اختطاف الإسلامملفـات

عالم الأفكار بين الاختطاف والتطويع والترويع

 

تمهيد:

لقد كان من أهم إبداعات المفكر الشهير مالك بن نبي هو نحته لموضوع العوالم الثلاثة: عالم الأشياء وعالم الأشخاص وعالم الأفكار؛ وقدم مالك بن نبي في كتاباته تصوراً لثلاثيته بقوله: “إن الإنسان يعيش في ثلاثة عوالم: عالم الأفكار، وعالم الأشخاص، وعالم الأشياء. ولكل حضارة عالم أفكارها، وعالم أشخاصها، وعالم أشيائها”.

وعالم الأفكار مرتبط بالمجرّدات من الأفكار والقيم التي لا تتأثّر بالأشياء ولا بالأشخاص بقدر ما تؤثّر فيها، ويتمتّع هذا العالم بالرحابة وسعة الأفق؛ وهذا هو العالم الذي ينبغي على الإنسان أن يدخله فيرفع من مستواه الحضاري والإنساني.

أما عالم الأشخاص فمرتبط بالشخص من حيث اسمُه، نسبه، عرقه، شكله، عشيرته، ماله.

بينما يقوم عالم الأشياء: على الماديات والملموسات بالحواس الخمس..

والمجتمع في رحلة صعوده يتنقل بين العتبات الثلاث من عالم (الأشياء) إلى عالم (الأشخاص) ليقفز في النهاية إلى عالم (الأفكار).

والتاريخ شاهد على أن عالم الأفكار هو الأساس في عملية النهوض الحضاري لأي مجتمع، بمعنى أن بقاء نظام الأفكار سليمًا وفاعلاً سوف ينقل المجتمع إلى الواقع المرتجى، وفي المقابل فإن التراجع أو الأفول الحضاري لأي مجتمع، يرتبط ارتباطًا وثيقًا بتراجع الفكرة لصالح الشخص أو لصالح الشيء، بل إن (الأفكار المجسدة) تفقد رونقها وبريقها وتأثيرها؛ حيث اكتسبت من الشخص قوتها وربما قداستها الموهومة، وتأبت على النقد والتقويم؛ بخلاف (الأفكار المجردة) التي قيمتها ذاتية أصيلة وليست خارجة دخيلة!

والذي يستعرض تاريخ الأمة الإسلامية وأطوارها التاريخية يمكنه إدراك هذه الدورة الحضارية لها بدءاً من لحظة تشكلها وبزوغها في عصر الرسالة وانتهاء بضعفها وأفولها كليًا أو جزئياً، والتي استغرقت قرونًا عديدة وأخذت صورًا متعددة بتعدد الحواضر الإسلامية.

بل تمتد هذه الظاهرة بعد سقوط دولة الخلافة الأخيرة، لتشمل الحركات والجماعات التي تشكلت بعد سقوط الخلافة؛ لتشملها الظاهرة أيضًا!!

وإذا كانت النهضة والحضارة ترتبط ارتباطًا لصيقًا ووثيقًا بمدى ما تحمله من أفكار أصيلة وفاعلة ودافعة؛ فإن تشوه الأفكار أو تزييفها واختطافها يمثل أكبر عائق يحول دون الشهود والنهضة الحضارية للأمة أفرادًا وجماعات ودولًا!

وإدراك هذه الحقيقة يعطي تفسيرًا واضحًا عن سر الغياب الحضاري الذي تعاني منه الأمة في بقاع عديدة من عالمنا الإسلامي، في الوقت الذي استطاعت أمم وشعوب أن تحقق نهضة حضارية نوعية رغم انطلاقها في نفس اللحظة في ظروف أشد قسوة وإمكانات ومقدرات أقل كثيرًا مما يتوفر لدى دولنا الإسلامية خاصة العربية منها!!

