اختطاف الإسلامملفـات

مصادر التمويل .. الاختطاف وشل الحركة

مقدمة

المال عصب أي عمل تغييري وإصلاحي، حتى يتسنى للعاملين تحقيق إنجازات إصلاحية مجتمعية ملموسة، خاصة وإن كان هؤلاء العاملون يستهدفون تغيير المجتمع ككل بإصلاح مجالاته المختلفة، سياسياً واجتماعياً واقتصادياً… إلخ

التغييرات الملموسة التي نجحت التيارات الإسلامية بوجه عام في تحقيقها مجتمعياً خلال الأعوام السابقة، شكّلت نوعاً من التهديد لسلطة الدول، التي تدفعها بنيتها الحديثة التوغلية إلى السيطرة الحديدية على المجتمع ككل، خاصة في طبعتها العربية التي تسد أغلب أنظمتها شيئاً فشيئاً جميع نوافذ العمل المجتمعي، سعياً ألا يؤدي إلى تكوين بؤر موازية لسلطتها، قد تشكل بديلاً مجتمعياً راشداً لها في وعي المواطنين. وقد كان من نتيجة ذلك: التضييق والمنع الذي مورس على تمويل الجمعيات الأهلية ووجودها، وقد حدث هذا بحدّة متزايدة بعد نجاح بعض التيارات الإسلامية في الوصول إلى أعلى المناصب السياسية بعد ثورات الربيع العربي، كالرئاسة ورئاسة الوزارة والبرلمان.

في حين أن نفس هذه الأنظمة الاستبدادية تدعم التيارات والهيئات والشخصيات الموالية لها دعماً سخياً، وتترك لها حرية الحركة المجتمعية، بتكوين الجمعيات والمنابر الإعلامية – قنوات فضائية وصحف ومجلات وغير ذلك – وإنتاج الكتب وتولّي المناصب الفكرية والثقافية في البلاد، كل ذلك بشرط التأييد الكامل لسلطتها.

ولم تنجُ بعض الجمعيات والشخصيات المدنية/ العلمانية من أيدي تلك السلطات أيضاً؛ إذ لم تحقق “شروط البقاء” كاملة ومارست ما ظنته “حقوقها السياسية” في الاعتراض على قرارات رسمية، أو عملت على توثيق انتهاكات حقوقية حكومية. فحُرمت بذلك من الدعم وعُوقب نشطاؤها بالسجن.

ولكن النسبة الأكبر من عمليات الاختطاف التي واجهت بها الأنظمةُ الجمعياتِ والمنظمات الخيرية، هي من نصيب التيارات الإسلامية مقارنة بغيرها، من المنظمات التي تعمل في إطار البرنامج الأمريكي والأوربي لدعم منظمات المجتمع المدني، هذه المنظمات التي تهتم أكثر بحديث الحريات على الطريقة الغربية، مما وقف حائلاً أمام انتشارها شعبياً، مقارنة بالتيارات الإسلامية التي تبنت خطاباً متناسقاً مع هوية الأمة وحضارتها من حيث الجملة.

لذلك يركز البحث التالي على الجمعيات والمؤسسات التابعة للتيارات الإسلامية لما لها من تأثير شعبي أكبر، وانتماء أقرب للأمة الإسلامية، خاصة بعد ما تعرضتْ له من مصادرة لكم هائل من مؤسساتها مؤخراً.

أولاً: بواعث اختطاف مصادر التمويل

بالنظر إلى الأوضاع المتشابهة في أكثر من بلد عربي، يبدو أن الباعث على تجفيف مصادر تمويل التيارات الإسلامية كان لما تمثله ككتلة قوية في خريطة الحركات التغييرية، بقصد شلُّ الحركة، والتعطيل التام وعرقلة هذه التيارات عن عملها المجتمعي، فمشاريع من قبيل: دعم الأرامل والأيتام، وعلاج المرضى، ورعاية المسنين، ومساعدة الطلاب غير القادرين، وتزويج الشباب، ودُور الأبحاث، والمؤسسات التعليمية … إلخ، تحتاج إلى تسهيلات كبيرة لتحصيل التمويل والتبرعات والزكاوات، وتسهيلات أكبر في توجيه هذه الأموال لتتجسد في صورة مشاريع خيرية وإنمائية، وكذلك تتطلب حرية وإطلاق يد لإنشاء الجمعيات والمؤسسات المختلفة والأحزاب. وهو ما حدث عكسه تماماً. إذ عملت الأنظمة السياسية على التضييق على الجمعيات والمؤسسات بنسب متفاوتة من بلد لآخر.

