اختطاف الإسلامملفـات

اختطاف المدارس الفقهية القديمة مدخل إلى عزل التراث وإقصائه

خلاصة

      البحث من حيث مساره ومكوناته قُسم على ستة مباحث دارت حول قضايا وموضوعات تخص اختطاف المذاهب الفقهية القديمة ومواجهة هذا الاختطاف، فكان المبحث الأول مخصصاً لبحث نشأة الفقه وبناه المذهبية، والمبحث الثاني لبحث بنية العلاقات المذهبية في الحقب التاريخية المختلفة، والمبحث الثالث خصص لبحث بواعث الاختطاف، والمبحث الرابع كان عن القوى الفاعلة في الاختطاف ووسائلها وأهدافها، والمبحث الخامس وقف عند نموذج من النماذج الناجحة في استثمار البنية المذهبية لبث الروح الإسلامية والحفاظ على مكتسبات الأمة، وهذا النموذج هو جمعية العلماء المسلمين بالجزائر، والمبحث الأخير جُعل لبحث مواجهة الاختطاف من حيث الرؤى والوسائل في دائرتي الإمكان والتحقق، كما شمل البحث في إطاره العام مقدمة دارت حول الأهمية التي تتبوؤها المنظومة الإسلامية بوجه عام والمنظومة الفقهية بوجه خاص، وخاتمة تضمنت أبرز ما توصل إليه الباحث من ملامح وأفكار حول موضوع البحث.

مقدمة:

      تمتاز المنظومة الإسلامية في بعدها العلمي والمعرفي والمنهجي بثراء لا نظير له فيما سواها من المنظومات، والناظر في بينات هذا التقرير يدرك بادي الرأي فضلاً عن التعمق فيه أن هذه المنظومة قوامها خطاب إلهي وبيان نبوي وأنموذج تنزيلي مثلته السيرة النبوية لتكون وحدة قياسية حاكمة منهجياً في تجليات الوحي على الواقع البشري في امتداداته الزمنية، وواقع الأمر أن هناك علاقة تساندية يلزم الباحثَ في أمثال هذه السياقات المعرفية فهمُها عند التعرض لهذه التجليات في الواقع الإنساني؛ وهذا من شروط الإحسان في القراءة العمرانية بشقيها المعنوي والمادي، وهذا التساند يتمثل في تلكم العلاقة بين خطاب الوحي والواقع، والعقل هو آلة وأداة التنزيل في هذا الواقع.

      ولئن كانت هذه العلاقة بين المطلق الذي يجسده الوحي والواقع الموصوف بالنسبية من حيث القيمة والمكانة والقداسة، فإن شأن المطلق من حيث وضعه ما قصده واضعه إلا ليكون في موضع المستوعب لهذا النسبي، وهذا لا يكون إلا بجعله في إطار التنزيل والتفعيل؛ ذلك أن الوحي جاء ليطبق في واقع الناس فيكون حاكماً لهم في حركة حياتهم، قال تعالى:  ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾[الجاثية: آية 18]، والواقع لكي يضمن بعده عن العبثية يلزمه الاسترشاد بالوحي، وعند ذلك تكتمل مقومات هذه العلاقة، فخطاب الوحي يسري باتجاه واقع مفتقر لمقتضيات الترشيد وبواعث السمو، فيتنزل عليه في إطار جهد واجتهاد بشري، يبعث في هذا الواقع الحركة والحياة، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾[الأنفال: آية 24]، وعندها يتقرر أنه لا خطاب ولا نص في فراغ، ولا واقع مقطوع عن بواعث الرشد الذي لا يتحقق إلا بالوحي[1].   

      ولقد كان من تجليات هذه العلاقة في سياق الإبداع الفكري تلكم الثروة الفقهية التي تعد بحق دليلاً وبرهاناً على مدى النضج العقلي الذي تمتع به المسلمون في عصور التلقي والاجتهاد وما تلاها، فكان إبداعاً منقطع النظير دفع بعض المفكرين المعاصرين إلى القول: “إذا جاز لنا أن نسمي الحضارة الإسلامية بإحدى منتجاتها فإنه سيكون علينا أن نقول عنها إنها (حضارة فقه) .. والواقع أنه سواء نظرنا إلى المنتجات الفكرية للحضارة الإسلامية من ناحية الكم أو نظرنا إليها من ناحية الكيف، فإننا سنجد الفقه يحتل الدرجة الأولى بدون منازع”[2].

المبحث الأول: في نشأة الفقه وبُناه المذهبية:

      وإذا تأملنا في مرجع تبوئ الفقه هذه المنزلة، فإنه يمكننا إدراكه في الآتي[3]:

أن الفقه يعد نطاقاً مركزياً في تراث الأمة؛ بوصفه شاغلاً معرفياً تجاوز حدود الدرس النظري المجرد إلى الإسهام بمؤازرة أنساق معرفية أخرى في تنظيم الحياة الاجتماعية على مقتضى المقاصد الإلهية كما فهمها المسلمون من الوحي.

البعد الناظم الذي يجسده الفقه؛ لكونه أحد العوامل الضابطة لحدود دار الإسلام، فقد كان الفقه الإسلامي ناظماً للحياة فيها حاكماً للناس فيما يعرض لهم من شؤون اجتماعهم.

أن البعد الإحيائي الذي شهدته الأمة في تاريخها حتى يومنا هذا كانت بؤرته الفقه الإسلامي، ولا يخفى في هذا السياق أن المنظومة الفقهية بارتباطها بأصولها المنهجية أسهمت في استيعاب النوازل والمستجدات التي تطرأ وتعرض في البنى المجتمعية المختلفة، ليكون الفقه أحد الوجوه التي انعكست عليها منهجية الاستيعاب والتجاوز التي اختص بها خطاب الوحي قرآناً وسنة.

      لقد شهد الفقه في سياقه التاريخي تحولات نوعية جعلته يتأطر بما تعارف عليه الناس فيما بعد بالمذاهب الفقهية، وليس من مقصودنا منهجياً أن نقف وقفات مطولة مع نشأة وتاريخ هذه المذاهب، ولكن يكفينا أن نشير إشارة مجملة نقف من خلالها على مقومات هذه المذاهب وعوامل نشأتها، لتكون تمهيداً وتوطئة لما نحن بصدده من تعرض هذه المذاهب لمحاولات حرفها عن مسارها وجعلها دائرة في مشروع اختطاف الإسلام.

      والمذهب الفقهي بالرغم من تداول مفردته في عهد التنزيل والتلقي وما تلاه، إلا أنه في دائرته الاصطلاحية العرفية لم ينضج إلا في مرحلة متأخرة؛ ومرجع ذلك التراكمُ المعرفي الذي شهده علم الفقه بالتزامن مع تطور آلته وأداته المنهجية التي مثلها علم أصول الفقه، وتبين هذا الأمر يأخذ بالاعتبار حالة التطور المفاهيمي لمفردة المذهب نفسها، فإن اجتهاد الفقيه في حد ذاته لا يوصله إلى درجة التأسيس المذهبي على المستوى الشخصي حتى تكون عنده المقدرة والمُكنة في بعدها الأصولي وهو ما توافر عليه الفقهاء المتقدمون ومن لحق بهم زمناً ونهجاً.

      ولذلك يرى البعض أن كلمة المذهب مقترنة بمعانٍ تعكس التطور العرفي لمصطلح المذهب، وتعكس كذلك حالة التشكل التي آلت إليها المذاهب الفقهية، ومن هذه المعاني التي تثيرها مفردة المذهب[4]:

المبدأ الذي يعرف الحدود المفاهيمية الفقهية لمجموعة من القضايا والمسائل.

الرأي الفردي للفقيه؛ بوصفه اجتهادَه الشخصي، حينما يكون مرجعية رفيعة في مدرسته المذهبية.

مجموعة من الفقهاء الذي يتبعون مذهباً فقهياً وتشريعياً جماعياً بوصفهم جزءاً منه يُنسب لفقيه مؤسِس.     

      لقد انطوت المنظومة الفقهية في عهودها الأولى على مذاهب متعددة ليس في بعدها الجماعي على نحو المعاني المرقومة أعلاه، وإنما بوصفها آراء اجتهادية فردية، ولهذا انتشرت مذاهب شخصية كثيرة بأصولها وقواعدها، ونسبة هذه الآراء إلى مفردة المذهب جارية في إطار التسامح؛ لكون المذهب أقرب إلى المدرسة الفقهية الجامعة منه إلى الرأي الشخصي، وإنما أطلق هذا التوصيف فيما يظهر في القرن الرابع الهجري بأثر رجعي من حيث زمنه، بدليل أن فقهاء المذاهب المشهورة من أمثال مالك والشافعي وغيرهما من الأئمة ما كانوا يدعون أحداً إلى التمسك بمنهجهم في الاجتهاد، ولا كان عندهم منهاج محدد في اجتهادهم، إنما كانوا يتبعون في ذلك منهج من سبقهم من علماء التابعين، وهؤلاء عن الصحابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم[5].  

      وقد أسهمت جملة من العوامل في الدفع باتجاه التأسيس المذهبي من أهمها طبيعة البنية الإسلامية التي امتازت بالفاعلية والحركية في مستوياتها المتعددة، وكان للانتشار الجغرافي الذي أحدثه الصحابة الكرام رضي الله عنهم في أرجاء الجزيرة العربية وخارجها دوره الفاعل، وإنما كان مقصد انتشارهم بعد إدخال الناس في السلم، تعليمهم الشريعة وتعميق النظر فيها وتأصيله وَفقاً لمتطلبات البيئة الجغرافية في بعدها المتغير إلى جانب القواعد والأصول الثابتة التي تتجاوز الزمان والمكان، وهو الذي انعكس كذلك على عهود التابعين وتابعيهم، والوسيلة الفاعلة التي أحدثت هذه النقلة هي الحلقات العلمية التي شهدتها المساجد الجامعة في الأمصار المختلفة، وهذا فضلاً عن المؤثرات والمتغيرات السياسية والفكرية التي كان لها حضورها في التأثير على مسارات المدارس الفقهية ومذاهبها.

      وليس أدل على ذلك أن الصبغة المنهجية لمؤسسي المذاهب قد شهدت تحولات مختلفة، ويظهر هذا بشكل سافر في مذهب الإمام الشافعي، إذ يشير العلامة أبو زهرة إلى أن انتقال الشافعي من بغداد إلى مصر كان مرجعه سياسياً عقائدياً في الدرجة الأولى، ذلك أن الخلافة العباسية في بغداد قد آلت إلى المأمون، وأن الغلبة في عهده صارت للعنصر الفارسي، فضلاً عن انتهاجه لمذهب المعتزلة في الأصول الكلامية، وكان الشافعي ينفر من المعتزلة ومناهج بحثهم[6]، وإن كان آخرون يرون أن هناك سبباً أكثر تأثيراً هو الذي دفعه إلى الانتقال وهو البحث عن تلاميذ نجباء أكفاء[7]، وأياً كان السبب في ذلك، فإن المثال هنا للدلالة على أن العقلية الفقهية بشكلها الفردي أو الجماعي قد أسهمت في تشكلها عوامل ومؤثرات تارة من داخلها وتارة من خارجها.

      وتبقى الإشارة الأهم في هذا السياق متعلقة بمغزى استمرار المذاهب الفقهية الأربعة والحفاظ على بنيتها العلمية بخلاف غيرها مما اندرس من قسيماتها بالرغم من أن علماء وفقهاء المذاهب المندرسة لم يكونوا أقل علماً أو فقهاً، بل على العكس من ذلك أن بعض هؤلاء الأئمة كانوا بمكانة علمية تسمو على بعض أئمة المذاهب الأربعة، وقد نقل الذهبي في السير عن الشافعي أنه قال: “الليث أفقه من مالك إلا أن أصحابه لم يقوموا به”، وعن يحيى بن بكير قوله: “الليث أفقه من مالك، ولكن الحُظوة لمالك رحمه الله”[8].   