فإذا كان عالم الأفكار بهذه المثابة وهذه الأهمية وهذه المكانة من حيث دورها في البنية الحضارية للأمة، فإنها كانت وستبقى في دائرة الاستهداف تارة بالاختطاف وتارة بالتشويه وأخرى بالتغيير  والتحريف بجعلها ميتة أو مميتة حسب تعبير مالك، ولذلك فهي بهذا الاعتبار تعد محوراً مركزياً تنجذب إليه سائر المنظومة الإسلامية مما تنضوي وينضوي في دائرتها الأساسية، ولا غرو عند ذلك أن نقف عند مؤثرات الاختطاف فيما لو تحقق لعالم الأفكار على أيدي المختطفين أن تنشد بقية أجزاء المنظومة إلى دائرة الاختطاف، ومن هنا فإن التأكيد على مركزية عالم الأفكار في جعله في بؤرة الاستهداف بالاختطاف، فإنه لا يقف عند دائرته الخاصة بل يمتد أثره إلى دوائر أخرى لها ارتباطها الوثيق بعالم الأفكار، وهو ما جعل مشروع مواجهة اختطاف الإسلام ينبه إلى أهمية بحث اختطاف عالم الأفكار بوصفه منطلقاً للتنبيه على خطورته وتأثيره على أبعاد فكرية تمتد في إطار شبكي.

ولا يخفى على ذي بصيرة واعية أن عالم الأفكار له امتداداته المنهجية والفكرية مما كان محل بحث ودراسة ونظر في أثناء مشروع مواجهة اختطاف الإسلام، ولذلك عند التأمل في إلماحة على تم رقمه من بحوث ودراسات في هذا المشروع يمكن معها إدراك تلكم الشبكية لعالم الأفكار في امتداداته بموضوعات هذه البحوث والدراسات، فضلاً عن التعمق في أثنائها والنظر في مكنوناتها ومحتوياتها، وعند ذلك يسعنا أن نقرر أن هذا البحث يصلح أن يكون ديباجة بين يدي المشروع، وظيفته التنبيه على تلكم الموضوعات التي كانت محل استهداف بالاختطاف من قبل المختطفين، وحتى لا نقف عند دائرة الإجمال والتعميم بعيداً عن البيان بالمثال والأنموذج، فإن مشروع مواجهة اخطاف قد غاص في موضوعات عدة، قد لا يكون مستوعباً لجميع ما استهدفه المختطفون من أهداف، إلا أنه ولا شك وقف منبهاً على ذلكم المشروع الخطير الذي تواجهه الأمة في واقعها المعاصر؛ لتكون واعية بما يخطط لها من عواقب ومآلات يأتي على بنيتها بالإضعاف أو الإهلاك أو النقض والبطلان لكل مقوماتها الحضارية؛ لتبقى في دائرة الاستتباع للغرب مرهونة به في الحفاظ على حياة ذليلة لا قيمة لها ولا وزن.

إن عالم الأفكار بما أوتي من مقومات يأخذ مداه إلى زوايا وجهات عدة مما يشكل منظومة متكاملة لا تقف عند دائرة الأفكار منبتة عن أبعادها المنهجية والنسقية، وعندها حين يُبحث عالمُ الأفكار يستحضر الذهن تلكم الأبحاث التي تعرض لها مشروع مواجهة اختطاف الإسلام، ولو تأملناها لوجدناها مرتبطة به ارتباطاً منظومياً شبكياً، وبالمثال يتضح المقال: عالم المفاهيم، عالم القيم، التسميم الفكري والحضاري، تطبيق الشريعة، عالم النظم والمؤسسات، عالم البنى المعرفية والحضارية، تشكيل العقول، عالم النخب بمختلف مظاهرها الفكرية والسياسية والإعلامية، عالم المرجعيات، المجال الحضاري والبنى الحضارية، عالم التراث والذاكرة .. في غيرها من العوالم التي لها ارتباطها الوثيق بعالم الأفكار، فلا عجب عندئذ أن يجعل هذا البحث في مقدمة أبحاث هذا المشروع.