لكن يبدو أن تعطيل العمل المجتمعي ليس هو الهدف المباشر بحد ذاته، وإنما تعطيل “التأثير في المجتمع”، ومنع الوصول إلى الجماهير بإماتة هذا العمل المجتمعي وقصره فقط على الدولة بالرغم من عدم قدرتها وفاعليتها، وتوجيه الدعم بسخاء للجمعيات والمؤسسات والصناديق التابعة للسلطة سواء بصورة مباشرة ورسمية، أو بصورة غير مباشرة وغير رسمية كتلك المؤسسات التابعة لرجال الأعمال المتحالفين مع السلطة، وذلك سعياً لملء الفراغ الذي يحدثه منع التيارات الإسلامية من التفاعل المجتمعي عبر العمل الخيري، وسعياً لتخفيف الأثر المجتمعي السلبي لدى الجماهير، والذي ترتب على إيقاف العديد من المشاريع الخيرية التي كانت تتحرك في مساحات واسعة لم تتمكن الدولة من تغطيتها، إما للفساد المستشري أو للقصور الطبيعي المترتب على محاولات احتكار الدولة للمجتمع وابتلاع جميع أشكال عمله الأهلي.

في الحقيقة لم يقتصر اختطاف مصادر التمويل على المجال الخيري فقط بمعناه المحدود، بل امتد أيضاً إلى أي نشاط من شأنه أن يؤثر في الجماهير، كالدعم المالي لأي مؤسسة إعلامية تابعة للتيارات الإسلامية، في حين تظهر من وقت إلى آخر قنوات إعلامية جديدة ذات طابع قومي أو علماني أو حتى ديني، تؤيد السلطة وتروّج لما يصدر عنها، وتهاجم بضراوة التيارات الإسلامية وتُلصق بها المسؤولية عن كل رزية.

وعند الأخذ في الحسبان تابعية أغلب الأنظمة العربية للغرب، وعند البحث عن الأسباب العامة والخاصة الاستراتيجية والتكتيكية لضرب الجمعيات الخيرية الإسلامية، يرى بعض الباحثين أنها تأتي في سياق “الصراع الحضاري الممتد في التاريخ والجغرافيا بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية؛ أي في إطار الصراع بين فكرة التوحيد والعدل والحرية واللا عنصرية والتسامح، وبين العنف والقهر والنهب والوثنية والعنصرية والظلم وازدواج المعايير، وهي تأتي في محاولة فرض قبول الرأسمالية على العالم، وذلك أنه بعد انهيار الشيوعية وثبوت فشلها نظرياً وفلسفياً وتطبيقياً؛ فإن المنظومة الإسلامية هي الوحيدة المرشحة لمناهضة الرأسمالية؛ ليس بالنسبة للمسلمين فقط؛ بل بالنسبة لكل سكان العالم المتضررين من الرأسمالية، لأن الإسلام يمتلك خطاباً عالمياً وإنسانياً، ويمتلك خطاباً منحازاً للمستضعفين والفقراء، وينصفهم ولا يظلمهم، ويمتلك خطاباً غير عنصري، وهو بهذه المثالية يمكن أن يكون إيديولوجية للمستضعفين في العالم، والراغبين في مناهضة العولمة والرأسمالية، بالإضافة إلى كونه ديناً، ومنظومة قيمية للمسلمين تَحُول دون خضوعهم أو قبولهم بالانصياع للقيمة الغربية والأمريكية، وهكذا فهو الأساس الصحيح لظهور الرفض والمقاومة، وعدم الانصياع وتعطيل مشروع الهيمنة (الأمريكي – الصهيوني) على العالم، وبالتالي فإن ضرب وتصفية الجمعيات الخيرية الإسلامية هو نوع من الحرب الاستباقية على الدور الإسلامي المتوقع، وهو نوع من الحرب الدعائية الإعلامية غير المباشرة، فبدلاً من أن تقوم تلك الجمعيات بتزويد المجتمعات الإسلامية بقدر أكبر من القدرة على الاستمرار والصمود، ونشر القيم الإسلامية، وبدلاً من أن يتم الحديث عن الإسلام باعتباره يرعى اليتيم، ويساعد الفقير، ويُبقي بئر الماء، ويساعد على التعليم؛ يتم الحديث عنه فقط – زوراً – بلفظ الإرهاب والعنف والبربرية؛ وبالتالي تنجح الحملة العالمية الأمريكية الصهيونية في تشويه صورة الإسلام وحصاره. بالإضافة إلى ذلك فإن العمل الخيري الإسلامي هو نوع من المانع الضروري لشل قدرة جماعات التنصير والتغريب عن العمل، والتي تخدع الناس وتحاول شراء وجدانهم بالمساعدات، ومن المعروف أن هناك علاقة جدلية بين التنصير والاستعمار فكلاهما يخدم الآخر، وكل منهما يؤدي إلى الآخر، وبالتالي فإن إزاحة العوائق من أمام المنصَّرين هدف أمريكي استعماري صهيوني مباشر واستراتيجي، وفي هذا الصدد؛ فإن الحرب على الجمعيات الخيرية تصبح ضرورية لنجاح مخطط التنصير “.[1]