      وهذان الأثران المنقولان في السير يظهران لنا بعدين من الأبعاد التي أسهمت في انتشار المذاهب الفقهية الأربعة وحفاظها على قوامها الفقهي دون غيرها، والمقصود بهما تيسر التلاميذ والحظوة والمكانة، وقد اجتهد البعض في تحديد الأسباب التي يمكن أن تفسر لنا وجه انتشار هذه المذاهب في حين اندثرت مذاهب أخرى:

والسبب الأساس هو الذي أشار إليه الشافعي، فأن يتهيأ للفقيه أتباع يلتزمون منهجه التزاماً صارماً تدريساً وإفتاء وقضاء، وأن يكون لآرائهم واجتهاداتهم دور حاسم في بناء المذهب، لا يقل من حيث الأهمية وعمق التأثير عن دور مؤسسه الأول[9].

هناك من يرى أن انحسار المذاهب الفقهية قد بدأ فعلياً مع مطلع القرن الثالث الهجري، وظل عدد هذه المذاهب يتناقص حتى لم يبق منها سوى المذاهب الفقهية الأربعة، ويقدرون أن الفترة التي اتضحت فيها معالم هذه المذاهب الأربعة هي أواخر القرن السابع الهجري، وكان للقضاء دوره في تثبيت هذه المذاهب، فقد ذكر المقريزي أن هذه العملية بدأت في عام 665هـ عندما تم تعيين أربعة قضاة فقط في القاهرة ينتسبون إلى هذه المذاهب الأربعة، مع استبعاد جميع المذاهب الأخرى[10]، وظاهر أن هذا العامل كان له أثره في بعض المناطق الجغرافية دون غيرها، كما أن بعده التاريخي المتأخر لا يجعله في دائرة التعميم.  

والبعض الآخر يرى أن للبعد السياسي أثره في انتشار المذاهب الأربعة وديمومتها على حساب غيرها، يقول العلامة الزرقا: “وقد أصبح للحكومات في هذا الدور[11] اتجاه مذهبي في القضاء والحسبة والجباية وغيرها، فكان مثلاً فقه أبي حنيفة ومدرسته هو المذهب السائد في قضاء الدولة العباسية”[12].

      وقد سبق إلى ذلك ابن حزم الأندلسي في رسائله، فقال: “مذهبان انتشرا في بدء أمرهما بالرياسة والسلطان: مذهبُ أبي حنيفة، فإنه لما ولي قضاء القضاة أبو يوسف كانت القضاة من قِبَله، فكان لا يولي قضاء البلاد من أقصى المشرق إلى أقصى أعمال أفريقية إلا أصحابه والمنتمين إلى مذهبه، ومذهبُ مالك بن أنس عندنا فإن يحيى بن يحيى كان مكيناً عند السلطان، مقبول القول في القضاة، فكان لا يلي قاضٍ في أقطارنا إلا بمشورته واختياره، ولا يشير إلا بأصحابه ومن كان على مذهبه .. على أن يحيى بن يحيى لم يلِ قضاء قط ولا أجاب إليه، وكان ذلك زائداً في جلالته عندهم، وداعياً إلى قبول رأيه لديهم، وكذلك جرى الأمر في أفريقية لما ولي القضاء بها سحنون بن سعيد، ثم نشأ الناس على ما أنشر”[13].

      وأما المذهب الحنبلي، فلا يخفى ما آل إليه أمره في القرون المتأخرة من الضعف والانحسار إلا قليلاً من بقاياه في العالم الإسلامي وخاصة بمصر والشام والعراق، ثم عادت حيويته بتبني آل سعود له مذهباً رسمياً لدولتهم، وقد أشار الثقفي إلى أن الحكومة السعودية عممت مذهب الحنابلة في نجد والحجاز على مستوى التعليم والقضاء[14]، وكان للتمويل الحكومي كذلك دوره في نشر المذهب خارج بيئته السعودية، خاصة من قبل من تأثر بالمنهج السلفي الذي أضحى مرجعية أصولية للعائلة الحاكمة بعد الاتفاق بينها وبين الشيخ محمد بن عبدالوهاب.

المبحث الثاني: حول بنية العلاقات المذهبية:

      هذه الإطلالة السريعة عن المذاهب الفقهية بمكوناتها ومقوماتها ومسارها التاريخي لا تجعلنا نغفل طبيعة العلاقات البينية التي سادت المذاهب الفقهية وأئمتها وتلاميذها في بعدها التاريخي وما آلت إليه، وتحرير هذه المسألة والوقوف عندها بياناً ولو بإجمال يعد ضرورياً؛ لما سيترتب عليه في أثناء البحث من تنظير يأخذ بالاعتبار محاولات التشويش والتشويه على مسارات هذه المذاهب بقصد حرف وجهتها ومقصدها على مستوى الفكر والمنهج وتوظيفها في تصدير رؤى صراعية مدعاة عند من يمتهنون التحريف ويسلكون مسالك التأويل الباطل.

      وبحث البنية العلائقية بين المذاهب الفقهية مظانه منهجياً في الغالب في كتب ما يسمى بالخلاف العالي عند المتقدمين، أو الفقه المقارن عند المعاصرين، أو ما بحث في هذا الشأن في الدراسات المعاصرة حول منهجية الاختلاف بين أهل العلم، والأساس الذي تستند عليه هذه البنية يُسكن في إطار ما يسمى بالخلاف السائغ أو اختلاف التضاد.   

      ولو أردنا في هذا السياق إطلاق وصف جامع على تلكم العلائق المذهبية، فإنه سيكون وصف (التنوعية) الذي ساد المنظومة الإسلامية على مدار تاريخها الممتد، ولا يعني هذا ألا توجد هنات تسيء إلى هذا الوصف فتنقله إلى دائرة الصراع والتضاد والتفرق والتعصب، إلا أن هذه الهنات في حقيقتها لم تكن لتسود بنية هذه العلاقات، فتبقى دائرة في إطار ما هو شاذ ونادر الذي لا حكم له، بل يؤكد القاعدة ولا ينفيها، وإن ما شهدته الأمة في قرونها المتأخرة من صور شوهاء بين أتباع هذه المذاهب لا يقضي في حقيقته بالإبطال على قرونها الأولى الموصوفة بالخيرية والجامعية. 

      والحق أن تعدد هذه المذاهب وتنوعها يعد أنموذجاً على ظاهرة التعدد والتنوع في إطار الوحدة الجامعة التي هي خصيصة من خصائص المنظومة الإسلامية، ولهذا يقول الدكتور محمد عمارة: “إن علم الفقه هو علم الفروع .. وتمايز الاجتهادات فيه واختلاف المجتهدين في أحكامه لم يكن في يوم من الأيام يمثل مشكلة لوحدة الأمة، بل كان مصدر غنى وثراء للعقل الفقهي والواقع الإسلامي على السواء .. وفي الفقه كان الأئمة والعلماء، المختلفون في المذاهب، يتتلمذ الواحد منهم على من يخالفه في المذهب .. بل ورأينا في تراثنا من العلماء الأعلام من يجمع المذاهب المتعددة في فقهه وعطائه، فيفتي وفق مذهب، ويقضي وفق مذهب ثانٍ، ويدرس كل المذاهب لطلاب علمه ومريديه!. فاختلاف المذاهب الفقهية هو ظاهرة صحية في الفكر الإسلامي، وهو مصدر من مصادر الغنى والثراء لهذا الفقه، ولا يمثل أية مشكلة لوحدة أمة الإسلام”[15].  

      وهذا الذي يشير إليه الدكتور عمارة دلائله العملية وأمثلته أكثر من أن تحصر في هذا البحث، وتكفي الإشارة إلى مثال تنبيهاً على غيره منها، ويظهر أن أكثر الأمثلة وضوحاً في هذا السياق تلكم الرسائل المتبادلة بين الإمامين الليث بن سعد ومالك بن أنس رحمهما الله، والتي كان مضمونها حول مسائل خلافية بين الإمامين وما تقتضيها منهجية الاستدلال عند كليهما، ومما جاء في توصيف الرسالتين قول أبي زهرة: “هاتان رسالتان خالدتان في تاريخ الفقه الإسلامي سقناهما مع طول الثانية منهما، للدلالة على الاتصال العلمي بين مالك وغيره من العلماء، يكتب إليهم مرشداً، ويكتبون إليه مسترشدين ومخالفين، وهم في خلافهم يبينون وجه الحق الذي يرونه، ونواحي الأدلة التي يتجهون إليها، وإنه بهذا الاتصال العلمي مع بعد الديار وتنائيها مستفيد فوائد جمة .. والرسالتان فوق ذلك أدب جم، وبحث قيم، ومودة صادقة، ومخالفة في طلب الحق هادية، لا لجاجة فيها ولا خصام، بل محبة، وولاء، ووئام”[16].

      وبعد .. فإن مقصودنا بهذه المقدمة التمهيدية الوقوف عند محاولات التشويه لبنية المذاهب الفقهية بقصد توظيفها في مواجهة الإسلام بقصد اختطاف منظومته وتسويق صور مشوهة منه بمعزل عن فاعليته الحضارية وعطائه الحضاري على مدار تاريخه، ومما لا شك فيه أن البنية المنهجية التي قامت عليها المذاهب تمثل أنموذجاً  غاية في الوضوح على مدى النضج للعقلية المسلمة ومثالاً على العطاء الحضاري لها ليس داخل المنظومة الإسلامية فحسب بل كذلك يسري خارجها بما بثته من رؤى وأفكار وسعت الحاجات الإنسانية في حينها، وهي صالحة إن أحسنت قراءة واقعها وتنزيل شرعها فيه لأن تكون مستوعبة لحاجات البشرية اليوم مراعية في ذلك قواعدها التشريعية وأسسها الكلية ومقاصدها الحاكمة، وهذا يجعل أعداء الدين الحق والملة الخاتمة ينفرون ويمكرون لأجل إضعافه وتصديع بنيته.

      ومما ينبغي التنبيه عليه في هذا السياق، أن الاختطاف من حيث مفهومه من جهة تعلقه بالمذاهب الفقهية القديمة وهي موضوع بحثنا، قد يشوبه بعض الغموض والالتباس الذي قد يجعل القارئ في دائرة التشويش، فلا يستطيع معه تصور هذا الاختطاف وإدراك كيفية حدوثه، وعليه يلزمنا البيان أولاً بأن هذا البحث من حيث تسكينُه يأخذ مكانه في مشروع مواجهة محاولات اختطاف الإسلام بجميع نظمه ومكوناته ومفاصله، وثانياً وبحكم ما يتضمنه الإسلام ومنظومته من أصول وقيم ومقومات، فإن جميع مكوناته تشترك ولا شك في هذه الأبعاد التكوينية، ومنها بنية المذاهب الفقهية التي من يقف عليها ويسبر أغوارها، يدرك أن هذه البنية قوامها أصول وقواعد وقيم ومناهج .. في غيرها.

      وعند ذلك فإن وجودها كلبنة من لبنات البُنى المنظومية للإسلام يجعلها عرضة للهجوم نقداً -بالباطل- ونقضاً وتشويهاً واختطافاً، وهن أخوات بعضهن من بعض يقصد بها أربابها جعل المنظومة الفقهية في بؤرتها قاصدين توظيفها لإخراج نسخة من الفقه مفرغة من مضمونها، وملئها بمضامين محرفة عن أصولها تارة، وإحلال قيم ورؤى وأفكار واستنباطات شوهاء، وهذا يسري بطبيعة الحال على مختلف المسالك التي يتبعها الخاطفون بتنوع صورهم ومظاهرهم، فتتردد بامتداد أفقي يتجاوز الوسط يميناً وشمالاً بين دائرتي التميع والتشدد، والبحث في محاوره وأركانه يحاول بناء على ذلك بيان مظاهر وصور اختطاف المذاهب الفقهية القديمة.

      ومن هنا فإن لبحثنا مساراً يأتي فيه الباحث على بيان الدوافع التي تقف وراء محاولات اختطاف المذاهب الفقهية ومحاولات زجها في معارك صفرية تأخذها في دائرة اختلاف التضاد وما يترتب على ذلك من تشويه للمنظومة الإسلامية، ثم بيان القوى الفاعلة في هذا الاختطاف ووسائلها وأهدافها، والأمثلة التي تدل على مدى نجاحها وتحقيقها لغاياتها، وصولاً إلى بيان وسائل مواجهة هذا الاختطاف والأفكار والرؤى التي تتحقق بها الحصانة الداخلية لبنية هذه المذاهب.

