مفاهيم سياسية حضارية في القرآن (1)
يعد الاهتمام بالمفاهيم ومكنوناتها الفكرية المتعلقة بالأطر المرجعية لأمتنا المسلمة إحدى ظواهر السلامة في السياق الفكري والثقافي؛ لأنها تمثل خط الدفاع الأول في وجه المفاهيم الوافدة التي لا تلائم البيئة والأرضية التي قامت عليها أمتنا المسلمة، ولقد أدرك مفكرونا المعاصرون هذه الحقيقة فتداعوا إلى إنذار الأجيال الناشئة وتحذيرها من الأمراض التي تأتي على الخصوصية الحضارية وأطرها المرجعية من قواعدها، فقرروا من بعد البحث والتعمق المنهجي وانعكاساته الواقعية أن أول ما يصاب من جسد الأمة هويتها الفكرية ومفاهيمها الحضارية التي تحافظ على بنائها وقوامها، وفي هذا السياق يقرر العلامة الشاهد البوشيخي وهو يعاني غصة يظهرها سياقه النصي إشارة: أن الأمة قد ولت وجهها كلية أو كادت شطر المصطلح الوافد[1].
إن التداعي نذارةً وتخويفاً من المفاهيم الوافدة التي لا تصلح في غير بيئتها الحضارية لم يكن في الحقيقة غريباً عن العقلية المسلمة في مراحله الزمنية المتطاولة إلا أنه قد تخبو فاعليته في مراحل السبات الحضاري الذي أصاب الأمة كما هو معروف في المصادر والمراجع التاريخية، والمستقرئ لتاريخ هذه الأمة والمتتبع لمراحلها الفكرية والمنهجية يدرك أن هذا الاهتمام كان فاعلاً في صدرها الأول.
وأولى هذه الإشارات فيه يمكن تلمسها من حادثة صحيفة التوراة التي رآها النبي ﷺ في يد عمر رضي الله عنه فقال له عليه الصلاة والسلام غاضباً: ” أمتهوكون يا ابن الخطاب؟ والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية “[2]، وكان أسلافنا واعين لهذه الضرورة المنهجية بسبب التأسيس والتأصيل النبوي الكريم الذي داخل كل جزء من حياتهم المادية والمعنوية، فتجسد وعيهم جهاداً فكرياً بوجه كل وافد مفاهيمي ضار، ولعل تلك العزمة التي دفعت أبا بكر رضي الله عنه إلى محاربة المرتدين ومانعي الزكاة تعد مثالاً حياً للدفاع عن هوية الأمة الفكرية وإطارها المرجعي، إذ أطلقها صيحة مدوية في أرجاء الجزيرة: والله لأقاتلن من فرَّق بين الصلاة والزكاة، والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله ﷺ لقاتلتهم على منعه[3].
ومثلها أثر دِرة عمر على رأس صبيغ بن عسل لما داخلت عقله سؤالات الفلاسفة ومناطقة اليونان وشبهاتهم[4]، بل نجد حماية مفاهيم الأمة متغلغلة ومتجذرة في مناهج علوم الإسلام في مراحل تدوينها ونشرها بين طلابها في أصقاع الأرض، فهذا الإمام مسلم بن الحجاج يروي لنا في مقدمة صحيحه عن محمد بن سيرين إذ يقول: لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة، قالوا: سموا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم[5].
فهذه الأمثلة وغيرها فيها الدلالة الظاهرة على أن حماية مفاهيم الأمة وإطارها المرجعي كان مستحضراً في الصدر الأول منها، ولكن جاء من بعدهم خلوف أضاعوا المنهج واتبعوا المتشابهات، فأصاب الأمة ما أصابها من أدواء العطالة والبطالة الحضارية، والقابلية للاستدمار الفكري والمنهجي والحضاري بمختلف صوره، وقد بلغ ذروته في واقعنا المعاصر.
