تقدير موقفقراءة الحدثوطني

المشهد المصري بين خريف آفل وربيع آت..

قراءة في حراك 20 سبتمبر

“يحيي العظام وهي رميم”  صدق الله العظيم

قبل ٢٠ سبتمبر كان لا يجرؤ أحد على التظاهر ضد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، إذ كانت الأجواء كما يرى متابعون مليئة باليأس والإحباط وفي ظل مناخ سياسي بدا غير صحي، خاصة بعد المواجهات الأمنية لمحاولات التظاهر بكل حسم وبعد وصول عدد المعتقلين السياسيين إلى 60 ألف معتقل في بعض التقديرات، ثم قانون التظاهر المثير للجدل، وتعديل الدستور ليضمن السيسي البقاء في الحكم لفترة طويلة، وزاد على ذلك وفاة الرئيس السابق محمد مرسي وما أثير حولها من أقاويل بمقتله بطريقة غير مباشرة، وبذلك خلت الساحة للسيسي تماماً وسيطر – كما كان يبدو- على جميع أجهزة الدولة جيش وشرطة ومجلس نيابي وقضاء وإعلام… إلخ

لكن لا تأتي الرياح دائمًا بما تشتهيه السفن، فقد كان ظهور المقاول والفنان محمد علي (والذين معه في رواية) نقطة تحول هائلة ومفاجئة في المشهد المصري، فقد نجح (علي) بأسلوبه الشعبي البسيط والقضايا التي ركز عليها، والتي تخص قوت الناس وكرامتهم وفساد السيسي وحاشيته، في إيقاظ شرائح واسعة من الشعب المصري من غير المؤدلجين والبعيدين عن الأحزاب والحركات السياسية، وأفلح عن طريق مقاطعه المصورة التي يبثها على مواقع التواصل الاجتماعي في إلقاء الجرأة في قلوب تلك الشرائح من جديد وفي إعطاء قُبلة الحياة للحراك الشعبي من جديد.

وكان من نتيجة خطابه انطلاق تظاهرات بشكل غير مسبوق أو متوقع يوم ٢٠ سبتمبر وما تلاه، وذلك في محافظات مصرية متعددة، بوسط القاهرة في ميدان التحرير وبمحافظات مرسى مطروح ودمياط والغربية والدقهلية وقنا والسويس، مظاهرات نددت بحكم السيسي ونادت برحيله، وشهدت إحراق وتمزيق لافتات تحتوي على صوره.

فأين قوات الأمن من ذلك كله؟ لقد تردد هذا السؤال في دوائر كثيرة للمصريين سواء على مواقع التواصل أو غيرها، وظهر رأي وانتشر أن قوات الأمن تساند المتظاهرين، فهل قوات الشرطة ساندت المتظاهرين بالفعل؟

محللون يجيبون بـ(لا)، متعللين بوصول عدد المعتقلين على خلفية تظاهرات 20 سبتمبر إلى 1900 بحسب صحيفة الجارديان، إضافة إلى مشاهد مُصورة وروايات تُظهر ضرب قوات الأمن لبعض المتظاهرين قبل إلقاء القبض عليهم، أما من أجاب بـ(نعم) وأن قوات الأمن تساند المتظاهرين فقد احتج بأن أي تجمع كبير سابق للتظاهر بعد انقلاب يوليو 2013 كان يُقابَل بالبطش الشديد والرصاص الحي ونزول الجيش، أما هذه المرة فكانت الشرطة تتعامل بشيء من المرونة، وصدرت تصريحات قيل إنها من بعض عناصرها على الأرض بأنهم لن يمسوا المتظاهرين في حالة تزايد أعدادهم بشكل كبير، وأنه في حالة تزايد الحشود ستنسحب الشرطة، وغير ذلك من التصريحات المنتشرة والتي تحتوي على تطمينات أمنية.