المبحث الثالث: بواعث الاختطاف:

      تتفاوت وتتغاير الرؤى في النظر إلى المذاهب الفقهية القديمة من حيث مقاصد وأهداف الخاطفين والأطر المرجعية التي تتأسس عليها منظوماتهم الفكرية وتحيزاتهم المنهجية، وبناء على ذلك يمكن الإشارة هنا إلى البواعث التي دفعتهم باتجاه محاولات الاختطاف تنظيراً وحركة:

أولاً: باعث سلبي يُقصد به تتبع -في زعم الخاطفين- الثغرات ومواطن الضعف في البنية الفكرية والمنهجية الإسلامية والاتكاء عليها وسيلةً لنقض المنظومة الإسلامية وإطارها المرجعي، وهو مسلك انتهجه المستشرقون وأذنابهم، وحيثية الاتكاء تكمن في النظر إلى المذاهب الفقهية كونها جزءاً من كلٍ منظومي يشكل مكونات ومفاصل المنظومة الإسلامية، والخاطفون نظروا إليها بمكوناتها على أنها منظومة هجينة اقتُبست مضامينها أو بعضها من غيرها من المنظومات مم سبقها.

      والرواية الاستشراقية لتاريخ الفقه الإسلامي انطلقت من فرضية مزعومة قوامها أن الإسلام استدان دَيْناً كبيراً من الحضارات اليونانية والرومانية واليهودية والنصرانية؛ ومرجع الاستدانة في زعمهم أن الإسلام وشريعته ظاهرة متدهورة عبر الزمان تحتاج إلى الغرب لأجل الوقوف على قدميها، وكانت الفرية التي انطلقت منها الرواية الاستشراقية أن القرن الهجري الأول مثل فراغاً تاريخياً تاماً، استدعى من المسلمين وعلمائهم القيام باختراعات وتدليسات شتى تضمن في نصوص الوحي وخاصة نصوص السنة النبوية[17]، ما يعني بزعمهم أن المنظومة الإسلامية بما اشتملت عليه من نصوص الوحي وتجلياتها الفقهية ما هي في حقيقتها إلا انتحال يمنع توصفيها بالأصالة في التنزيل.  

ثانياً: وباعث آخر ينتمي إلى ما سبقه من حيث الاتصاف بالسلبية جنساً ونوعاً، ويستغله الخاطفون في تسويق صورة مشوهة عن المذاهب الفقهية بعيداً عن حقائقها، ويكمن هذا الباعث فيما أصاب بنية العلاقات المذهبية في العصور التاريخية المتأخرة من إصابات وعلل وأدواء التعصب المذهبي وما آل إليه من فرقة وتشرذم بين المذاهب الفقهية انعكس على مخرجاتها العلمية والمعرفية، وهذا الباعث له وجاهته من حيث استناده على وقائع ومظاهر سادت بنية هذه العلاقات، ولكنها لا تسري مطلقاً على جميع مراحلها تأسيساً ومسيرة، بل حتى في المراحل التي عانت منها تلكم العلاقات من علل التعصب والتفرق واختلاف التضاد لم تعدم صوراً من صور الاختلاف السائغ ودعوات التوافق المعرفي وعلاقات التراحم بين المذاهب الفقهية، ولهذا يلزم الباحث المنصف لو قصد تحقيق العلم سلوك منهجية العدل في التوصيف والتحليل، وهذا إنما تكفله منهجية التقويم التي تراعى فيها الموازنة بين الصواب والخطأ بعيداً عن منهجية التهويل والتهوين.

ثالثاً: وباعث ثالث يغاير قسيميه من حيث كونه باعثاً ثبوتياً يُعد في حد ذاته موضع خشية من قبل الخاطفين، وقوامه أن هناك إقبالاً كبيراً من قبل كثير من أبناء الأمة نحو الدراسة الفقهية وفق المنهجية المذهبية، وهذا له مسوغاته التي دفعت بهذا الاتجاه لدى الكثيرين، من أهمها ضعف التأصيل الفقهي عند دارسي الفقه خارج سياقاته المذهبية؛ ذلك أن الدراسة الفقهية وفق ما يمكن تسميته بالمنهجية الاتباعية التي سادت العقود السابقة بسبب تأثرها بدعوات بعض الأعلام ممن انتقد الدراسة المذهبية، والإقبال مباشرة على دراسة نصوص الوحي ومحاولة الاستنباط منها دون الحاجة إلى النظر في قواعد الفقه المذهبي، أو تعميم منهجية دراسة الفقه المقارن وبخاصة في أقسام الدراسات الإسلامية بالجامعات، كل هذا كان له سلبياته الكثيرة التي انعكست على منهجية التلقي الفقهي لدى طالب العلم.

      ومن ذلك غياب الإحكام الفقهي لدى طالب العلم وعدم القدرة على ضبط علوم الفقه وما يرتبط بها من علوم الآلة، ولعل التجربة التي شهدتها جامعة الإيمان باليمن تعد خير شاهد على ذلك، حيث اتبعت الجامعة منهجية الدراسة الفقهية على طريقة الفقه المقارن، ولكن أثبتت هذه الطريقة عدم نجاعتها علمياً ومنهجياً، فدفع إدارة الجامعة إلى وضع مناهج مصاحبة تتمثل في الدراسة المذهبية على طريقة المذاهب الأربعة إضافة إلى المذهب الزيدي الشائع باليمن، وهذه الأوبة إلى الدراسة الفقهية المذهبية أسهمت بالفعل في التقليل من دائرة الخلاف في العقود المتأخرة، بحكم ما ساد هذه الدراسة من تقويم ومراجعة في ضرورة تسكين هذه الدراسة في سياق علمي ليس مقصوداً لذاته أصلاً، وإنما هو وسيلة لبناء عقلية فقهية تسهم في النظر الفقهي وتأصيله وتحقيقه، فالمذاهب الفقهية لا تعدو كونها -من حيث أصلها- مدارج للإحكام الفقهي ليس إلا، وهذه الأوبة والإقبال على العلم الشرعي بما فيه علوم الفقه هو الذي يخشاه الخاطفون، فجعلوه في بؤرة مشروعهم باستدعاء الصور التاريخية الشوهاء في بنية العلاقات المذهبية، أو الإسهام في صناعة صورة منتحلة عن ذلك وفقاً لمنهجية المكر والخداع.

رابعاً: وهذا الباعث له صلة بسابقه ليس من جهة تطابقه معه وإنما من جهة إحدى زواياه، وهي أن المذاهب الفقهية في حقيقتها تعد في كثير من مضامينها ومفاصلها نتاجاً للجهد المسلم في تنزيل الشرع على وقائع وحوادث الزمان والمكان مما له تعلق بالمتغيرات، وهذا بخلاف الثوابت التي تحكم هذه المذاهب وتستوعب حركة الإنسان وحياته زماناً ومكاناً، وهذه العلاقة تجعل للبنية المذهبية تعلقاً بمسألة الهُوية الإسلامية وتجعلها وثيقة الصلة بالوحي، فتكون والحالة هذه معبرة عن ذاكرة الأمة وسجلها المعرفي، وهذا البعد الذي يعد محل اعتزاز وافتخار لأبناء الأمة لا شك يدفع باتجاه الخوف والخشية من الخاطفين في أن يبقى فاعلاً ليس فقط في أثناء هذه البنية بجعلها متحركة باتجاه النماء والتطور الفقهي بما يتناسب مع واقع العصر ومتطلباته ومقتضياته، بل كذلك يجعله فاعلاً كلبنة من لبنات الفعل الحضاري الإسلامي من جهة كونه منظومة نُظُمية تتناغم وتتساوق مع بنى أخرى كالبنية التوحيدية والبنية القيمية والبنية السننية .. في غيرها، كل هذا يدفع الخاطفين إلى محاولات الاستهداف.

المبحث الرابع: قوى الاختطاف ووسائلها وأهدافها:

      تعرضت المذاهب الفقهية في صورتها التي استقرت عليها إلى الاختطاف من جهات عدة عبر تاريخها الممتد حتى يومنا هذا، والجهات والقوى التي خططت له وحاولت تجسيده في الواقع العملي لا تتخذ مساراً فرداً من حيث مرجعيتها الفكرية والمنهجية، بل هي في حقيقتها مذاهب شتى وأطر متعددة وتنتمي إلى أديان مختلفة، ولكنها تقاطعت جميعها من جهة محاولات الاختطاف وإن تغايرت غاياتها وأهدافها، ويمكننا تصنيف هذه القوى والجهات إلى صنفين:

الأول: خارجي، ويظهر فيه بشكل سافر صنيع المستشرقين فيما رقموه مما تعلق بالفقه الإسلامي ومذاهبه وتاريخه، وقد أشرنا فيما مضى في البواعث إلى أن الرواية الاستشراقية ترى أن الإسلام وشريعته ظاهرة متدهورة عبر الزمان تحتاج إلى الغرب لأجل الوقوف على قدميها، هذا من حيث الهدف الخفي كما ذكر حلاق، وأما الهدف المعلن، فهو سرد تاريخ التشريع الإسلامي من وجهة نظر تتزيا بالعلمية[18]، ومن هنا فإنه يلزم التنبه إلى أساليب المستشرقين في مؤلفاتهم وتحقيقاتهم من حيث تعاطيهم المنهجي، وتناولهم القضايا المتعلقة بالبنية الفكرية الإسلامية واتباعهم قراءات ملتوية توظف في تحقيق مراميهم وغاياتهم، ويتفق الباحثون للدرس الاستشراقي وناقدوه على غلبة النزعة التشكيكية على هذا الدرس، واقتفائه منهج الانتقائية في  التعامل مع المصادر والمراجع الإسلامية، كما يعمد هذا الدرس إلى قراءات تأويلية للنصوص تأخذ بها إلى التعسف في توجيه الألفاظ على غير مراد واضعيها، فيقع في دائرة  التحريف والتزييف[19].

      ومما له صلة بموضوعنا نرى أن الاستشراق[20] تبنى منهجية التشكيك في القيمة المنهجية والفكرية التي يتبوؤها الفقه الإسلامي وتشكيلاته التنظيمية المتمثلة بالمذاهب الفقهية، وأظهر ما يتعلق بهذه المنهجية التشكيكُ بالخصوصية والذاتية التي يتميز بها هذا الفقه؛ ومرجع ذلك أن المستشرقين عندما درسوا هذا الفقه، ورأوا فيه نظاماً كامل البنيان، ثابت الأركان، قوي الحجة والبيان شككوا في مصدره الإسلامي، وافترضوا أنه قد استند واستمد معظم أحكامه ومصطلحاته وتقسيماته من اليهودية والقانون الروماني[21].

      وقوام هذا الادعاء أن هذا القانون أثر في الفقه بوسائل مباشرة وأخرى غير مباشرة، فأما الوسائل المباشرة، فتتمثل في مدارس القانون الروماني التي أنشئت في روما والقسطنطينية وبيروت والأسكندرية، والتشريعات البيزنطية التي كانت تحكم البلاد الخاصة للدولة الرومانية الشرقية قبل الفتح الإسلامي لها وبخاصة الشام ومصر، وهذه الحجة غير مسلمة؛ لأنها تتعارض مع الحقائق التاريخية الصحيحة التي تقطع بأن هذه المدارس قد ذهبت معالمها ما بين تدمير وإلغاء فلم يتسن التأثر بها، وليس معقولاً التأثر بمدارس روما والقسطنطينية؛ لأن المسلمين لم يدخلوها فاتحين، والأخيرة فتحت متأخرة أي بعد أن تكون الفقه الإسلامي وتحددت معالم مدارسه ومذاهبه، وأما التأثر بالقوانين البيزنطية التي كان حاكمة في البلاد التي فتحها المسلمون، فهي كسابقتها تتناقض مع وقائع التاريخ؛ وذلك هذه القوانين قد زالت عن الولايات الشرقية من الامبراطورية البيزنطية قبل ظهور الإسلام[22].