من هنا كان التداعي في عصرنا ضرورياً لمواجهة تلك المفاهيم الوافدة التي تحاول التشكيك بالهوية الفكرية الإسلامية وتأسيس هويات فكرية تتغلغل في بيئة الأمة وتشكل عقليتها بما يترتب عليه القبول بكل ما يطرحه الوافد، وعليه فهذه محاولات متواضعة نحاول من خلالها التأكيد على المفاهيم الحضارية الكامنة في المنهجية الإسلامية نقدمها بصياغة قوامها التوصيف والتحليل مؤكدين فيها على الخطاب القرآني؛ لكونه المصدر المؤسس لمفاهيم الأمة، والبيان النبوي؛ لكونه المنهج المبين لمجملات القرآن والمفصل لقواعده، ولا تُعدم الاستعانة في أثناء ذلك بالمراجع التبعية الدائرة مع الخطاب القرآني وبيانه النبوي.
وقد أرتأينا الوقوف على بعض المفاهيم المركزية التي احتضنها القرآن المجيد نصاً أو ظهوراً، صراحة أو إشارة، مراعين في ذلك سياقاتها النصية والموضوعية، وقد يظهر للقارئ والمطلع انتقائية هذه المفاهيم بحكم كونها مفصولة السياق عن سباقها ولحاقها نصاً ومضموناً، بالإضافة إلى أنها لم تتسلسل منطقياً في إطار بحثي منهجي، وهذا بطبيعة الحال مقصود للراقم؛ من أجل الوقوف على القيم الحضارية التي تستبطنها هذه المفاهيم ومدى قدرتها على استيعاب أزمات الأمة المتفاقمة والمتزايدة، ولنا في غيرنا أسوة حسنة وقدوة صالحة، فقد رقم الأستاذ الدكتور السيد عمر خارطة للمفاهيم القرآنية كانت في حقيقتها سائرة في اتجاه الانتقائية في ظاهرها، ولكنها بالمحصلة والمآل رسمت صورة منهاجية رائقة أعطت الناظر أبعاداً فكرية متسلسلة يدرك من خلالها استحضار القيم الكلية التي يستبطنها القرآن المجيد.
وعليه فإن مفاهيمنا لا تخرج عن كونها مرتكزات تأخذ بحجز مكوناتها وفروعها، بحيث تتلازم معها وتدور في أطرها، وهذه هي قيمة القراءات القرآنية لمن استجلى آياتها بحثاً عن مضامينها الكلية والجزئية، واستخراجاً لمكنوناتها العلمية والمعرفية، واستنباطاً لأحكامها وفوائدها في سياقاتها النصية والموضوعية، وبحثاً عن أطر تنزيلية ومناطات تحقيقية؛ لإثبات صلاحية التنزيل القرآني في مدياته الزمانية والمكانية في خصوصية خطابية منفردة لا يشترك معه غيره من الخطابات مهما أوتيت من أبعاد لغوية وبلاغية ومنهجية ومعرفية محكمة.
ولعل الإشارة التي بعثها نبينا عليه الصلاة والسلام في حديث اجتيال الشياطين لفطرة الله التي فطر الناس عليها تدل على هذا المعنى العميق، فقد جاء في صحيح مسلم من حديث عياض بن حمار رضي الله عنه قوله عليه الصلاة والسلام فيما يرويه عن ربه سبحانه: “وأنزلت عليك كتاباً لا يغسله الماء تقرؤه نائماً ويقظان”[6]، قال النووي رحمه الله: “أما قوله تعالى: لا يغسله الماء. فمعناه: محفوظ في الصدور، لا يتطرق إليه الذهاب، بل يبقى على مر الأزمان. وأما قوله تعالى: تقرؤه نائماً ويقظان. فقال العلماء: معناه يكون محفوظاً لك في حالتي النوم واليقظة، وقيل: تقرؤه في يسر وسهولة”[7]، وقريباً منه ما قاله أبو العباس القرطبي: “أي يسرت تلاوته وحفظه، فخف على الألسنة، ووعته القلوب، فلو غسلت المصاحف لما انغسل من الصدور، ولما ذهب من الوجود، ويشهد لذلك قوله تعالى: ﴿إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)، وقوله: (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر﴾ ..”[8].