 

 

 

ثانياً: القوى والجهات الفاعلة

1- الولايات المتحدة وحلفاؤها

أطلقت الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوربيون والعرب حملة استهداف واسعة ضد تمويل التيارات الإسلامية، بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، وقد أثرت هذه الحملة تأثيراً كبيراً نظراً لهيمنة الولايات المتحدة على قمة النظام العالمي الجديد. فتلاحَق الجمعيات والمؤسسات الإسلامية بزعم كونها تموّل الإرهاب وتدعمه، مع اختلاف في نِسَب هذه الملاحقات من دولة لأخرى.

إن خطاب العولمة وخطاب قادة الفكر والسياسيين في الغرب؛ بل حتى مشروعات ومبادرات الإصلاح التي يتقدم بها الرؤساء والباحثون، ومراكز الأبحاث ودوائر وزارات الخارجية… إلخ، تؤكد ضرورة دعم ما يسمى بالمجتمع المدني – غير الحكومي – باعتباره إحدى ركائز (الديمقراطية)، ولكن استهداف الجمعيات والمؤسسات الإسلامية والتضييق عليها ودعوة الحكومات العربية والإسلامية إلى بسط سيطرتها على تلك الجمعيات، يمثل ازدواجاً في المعايير، ويجعل مفهوم المجتمع المدني المطلوب هو الجمعيات والهيئات والمؤسسات غير الحكومية التي تعمل وفق الخطط والبرامج الأمريكية، والتي تتلقى تمويلاً من الجهات الغربية، أي التي تعمل في إطار خدمة المشروع (الأمريكي – الصهيوني) بوعي أو بدون وعي؛ أما من يعمل مستقلاً في التمويل، مستقلاً في الأهداف، غير منضبط تماماً على نغمة الأجندة الأمريكية فهو مرفوض ومتهم بالإرهاب. فليس المطلوب إذاً جمعيات تساعد الفقراء، أو تعين المحتاجين أو تحفر الآبار في إفريقيا وآسيا، أو تساعد ضحايا العدوان الصهيوني على الفلسطينيين، أو تبني المساجد أو ترعى الأيتام؛ بل المطلوب جمعيات تهدم القيم عن طريق تحريض المرأة على الخروج على تعاليم الإسلام، أو التمهيد للقبول بالكيان الصهيوني بدعوى القبول بالآخر، أو الترويج للقيم الأمريكية بدعوى أنها قيم عالمية. وهكذا فإن أول أهداف الحرب على الجمعيات الخيرية الإسلامية هو منع امتداد المجتمع الأهلي الصحيح وإزاحته ليحل محله المجتمع الأهلي المزيف والعميل. هذا بالطبع لخدمة المشروع الأمريكي، وهو أيضاً إحساس داخلي عميق بخطورة المجتمع الأهلي الإسلامي مُمثلاً في الجمعيات الخيرية، لأن آلية العدوان الأمريكي قادرة على السيطرة على كل ما هو حكومي ومعروف ومبرمج، أما العمل الأهلي فهو الأكثر صعوبة والأقدر على الاستمرار وخلْق حالة من المقاومة أو الصمود أو الرفض، وتحقيق نوع من المناعة للمجتمعات. [2]

