر هذا الذوق الفطري الخالي غالباً من التعليل حتى جاء عصر التدوين فظهرت تباعاً تلك الشروط والقواعد والأصول التي استنبطها الشيخ محمود شاكر في تطبيقات النقاد والأدباء العرب، وبدأ الذوق الفطري في كتاباتهم يتجه إلى التعليل والتوجيه شيئاً فشيئاً مع اتساع مجالات النقد والبلاغة واحتدام الخصومات بين الأدباء في القضايا الأدبية الكبرى مثل: قضية الانتحال، والسرقات، والموازنات، واللفظ والمعنى، وعمود الشعر، والبديع، والنظم.. وغيرها من قضايا الأدب والنقد العربيين التي كانت ميداناً واسعاً لتلاقح مذاهب الأدباء العرب القائمة في أغلبها على منهج التذوق.

وهذا ما سنعرفه إن شاء الله في المقال القادم حين نتحدث عن أطوار منهج التذوق في الكتابات الأدبية العربية إبان عصر التدوين الأول ثم عودته إلى الواجهة في بدايات العصر الحديث.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] ـ النقد الأدبي أصوله ومناهجه ـ سيد قطب ـ دار الشروق ـ القاهرة 2003م ـ ط8 ـ ص 11 .

[2] ـ النقد الأدبي ـ سيد قطب ـ ص 12 ـ 14 .

[3] ـ النقد الأدبي ـ سيد قطب ـ مرجع سابق ـ ص 40 .

[4] ـ النقد الأدبي ـ سيد قطب ـ ص45 .

[5] ـ النقد الأدبي ـ سيد قطب ـ مرجع سابق ـ ص192 ـ 131 .

[6]ـ النقد الأدبي ـ سيد قطب ـمرجع سابق ـ ص 132 ـ 133 .

2ـ القاموس المحيط ـ  للفيروز آبادي  ـ ص797 .

[8]ـ دراسات في علم النفس الأدبي ـ د. حامد عبدالقادر ـ لجنة البيان العربي ـ المطبعة النموذجية ـ 1949م ـ ص145 .

[9] ـ قضايا النقد الأدبي بين القديم و الحديث ـ د.محمد زكي العشماوي ـ دار النهضة المصرية ـ القاهرة1984م ـ ص 63.

[10] ـ النقد الأدبي عند القاضي الجرجاني ـ د.عبده عبد العزيز قلقيلة ـ مكتبة الأنجلو المصرية ـ القاهرة1976م ـ ص 294.

[11]ـ الذوق الأدبي ـ د.عبد القدوس أبو صالح ـ مجلة الأدب الإسلامي ـ ع22ـ1420هـ .

12ـ  مقدمة ابن خلدون ـ تحقيق درويش الجويدي ـ المكتبة العصرية ـ بيروت 2000م ـ ط2 ـ ص 561 .

[13]ـ تاريخ النقد الأدبي والبلاغة حتى ق 4هـ ـ محمد زغلول سلام ـ دار المعارف ـ القاهرة 1964ـ ص13.

[14]ـ الوساطة بين المتنبي وخصومه القاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني ـ المكتبة العصرية  ـ بيروت ـ 1966م ـ ص 15 .

[15]ـ من الوجهة النفسية في دراسة الأدب وتذوقه ـ محمد أحمد خلف الله ـ ص55 ـ69

16ـ  انظر مبحث : التذوق الأدبي بين الشكل والمضمون ـ إبراهيم عوض

[17] ـ أصول النقد الأدبي ـ أحمد الشايب ـ مكتبة النهضة المصرية ـ القاهرة 1973م ـ ط8 ـ ص32 وما بعدها ، ص76 وما بعدها .

[18] ـ انظر : الفنون والإنسان ، مقدمة موجزة لعلم الجمال ـ إروين إدمان ـ ترجمة : مصطفى الحبيب ـ مكتبة مصر ـ ص57 – 58 .

[19] ـ الفنون والإنسان ـ إروين إدمان ـ ص 64 ـ 81 .

[20] ـ التذوق الأدبي بين الشكل والمضمون ـ إبراهيم عوض

[21] ـ التذوق الأدبي بين الشكل والمضمون ـ إبراهيم عوض.

[22]ـ الموازنة بين شعر أبي تمام والبحتري ـ الحسن بن بشر الآمدي ـ ج1ـ ص 388ـ389 .

[23] ـ المواقف والمخاطبات ـ محمد بن عبد الجيار النفري ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت1997م ـ ط1ـ ص53.

[24]ـ أباطيل وأسمار ـ محمود شاكر ـ مطبعة المدني ـ ط2 ـ 1972ـ ج1ـ ص24ـ25.

[25]ـ أباطيل وأسمار ـ محمود شاكر ـ ص24ـ25 .

[26]ـ رسالة في الطريق إلى ثقافتنا ، مقدمة كتاب: المتنبي ـ محمود شاكر ـ مطبعة المدني بجدة، والخانجي بالقاهرة 1987م ـ ص22.

[27]ـ رسالة في الطريق إلى ثقافتنا ـ محمود شاكر ـ ص24 .

[28]ـ قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام ـ محمود شاكر ـ مطبعة المدني ـ جدة 1997م ـ ط1 ـ ص 58

زر الذهاب إلى الأعلى