ونذهب أبعد مما ذهب إليه هذان الإمامان الجليلان لنقرر أن القرآن المجيد وبما استوجبته صفاته المنهجية الكلية، ومقاصده العليا يستدعي إخراجه من دائرة القراءات التجزيئية الداخلية الضيقة إلى دائرة التفعيل الحضاري الخارجي الواسع، وفي كلٍ خير ولا شك، ومرجع ذلك أن هذا الخطاب الإلهي الرباني جعله واضعه سبحانه إطاراً مرجعياً وأساساً منهجياً ومصدراً معرفياً وعلمياً جامعاً يستلزم التنزيل والتفعيل والترتيل لفظاً ومعنى، وكل هذا سينعكس ولا شك على قراءتنا للمفاهيم القرآنية المنتقاة من سياقاتها المختلفة، مستحضرين بعدين أساسيين قصدنا التأسيس المفاهيمي عليهما، وهما البعد المنهجي الذي ضمَّنَّاه مفاهيمنا الحضارية، والبعد الحضاري الذي جعلناه أحد مكونات عنوان بحثنا هذا.
وما يلزم بيانه في هذا السياق أن للقرآن خصائص منهجية كلية تعطي الدلالات الواضحة من باب التعليل على جعل القرآن المجيد خاتمة الكتب ورسالته خاتمة الرسالات، من مثل إطلاقية القرآن، والاستيعاب والتجاوز، والهيمنة والتصديق، والعموم والشمول، وسيظهر جلياً أثناء بحثنا لهذه المفاهيم القيمة العليا التي تتبوؤها هذه الخصائص وما تمثله من أبعاد تظهر خصوصيته بالتلاوة والتعليم والاتباع والتزكية، وهذا أوان شروعنا في مفاهيمنا الحضارية.
(1)
مفهوم التوحيد
يمثل التوحيد الركيزة الأساس التي يستند عليها الخطاب الإلهي، والناظر في نصوصه يدرك أن له مساحة واسعة خُصصت لمباحثه وتقرير أسسه وخصائصه ومقوماته، ولذلك كانت له انعكاساته العلمية والمعرفية على الأمة في إطار ما قدمته من إسهامات في تأصيل الجانب العقدي، ولقد كانت هذه الإسهامات متفاوتة من حيث بناؤها المعرفي، فكثير منها كان انعكاساً لصراع فكري عقائدي دام قروناً طرفاه أشهر مدارس المتكلمين في تاريخ الأمة، وقد أفضى هذا الصراع إلى إشغالها عن تلمس عقيدة التوحيد الصافية في القرآن وبيانه دون أن تظهر عليه آثار تاريخية في الزمان والمكان تصرفه عن مقاصده العليا، ولذلك يرى الباحث ضرورة مراجعة التراث العقائدي وتأصيل قضية التوحيد وفقاً للخطاب القرآني والبيان النبوي من خلال استحضار فهم جيل التلقي في عهد التنزيل.
إن أهمية التوحيد تكمن في كونه محور الرسالة الإسلامية، بل هو محور كل الرسالات السماوية، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾[النحل: آية 36]، وهو كذلك محور حياة الإنسان الحق، فقيمة الإنسان الحقيقية تتبدى عندما يجعل ربه محور حياته ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾[الأنعام: آية 162]، وبذلك تتفق وجهة الإنسان ووجهة الكون الذي يعيش فيه، فالكون كله مطيع لله، خاضع لسلطانه، مسبح بحمده، فإذا تمرد العبد على ربه أصبح نغمة نشازاً في هذا الوجود الهائل المتجه إلى الله وحده بالطاعة والخضوع[9].