2- الأنظمة المحلية

تعيق أنظمة الحكم الاستبدادية تمويل الجمعيات والمؤسسات الإسلامية، لما ترى فيها من تهديد مباشر لسلطتها، من أجل ما تحظى به الأخيرة من دعم مجتمعي وشعبي، ظهر في أوج صورته بعد ثورات الربيع العربي، عندما اختارت الجماهير في كثير من الاستحقاقات الانتخابية في أكثر من دولة ممثلي التيارات الإسلامية. مما زاد من سعي تلك الأنظمة في محاولات شل التفاعل المجتمعي الذي تضطلع به هذه الجمعيات والمؤسسات لكونه سلاحاً يستخدمه أصحابه للرواج الشعبي والسياسي.

فتلجأ الدولة تارة إلى إعلان الجمعيات والمؤسسات “إرهابية”، ومن ثم تمنع مموليها من دعمها، وتارة أخرى بمصادرة أموال هذه الجمعيات والمؤسسات، وتارة ثالثها بتعقيد القوانين الإجرائية والتنظيمية التي تنظيم تلقي التبرعات وتكوين الجمعيات وتوزيع الدعم على مستحقيه.

ثالثاً: أدوات اختطاف مصادر التمويل

– فرض الرقابة

من الأدوات التي تحدّ من مصادر التمويل، فرض الرقابة اللصيقة بواسطة السلطة على الجمعيات والمؤسسات الأهلية، وهذا يعني التحكُّم في مصادر التمويل ومصارفه، وضمان أن يوجَّه فقط إلى الوجهات التي تصب في مصلحة السلطة ولا تتعارض معها، فتمنع على سبيل المثال إنشاء المراكز البحثية التي تقدم أطروحات الإصلاح السياسي والمجتمعي، وتقف حائلاً أمام تكوين التجمعات العلمية والعُلمائية ودعمها وكفالتها مالياً؛ لمنعها عن الحديث عن هموم الأمة ومطالبها، وعن تقديم الرؤى الإسلامية في جميع المستجدات والنوازل.

وأيضاً بمراقبة وتحكم السلطة في مصادر التمويل تستطيع إيقاف أي أعمال خيرية تقوم بها فئة ما، لمجرد أن السلطة ترى أن هذا سيقوّي مكانة خصومها السياسيين في وجدان الشعوب، فتكون النتيجة أن يضمر العمل المجتمعي.

التشويه الإعلامي

أيضاً من أدوات اختطاف مصادر التمويل: التشويه الإعلامي، في الصحف والقنوات الفضائية سواء الخاصة المؤيدة أو المملوكة للدولة وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، هذا التشويه الذي يقوم على بث دعايات بأن بعض الجمعيات الخيرية “عميلة” لبعض الجهات الأجنبية، و”تتخابر” ضد البلاد، وتستغل العمل الخيري للتأثير على البسطاء… إلى آخر هذه الاتهامات، التي تُنفر أهل الخير والمتبرعين من المشاركة بأموالهم لدعم العمل الأهلي.

وكذلك تُشوه مؤسسات الوقف، فهناك محاولة لمحاصرة الوقف باعتباره خارج إطار الدولة ومن مؤسسات المجتمع. وكذلك المسجد رغم أنه يساعد الدولة في أشياء كثيرة، فهناك محاصرة للدور الإسلامي  بشكل عام.

وفي المقابل يروّج الإعلام الحكومي لجمعيات تابعة للسلطات وتسيطر عليها ويقوم على إدارتها أشخاص تابعون لها، وتنتشر الإعلانات التليفزيونية وفي الصحف وعلى شبكة الإنترنت التي تحث على التبرع لهذه الجمعيات وسط جملة من شكوك البعض حول مصير هذه التبرعات، خاصة مع تردد أخبار عن فساد مستشرٍ في بعض تلك الجمعيات.

