قراءة الحدثملفـاتوباء كورونا

الحصانة والمناعة في مواجهة الأزمات

تُعرَّف الأزمة في أخصر تعريفاتها بأنها (تهديد مباشر لبقاء النظام)، وهو فيما يظهر يسع كل أنواع الأنظمة، وهذا التهديد تكمن طبيعته بحسب سياق الأزمة ذاتها، إما أن يكون ذا تأثير جزئي فيكون النظام المعني في دائرة أزمته الخاصة، وإما أن يكون ذا تأثير كلي، كما هو الشأن في أوقات الأزمات العامة التي تلحق المجتمعات برمتها دون تمييز بين أنظمتها العاملة، وقد اقترب من هذا المعنى بعضهم فعرف الأزمة بأنها: “حدث يسبب تغيراً في الحياة العادية للمجتمع”، وفي الغالب تتسم الأزمة بجملة من الخصائص، من أبرزها: المفاجأة التي تسبب الصدمة العنيفة، التهديد المباشر للقيم والحاجات والمصالح والأهداف، حالة الخوف والهلع وقد تصل إلى حد الرعب وتقييد التفكير، التشكيك بجدوى القرارات المتخذة من قبل النظام المعني بالأزمة، فقدان أو نقصان التحكم في الأحداث، نقص المعلومات وعدم وضوح الرؤية، ضغط الوقت في ضوء الحاجة إلى اتخاذ قرارات صائبة، حالة التشابك والتداخل والتعقيد بين عناصر الأزمة وعدم القدرة على التمييز بينها .. في غيرها.

والناظر في سياقنا الزمني المعاصر لا يخفى عليه أن جائحة الكورونا أضحت هي الشغل الشاغل للناس بما يجعلها أزمة عامة مستحكمة أدت إلى تعطيل كثير من المناشط الحيوية في المجتمعات كلها، وبالرغم من تأثيراتها الكلية الواضحة، إلا أن أخطرها يكمن في بعدين: الأول الصحي والطبي في تهديدها للنفس البشرية، وظاهر أن عدد الإصابات في العالم في تزايد، وبعض المناطق أضحت بؤراً للفايروس كما هو الحال في الولايات المتحدة وإسبانيا وإيطاليا، والثاني الاقتصادي، إذ أفضت هذه الجائحة إلى إيقاف الكثير من الشركات والمؤسسات والمراكز وتعطيلها عن أداء وظائفها، وهذا أسهم في تسريح كثير من العاملين مما قد يسهم بالتالي في أزمة اقتصادية كبيرة، وهو أمر لم يُستثن منه أحد حتى المؤسسات والأندية الرياضية على سبيل المثال، وهي ذات عائدات وموارد مالية كبيرة جداً، اضطرت إلى تعطيل موظيفها العاملين في إداراتها وتخفيض أجور اللاعبين، واليوم يظهر بشكل واضح سعي الأنظمة للحفاظ على أدنى درجات الإنتاجية في المجتمعات خوفاً من كساد اقتصادي وأزمة اقتصادية تلحق الجميع، والكل يتنبأ بأزمة عالمية أكبر مما شهده العالم سنتي 1933م و 2008م، ويُخشى من تطورها باتجاه الكارثة من جراء تفشي هذا الوباء، وقد أشار بعض الباحثين إلى أن الأزمة التي تؤول إلى كارثة ينتج عنها تعرض مجتمع بأكمله أو جزء منه إلى أخطار مادية شديدة، وخسائر في الأرواح، وتأثيرات كبيرة في البناء الاجتماعي بإرباك حياته، وتوقف توفير المستلزمات بسبب استمرارها.

لقد أظهرت الأزمة بدون شك هشاشة نظم الحماية الصحية والاقتصادية وغيرها في مواجهتها، ولئن كان هناك من درس يلزم التأكيد عليه في سياق هذه الأزمة وأمثالها، فإنه يكمن في ضرورة توجيه الجهود والطاقات إلى بناء الحصانة الداخلية وتركيزها باتجاه نظم الحماية وتقويتها بمضادات الأزمة، ولك أن تتصور أن إشكالية واحدة من إشكاليات البنية الصحية في العالم وهي إشكالية النقص العددي في أجهزة التنفس الاصطناعي، تكفي للتدليل على ضعف هذه البنية وهشاشتها، في الوقت الذي تزخر فيه دول العالم المتقدم أو غيرها بمختلف أشكال الأسلحة وأنواعها، ومن هنا فإن بناء الحصانة والمناعة وتحقيق حمايتها لجميع البنى يتطلب رسم سياسات عامة تضطلع بها النظم السياسية في العالم بحيث تتكأ عليها في أوقات المحن والأزمات.

ولا يسع المقال الوقوف بتفصيل على جزئيات بُنى الحماية والحصانة، ولكن يسعه أن يؤكد على الإنجاز الفكري الذي حققه الفكر الإسلامي فيما يتعلق بهذه البنى، وهو ما يتعلق بالفكر المقاصدي الإسلامي، لقد أسهمت المنظومة المقاصدية في الفكر الإسلامي في توجيه العقلية المسلمة وغيرها إلى ضرورة التأكيد على مناطات الحفظ في مختلف النظم المجتمعية، وهي مناطات في حقيقتها تتناغم مع بناء الحصانة والمناعة الذي نؤكد عليه في هذه الأكتوبة الموجزة، وهذه المناطات تأخذ في اعتبارها متطلبات الحفظ بمختلف صوره تأسيساً وديمومة ورعاية وعناية وتطويراً وارتقاء وصيانة وعلاجاً.. إلخ، بل يراعي كذلك كيفية الحفظ بالانتهاء، وهذه المناطات كلها في مختلف النظم المجتمعية تكفلها ثلاثة أجهزة فاعلة: جهاز المناعة الذاتية، وجهاز النقد الذاتي، وجهاز التجدد الذاتي، وهي أجهزة لو تحققت بها النظم ومؤسساتها جميعاً، فإنها تضمن لها ديمومة واستمرارية وظيفية لا تكدرها المحن والأزمات بل تزيدها قوة وثباتاً.

زر الذهاب إلى الأعلى