تجليات التوحيد المنهجية:
إلا أنه ينبغي إدراك الأهمية المنهجية التي ينطوي عليها التوحيد، وهي تتمثل في هذا الإطار في كونه يشكل إطاراً لفهم الحياة والكون، ويرسي العلاقات الإنسانية والأسس التي ترتكز عليها، وإن أي إخلال بهذا الأصل والمفهوم سيكون له آثار خطيرة في معنى الحياة الإسلامية، ونوعيتها، والغاية منها.
وإذا تم تجاوز الحديث عن مستويات التناول التي تظهر من خلالها عظمة التوحيد وكيفية تفصيل مباحثه ومسائله؛ لكون ذلك في دائرة التخصص العقائدي، فإن من الضروري التأكيد على الجوانب المعرفية في آثار التوحيد، فالتوحيد يعد من أهم المحركات الموضوعية المؤثرة في اتجاه وإفراز الدواعي والقوى المحركة للمعرفة وتحديد مضمونها وتفسير الغامض والمبهم منها، فهو بذلك مصدر المعرفة بحال الكون الذي يهدي الخلائق والإنسان في مسالكه ودروبه، وله وحده حق التوجيه والطاعة في أمر الكون، وفي غايته وصلاح أمره، وعلى طريق الإيمان بالخالق والإحسان في الأداء يكون الصلاح، وتكون العزة وحسن المآل في الدارين[10].
وتظهر تجليات التوحيد المعرفية في:
أولاً: في كونه يمثل حجر الزاوية في تكوين وبناء الرؤية الكلية عن الكون والحياة والإنسان، وتوضيحه حدود وأبعاد الدور الإنساني في الكون والحياة، وحصره مصادر المعرفة بالوحي والوجود خلافاً للفلسفات البشرية المضطربة والمتخبطة[11].
وثانياً: في اعتباره مدخلاً تفسيرياً لآلاف الظواهر النفسية، والسلوكية، والنظمية، والمعرفية في مختلف المستويات، والتفسير الذي يقدمه القرآن يؤدي إلى الفهم العميق لتلك الظواهر، ويمكن من صياغة الأسئلة المعرفية، وتعليم الإنسان طرق الإجابة عنها، كما يمكنه من وضع المقدمات بأدق ما يستطيعه العقل البشري، وتجنيبه الخطأ، فتصبح عملية الوصول إلى النتيجة منضبطة تستوعب التنبؤ المنهجي وتتجاوزه[12].
أما عن أثر التوحيد في الظاهرة المجتمعية ومجالاتها المعرفية والحركية، فيكمن في دوره الفاعل في تأسيس الرؤية التوحيدية والرؤية الكلية التي تنطلق من القاعدة القرآنية التي تتوجه إلى الناس كافة سواء في ذلك المجال الداخلي فيكون انعكاس التوحيد عليه في إطار الالتزام بالمقاصد والقيم الإسلامية العليا الحاكمة، وكذلك المجال الخارجي فيكون المجال الحيوي للرؤية الإسلامية التوحيدية في هذا الإطار هو الدائرة العالمية؛ إذ أن الإسلام لا يستثني أحداً من بؤرة ودائرة اهتمامه في إطار قواعد من التعارف والتراحم الحضاري[13].
يشكل التوحيد المحور والمنطلق للمفاعل الاستقطابي للأمة الخاتمة، وهو محور لكل الأبعاد القرآنية والبيانية الأخرى سواء في هذا الجانب العبادي والمعاملاتي بصورتيه علاقة الخالق بالمخلوق، وعلاقة المخلوق بمثله، وفي هذا الإطار يمثل التوحيد والعقيدة مصدر تماسك الكيان الذاتي للفرد، ثم هو مصدر تماسك الكيان الذاتي للجماعة، وعليه فإنه يعتبر متجاوزاً للكيان الطبيعي الخَلْقي إلى الكيان الكوني الأخلاقي، وهو مصدر وحدة الجماعة ودافع وحافز للتفاعل والحيوية ومفاعل للحركة في كيان بشري كوني، وأما على المستوى الخارجي فإن الأمة بركيزة التوحيد تعتبر محور الاستقطاب العالمي بما أوتيت من عناصر الجذب والاستيعاب[14].