على التوازي ظهر رأي واعتقاد بأن محمد علي مدعوم من جناح مناوئ للسيسي داخل مؤسسات الدولة، جناح يدعم الحراك الحالي ويحشد له، بينما عارض البعض ذلك وقال إنه مجرد تخمين ولا توجد معلومات بخصوصه وبالتالي لا يمكن الاعتماد عليه، أو على الأقل لا يوجد دعم كبير وحقيقي قادر على إحداث نقلة في المشهد، واحتج  هذا الفريق بحالة سامي عنان وأنه بمجرد القبض عليه بعد إعلان نيته للتشرح انتهى أمره بالسجن بعد محاكمة عسكرية ولم يترتب شيء على ذلك أو تحرك لمؤيدين له داخل الجيش، ورأى آخرون أن هناك شواهد تدل على صراع الأجنحة داخل المؤسسات وأن محمد علي يمثل واجهة هذا الصراع، واحتجوا بوجود معارضة من شخصيات عسكرية لها ثقلها للسيسي، فقد ترشح عنان وصدرت عنه تصريحات مناوئة قبل القبض عليه وهو رئيس أركان سابق، وتحددت إقامة أحمد شفيق وهو برتبة فريق ورئيس وزراء سابق، وترشح أحمد قنصوة وهو ضابط شاب مميز وكلامه الذي قال فيه إنه رأيٌ أيضًا لبعض زملائه قبل أن يُحاكم عسكرياً ويُحكم عليه ب ٦ سنوات، إضافة إلى وجود ما قيل إنه تذمر لدى بعض الضباط نقله أكثر من مصدر نتيجة تنحية السيسي لكثير من القيادات الكبيرة منذ أن تولى، ولما وصفوه بالتفريط في مياه النيل والجزيرتين تيران وصنافير وحدود مصر مع الكيان الصهيوني وتوريط مصر في ديون ضخمة، مما يجعل مصر ضعيفة ودون سيادة ومهددة في أمنها المائي والعسكري.

متغير جديد شهده الحراك الحالي وهو أنه ذو طابع شعبي غير فئوي وبعيد عن الاستقطاب، فبدا أن هناك غضبًا شعبياً تمثل في شباب ونساء وشيوخ غير مبالين بمصيرهم وما يترتب على معارضتهم في سبيل إنهاء الفساد و”التخريب الممنهج” الذي يتورط فيه النظام يومًا بعد يوم من وجهة نظرهم. أما البعد عن الاستقطاب فقد ظهر في هذا الحراك وأنه لا صوت يعلو فوق صوت المناداة برحيل السيسي، على ذلك حدث هذا الاتفاق غير المكتوب بين فصائل المعارضة بلا تراشق أو استقطاب، وهذه متغيرات لم تحدث منذ نموذج 25 يناير ٢٠١١ الذي تميز بأعلى درجات الوحدة بين فصائل المعارضة، وكأن هناك إدراكًا جديدًا بضرورة التوافق، وقد رأى البعض في هذا الائتلاف فرصة لا تتكرر كثيرًا لتكوين جبهة شعبية واسعة ليس لها مطلب إلا ما هو مجمع عليه فيما بينها والمتمثل في تنحية السيسي.

مما أثير حول الحراك الحالي مدى “العجلة” التي تمضي بها الأحداث والتصعيد المتقارب الذي يقوم به محمد علي، رغم أن الحراك لا يزال في بدايته  وفي أسبوعه الثاني بعد سنوات من القحط السياسي والرأي الواحد، فقد علّق متابعون بأن هذا يقود إلى حالة من اليأس في حالة عدم تنحي السيسي وسيُعد فشلًا للتظاهرات، خاصة وأنه أمر متوقع بصورة كبيرة بل هو الأمر الطبيعي لأن الحراك لا يزال في بدايته، واستُدل على ذلك بالحالة المصرية في عهد الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك، فقد تنحى بعد سنوات من بداية التظاهرات ضده في 2006 والتي تمثلت في حركة كفاية مروراً بإضراب ٦ أبريل ووصولًا إلى وقائع التعذيب واندلاع ثورة 25 يناير، ورأوا أن بديل هذه “العجلة” والنجاح في هذه المرحلة يتمثل في زيادة الضغط على النظام لتقديم تنازلات، ومع تزايد الضغط تزيد التنازلات والتي تكون قمتها إزالة السيسي من المشهد.