      ويدَّعون أيضاً أن هذا القانون أثَّر بوسائل غير مباشرة تتمثل في جهتين، الأولى الأعراف الجاهلية التي كانت قانونَ العرب قبل الإسلام، وهذه الأعراف تأثرت بالقانون الروماني عن طريق التجارة والاتصال السياسي والفكري، وبما أن الإسلام لم يهدم كل تقاليد الجاهلية حيث أقر منها ما كان صالحاً للبقاء، وبهذا يكون القانون الروماني قد أثَّر في الشريعة والفقه الإسلامي بطريق غير مباشر، والثانية الفرق النصرانية على تعددها، فإنها لدى الاستشراق قد تأثرت فيما وضعته من مؤلفات قانونية بالقانون الروماني، وقد أثرت هذه المؤلفات بدورها في الفقه الإسلامي، فهي من ثم كانت معبر التأثير للقانون الروماني في الفقه، وكلا الوسيلتين يكذبهما التاريخ، فالأعراف الجاهلية لم تتأثر بالقانون الروماني؛ وسبب ذلك أن المجتمع الجاهلي بحكم مركزه الجغرافي وأميته وحياته القبلية عاش في عزلة عن العالم من حوله، وأما المؤلفات القانونية للفرق النصرانية، فإنه يلاحظ أنها وضعت بعد القرن العاشر الميلادي، أي أنها وضعت في تاريخ لاحق لنضج الفقه الإسلامي واكتماله، فضلاً عن أن حركة الترجمة في العهد الإسلامي تأخر زمنها، كما أنها أهملت إهمالاً واضحاً كل كتب القانون[23].  

      ويتفق الباحث مع الجابري فيما توصل إليه من تقرير حول بنية الفقه الإسلامي من حيث تماسك بنيته وأصالتها من جهة، وعدم تأثرها بالمؤثرات الخارجية التي ادعاها أرباب الدرس الاستشراقي، وفي هذا يقول الجابري: “يجب القول بدون تردد أن الفقه الإسلامي انتاج عربي إسلامي محض. إنه من هذه الناحية يشكل إلى جانب علوم اللغة العطاء الخاص بالثقافة العربية الإسلامية. وعبثاً حاول بعض المستشرقين إيجاد صلة مباشرة أو غير مباشرة بين الحقوق الرومانية والفقه الإسلامي، والذين أصروا منهم على البحث عن مثل هذه الرابطة لم يستطيعوا الذهاب إلى أبعد من القول: (إن الحقوق الرومانية تركت عن طريق تطبيقها في الشرق تعاملاً حقوقياً أصبح من أعراف هذه البلاد وتقاليدها، وإن هذا التعامل وهذه التقاليد دخلت في الحقوق الإسلامية بصورة لم يشعر بها). وواضح أن هذه الدعوى الخجولة أوهى من أن تكون فرضية للعمل .. على أن المستشرق الإيطالي سنتيلانا الذي كان أول من افترض تأثير الحقوق الرومانية في الفقه الإسلامي، والذي بقي يعتبر مرجعاً في هذا الموضوع قد اضطر إلى التراجع أمام فقدان ما يمكن به تعزيز هذه الفرضية التي كانت في الحقيقة مجرد افتراض متسرع. وهكذا لم يتردد في القول في مقالة متأخرة له: (عبثاً نحاول أن نجد أصولاً واحدة تلتقي فيها الشريعتان الشرقية والغربية -الإسلامية والرومانية- كما استقر الرأي على ذلك. إن الشريعة الإسلامية ذات الحدود المرسومة والمبادئ الثابتة لا يمكن إرجاعها إلى شرائعنا وقوانيننا؛ لأنها شريعة دينية تغاير أفكارنا أصلاً)”[24].

الثاني: داخلي: من القوى الفاعلة في اختطاف المذاهب الفقهية القديمة ما كان داخل البنية الإسلامية، فهي منها ظاهراً وباطناً، إلا أن إشكاليتها تكمن في الخلل المنهجي عند تعاطيها مع قضايا الشريعة والفقه التي يلزم إتيانها من أبوابها، ويمكن الوقوف في هذا الإطار مع نوعين من القوى التي تتفاوت صورة ومظهراً ووتغاير مسلكاً ومساراً:

النوع الأول: التمذهب بين أرباب التعصب والتحلل: من البدهي القول بأن المذاهب الفقهية متقاربة من حيث انتماؤها إلى مدرسة سُنية واحدة في الأصل، وتحكمها في دائرة الاجتهاد أصول كبرى جامعة لا خلاف فيما بين المذاهب من حيث اتباعها والرجوع إليها، وهي الأصول الأربعة الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، ولا يعكر على هذا المأخذ اختلافهم في بعض الأصول الثانوية المنتزعة من الأصول الكبرى السابقة[25]، وقد أشرنا فيما مضى إلى بنية العلاقات المذهبية والآداب الحاكمة لها وضوابط الاختلاف في بعدها العملي تاريخياً، ومن هنا فإن ظاهرة التمذهب ليست في حد ذاتها سلبية؛ بحكم كونها جميعها مسالك للاجتهاد والنظر في ألفاظ الشرع ومقاصدها وكيفية تنزيلها على مناطاتها في الواقع المعيش.

      وما أشد فقه الشاطبي وأحكمه في إشارته إلى مسالك الأئمة واختلافهم في النظر إلى ألفاظ الشريعة بسبب تباين الأفهام وخفاء بعض الأدلة، حين أشار إلى أن من الخلاف في ظاهر الأمر ما يرجع في حقيقته إلى الوفاق؛ ومرجع ذلك أن الشريعة راجعة إلى قول واحد، والاختلاف في مسائلها راجع إلى دورانها بين طرفين واضحين يتعارضان في أنظار المجتهدين، وإلى خفاء بعض الأدلة وعدم الاطلاع عليه، والثاني في حقيقته ليس خلافاً؛ إذ لو فرضنا اطلاع المجتهد على ما خفي عليه لرجع عن قوله، وأما الأول: فالتردد بين الطرفين تحر لقصد الشارع المستبهم بينهما من كل واحد من المجتهدين، واتباع للدليل المرشد إلى تعرف قصده، وقد توافقوا في هذين القصدين توافقاً لو ظهر معه لكل واحد منهم خلاف ما رآه لرجع إليه، ولوافق صاحبه فيه، فصار هذا القسم أيضاً راجعاً إلى القسم الثاني، فليس الاختلاف في الحقيقة إلا في الطريق المؤدي إلى مقصود الشارع الذي هو واحد[26]، ثم قال: “ومن هنا يظهر وجه الموالاة والتحاب والتعاطف فيما بين المختلفين في مسائل الاجتهاد، حتى لم يصيروا شيعاً ولا تفرقوا فرقاً؛ لأنهم مجتمعون على طلب قصد الشارع، فاختلاف الطرق غير مؤثر ..”[27].

      إلا أن هذه الروح الوفاقية التي وضحت في تحقيقات أئمة المذاهب المؤسسين وتلاميذهم، وتجسدت قيماً سلوكية حاكمة، وأضحت تقريرات للمحققين من أهل العلم ممن لحق بهم زمناً وسلك سبيلهم رؤية منهجاً قد تطفلت عليها نتوءات شوهاء أفسدت جمال صورتها وتناسق معالمها، تلك النتوءات شكلت بمجموعها ما يسمى بظاهرة التعصب المذهبي في التاريخ الإسلامي، هذه الظاهرة لم تكن لتسري في البناء الإسلامي لولا وجود القابليات التي تتسع لها وتستوعبها، وعندها انساقت الأمة بسبب أزمة نخبتها العلمية إلى ساحات موهومة من الخلاف المذموم ما كان لها أن تنساق إليها لولا تخييلات لبست لبوس الحجج المتناقضة، وإنما كان يسعها لو أحسنت النفوذ إليها آداب الخلاف بين علماء السلف والنظر في مناهج التأصيل العلمي وأصوله الضابطة التي تؤول في حقيقتها إلى دائرة الوفاق كما أدركنا ذلك من تحقيق الشاطبي.

      ويجدر هنا التذكير بأن لفظ التعصب له استعمالان من حيث سياقه، الأول وهو الأغلب الانتصار للباطل، وهو مجال النظر في بحثنا، والثاني الانتصار للحق، والأخير قد وردت فيه بعض الأخبار والآثار الدالة عليه عن السلف، وفيما نحن بصدده فإن مظاهر التعصب المذهبي قد تعددت وتنوعت، ومن ذلك:

-الخلل المنهجي في التقريرات المذهبية، ومن أبرز معالم هذا الخلل مخالفة النصوص الصحيحة وتقديم الرأي المحض على النصوص تعصباً للمذهب، والانحباس في المذهب الواحد وعدم تعديته إلى مذهب آخر، وتحريم الخروج على المذاهب الأربعة في الدراسة المذهبية، إشكاليات الرمزية المذهبية وشيوع التقليد المذموم والجمود، وفتح باب الحيل للتخلص من التكاليف الشرعية مع السعة التي تكفلها مذاهب أخرى .. في غيرها[28]، ومن أمثلة التعصب المذهبي ما نقلته كتب الشافعية أن أهل مصر أو أكثرهم أُخذت عليهم العهود أن لا يُفتوا إلا بقول الرملي في نهاية المحتاج[29]، ومثاله السافر أيضاً ما قاله الكرخي من أئمة الحنفية: “الأصل إن كل آية تخالف قول أصحابنا فإنها تحمل على النسخ أو على الترجيح والأولى أن تحمل على التأويل من جهة التوفيق .. الأصل إن كل خبر يجيء بخلاف قول أصحابنا فإنه يحمل على النسخ أو على أنه معارض بمثله ثم صار إلى دليل آخر أو ترجيح فيه بم يتحج به أصحابنا من وجوه الترجيح أو يحمل على التوفيق”[30]، وهو كلام وإن كان مما يسعه النظر ويحتمله التأويل والإعذار، إلا أنه ما كان ينبغي أن يُقرر على هذا الشكل وبهذه العبارة.

-الفتن المذهبية: ومن الأمثلة المنقولة في هذا الإطار ما حدث بين الشافعية والحنفية بمدينة مرو ببلاد خراسان، عندما غير الفقيه منصور بن محمد السمعاني المروزي المتوفى سنة 489هـ مذهبه، فقد كان حنفياً مدة ثلاثين سنة، ثم تحول إلى المذهب الشافعي، وأعلن ذلك بدار الإمارة بمدينة مرو بحضور أئمة الحنفية والشافعية، فاضطرب البلد لذلك، وهاجت الفتنة بين الشافعية والحنفية، وعمت المنطقة كلها، حتى كادت تملأ ما بين خراسان والعراق، ولكن السمعاني ظل ثابتاً على موقفه ولم يتراجع عنه، لكنه اضطر إلى الخروج من مدينة مرو، والانتقال إلى مدينة طوس، ثم إلى نيسابور، ثم عاد إلى مرو بعد سكون الفتنة[31].

      وفتنة مذهبية أخرى حدثت بأصفهان ببلاد فارس بين الفقهاء سنة 560هـ، وكان في مقدمتها عبداللطيف الخجندي الشافعي مع مخالفيه من المذاهب الأخرى، فحدثت بينهم فتنة كبيرة بسبب التعصب المذهبي، فخرج المتعصبون إلى القتال لمدة ثمانية أيام، وكثرت بينهم الشرور وقتل منهم خلق كثير، وأحرقت وخربت منازل ومرافق كثيرة، لقد كانت فتنة من أسوأ الفتن وأشدها على البلاد والعباد وعمقت الخلاف والتعصب المذهبيين[32].