يقول تعالى: ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ . إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ . وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ﴾[البقرة: آية 163-165].
وهنا في سياق هذه الآيات[15] تتأسس أصول العلاقة بين الله والإنسان والكون، وعلى أساس المنظومة التوحيدية تنتظم هذه العلاقة، وهي قائمة على مضامين أساسية يمكن إجمالها في سباعية علاقية تتألف من: الآخرية المطلقة لله سبحانه والواحدية المطلقة له، والتسوية بين كافة المخلوقات في النسبية، والعهد الإلهي المؤسس كنواة للعلاقات الكونية، وما يترتب على ذلك العهد ومواثيقه من تكليف إلهي للإنسان في سائر علاقات البشرية والكونية، وشبكة هذه العلاقات الكونية، وكيف تنتظم الرؤية التوحيدية هذه الشبكة من علاقات الإنسان بالكون (علاقة إحسان أو علاقة عقوق)، ودفع الرؤية التوحيدية باتجاه التواصي والتواصل بين الإنسان ومحيطه الكوني والبشري من خلال منظومة النصيحة كأساس للتفاعل الإنساني الأمر الذي تلتئم مصباته في خاصية شمول الناظم التوحيدي لكل من وما في الزمان والمكان، والطابع التعاقدي للعلاقة بين الخالق والمخلوقات، وحاكمية الصلة بين الإنسان وربه، وما عداها من صلات وتأثرها بها[16].
إن أبرز ما دلت عليه الآيات من مظاهر الاختلال العقدي هو الشرك في عبادة الله تعالى، ويظهر أن السياق مفتقر إلى معرفة مفهوم الشرك بموجب ما دلت عليه النصوص القرآنية المتقدمة، وقد اختلفت تعابير المتخصصين في بيان معنى الشرك، وإن كانت متوافقة في غالب قيودها وصفاتها، ويمكن رسمه جمعاً ومنعاً بأن يُعبد المخلوق كما يُعبد الله، أو يُعظم كما يُعظم الله، أو يُصرف له نوع من خصائص الربوبية والألوهية، وهذا معناه أن الشرك حقيقته في اتخاذ الند مع الله سواء كان هذا الند في الربوبية أو الألوهية[17].
ولا يخفى للمتتبع والمستقرئ للخطابين الإلهي والنبوي أن الشرك أكبر آفة أصابت البشرية منذ نشأتها، وأخطر انحراف عن الحق الذي كان عليه آدم عليه السلام ومن بعده من ذريته برهة من الزمن وهو توحيد الله عز وجل وأفراده بالعبادة، أما الشرك فإنه في حقيقته أمر طارئ محدث، تلك هي الحقيقة القاطعة التي أثبتها النقل الصحيح، وأيدتها العقول السليمة[18]، قال ابن تيمية مقرراً هذه الحقيقة: ” ولم يكن الشرك أصلاً في الآدميين، بل كان آدم ومن كان على دينه من بنيه على التوحيد، لاتباعهم النبوة، قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا﴾، قال ابن عباس: كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام، فبتركهم اتباع شريعة الأنبياء وقعوا في الشرك … فإن آدم أمرهم بما أمره الله به “[19].
لقد دلت الآيات السالفة في توصيفها لبني إسرائيل على وقوعهم في الشرك، ويظهر من سياقها أن الشرك قد وقع فيهم بعد نجاتهم من فرعون وقومه، وخروجهم من مصر، وكانت له مظاهر متعددة، أعظمها انحرافاً: أنهم أشربوا في قلوبهم عبادة العجل واتخاذهم له إلهاً يعبد من دون الله سبحانه، وليس من مقصود الباحث الخوض في مفاصل الشرك في بني إسرائيل، فإن الآيات قد أغنت عن التعليق عليها، خاصة وأنه كان لها نصيبها من البحث والنظر فيما مضى، وإنما مراده الوقوف على وجه الارتباط بين الانحراف العقدي عند بني إسرائيل ومثيله في الأمة الخاتمة، والذي دفع الباحث إلى معرفة هذا الوجه سياق الآيات الممتد حول بني إسرائيل.