– المصادرة

“المصادرة” هي المصطلح الناعم الذي يعبر عن استيلاء الدولة على أموال الجمعيات والمؤسسات الخيرية، بأن تضع الدولة يدها على مجالس الإدارات وحسابات البنوك والمدارس والمستشفيات وغيرها، وذلك بحجج مختلفة، هذه الحجج التي تصطف بجانب التشويه الإعلامي كممهدات للمصادرة وشرعنتها بحيث لا تكون في صورتها الحقيقية بأنها “سرقة جلية”، ولا يستثنى أي عمل خيري من عمليات المصادرة الممنهجة، فتصادَر الصناديق المخصصة لدعم الفقراء والأرامل والأيتام وغير ذلك، وتحول إدارتها إلى الدولة ويتجه ريعها إلى حيث لا يدري أحد، حيث لا رقابة ولا محاسبة. وتُحدِث هذه المصادرات حالة من القلق وعدم الثقة لدى المتبرعين أدى إلى إحجام كثير منهم عن التبرع والمشاركة في العمل الأهلي.

رابعاً: اختطاف مصادر التمويل.. مصر نموذجاً

يعد النموذج المصري بعد الانقلاب العسكري في 3 يوليو 2013، خير مثال على اختطاف مصادر التمويل، بسلاحَي المصادرة والقانون، وهذا يتضح فيما يلي:

1- تجميد ومصادرة أموال الجمعيات الأهلية

في ديسمبر 2013م، كان قرار الحكومة المصرية بتجميد أرصدة عدد من الجمعيات الأهلية، هذا القرار الذي أثر سلباً على المنتفعين من خدمات هذه الجمعيات، ويقدر عددهم بالملايين، بحسب إذاعة بي بي سي BBC.

وكانت لجنة من وزارة العدل قد أصدرت هذا القرار بناءً على حكم محكمة الأمور المستعجلية الصادر بحل جمعية (الإخوان المسلمين) والتحفظ على أموالها. وعُمم القرار ليشمل جمعيات أخرى من المشكوك في مصادر تمويلها وارتباطها بجماعة (الإخوان).

وتضم قائمة الجمعيات الصادر بحقها القرار 1055 جمعية في القاهرة ومحافظات الجمهورية، ومن أكبر الجمعيات التي طالها القرار الجمعية الشرعية، جمعية أنصار السنة. كما طال قرار التجميد عدداً من الجمعيات الصغيرة المنتشرة في المحافظات، والتي تعمل تحت مظلة جمعيات أكبر على مستوى مصر. [3]

وصادرت اللجنةُ الأموالَ إضافة للمبالغ المتحفظ عليها، لخزانة الدولة، ومن بينها 118 شركة و1133 جمعية و104 مدارس و69 مستشفى[4].

ومن أبرز الجمعيات التي صادرت الدولة العديد من أنشطتها وفروعها: “الجمعية الشرعية لتعاون العاملين بالكتاب والسنة المحمدية”، وهي أكبر جمعية خيرية إسلامية، تُوجد فروعها التي تزيد عن الألف في شتى ربوع البلاد، وتكفل من اليتامى والأسر مئات الآلاف، وأنشأت آلاف الفصول لمحو الأمية وتعليم القرآن وإعداد الدعاة، ووفرت آلاف الأطراف الصناعية للمعاقين، وأطلقت المراكز الطبية المختلفة لغسيل الكلى وللأطفال المبتسرين والأورام وأمراض العيون، وغير ذلك من المشروعات التي تُقدمها بالمجان[5].

2- قانون تنظيم منظمات المجتمع المدني

العام الماضي (2017م) قانوناً جديداً من المفترض أنه ينظم عمل الجمعيات والمنظمات غير الحكومية، ولكن الحقيقة أن القانون يضيّق على تحصيل التمويل بصورة كبيرة، رغم أن الدستور المصري الحالي ينص على أن للمواطنين حق تكوين الجمعيات والمؤسسات الأهلية “على أساس ديمقراطي”، وتكون لها الشخصية الاعتبارية بمجرد الإخطار. وتمارس نشاطها بحرية، ولا يجوز للجهات الإدارية التدخل في شؤونها، أو حلها أو حل مجالس إداراتها أو مجالس أمنائها إلا بحكم قضائي.