      ولا شك أن هذه المظاهر التي اكتفينا منها بمثالين دالين حرفت وغيرت المسار المعرفي الدال على ثراء الفقه الإسلامي وغناه بتلكم الاجتهادات الفقهية التي استجابت لقانون السعة الحضارية الذي ساد قرون العطاء، وليس أدل على ذلك من تلكم الرؤية الثاقبة التي بثها الخلفية الراشد عمر بن عبدالعزيز رحمه الله تعالى في توجيهه اختلاف الأقوال والآراء بين العلماء، قال الشاطبي: “قال القاسم: لقد أعجبني قول عمر بن عبدالعزيز: ما أحب أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا؛ لأنه لو كان قولاً واحداً كان الناس في ضيق”[33]، لقد أسهم غياب هذه الرؤية وهذا الميزان في الخلاف المذهبي في نقله من دائرة الخلاف السائغ الذي يسع المذاهب الفقهية كلها سواء المدون منها والمندرس، إلى دائرة خلاف التضاد حتى صور وكأنه خلاف في أصول الدين.

      وظاهرة أخرى لم تكن أقل تأثيراً من قسيمتها السابقة من حيث خطورتها المنهجية وما يترتب عليها من إشكاليات في النظر إلى بنية المذاهب الفقهية، تلكم هي ظاهرة التحلل عن المذاهب الفقهية، والاستغناء عنها بالنظر المباشر في النصوص الشرعية استنباطاً واستخراجاً؛ اتكاءً على ما ذكره المحققون من أن الأصل هو اتباع الكتاب والسنة والأخذ عنهما، وهو تقرير وتقعيد لا إشكال فيه من حيث أصله، إلا أن الإشكال أن كلام المحققين ينزل منزله من حيث أن الناظر في الكتاب والسنة لا بد أن تكون عنده الملكة والمُكنة في النظر والمعرفة الشرعية التي جعلها العلماء شرطاً أساسياً لمن أراد التعامل مع الخطاب الشرعي، وهي المنزلة المتعلقة بالاجتهاد بأنواعه الدائرة بين المطلق والمقيد.

      وهذا الذي يفهم من كلام أهل العلم ويلزم تقريره، وإلا أفضى إغفاله إلى الفوضى التي رأيناها وعايشناها في عقود مضت، قال الشاطبي: “الاجتهاد الواقع في الشريعة ضربان: أحدهما: الاجتهاد المعتبر شرعاً، وهو الصادر عن أهله الذين اضطلعوا بمعرفة ما يفتقر إليه الاجتهاد .. والثاني: غير المعتبر، وهو الصادر عمن ليس بعارف بما يفتقر الاجتهاد إليه، لأن حقيقته أنه رأي بمجرد ا لتشهي والأغراض، وخبط في عماية، واتباع للهوى، فكل رأي صدر على هذا الوجه فلا مرية في عدم اعتباره لأنه ضد الحق الذي أنزل الله”[34].

      وأما فيما سوى المجتهد، فإن التقليد جائز بالنسبة له ما دام عاجزاً عن الاجتهاد، وهذا بنص كتاب الله تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُون . بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ﴾[النحل: آية 43-44]، فهذه الآية نص في وجوب رجوع الجاهل إلى أهل الذكر، وسؤالهم عما لا يعلمه، وهذا الحكم يسري على من قصرت رتبته عن الاجتهاد، فقد قرر أهل العلم بوجوب اتباع المقصر الذي لم يبلغ رتبة الاجتهاد لإمام من الأئمة؛ حتى لا ينفرد بفهم ليس له فيه سلف في مسألة من المسائل، وإلا كان مبتدعاً في الدين، ومتبعاً لغير سبيل المؤمنين في هذه المسألة[35].

النوع الثاني: العَلمانيون: وهذا النوع من القوى في نظره إلى التراث والبنية الفقهية لا يمكن تأطيره في سياق جامع بحيث يمكن الوقوف من خلاله على قَسَماتهم المنهجية وسماتهم الفكرية، بل هم طوائف شتى ومذاهب مختلفة ومناهج متعددة، وإنما تجمعهم إشكالية النظر إلى التراث ما بين النبذ والنقض تارة وما بين التحريف والتغيير باستغلال مفهوم التجديد تارة أخرى، والأخير وإن كان  متسقاً مع الأصول والقواعد الشرعية بمقتضى ما تستوعبه أصول الشريعة، إلا أنهم دخلوا إليه من غير بابه الذي يلزم الولوج منه، فكان في حقيقته اختطافاً لهذا المفهوم الشرعي، وهو مما يلزم التنبه والتنبيه عليه؛ لئلا يكون مدخلاً لاختطاف مفاهيم الشريعة وتوظيفها في غير سياقاته النصية والموضوعية.

      وفيما يتصل بموضوعنا كان للعلمانيين موقفهم الشاذ من الفقه والفقهاء، بل ومن الحديث كذلك، فجعلوهما في بؤرة النقد والنقض، قال حسين أحمد أمين: “لقد شاءت المعارضة، التي باتت لها الغلبة في الدولة، أن ترجع كافة الأحكام الشرعية إلى سند من القرآن أو السنة، وأبت الأخذ بالرأي والاجتهاد”، وذلك في القرنين الثاني والثالث من الهجرة. ثم يقول: “وإذا كانت الأحاديث المتوفرة آنذاك قليلة ولا تكفي، لجأ القوم إلى الاختلاق، وقد عظم هذا الاختلاق للأحاديث كلما زاد إصرار العلماء والعامة على الاستناد إلى الحديث في بيان الأحكام، أي أن العرض زاد بزيادة الطلب”، وقد اتهم حسين أحمد أمين بني أمية بتشجيع الفقهاء لوضع الأحاديث، ومنها حديث (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد) ليصرفوا الناس عن الحج أثناء سيطرة عبدالله بن الزبير رضي الله عنه على الحجاز وذلك بزيارة مسجد الصخرة الذي بناه عبدالملك بن مروان في القدس، وهو اتهام يتناغم -إن لم يكن مسروقاً- مع اتهام جولد زيهر الذي ذهب إلى أن الأمويين استغلوا أمثال الإمام الزهري في سبيل وضع الحديث[36].

      ولم يقف الأمر عند هذا القدر، بل تجاوزه إلى النظر في بعض القضايا والمسائل الفقهية وتقريرها على خلاف ما قضت به الشريعة وانعقد عليه إجماع الأمة سلفاً وخلفاً، وهو مسلك لا يعني فيما يعنيه سوى أنه مبتغٍ تعميم أفكاره ورؤاه واستبدالها بالتراث وما يحتويه من بُنى ونظم، فتكون الأمة بذلك منبتة عن جذورها وأصولها وتراثها وحضارتها.  

المبحث الخامس: نموذج نجاح: جمعية العلماء المسلمين بالجزائر: 

     تأسست جمعية العلماء المسلمين رسمياً بتاريخ الخامس من مايو عام 1931م، بالعاصمة الجزائرية الجزائر، وحضر اجتماع التأسيس اثنان وسبعون عالماً ومفكراً، وانتخب رئيساً الشيخ عبدالحميد بن باديس ونائباً له الشيخ محمد البشير الإبراهيمي، وفي خطاب الإشهار تكلم ابن باديس عن الجمعية ومقاصدها “فذكر من تاريخها أنها فكرة قديمة دعا إليها الكتّاب في الصحف العربية الجزائرية وتدوالها المفكرون بالبحث في المحافل الخاصة والعامة، وكتب فيها كتّاب (الشهاب) عدة مقالات، وكانت بحاجة إلى رجل أو رجال ذوي إرادة وإقدام يخرجونها من القول إلى الفعل حتى قيض الله لها هؤلاء الفضلاء (أعضاء اللجنة التأسيسية) فكان فضل العمل مدخراً لهم كما كان فضل التفكير والقول لكل من فكر في الموضوع وقال.

      وذكر من مقاصدها جمع شمل هذه الطائفة المتفرقة لتتعاون على ما هي له من نصح الأمة وإرشادها لما ينفعها في دينها ودنياها .. وإن من مقاصد الجمعية توكيد عرى الإخاء بين أبناء هذه الطائفة، وحملهم على نبذ أسباب الشقاق واطراح دواعي التفرق بيهم ونسيان كل ما هفت به الأفكار مما يدعو إلى فرقة أو عصبية، وليقدروا أنهم خلقوا خلقاً جديداً. ثم وجه الخطاب إلى العلماء وحضهم على مؤازرة الجمعية وتشهيرها وتحبيبها للعامة ليكون لها من النفع بمقدار ما يكون لها من السلطان على النفوس، وإنما هو سلطان كتاب الله وسنة رسوله، وأن يكون شعار الجمعية التواصي بالحق والتواصي بالصبر ..”[37].  

      وكانت هناك مسوغات ودواعٍ وعوامل أسهمت بشكل فاعل في تأسيس الجمعية وإخراجها إلى حيز الفعل والتنفيذ بعد أن كانت فكرة في أذهان النخبة العلمية والفكرية من أهل الشرع، ويشير الشيخ الإبراهيمي إلى أربعة عوامل، وهي[38]:

-نهج الشيخ محمد عبده وآثاره وأحاديثه، فكانت تلك الأحاديث تفعل فعلها في النفوس المتبرمة من الحاضر والمستشرفة إلى تبدله بما هو خير، ومرجع التأثر بنهج الشيخ عبده هو دعوته إلى القرآن، وإلى الاجتهاد، ويضاف إلى هذا العامل قراءة (المنار)، واطلاع بعض الناس على كتب المصلحين القيمة، ككتب ابن تيمية وابن القيم والشوكاني.

-الثورة التعليمية التي أحدثها الشيخ عبدالحميد بن باديس بدروسه الحية والتربية الصحيحة التي كانت يأخذ بها تلاميذه، والتعاليم الحقة التي كان يبثها في نفوسهم، والإعداد البعيد المدى الذي كان يغذي به أرواحهم.

-التطور الفكري الفجائي الذي خرج به الناس من ثمرات الحرب العالمية الأولى، وانعكاسه على البيئة الجزائرية مواقف ووقائع في دائرتي الإيجاب والسلب، فكان هذا التطور من عوامل الفرقان في التمييز بين الحق والباطل.

-عودة فئة من أبناء الجزائر البررة المخلصين من الحجاز مهد الإسلام الأول ومنبت الدعوة إلى الحق ومبعث الإصلاح الإنساني العام، بعد أن تلقوا العلم هناك بفكرة إصلاحية ناضجة مختمرة.

      وفيما نحن بصدده مما له تعلق بالبنية الفقهية المذهبية وإشكالياتها كان للجمعية نهج وسطي جعلها فيما نحسب مثالاً من أمثلة النجاح على مستوى تجاوز إشكاليات التمذهب واستيعابها بالحفاظ على قواعده وأسسه بوصفها وسائل التحقق بالعلم وتفعيله في واقع الناس، وتمييز غثه من سمينه، فالموروث الفقهي والأصولي للجمعية ينبئ بأنها تفطنت إلى خطر التعصب والجمود الفقهي المذهبي على الأفراد والمجتمعات، واعتبرته نتيجة حتمية لإهمال المقاصد والتماس أسرار الأحكام، وتوجه همم الفقهاء في تلك الأزمنة إلى الاهتمام بالجزئيات على حساب الكليات، فتولد من ذلك تقليد أعمى وتعصب للمفتين[39].

      ومن خلال تتبع الفتاوى في صحيفة البصائر وهي لسان حال الجمعية يظهر أن أعلامها نزعوا في استنباط الأحكام الشرعية إلى القرآن والسنة استقلالاً، ودعوا المفتين إلى وجوب ذكر الأدلة التي بنيت عليها الفتوى، وتحكيم المقاصد الشرعية مع شاهد عمل السلف وفهمهم، فهذا هو العلم والاجتهاد عندهم، واستعانوا بأصول الإمام مالك في توظيف الأدلة على الوجه المرضي في الوصول إلى الحق، فجعلوا إعمال القياس لا يعدو المعاملات كما هو في أصول الإمام مالك، وأنه يعمل بالحديث إذا صح سنده وسلم من علة في متنه، وفي أن التروك النبوية يحتج بها كالأفعال وغيرها من أصول المذهب[40].

