ملفـاتوباء كورونا

كورونا تجدد المطالبة بمؤسسة الإفتاء العامة في الأمة

نحو مؤسسة إفتاء استراتيجي

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على مَنْ لا نبيَّ بعده.
وبعد:
فما يزال الخَلْقُ في كل زمان ومكان ينتظرون كلمة الإفتاء في مُستجدَّات الحياة، وينظرون إلى أهله نظرة التقدير والتوقير، كيف لا وأهل الإفتاء هم صفوة الفقهاء، وَخِيرَة العلماء، والمُوقِّعون عن الله بحقٍّ؟ كما حصل لهم التشريف، فقد تعلَّق بهم التكليف، فلا يَسعهم السَّير إلا على منهجٍ محكم الأصول، منضبط المسالك.
والحاجة اليوم ماسَّة إلى الفُتْيا الراشدة في نوازل لا عهدَ للسابقين بها، حيث عَرَضتْ للأمة نوازل لم يخطر بالبال وقوعها!

ومن أسفٍ، فقد وقع اضطرابٌ في الفتيا المعاصرة، وتعدَّدت وجهاتها مُشرِّقةً ومُغرِّبةً، وموفقةً حينًا، وأحيانًا مُغْرِبَةً!
والشريعةُ وافيةٌ بمصالح العباد، جديرةٌ بالتحكيم في كلِّ وادٍ ونادٍ.
ومهمة الفتيا في كل زمان ومكان: تعليم جاهل، وهداية سائل، وإعانة متعبِّد، وتجلية حكمٍ شرعيٍّ في أمرٍ واقعيٍّ.
وبها إبراء الذمَّة، والخروج من العهدة، وإقامة للخليفة في أرضه على منهاج ربِّه، فهي نِعْمَ الإعانة على إقامة الفرض، وعمارة الأرض!

والفُتيا الراشدة تُقوِّى صلة الأمة بربِّها، وتُفْضي إلى تلاحم الأمة مع قيادتها، تسمع لقولهم وتطيع أَمْرهم، وتصدر عن فتاويهم، وهي تجمع الكلمة، وتقضي على شذوذ علمي، وانحراف عملي، وترد مرجعية الأمة إلى الربانيِّين المعتبرين، المشهود لهم بالفقه في الدين، وتقوى رب العالمين.
والفتيا الراشدة سلاح ماضٍ في وجه أعداء الأمة، يقوِّي إرادتها، ويستنهض همَّتها، ويستنزل نصرها.

وَممَّا يطلب في الفُتْيا الرشيدة أن تُخرج الأمة من حالة الحيرة، لا أن تُوقِعَها في الحيرة، كما لا ينبغي أن تنقلب فتاوى المحنة والفتنة إلى محنة أو فتنة الفتيا!
ولا يتأتَّى أن تجتمع الفتيا في كل قطرٍ بما يحقق مصالح الأمة إلَّا باجتماع أهلها، ولا يتحقَّق هذا إلَّا بإحياء فقه الأمة، وإعادة تيَّارها العام إلى موقع القيادة والريادة، وليس هذا بِدْعًا، فإن تيار الأمة العام- بمؤسساته ورجالاته- من لدن الخلافة الراشدة وهو قيادة الأمة المركزية، وما ضعفت الأمة إلا مع التسلُّط على هذا التيار العظيم، الجامع لأهل العلم، وأرباب الرأي، ووجوه المجتمع، ورؤوس الخَلق!

وعَبْر قرونٍ متعاقبةٍ، وإلى يوم الناس هذا، والسعيُ حثيثٌ لتشتيت هذا التيار، وتفريق كلمته، وإضعاف أثره، عَبْر وسائل متعددة، بلغت ذروتها في الدولة المعاصرة، حيث سنَّت قوانين، ودُشِّنت برامج، وأضعفت مؤسسات مجتمعية، وحُوربَت قِيَم أصيلة، وتغوَّلت الدولة على كثيرٍ من مؤسسات المجتمع والتيار العام في الأمة، فَآلَ الأمر إلى ما يُلْحظ من ضعفٍ عامٍّ، وتمدُّد للفساد والاستبداد في مجالاتٍ كثيرةٍ، من بينها: المؤسسات العلمية، والجهات الإفتائية!