المادة الثالثة من هذا القانون تحدّ من حرية القائمين على العمل الأهلي في وضع النظام الأساسي لعملهم أو جمعيتهم، واشترط القانون رسومًا قدرها عشرة آلاف جنيه لتسجيل الجمعية، وهو رقم مبالغ فيه على الراغبين في العمل الأهلي والتطوعي وخدمة المجتمع ما يجعل تأسيس الجمعيات أمراً مكلفاً للعديد من الفئات الاجتماعية. أما المادة التاسعة من القانون، فهي تفتح الباب أمام الجهة الإدارية لعدم استلام أوراق تأسيس الجمعيات بحجة أنها غير مستوفاة. وقد وصفت المنظمة المصرية لحقوق الإنسان القانون بأنه “سيف مصلت على رقاب الجمعيات الأهلية والمجتمع المدني”.

فالقانون يفرض قيوداً على عمل المنظمات غير الحكومية في مجال التنمية والنشاط الاجتماعي، ويفرض عقوبات بالسجن تصل إلى خمس سنوات في حال مخالفة القانون. ويحظر القانون على المنظمات غير الحكومية إجراء دراسات أو نشر نتائجها دون موافقة الدولة. كما ينص بند في القانون على إخضاع التمويل الأجنبي للمنظمات المحلية لإشراف السلطات. وأمهل القانون المنظمات سنة للالتزام به أو مواجهة خطر حلها من قبل المحكمة[6].

فالقانون يستهدف تأميم العمل الأهلي، من خلال تنظيمه كما لو كان أحد الأجهزة الإدارية للدولة، واعتبار العاملين فيه موظفين لدى الدولة، فضلاً عن تبنّي قيود تعسفية جديدة تسعى إلى إرهاب نشطاء المجتمع المدني؛ فهو يمنح الحكومة الحق في التدخل في تنظيم أدق شؤون الجمعيات، كتكوين الجمعية العمومية، وطريقة الدعوة إلى عقدها، ومواعيد اجتماعاتها، وكيفية انضمام الأعضاء وانسحابهم، وتشكيل أو انتخاب مجلس الإدارة، وصولاً إلى حق الحكومة في حل مجلس إدارة الجمعية.

كما يمنح مشروع القانون، الحكومة، حق تقديم طلب للقضاء بحل الجمعية، إذا رأت أن الجمعية عاجزة عن تحقيق الأغراض التي أنشئت من أجلها، وهي صياغة مطاطة وغامضة تتيح للحكومة إحالة أي جمعية لا ترضى عن نشاطها في أي وقت إلى القضاء، وطلب حلها، فضلاً عن أن الجهتين الوحيدتين اللتين لهما حق تقييم نشاط الجمعية، أو ما إذا كانت تحقق أغراضها أم لا، هما الجمعية العمومية، والمستفيدون من خدمات الجمعية.

كما رفع القانون الحد الأدنى لعدد الأعضاء المؤسسين للجمعيات إلى عشرين عضوًا، أي ضعف ما هو مقرر في القانون القديم، الأمر الذي يعرقل حق المواطنين في تكوين الجمعيات.

وحظر القانون على الجمعيات جمع التبرعات، أو الحصول على أموال من الخارج، إلا بعد تصريح من الحكومة، الأمر الذي يؤدي إلى نتائج وخيمة على نشاط المجتمع المدني، رغم أنه لا تتوافر مصادر تمويل كافية في الداخل، بما يساعد الجمعيات على القيام بأنشطتها.

ويتعامل القانون مع نشطاء المجتمع المدني، باعتبارهم مجموعة من المنحرفين المحتملين، أو المشتبه بهم، إلى أن يثبت عكس ذلك، إذ يمنح القانون صفة الضبط القضائي لممثلي الحكومة عند تفقُّدهم مقار الجمعيات.