      وأرادوا بهذا المنهج أن يلفتوا الأنظار إلى أن التمذهب الصحيح المقبول من الأئمة أنفسهم هو تقليدهم في الأصول العامة للتشريع لا الفروع العملية، فجعلت هذه الأصول قاعدة ينطلق منها في بناء الأحكام على وفقها والترجيح بين الآراء، كما استعانت باجتهادات الأمة في فهم النصوص على حقيقتها، وإدراك مقاصد الشريعة من طريقها، فهذا كله عندهم من تمام اتباع مذاهب الأئمة على وجه صحيح، فترى الشيخ ابن باديس يخالف المشهور إذا تحقق المقصد ولوحظت المصلحة في ذلك، فيقول: “إن الذي يسع المسلمين ليس هو مذهباً بعينه وإنما هو الإسلام بجميع مذاهبه، وقد كنا ولا زلنا لا نلتزم مذهب مالك في كل جزئية”[41].

      ولعل الشيخ ابن باديس يُعد أفضل من يحسن البيان عن الرؤية الكلية التي تبنتها الجمعية والنهج الفقهي الذي سلكته ودفعها مناهج الجمود والركود التي غلبت على أتباع المذاهب الفقهية، وتوظيف هذا النهج في سياق تعليمي تنفيذي، فكتب قائلاً:

      “لما قفلنا من الحجاز وحللنا بقسنطينة عام 32 وعزمنا على القيام بالتدريس أدخلنا في برنامج دروسنا تعليم اللغة وأدبها والتفسير والحديث والأصول ومبادئ التاريخ ومبادئ الجغرافية ومبادئ الحساب وغير هذا، ورأينا لزوم تقسيم المعلمين إلى طبقات، واخترنا للطلبة الصغرى منهم بعض الكتب الابتدائية التي وضعتها وزارة المعارف المصرية، وأحدثنا تغييراً في أساليب التعليم، وأخذنا نحث على تعلم جميع العلوم باللسان العربي والفرنسي، ونحبب الناس في فهم القرآن وندعو الطلبة إلى الفكر والنظر في الفروع الفقهية والعمل على ربطها بأدلتها الشرعية ونرغبهم في مطالعة كتب الأقدمين ومؤلفات المعاصرين.

      لما قمنا بهذا وأعلناه قامت علينا وعلى من وافقنا قيامة أهل الجمود والركود، وصاروا يدعوننا للتنفير والحط منا (عبداويين) دون أن أكون -والله- يوم جئت قسنطينة قرأت كتب الشيخ محمد عبده إلا القليل فلم نلتفت إلى قولهم، ولم نكترث لإنكارهم، على كثرة سوادهم وشدة مكرهم وعظيم كيدهم، ومضينا على ما رسمنا من خطة وصمدنا إلى ما قصدنا من غاية وقضيناها عشر سنوات في الدرس لتكوين نشء علمي لم نخلط به غيره من عمل آخر، فلما كملت العشر وظهرت -بحمد الله- نتيجتها رأينا واجباً علينا أن نقوم بالدعوة العامة إلى الإسلام الخالص والعلم الصحيح إلى الكتاب والسنة وهدى سلف الأمة وطرح البدع والضلالات ومفاسد العادات ..”[42].

المبحث السادس: مواجهة الاختطاف: رؤى ووسائل:

      تأخذ مواجهة اختطاف المذاهب الفقهية القديمة عدة مسارات تضمن فيما نحسب حفظ هذه البنية ومكوناتها وتجعلها في مأمن من أية اختراقات يمكن أن تتسلل في داخلها مهما كان حجمها وتأثيرها، ولا شك أن إدراك المخاطر من أي جهة كانت خارجية أو داخلية يُعد من دلائل الصحة والسلامة الفكرية، وفيما يأتي بيان لهذه المسارات وما تتضمنها من رؤى ووسائل مما هو دائر في إطار الدفع أو الرفع بحسب الموقف وما تقتضيه المواجهة:

أولاً: تقتضي المواجهة أولاً الوقوف عند دوائر الوعي المختلفة، فهناك وعي بالأزمة التي تواجهها الأمة من قبل أعدائها، ووعي بأدوائها الذاتية مما هو في إطار القابلية للأزمة، ووعي بالقيمة العليا التي تنطوي عليها منظومتها الفكرية والمنهجية، ووعي بأهمية تفعيل هذه المنظومة في إطار تحقيق الحصانة والحماية الذاتية من الغزو الفكري وانعكاساته المجتمعية.

      ومن هنا، فإن تجديد الوعي بدوائره المختلفة يسهم في تحديد مسارات الفعل من حيث الوقوف على الواجبات التي يمكن أداؤها بالتوازي، بما يجعلنا ننبه على فكرة ثغور المرابطة التي يلزم المسلم المعاصر الاهتمام بها وتسكينها في سياق الأمانة والمسؤولية، فإذا أدرك المسلم دوره مهما كان تخصصه ومهما كانت حرفته ومهنته التي يمتهنها، فإنه يؤدي دوراً مهماً في تحقيق مقومات الحفظ للأمة، وعندها يعلم قيمة ألا يؤتى الإسلام من قبله.  

      إن من مسوغات الحماية والحصانة للبنية الفقهية وتجلياتها المذهبية الوعي بالاختلالات الطارئة على هذه البنية، ومن أظهرها سوءاً استحكام التقليد المذموم، وإشاعة القول بإغلاق باب الاجتهاد، والجمود الفقهي والاقتصار على ما هو مدون في المصنفات الفقهية، والتعصب للمذهب على حساب الحق إذا ظهر في مذهب آخر، فضلاً عن المضامين الضعيفة التي كثرت في تقريراتها الفقهية سواء من حيث موضوعها وسياقها الفقهي ومن حيث تعاملها مع الأدلة الشرعية، وهو ما يستدعي تجديد البنية وإحياء معالمها الكلية في ضوء نصوص الشريعة ومقاصدها وبما يتناسب مع متطلبات الواقع المعاصر.

ثانياً: من القواعد الهادية في تحقيق الحصانة والحماية الفكرية للعقلية المسلمة أن هناك مسارين: الأول مدافعة الباطل فيما يعرضه من شبهات وأباطيل، والثاني إعادة تشكيل هذه العقلية على وفق ما يقتضيه خطاب الشرع ومقصوده، ومن الأهمية التنبه إلى ضرورة التزامن أو التقارب بين المسارين بناء على منهجية التكامل البنائي، وبهذا تُتجاوز إشكاليات الإغراق في الرد على الشبهات والغوص في نهج دفاعي يشغلنا عن حركة البناء والعمران الحضاري الذي تقتضيه منهجية التوحيد ومنظوماتها السننية والقيمية.

      إن عمل المنظومة الفقهية في سياق كلي حاكم لها، بحيث تسكن كلبنة من لبنات البنيان الإسلامي المتكامل، يجعلنا ولا شك في مأمن من عمليات التفكيك والتشتيت لتلكم اللبنات، حتى يظن الظان أنها لا يمت بعضها إلى البعض الآخر بصلة، ولا يغيبن عن الذهن أن عمل الأولين في التفريق بين مكونات البنية الإسلامية إلى وحدات: عقدية وفقهية وقيمية وغيرها، إنما أملته مقتضيات التصنيف العلمي لم يُقصد تفكيك اللحمة، وإنما هي مقاصد العلم والمعرفة، وعليه فإن العقلية المسلمة يلزمها تصحيح هذا الفهم بالتأكيد على اللحمة الجامعة لهذه اللبنات، ودفع ما يعرض من شبهات وتأويلات باطلة تشوه هذه اللحمة وتوظفها في مسارات النقض والاختطاف.

ثالثاً: وارتباطاً بما ذكرناه من ضرورة التجديد في البنية الفقهية، فإن هناك خطوات تصب في تحقيقه وتسهم في إعادة الروح إلى هذه البنية بما يعد تقوية لعوامل المناعة الذاتية ضد محاولات الاختطاف التي تعرضت لها ولا تزال، وأهم هذه الخطوات:

الاستمرار في الاجتهاد، وقولنا الاستمرار فيه دفعاً لما تُوهم في الفكر الإسلامي من أن هناك إغلاقاً لهذا الباب جرى في التاريخ الإسلامي وتحديداً بعد المائة الرابعة من الهجرة، وهي من القضايا والمسائل التي راجت وشاعت للأسف في كثير من الدراسات قديمها وحديثها، ويتفق الباحث في هذا الإطار مع الأطروحة التي تتبنى القول بأن الإجتهاد في الفقه الإسلامي وتجديده لم يتوقف يوماً توقفاً تاماً، ولم يثبت علمياً أن أحداً أغلقه؛ حتى ولو شاع القول بإغلاقه نظرياً، وإنما غاية ما يقال في هذا المجال إن الفقهاء أُلجؤوا إلى أخذ موقف محافظ أحياناً في مقابل ضغوط السلطة السياسية في دائرتي الترغيب والترهيب، وهذه المحافظة بهذا المعنى في ظروف معينة كانت تؤدي وظيفة مقاومة لضغوط الانحراف عن الأصول وتبديدها بدعوى التجديد[43].

تجزؤ الاجتهاد؛ لغياب الاجتهاد المطلق مع إمكانه شرعاً وعقلاً، وهذا يستدعي النظر التأصيلي في مدى واقعية الشروط المتعلقة بالوصول إلى مرتبة الاجتهاد، والأخذ فيها على ما يسهم في تعميم روح الاجتهاد الجزئي الذي تتسع له تخصصات فقهية متعددة ومتنوعة، بل يتسع كذلك لتخصصات أخرى لها تعلق بالفقه، يقول الدكتور يوسف القرضاوي: “وتجزؤ الاجتهاد يشبه ما عرفه عصرنا من أنواع التخصص الدقيق، فمثلاً في القانون لا يوجد أستاذ في كل فروع القانون، بل في المدني أو الجنائي أو الإداري .. وعلى هذا يستطيع أستاذ الاقتصاد المتمكن إذا درس ما يتعلق به في الفقه الإسلامي والمصادر الإسلامية -دراسة مستوعبة- أن يجتهد في هذا الباب وحده لا يتعداه. ومثل ذلك أستاذ القانون الجنائي، أو الدستوري، أو أستاذ علم الاجتماع، كل في اختصاصه. وهذا إنما يتم بشرطين: الأول: أن تكون لديه الأهلية العلمية العامة للفهم والاستنباط .. الثاني: أن يدرس موضوعه أو مسألته دراسة مستوعبة، بحيث يحيط بها من جميع جوانبها، حتى يتمكن من الاجتهاد فيها ..”[44].

الاستجابات الواعية الفاعلة البانية، إن مقتضى التجدد والتجديد الفقهي لا يتأتى من استجابته لمظاهر التغريب وظواهر تغيير الأوضاع الاجتماعية وأنماط العلاقات بين الناس بحيث يجعلونه في دائرة الاختطاف فتتغير بنيته وتتميع قواعده وأسسه، وإنما مناط الحكم على الفقه بالتجدد إنما يتأتى من قدرة الفقه على أن يستجيب للتحديات التي يفرضها الواقع والتاريخ في زمان ومكان معينين، وأن تكون هذه الاستجابة مما يحفظ مصالح الإسلام والمسلمين. ولذلك فإن علينا واجبين في هذا المجال، الأول: حفظ الشريعة كأصول عامة وسيادتها وفاعليتها على أوضاعنا الاجتماعية ونظم الحياة. والثاني: يتعلق بالمجال الذي يعمل فيه الفقه، وهو مجال الاجتهاد في إدراك معنى الأحكام مطبقة على الواقع المعيش، والمهم في هذا المجال أن تتكون لدينا ملكة تواكب الواقع الاجتماعي وفقاً للأحكام المنزلة، وأن تتكون لدينا أيضاً ملكة الإفساح في الاجتهادات الفقهية لما يطرأ من تغيير في تركيب الواقع الاجتماعي؛ وفقاً لوجوه الاستجابة للتحديات المطروحة على الجماعة في كل ظرف خاص، وبهذا يجري التوظيف والتطابق بين الواقع الاجتماعي ومؤسساته وعلاقاته ونماذج سلوكه، وبين الأحكام والأفكار. ويجري الدمج بين علم الدين وعلم الدنيا، ويترابط العمل والعبادة[45].  