إنَّ نازلة الزمان، وفريدة الأوان (كورونا) تؤكد بلسانٍ فصيحٍ أهمية- بل ضرورة- وجود مؤسسة الإفتاء الاستراتيجي والحضاري؛ لا لتعتني بشأنٍ داخليٍّ في مجتمعٍ هنا أو هناك، وإنَّما لترعى الأمة بأَسْرها في نوازلها العامة، وقضاياها المهمة، ومثل هذه المؤسسة إنما هي إحدى مُؤسَّسات الأمة في تيارها العام، ذلك التيار الذي تستدعى فيه قوى الأمة لتجتمع علميًّا وفكريًّا، ولتتحد عمليًّا في قضاياها الكبرى، ومسائلها العظمى، ونازلةُ الزمان خيرُ مثالٍ!

فقد تفرَّق في فهمها العقلاء، واختلف في التنظير لها الفقهاء، وعاش الخَلقُ حيرةً في فَهْم حِكْمتها القدرية، واضطرابًا في معرفة أحكامها الشرعية!
والفرصةُ اليوم مواتيةٌ لدعوةٍ تتجدَّد، كلما تأكدت الأمة من ضرورة وجود جهةٍ عامةٍ مستقلةٍ للفتيا، تجمع خلاصة الفقهاء من كلِّ البلاد أو معظمها، ممَّن اجتمعت فيهم صفات أهل الإفتاء في النوازل، ممَّن تمهَّر باستخراج الحكم من أدلته الشرعية، وتنزيل الحكم الشرعي على الحال الواقعي؛ إذ الاجتهاد: إثبات الحكم بمدركه الشرعي في محلِّه الواقعي.

لقد تفاوتت المسالك في هذه النازلة إلى حدِّ التضارب، ووقع بين العامَّة بسببها التقاطعُ والتهاجرُ!
والأصلُ في فتيا النوازل أن تقيم براهينَ جديدةً على إعجاز الشريعة، وغَلْق باب الاجتراء عليها، لا أن تفتح بابًا للتهارج!
إنَّ الدعوة اليوم تتجدَّد لمؤسسة اجتهاد جماعي للأمة بأَسْرها، تجمع بين فقهاء الشَّرع، وخُبَراء العصر، تسعى لتقريب وجهات النظر عند الخلاف، وتعمل على انتظام أَمْر الفُتْيا العامة في الأمة، وتغلق باب الفوضى المقصودة من أعداء الأمة، ولا تضيق بالخلاف الاجتهادي السائغ من أهله، وفي محلِّه!

وما كان من فتيا النوازل قائمًا على الضرورات، فينبغي أن يكون صادرًا عن اجتهادٍ جماعيٍّ، لا سيَّما إذا كان له تَعلُّقٌ بعموم الأمة، وانفراد الآحاد لا يحتمل، إلَّا أن تكون الضرورة ممَّا لا يختلف عليها، وأن تُقدَّر بقَدَرها، وإلا وقَع الخلل الذي لا تُحْمد عاقبتُهُ.
وَممَّا ينبغي أن يُسلَّم: أنَّ تَسْييسَ الفُتْيا، وتوظيفها لحساب جهاتٍ أو لمصالح خاصة بفئاتٍ- له آثاره الوخيمة.
وحتى تُقَام تلك الجهة الجامعة، فإنه لا يحتجُّ على مُتأهِّلٍ للإفتاء في زمانٍ أو مكانٍ ما بالفتيا الَّتي صدرت من جِهَةٍ هنا أو هُنَاك، حيث لا يُمثِّل أهلُها جُلَّ العلماء، فضلًا عن جميعهم، وَربَّما صَدَرت الفُتْيا في تلك الجهة بأَغلبيَّةٍ، لا بإجماعٍ!
وفي هذا السياق، فإنَّ الفتيا متى ناقضت صريح الدليل من الكتاب أو السُّنة أو الإجماع، فهي باطلةٌ فاسدةٌ، وليس من ذلك مخالفة المجتهد للأئمة الأربعة، كما أنه ليس من الشذوذ في الفتيا ما يفتي به المقلد لمذاهبهم!

وأخيرًا، فإنَّ الطعنَ في المفتين المتأهلين ضربٌ من الطعن في الدين! وإذا كان سِبابُ المسلم فسوقًا، فإن التجرُّؤَ على المفتين الصالحين موجبٌ للتعزير بعد النكير!
فاللَّهمَّ هيِّئ لأمتنا عودةً إلى كتاب ربها، وسُنَّة نبيها، وسعيًا في جمع كلمتها، ووحدة تيارها، ومؤسسة راشدة للإفتاء الاستراتيجي في النوازل الواقعة، إنَّك خيرُ مأمولٍ، وأكرمُ مسئولٍ.
والحمد لله ربِّ العالمين

زر الذهاب إلى الأعلى