وقد عدّ القانون أموال الجمعيات والمؤسسات الأهلية أموالاً عامة، وأن القائمين على إدارتها موظفون عموميون. وهو ما يمكن أن يؤدي إلى المزيد من تنفير المواطنين من تكوين الجمعيات والمؤسسات الأهلية، فإسباغ هذه الصفة على أموال الجمعيات والقائمين على إدارتها من شأنه توقيع عقوبات قاسية، على أية مخالفات إدارية لأحكامه، قد تصل إلى الأشغال الشاقة المؤقتة[7].

خامساً: وسائل المواجهة

تتعدد وسائل مواجهة اختطاف مصادر التمويل، خاصة في زمن ثورة المعلومات وسيولة التواصل الذي نحياه، والذي سهّل أكثر مما مضى طرق تداول التمويل، مما يحفز على إيجاد السبل البديلة للطرق التقليدية في التمويل.

كذلك يُعد التمويل المصغر المباشر من الأهمية بمكان، مثل التمول في محيط المسجد والحي والمعارف والعمل ورجال الأعمال، لإطلاق المشروعات المختلفة بعيداً عن الجمعيات والمؤسسات المستهدفة.

بهذا الصدد تبرز أهمية إقامة المشاريع التجارية (شركات/ محلات…إلخ) التي تدعم المشاريع التنموية والأهلية، والتي يُراعى فيها أن تكون بصورة تجارية اعتيادية بحتة دون إعلان عن هويتها وأهدافها وبدون لفت للنظر.

وتبرز أيضاً أهمية التواصل المباشر بين المتبرع أو دافع الزكاة والمستحق بصورة مباشرة دون توسيط أجهزة الدولة، حتى لا تذهب أموال الزكاوات بدلاً من الفقير إلى ميزانية الدولة المستبدة لتشتري بها الأسلحة التي تقتل بها شعوبها.

ومن الوسائل المساعدة أيضاً على مستويات مختلفة:

  • بث الوعي حول أهمية دعم المؤسسات والجمعيات الخيرية.
  • إحداث رأي عام مضاد لعمليات مصادرة (سرقة) الدولة لأموال المتبرعين والوقف والمشاريع الخيرية، وكشف الحجج الواهية التي تسوقها الدول بين يدي المصادرة.
  • حث نواب الشعوب في البلاد ذات المساحات الحرة على اقتراح مشاريع قوانين، تتيح الحرية للعمل الأهلي وتخفف من القيود المفروضة عليه وتُجرم مصادرته.
  • إطلاق الحملات الإعلامية المنظمة، التي تبين الآثار السيئة للقيود المفروضة على العمل الأهلي والجمعيات الخيرية مجتمعياً.
  • العمل الجاد على تنشيط العمل الأهلي بين صفوف الأقليات المسلمة في بلاد الغرب؛ حيث توجد مساحات من الحرية، وكذلك في البلاد الإسلامية ذات الحكم الرشيد مثل ماليزيا وتركيا.
  • إنشاء الهيئات القانونية والحقوقية التي تدافع عن المؤسسات الأهلية وتترافع في قضاياها، وتكون استشارية للجمعيات المختلفة لتنجو بها من قبضة القوانين الجائرة.
  • خاتمة

اتضح من البحث أهمية التمويل لأي عمل إصلاحي وتغييري، وأن الباعث على تجفيف مصادر تمويل التيارات الإسلامية هو شلُّ الحركة، والتعطيل التام وعرقلة هذه التيارات عن عملها المجتمعي، لكن تعطيل العمل المجتمعي ليس هو الهدف المباشر بحد ذاته، بل الهدف الحقيقي هو تعطيل “التأثير في المجتمع”، ومنع الوصول إلى الجماهير بإماتة هذا العمل المجتمعي وقصره فقط على الدولة بالرغم من عدم قدرتها وفاعليتها، وفي نفس التوقيت توجيه الدعم بسخاء للجمعيات والمؤسسات التابعة للسلطة لملء الفراغ الذي يحدثه منع التيارات الإسلامية من التفاعل المجتمعي، وسعياً لتخفيف الأثر المجتمعي السلبي لدى الجماهير، والذي ترتب على إيقاف العديد من المشاريع الخيرية التي كانت تتحرك في مساحات واسعة لم تتمكن “الدولة” من تغطيتها.