غرس ثقافة الاجتهاد الجماعي في البنية العقلية الإسلامية، ومراعاة تفعيلها في دائرة التكوين العلمي بمختلف مستوياته، بما يجعلها معلماً من معالم الفقه في الواقع المعاصر، وأهمية هذه الثقافة لو سادت في البنى المجتمعية تكمن في: كونها تشيع مبدأ الشورى في الدائرة الاجتهادية وتنعكس خُلقاً وقيمة في المجتمع الإسلامي، وتتحقق فيها منهجية التكامل المعرفي؛ بحكم ما تحتاجه العملية الاجتهادية من تخصصات علمية، فضلاً عن مقاربتها للصواب وبعدها عن مواطن الزلل والخطأ في الاجتهاد التي قد يتلبس بها الاجتهاد الفردي[46].

رابعاً: إصلاح منظومة التعليم الشرعي، وهذا يتعلق بنجاعة هذه المنظومة وتفعيل تأثيرها في واقع الناس، وإنما يتحقق بمراجعة هيكلة هذه المنظومة وبُناها من حيث مؤسساتها، ومناهجها، ومضامينها، وأولوياتها، ومفاهيمها؛ للانتقال بها من المفضول إلى الفاضل، ومن الحسن إلى الأحسن، بعد أن بات الكثير منها يعاني من غربة الزمان، وكادت تنحسر رؤيتها في ما انتهى إليها من الماضي، والتنبه إلى بعض المجالات المعطلة في حياتنا، واستحداث شعب معرفية شرعية جديدة تمكن من فهم الواقع بكل مكوناته، إلى جانب فقه النص بكل أبعاده ودلالاته[47].

      ولا يخفى أن تراجع الأمة المسلمة وتخلفها، على الرغم من امتلاكها أدوات الإمكان الحضاري وعمرانه، سواء في ذلك معارف الوحي في الكتاب والسنة، والإفادة من خير القرون وما حملته التجربة الحضارية التاريخية في التنزيل على واقع الحياة، يعود إلى حد بعيد إلى انكماش وانحسار وغياب الفروض الكفائية، التي يعد استكمالها وتوفيرها وتطويرها من صلب العلوم الشرعية، بل البعض يراها أكثر أولوية من الفروض العينية؛ لأنها واجبات ومسؤوليات جماعية تخص الأمة كلها، وترتبط بتحقيق مصالحها، وتوفير كفايتها، وصناعة منعتها[48].

خامساً: الحفاظ على البنية الفقهية المذهبية والتراث الفقهي المذهبي؛ بوصفها إحدى اللبنات الرئيسة في ذاكرة الأمة، وإنما يتحقق ذلك باتخاذ الوسائل المعينة على تحقيقه، وأهمها توجيه الطلبة نحو الدراسة المذهبية في المدارس والمعاهد والجامعات المتخصصة، والتأليف فيها ونشرها بين العامة، والاستعانة بوسائل الاتصال الحديثة، وهذا ليس لكونها مقصودة لذاتها وإنما بما تمثله من منهجية وَسَلية لفهم الخطاب الشرعي، ويلزم بإزاء ذلك تصحيح المفاهيم المتعلقة بهذه البنية وتخليصها من أدواء وإصابات التعصب والجمود والتقليد المذموم.

سادساً: تفعيل البعد المقاصدي في البنية الفقهية وتجلياتها المذهبية، وهذا البعد وإن كان مستحضراً في الأصل في فقه الأئمة وماثلاً في تقريراتهم بحكم المباحث العلمية التي اقترنت ببحث فقه المصالح، إلا أنه كان بحثاً جزئياً في إطار علم الأصول بل في باب من أبوابه وهو باب القياس، وعليه فإن تفعيل المقاصد يسهم في جعل البنية الفقهية في دائرة الإحكام والإتقان؛ من جهة كون هذه المقاصد مجال استثمار تعين في دائرتي التكوين الفقهي عند إعداد الفقهاء، والاستخراج الفقهي فيما يتعلق بالبعد الاجتهادي.  

      وفيما يتعلق بالأخير، فإن الفقيه كما يشير ابن عاشور محتاج إلى المقاصد من خمسة أوجه: الأول: من جهة فهم الشريعة والاستفادة من مدلولاتها بالمقتضى اللغوي والشرعي. والثاني: من جهة تعارض الأدلة التي لاحت للمجتهد. والثالث: من جهة قياس ما لم يرد حكمه صراحة في أقوال الشارع على حكم ما ورد حكمه فيه بعد الوقوف على علل التشريعات الثابتة في حكم المنصوص عليه. والرابع: من جهة إعطاء حكم لفعل أو حادث حدث للناس لا يعرف حكمه فيما لاح للمجتهدين من أدلة الشريعة، ولا له نظير يقاس عليه. والخامس: من جهة تلقي بعض أحكام الشريعة الثابتة عنده تلقي من لم يعرف علل أحكامها ولا حكمة الشريعة في تشريعها، وهذه الجهة هي جهة التعبد[49]، واحتياجه للمقاصد في هذه الجهة مرجعه أن استحصال العلم بالمقاصد والاستكثار منها يقلل ويقيد الدائرة التعبدية[50].

سابعاً: نشر أدب الاختلاف، فكون الاختلاف من جواذب الاختطاف، فإن من الوسائل الناجعة في تجاوز واستيعاب إشكاليات وأزمات التمذهب إشاعة أدب الاختلاف على وفق معالمه التي سادت اختلاف العلماء سلفاً وخلفاً، وأبرزها: استحضار الخضوع لله والاستسلام له، الأخوة الإيمانية ولزوم جماعة المسلمين العامة، الاجتهاد في طلب الهدى الشرعي، اختلاف الآراء طبيعة بشرية وفطرة إلهية[51].

      إن من أهم الواجبات أن يدرك المسلمون أن أخوة الإسلام ووحدة صفوف المسلمين المخلصين والحفاظ عليها ونبذ كل ما يسيء إليها أو يضعف من عراها من أهم الفرائض وأخطرها، وعبادة من أهم العبادات، وقربة من أفضل القربات؛ لأننا بتلك الأخوة نقوى على التصدي لكل العقبات التي تعيق استئناف الحياة الإسلامية على الصورة التي ترضي الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولذلك فإن التفريط بالأخوة الإسلامية أو المساس بها لمجرد اختلاف في الرأي أمر لا يجوز لمسلم أن يفعله، أو أن يسقط في شراكه، ولا سيما في هذه الظروف التي تداعت فيها علينا الأمم، تريد أن تطفئ جذوة  الإيمان التي بدأت تتقد في القلوب[52]، فالحفاظ على بنيان الأمة في إطار الأخوة الإيمانية يعد شقيق التوحيد الذي هو فرض الله على العبيد، وبهذا تستطيع الأمة أن تتجاوز وتستوعب أزماتها وتكون قادرة على مواجهة كل محاولات الاختطاف، وإنما يتحقق ذلك بتميز الخبيث من الطيب في داخلها والأخذ بأسباب القوة المادية والمعنوية، وأن ترفع للشريعة رأساً وتقبل هدى الله الذي أرسل به رسولها صلى الله عليه وسلم.

ثامناً: في البعد الوسائلي تبرز الحاجة إلى إخراج تراث الأمة ونتاج فقهائها في سياقات إعلامية متعددة ومتنوعة، ويتحقق ذلك بإنتاج برامج وثائقية وأعمال فنية بمختلف صورها ومظاهرها وبمختلف النوافذ المتاحة من قنوات فضائية ومواقع للتواصل الاجتماعي.

خاتمة:

      كان للبحث في اختطاف المذاهب الفقهية القديمة مسوغاته ودواعيه التي حتمت على الباحث تناوله والوقوف عند مساراته باختلاف سالكيها، وأبرز هذه الدواعي والمسوغات استغلالهم للبنية الفقهية بتسويق نسخ من مضامين فقهية قصدوا فيما يحسبه الباحث تشويه هذه البنية والانطلاق منها نحو تشويه حاضنتها الكبرى وهي المنظومة الإسلامية الجامعة، وأهم ما دفعهم بهذا الاتجاه مواطن الضعف والثغرات الكامنة في البنية المذهبية، وما انبنت عليها من علاقات متأزمة آلت إلى صور من التفرق والتشرذم، فضلاً عن خوفهم وخشيتهم من أجيال الأمة الواعدة استدعاءها أسباب القوة في هذه البنية واستثمارها في مرحلة إحيائية وتجديدية جديدة في الواقع المعاصر.

      وانبرت لأجل تحقيق هذا الاختطاف قوى فاعلة تنوعت مرجعياتها واختلفت بيئاتها ما بين داخل وخارج، ولكن تقاطعت أهدافها في محصلة الاختطاف، فكان للاستشراق والمستشرقين دورهم الخطير في هذا الاتجاه باتخاذ وسائل عنوانها التلفيق والتزوير والتحريف عن السياق، وسلك سبيلهم من حيث مقاصده قوى أخرى كمنت فيها أدواء التعصب والتميع والعَلْمَنة.

      واستدعى ذلك من الباحث الوقوف عند رؤى تنظيرية ووسائل وآليات تأخذ باعتبارها تحقيق الحصانة والحماية للبنية الفقهية المذهبية، والأخذ بها في سياق متزامن باتجاه الإحياء والتجديد لمعالم هذه البنية ورفدها بمضامين اجتهادية، وجعلها فاعلة في واقع الناس باعتماد وسائل مؤثرة في إعادة تشكيل العقل المسلم بعيداً عن دوائر التشويه والتضليل والاختطاف.   

المراجع

-ابن حزم، رسائل ابن حزم الأندلسي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط2، 1987م.

-أبو إسحاق الشاطبي، الموافقات في أصول الشريعة، بيروت، دار الكتب العلمية، ط1، 2004هـ/1425م.

-أبو الحسن الكرخي، رسالة في الأصول، بذيل رسالة الإمام أبي زيد الدبوسي، تأسيس النظر، بيروت، دار ابن زيدون.

-أحمد طالب الإبراهيمي (جمع وتقديم)، آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي، بيروت، دار الغرب الإسلامي، ط1، 1997م.

-أكرم يوسف القواسمي، المدخل إلى مذهب الإمام الشافعي، عمان/الأردن، دار النفائس، ط1، 1423هـ/2003م.

-بكر بن عبدالله أبو زيد، المدخل المفصل إلى فقه الإمام أحمد بن حنبل، الرياض، دار العاصمة، ط1، 1417هـ.

-بوبكر صديقي، البعد المقاصدي في فتاوى أعلام جمعية العلماء المسلمين الجزائريين: دراسة من خلال جريدة البصائر (1935-1956)، رسالة ماجستير غير منشورة، جامعة الحاج لخضر، كلية العلوم الاجتماعية والإنسانية، الجزائر، 1432هـ/2011م.

-جورج مقدسي، نشأة الكليات: معاهد العلم عند المسلمين والغرب، القاهرة، مدارات للأبحاث والنشر، ط1، 1436هـ/2015م.

-خالد كبير علال، التعصب المذهبي في التاريخ الإسلامي: مظاهره، آثاره، أسبابه، علاجه، دار المحتسب، 1429هـ/2008م. 

-ساسي سالم الحاج، نقد الخطاب الاستشراقي: الظاهرة الاستشراقية وأثرها في الدراسات الإسلامية، بيروت، دار المدار الإسلامي، 2002م.

-سالم علي الثقفي، مفاتيح الفقه الحنبلي، القاهرة، دار النصر للطباعة الإسلامية، ط2، 1402هـ/1982م.

-شمس الدين الذهبي، سير أعلام النبلاء، بيروت، مؤسسة الرسالة، ط11، 1417هـ/1996م.

-صلاح الصاوي، الثوابت والمتغيرات في مسيرة العمل الإسلامي المعاصر، الولايات المتحدة الأمريكية، أكاديمية الشريعة، ط1، 1430هـ/2009م.