وقد نبه الباحث إلى أن من مقاصد هذا السرد تهيئة الأمة لتكون وارثة الاستخلاف الحضاري بعد بني إسرائيل، والحيلولة دون الوقوع في مهاوي الانحراف العقدي الذي أصابهم، إلا أن الناظر والمتتبع للشواهد والوقائع التاريخية والمعاصرة، وما دلت عليه نصوص البيان النبوي يدرك أن الأمة الخاتمة كان لها نصيبها من الانحراف العقدي، وليس أدل على ذلك مما قاله نبي الهدى والرحمة عليه الصلاة والسلام في إطار تخويفه من الشرك، وإخباره بأن الأمة سيداخلها شيء منه، فقد أخرج البخاري في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” لتتبعن سنن من كان قبلكم، شبراً بشبر وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم “. قلنا: يا رسول الله: اليهود والنصارى؟ قال: “ فمن “[20]، وأخرج أيضاً من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ” لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس على ذي الخلصة “، قال أبو هريرة: وذو الخلصة طاغية دوس التي كانوا يعبدونها في الجاهلية[21].. في نصوص أخر كثيرة تدل على وقوع الأمة الخاتمة في الخلل العقدي الخطير.
وقد اتخذ هذا الانحراف مظاهر انحرافية متعددة من أمثال الاستغاثة بغير الله، وتعظيم القبور على غير وجهها المشروع، والتقرب إليها بشتى صور العبادة التي لا يجوز صرفها إلا لله، ولا شك أن لهذا أثره البالغ في انحراف التصور في إدراك العلاقة بين الإنسان وخالقه، وبين الإنسان والكون المخلوق، فإنه يخرج به من أساس التصور الذي قصده الخالق سبحانه في خطابه، إلى تصور مشوه منحرف يجعل الإنسان عبداً لهواه، ورغباته، وانحرافاته العقدية، وهذا الذي قصده النبي صلى الله عليه وسلم في بعض توصيفه المتقدم.
[1] د.الشاهد البوشيخي، نظرات في المصطلح والمنهج، ص9.
[2] ابن أبي عاصم، كتاب السنة لابن أبي عاصم، ومعه ظلال الجنة في تخريج السنة، الألباني، ص27، حديث رقم 50.
[3] محمد بن إسماعيل البخاري، صحيح البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بسنن رسول الله ﷺ، ح7284 و7285، بيروت، الرسالة العالمية، ط1، 1432ه/2011م، ج5ص201.
[4] أخرج الدارمي بسنده عن سليمان بن يسار: أن رجلاً يقال له صبيغ، قدم المدينة فجعل يسأل عن متشابه القرآن، فأرسل إليه عمر وقد أعد له عراجين النخل، فقال له: من أنت؟ قال: أنا عبدالله صبيغ، فأخذ عمر عرجوناً من تلك العراجين فضربه، وقال: أنا عبدالله عمر، فجعل له ضرباً حتى دمي رأسه، فقال: يا أمير المؤمنين حسبك، قد ذهب الذي كنت أجد في رأسي. انظر: كتاب المسند الجامع، الإمام أبو محمد الدارمي، بيروت، دار البشائر الإسلامية، ط1، 1434ه/2013م، رقم 154، ص131.
[5] أخرجه مسلم في مقدمة صحيحه، باب أن الإسناد من الدين وأن الرواية لا تكون إلا عن الثقاة ..، الرياض، بيت الأفكار الدولية، 1419ه/1998م، ص24.