أما على مستوى حركة الاحتجاجات، فقد كان رأي محمد علي في البداية أن تكون التظاهرات في الشوارع الجانبية وبعيدًا عن الميادين، لكن يبدو أن دخول المتظاهرين الميادين من اليوم الأول جعله يحث الجماهير على اقتحام الميادين في المليونية المزمع انطلاقها في 27 سبتمبر، دون أن يبين بصورة واضحة خطوات ووقت ومعايير الذهاب إلى هناك، فقط أشار سريعًا بأن يجتمع الناس بالقرب من ميدان التحرير وفي حالة زيادة الحشود يقتحمون الميدان. بينما رأى آخرون عدم الذهاب لأماكن الشرطة خاصة الميادين ورأوا بدلاً من ذلك التظاهر في الشوارع والأزقة والحارات وحشد الناس لإحداث حالة من الرفض الشعبي الواسع ثم تسجيل ذلك ونشره لتشجيع الآخرين مع عدم الاعتصام في أي مكان مفتوح وأن تكون التظاهرات منظمة بصورة تمنع وقوع ضحايا أو اعتقالات، ورفضوا العشوائية ودخول الميادين بأعداد هزيلة تجنبًا لوقوع ضحايا.

على صعيد آخر زاد تأييد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للسيسي المشهد ارتباكًا، وكان ذلك إبان لقائهما على هامش فعاليات الجمعية العامة لمنظمة الأمم المتحدة، ورغم أن التأييد الأمريكي يؤثر إلى درجة كبيرة إلا أنه لم يشفع دائمًا – كما ذكر مراقبون – للإدارات السياسية التي حظيت به، ودللوا على ذلك بثورات حدثت رغم وجود الدعم الأمريكي كما هو الحال بالنسبة للثورة الإيرانية على الشاه، وبأن هناك انقلابات فشلت رغم دعم الولايات المتحدة لها مثل محاولة انقلاب تركيا الأخيرة. فالولايات المتحدة في النهاية  تتعامل – كما يشير استقراء تاريخ سياستها الخارجية – مع أي شخص يأتي إلى الحكم طالما لا يضر بمصالحها، وإذا رأت أن النظام المحلي الحليف يمثل عبئًا على استقرار مصالحها تتخلى عنه سريعًا.

عنصر مهم وفاصل قد شغل حيزًا واسعًا من مساحات الأخذ والرد، ألا وهو موقف المؤسسة العسكرية من الحراك الحالي، فمن وجهة نظر شريحة من المعارضين لا تريد المؤسسة العسكرية أن تواجه التظاهرات لوجود تقارير استخباراتية ترجح تصاعد الاحتجاجات وامتدادها عبر القطر المصري، مما قد يجعل الجيش في موقف لا يحسد عليه ويورطه في حالة المواجهة خاصة وأن السيسي قد أصبح حملًا زائدًا عليه، الأمر الذي جعله يحمل الشرطة مسؤولية المواجهة وحدها. تحليلات أخرى تقول إن الجيش لم ينتشر قبل مليونية 27 سبتمبر لعدم وجود الحاجة إلى ذلك ولاقتناعه بأن الشرطة قادرة على مواجهة التظاهرات.

وأخيرًا فإن ما يحدث في الشارع المصري يبدو أنه هدد بصورة كبيرة نظام السيسي، ويُعد وفق فريق من المحللين بعثًا لم يتوقعه كثيرون للربيع المصري، ربيع ربما يمتد إلى الإقليم وتنتقل رياحه إلى دول الجوار، فهل سيُكتب في التاريخ المصري أن يوم ٢٠ سبتمبر قد شهد دق أول مسمار في نعش نظام السيسي؟

 

هذا ما ستوضحه الأيام القادمة

 

زر الذهاب إلى الأعلى