-طارق البشري، في المسألة الإٍسلامية المعاصرة (اجتهادات فقهية)، القاهرة، دار البشير، ط1، 1438هـ/2017م. 

-طه جابر العلواني، أدب الاختلاف في الإسلام، سلسلة كتاب الأمة 9، قطر، رئاسة المحاكم الشرعية والشؤون الدينية، ط1، 1405هـ.

-عبدالسلام مقبل المجيدي، لا إنكار في مسائل الاجتهاد، سلسلة الوعي الإسلامي 9، الكويت، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، ط2، 1432هـ/2011م.

-عبدالمجيد السوسوة الشرفي، الاجتهاد الجماعي في التشريع الإسلامي، قطر، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، سلسلة كتاب الأمة 62، 1418هـ.

-عمار الطالبي (إعداد وتصنيف)، آثار ابن باديس، الجزائر، الشركة الجزائرية، ط3، 1417هـ/1997م.

-عمر سليمان الأشقر، المدخل إلى دراسة المدارس والمذاهب الفقهية، عمان/الأردن، دار النفائس، ط2، 1418هـ/1998م.

-محمد أبو زهرة، تاريخ المذاهب الإسلامية، القاهرة، دار الفكر العربي، بدون تاريخ.

-محمد أبو زهرة، مالك: حياته وعصره، آراؤه وفقهه، القاهرة، دار الفكر العربي، ط2، بدون تاريخ.

-محمد الطاهر ابن عاشور، مقاصد الشريعة الإسلامية، قطر، وزارة الأوقاف والشؤون القطرية، 1425هـ/2004م.

-محمد بسناسي، الدراسة الاستشراقية بين الأمس واليوم، بحث منشور في مجلة دراسات استشراقية، المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية، العدد 9، السنة الثالثة، 1438هـ/2016م.

-محمد بن سليمان الكردي، الفوائد المدنية فيمن يفتى بقوله من أئمة الشافعية، لبنان، دار نور الصباح ودار الجفان والجابي، ط1، 2011م.

-محمد بن عبدالله الدويش، تطوير التعليم الشرعي حاجة أم ضرورة، قطر، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، سلسلة كتاب الأمة 158، 1434هـ.

-محمد حامد الناصر، العصرانيون بين مزاعم التجديد وميادين التغريب، الرياض، مكتبة الكوثر، ط2، 1422هـ/2001م.

-محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، ط10، 2009م.

-محمد عمارة، في فقه الحضارة الإسلامية، القاهرة، مكتبة الشروق الدولية، ط2، 1427هـ/2007م.

-محمد عيد عباسي، بدعة التعصب المذهبي، عمان/الأردن، المكتبة الإسلامية.

-مصطفى أحمد الزرقا، المدخل الفقهي العام، دمشق، دار القلم، ط1، 1418هـ/1998م.

-نصر محمد عارف، في مصادر التراث السياسي الإسلامي: دراسة في إشكالية التعميم قبل الاستقراء والتأصيل، هيرندن/فرجينيا، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط1، 1415هـ/1994م.  

-وائل حلاق، نشأة الفقه الإسلامي وتطوره، بيروت، دار المدار الإسلامي، ط1، 2007م.

-يوسف القرضاوي، الاجتهاد في الشريعة الإسلامية مع نظرات تحليلية في الاجتهاد المعاصر، الكويت، دار القلم، ط1، 1417هـ/1996م.


[1] د.منى أبو الفضل، إطلالة منهاجية على مصادر التراث السياسي (تقديم) في: نصر محمد عارف، في مصادر التراث السياسي الإسلامي: دراسة في إشكالية التعميم قبل الاستقراء والتأصيل، هيرندن/فرجينيا، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط1، 1415هـ/1994م، ص14.  

[2] د.محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، ط10، 2009م، ص96.

[3] أحمد محمود، في تاريخ الفقه: النشأة وتشكل المذاهب: قصة المذاهب الفقهية في مصر (1)، موقع إضاءات، تاريخ النشر: 2/6/2015م.

[4] د.وائل حلاق، نشأة الفقه الإسلامي وتطوره، بيروت، دار المدار الإسلامي، ط1، 2007م، ص209-211.

[5] د.بكر بن عبدالله أبو زيد، المدخل المفصل إلى فقه الإمام أحمد بن حنبل، الرياض، دار العاصمة، ط1، 1417هـ، ج1ص33.

[6] محمد أبو زهرة، تاريخ المذاهب الإسلامية، القاهرة، دار الفكر العربي، بدون تاريخ، ص418.

[7] د.أكرم يوسف القواسمي، المدخل إلى مذهب الإمام الشافعي، عمان/الأردن، دار النفائس، ط1، 1423هـ/2003م، ص100.

[8] شمس الدين الذهبي، سير أعلام النبلاء، بيروت، مؤسسة الرسالة، ط11، 1417هـ/1996م، ج8ص156.  

[9] أحمد محمود، كيف استقرت المذاهب الأربعة في الفقه السني؟، موقع إضاءات، تاريخ النشر: 29/6/2015م.

[10] جورج مقدسي، نشأة الكليات: معاهد العلم عند المسلمين والغرب، القاهرة، مدارات للأبحاث والنشر، ط1، 1436هـ/2015م، ص39.

[11] من أوائل القرن الثاني إلى منتصف القرن الرابع بالتقويم الهجري.

[12] مصطفى أحمد الزرقا، المدخل الفقهي العام، دمشق، دار القلم، ط1، 1418هـ/1998م، ج1ص201.

[13] ابن حزم، رسائل ابن حزم الأندلسي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط2، 1987م، ج2ص229.

[14] د.سالم علي الثقفي، مفاتيح الفقه الحنبلي، القاهرة، دار النصر للطباعة الإسلامية، ط2، 1402هـ/1982م، ج2ص428.

[15] د.محمد عمارة، في فقه الحضارة الإسلامية، القاهرة، مكتبة الشروق الدولية، ط2، 1427هـ/2007م، ص135-136.

[16] محمد أبو زهرة، مالك: حياته وعصره، آراؤه وفقهه، القاهرة، دار الفكر العربي، ط2، بدون تاريخ، ص139-141.

[17] د.وائل حلاق، نشأة الفقه الإسلامي وتطوره، مرجع سابق، ص11-12.

[18] المرجع السابق، ص13.

[19] د.محمد بسناسي، الدراسة الاستشراقية بين الأمس واليوم، بحث منشور في مجلة دراسات استشراقية، المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية، العدد 9، السنة الثالثة، 1438هـ/2016م، ص56-58.  

[20] ما يلزم بيانه في هذا المقام أن الباحث لم يتعرض بإسهاب إلى الظاهرة الاستشراقية من حيث مفهومها وتطورها التاريخي ورؤاها، واكتفى في هذا البحث بالتنبيه إجمالاً على موقف المستشرقين من دائرة الفقه الإسلامي والمذاهب الفقهية، علماً أنه أفاض الحديث عن الدرس الاستشراقي في بحثه: اختطاف المفاهيم الكبرى مفهوم الجهاد أنموذجاً، وكذلك في بحثه: التسميم الفكري والحضاري اختطاف الأسئلة أنموذجاً.

[21] د.ساسي سالم الحاج، نقد الخطاب الاستشراقي: الظاهرة الاستشراقية وأثرها في الدراسات الإسلامية، بيروت، دار المدار الإسلامي، 2002م، ج2ص442.

[22] د.محمد الدسوقي، الاستشراق والفقه الإسلامي، ص11.

[23]  المرجع السابق، ص15-17.

[24] د.محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي، مرجع سابق، ص96-97.

[25] د.عمر سليمان الأشقر، المدخل إلى دراسة المدارس والمذاهب الفقهية، عمان/الأردن، دار النفائس، ط2، 1418هـ/1998م، ص217.  

[26] أبو إسحاق الشاطبي، الموافقات في أصول الشريعة، بيروت، دار الكتب العلمية، ط1، 2004هـ/1425م، ص852.

[27] المرجع السابق، ص853.

[28] محمد عيد عباسي، بدعة التعصب المذهبي، عمان/الأردن، المكتبة الإسلامية، ص139 فما بعدها.

[29] محمد بن سليمان الكردي، الفوائد المدنية فيمن يفتى بقوله من أئمة الشافعية، لبنان، دار نور الصباح ودار الجفان والجابي، ط1، 2011م، ص63.

[30] أبو الحسن الكرخي، رسالة في الأصول، بذيل رسالة الإمام أبي زيد الدبوسي، تأسيس النظر، بيروت، دار ابن زيدون، ص169.

[31]  د.خالد كبير علال، التعصب المذهبي في التاريخ الإسلامي: مظاهره، آثاره، أسبابه، علاجه، دار المحتسب، 1429هـ/2008م، ص53.

[32] المرجع السابق، ص54.

[33] أبو إسحاق الشاطبي، الموافقات، مرجع سابق، ص796.

[34] أبو إسحاق الشاطبي، الموافقات، مرجع سابق، ص821.

[35] د.صلاح الصاوي، الثوابت والمتغيرات في مسيرة العمل الإسلامي المعاصر، الولايات المتحدة الأمريكية، أكاديمية الشريعة، ط1، 1430هـ/2009م، ص89-90.

[36] محمد حامد الناصر، العصرانيون بين مزاعم التجديد وميادين التغريب، الرياض، مكتبة الكوثر، ط2، 1422هـ/2001م، ص228-229.

[37] د.أحمد طالب الإبراهيمي (جمع وتقديم)، آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي، بيروت، دار الغرب الإسلامي، ط1، 1997م، ج1ص73.

[38] المرجع السابق، ج1ص181-182.

[39] بوبكر صديقي، البعد المقاصدي في فتاوى أعلام جمعية العلماء المسلمين الجزائريين: دراسة من خلال جريدة البصائر (1935-1956)، رسالة ماجستير غير منشورة، جامعة الحاج لخضر، كلية العلوم الاجتماعية والإنسانية، الجزائر، 1432هـ/2011م، ص68.

[40] المرجع السابق، ص66.

[41] المرجع السابق، ص66-67.

[42] د.عمار الطالبي (إعداد وتصنيف)، آثار ابن باديس، الجزائر، الشركة الجزائرية، ط3، 1417هـ/1997م، ج3ص27.

[43] طارق البشري، في المسألة الإٍسلامية المعاصرة (اجتهادات فقهية)، القاهرة، دار البشير، ط1، 1438هـ/2017م، ص7، والاقتباس من تقديم الدكتور إبراهيم البيومي غانم للكتاب تحت عنوان: في حضرة الكتاب.

[44] د.يوسف القرضاوي، الاجتهاد في الشريعة الإسلامية مع نظرات تحليلية في الاجتهاد المعاصر، الكويت، دار القلم، ط1، 1417هـ/1996م، ص61-62.

[45] طارق البشري، في المسألة الإسلامية المعاصرة، مرجع سابق، ص49-51.

[46] د.عبدالمجيد السوسوة الشرفي، الاجتهاد الجماعي في التشريع الإسلامي، قطر، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، سلسلة كتاب الأمة 62، 1418هـ، ص77.

[47] د.محمد بن عبدالله الدويش، تطوير التعليم الشرعي حاجة أم ضرورة، قطر، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، سلسلة كتاب الأمة 158، 1434هـ، ص7، والاقتباس من تقديم الأستاذ عمر عبيد حسنة.  

[48] المرجع السابق، ص8.

[49] محمد الطاهر ابن عاشور، مقاصد الشريعة الإسلامية، قطر، وزارة الأوقاف والشؤون القطرية، 1425هـ/2004م، ص40-41.  

[50] المرجع السابق، ص51.

[51] د.عبدالسلام مقبل المجيدي، لا إنكار في مسائل الاجتهاد، سلسلة الوعي الإسلامي 9، الكويت، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، ط2، 1432هـ/2011م، ص23.

[52] د.طه جابر العلواني، أدب الاختلاف في الإسلام، سلسلة كتاب الأمة 9، قطر، رئاسة المحاكم الشرعية والشؤون الدينية، ط1، 1405هـ، ص163.

زر الذهاب إلى الأعلى