[6] صحيح مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار، مرجع سابق، ح2865، ص1148.
[7] الإمام النووي، شرح النووي على مسلم، القاهرة، المطبعة المصرية بالأزهر، ط1، 1349ه/1930م، ج17ص198.
[8] أبو العباس أحمد بن عمر القرطبي، كتاب المفهم لما أشكل من تلخيص صحيح مسلم، المغرب، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، ط1، 1426ه/2005م، ج4ص1633.
[9] د. عمر سليمان الأشقر، التوحيد محور الحياة، عمان، دار النفائس، ط2، 1411هـ/1991م، ص5.
[10] د. عبد الحميد أبو سليمان، أزمة الإرادة والوجدان المسلم: البعد الغائب في مشروع إصلاح الأمة، دمشق، دار الفكر، الإعادة الثالثة، 1428هـ/2007م، ص68-70، د. طه جابر العلواني، التوحيد والتزكية والعمران: محاولات في الكشف عن القيم والمقاصد القرآنية الحاكمة، بيروت، دار الهادي، ط1، 1424هـ/2003م، ص65.
[11] المرجع السابق، ص65-66.
[12] د. طه جابر العلواني، معالم في المنهج القرآني، القاهرة، دار السلام، ط1، 1431ه/2010م، ص83.
[13] د. سيف الدين عبد الفتاح إسماعيل، مدخل القيم: إطار مرجعي لدراسة العلاقات الدولية في الإسلام، مرجع سابق، ص119، د. طه جابر العلواني، التوحيد والتزكية والعمران: محاولات في الكشف عن القيم والمقاصد القرآنية الحاكمة، مرجع سابق، ص85.
[14] د. منى عبد المنعم أبو الفضل، الأمة القطب نحو تأصيل منهاجي لمفهوم الأمة في الإسلام، القاهرة، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط1، 1417ه/1996م، ص32-33.
[15] لا يخفى أن حديث سورة البقرة عن خلق آدم وما ترتب عليه من مفاصل حوارية، ثم التفصيل في قصة بني إسرائيل وعلاقتهم بالله وأنبيائه، والحديث عن مواقفهم في جانبيها الإيجابي والسلبي، إنما يمثل انعكاساً للمنظومة التوحيدية، وأيضاً ما تبقى من سورة البقرة إلى خاتمتها تصب في المنظومة نفسها، ومن المعلوم أن القرآن في مقاصده العليا إنما يؤكد على قضية التوحيد إجمالاً وتفصيلاً، ولا يقتصر على الجانب التنظيري، وإنما يتبع ذلك الحديث عن القصص والأخبار والأنباء في تحديد الموقف منه، وإنما اقتصر الباحث على هذه الآيات دون غيرها مثالاً وأنموذجاً للقضية نفسها، بالإضافة إلى كونها مصرحة للعلاقة بين الله والإنسان والكون، وما يترتب عليها من آثار في المجال التكاملي بين الغيب والشهادة من جهة، و بين الدنيا والآخرة من جهة أخرى.
[16] د. السيد عمر، الأنا والآخر من منظور قرآني، دمشق، دار الفكر، ط1، 1429هـ/2008م، ص44-45.
[17] أبو بكر محمد زكريا، الشرك في القديم والحديث، الرياض، مكتبة الرشد، ط2، 1426هـ/2005م، ج1ص119-121.
[18] سعيد محمد باباسيلا، أسباب هلاك الأمم السالفة كما وردت في القرآن الكريم، ليدز، سلسلة إصدارات الحكمة، رقم 3، ط1، 1420هـ/2000م، ص95.
[19] شيخ الإسلام ابن تيمية، مجموع الفتاوى، المدينة النبوية، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، ط2، 1416ه/1995م، ج20ص106.
[20] صحيح البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: ” لتتبعن سنن من كان قبلكم “، رقم 6889.
[21] المرجع السابق، كتاب الفتن، باب تغيير الزمان حتى تعبد الأوثان، رقم 6699.