وتبيّن أن اختطاف مصادر التمويل يأتي أيضاً في سياق الصراع الحضاري بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية؛ وهي تأتي في محاولة فرض قبول الرأسمالية على العالم، وبدلاً من أن يتم الحديث عن الإسلام باعتباره يرعى اليتيم، ويساعد الفقير، ويُبقي بئر الماء، ويساعد على التعليم؛ يتم الحديث عنه فقط – زوراً – بلفظ الإرهاب والعنف والبربرية.

أما القوى والجهات الفاعلة، فهي الولايات المتحدة وحلفاؤها، خاصة في حملة الاستهداف واسعة ضد تمويل التيارات الإسلامية، بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، وقد أثرت هذه الحملة تأثيراً كبيراً نظراً لهيمنة الولايات المتحدة على قمة النظام العالمي الجديد. فتلاحَق الجمعيات والمؤسسات الإسلامية بزعم كونها تموّل الإرهاب وتدعمه، مع اختلاف في نِسَب هذه الملاحقات من دولة لأخرى.

إضافة إلى الأنظمة الاستبدادية المحلية التي تعيق تمويل الجمعيات والمؤسسات الإسلامية، لما ترى فيها من تهديد مباشر لسلطتها، من أجل الذي تحظى به الأخيرة من دعم مجتمعي وشعبي.

وتتعدد أدوات اختطاف مصادر التمويل، وأهمها فرض الرقابة اللصيقة بواسطة السلطة، وهذا يعني التحكُّم في مصادر التمويل ومصارفه، وضمان أن يوجَّه فقط إلى الوجهات التي تصب في مصلحة السلطة ولا تتعارض معها. والتشويه الإعلامي الذي يقوم على بث دعايات بأن بعض الجمعيات الخيرية “عميلة” لبعض الجهات الأجنبية، و”تتخابر” ضد البلاد وتستغل العمل الخيري للتأثير على البسطاء… إلى آخر هذه الاتهامات، وكذلك المصادرة التي تُعد المصطلح الناعم لاستيلاء الدولة على أموال الجمعيات والمؤسسات الخيرية.

ولعل أوضح مثال على اختطاف مصادر التمويل يظهر في الحالة المصرية، بعد الانقلاب العسكري في 3 يوليو 2013، من خلال تجميد ومصادرة أموال الجمعيات الأهلية بعد الانقلاب، وأيضاً قانون تنظيم منظمات المجتمع المدني العام الماضي (2017م).

لذلك من الأهمية بمكان العمل على مواجهة هذا الاختطاف وهذا الاستهداف، عن طريق البحث والتفعيل لطرق تمويل مبتكرة، تستطيع الإفلات من التضييق للقيام بمسؤولياتها تجاه الأمة بحرية، إضافة إلى إيجاد رأي عام عبر الإعلام الحر لدى الشعوب بأهمية الوقوف ضد استهداف الجمعيات والمؤسسات الخيرية والإصلاحية.


[1] د. محمد مورو، الأسباب الحقيقية لاستهداف الجمعيات الإسلامية، موقع المسلم، 29 شوال 1430.

[2] بتصرف من: د. محمد مورو، مصدر سابق.

[3] مها القاضي ومصطفى يحيى، تجميد أموال الجمعيات الأهلية في مصر من يدفع الثمن، بي بي سي، 27-12-2013م.

[4] موقع روسيا اليوم، مصر.. مصادرة أموال 1589 إخوانيا للمرة الأولى منذ تأسيس الجماعة، 11-9-2018م.

[5] للمزيد: ينظر: من نحن، موقع الجمعية الشرعية، رابط إلكتروني.

[6] صبري عبد الحفيظ، قانون الجمعيات الأهلية الجديد يتعارض مع المواثيق الدولية، موقع إيلاف، 01-06-2017م.

[7] ينظر: مشروع قانون للجمعيات الأهلية يخضعها لسيطرة الحكومة والأجهزة الأمنية، بيان لتسع وعشرين منظمة حقوقية، موقع المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، 09-07-2014م.

زر الذهاب إلى الأعلى