وقبل الولوج في مفاصل هذا البحث وقسماته ومضامينه، كان لا بد من التنبيه على قضية مركزية لا ينبغي الغفلة عنها ولا إغفالها، وهي أن حديثنا عن العوالم الثلاثة ليس منبتاً عن عالم آخر لا يمكن لهذه العوالم وفق المنهجية الإسلامية أن تنفصل عنه أو تستغني بغيره، وهذا العالم هو عالم الوحي المحفوظ، الذي يجسد في حقيقته المرجعية الكبرى للأمة المسلمة ويتمثل في كتاب الله تعالى وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يشكل سقف هذه العوالم، ويعد حاكماً لها في مساراتها، ولا يكون تقويم هذه العوالم إلا به.

ولذلك هو خارج دائرة التصاعد القيمي؛ لأنه ينطوي على قيم كبرى ثابتة وراسخة في إطار التوحيد والتزكية والبناء الحضاري على هدى واستقامة، وتعضده -دلالاتٍ وبراهينَ- نصوصٌ متوافرة في الوحيين، منها قوله تعالى: (اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلاً ما تذكرون)[الأعراف: آية 3]، وقوله تعالى: (ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون)[الجاثية: آية 18] .. في غيرهما من النصوص كتاباً وسنة.

وإذا كنا نواجه اختطاف عالم الأفكار في سياق مشروعي خطير قد أجلب بخيله ورجله لتحقيق مراميه وغاياته في حرف الإسلام عن مساره، فإنما تقع هذه المواجهة بالوحي المحفوظ الذي يمثل ملاذاً للمعتصمين به، يستند إليه حراس الشريعة وحماتها في مجالدة الباطل ووسائله واستراتيجيته، ودفع شبهاته وحملاته الشوهاء في بث الأفكار المميتة للأمة على مستوى عقيدتها وشريعتها وقيمها ودورها الحضاري، وهذا الذي يثيره قوله تعالى: (وجاهدهم به جهاداً كبيراً)[الفرقان: آية 52].

القوى الفاعلة ومن يسوق هذه الأفكار داخلياً وخارجياً:

إن معركة الأفكار هي حرب ضروس لا تقل ضراوة عن غيرها من المعارك؛ إن لم تفقها أهمية وأثرًا؛ وقد تولى كبرها قوى وجهات متعددة، منها:

أولاً: العالم الغربي: 

ولا أدل على ذلك من أن أمريكا قائدة العالم الغربي وأقوى دوله؛ وتمثل رأس نظامها؛ وبكثير من مؤسساتها تمارس هذه الحرب على نطاق واسع ولم يكن ذلك قاصرًا على فريق أو حزب دون حزب؛ فيستوي في ذلك الجمهوريون والديمقراطيون- ففي تصريح وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة (كونداليزا رايس) في مقالة لها في الواشنطن بوست (ديسمبر 2005م) قالت: «إننا ضالعون في حرب أفكار أكثر مما نحن منخرطون في حرب جيوش”!

وقد عبَّر عن ذلك (رامسفيلد) نفسه عندما قال في تصريح له 16 فبراير 2006م: «إن أمريكا تخسر حربها الدعائية والفكرية ضد التشدد الإسلامي… ينبغي لنا أن نبحث عن وسائل أخرى بديلة لكسب عقول الناس في العالم الإسلامي”.

بل إن رأس الدولة نفسه أعلنها صريحة بلا مواربة؛ فهذا (باراك أوباما) الديمقراطي، يصرح في كتابه (جرأة الأمل): «إن أمريكا تخوض في الشرق الأوسط صراعاً مسلحاً، وتخوض في الوقت نفسه حرب أفكار”!!

ومن نافلة القول الإشارة إلى أن مثل هذه التصريحات من القيادة الأمريكية متمثلة في أرفع مسئوليها كفيلة بتحريك أذرعتها الفكرية والثقافية والإعلامية في الداخل الإسلامي لإطلاق شرارة معركة الأفكار في العالم العربي والإسلامي وإدارتها!!

والأمر كما يقول مالك بن نبي: ” …في زمن عبد الله النديم القلعة هوجمت من الخارج: محتلٌ أراد أن يحتلّ بأفكاره ليثبِّت عبر أسسٍ إيديولوجية سلطته الاستعمارية. أما اليوم فالمعركة من الداخل وبين جدران القلعة، بين أولئك الذين يريدون الدفاع عن القلعة والذين يريدون تسليمها إلى الأفكار الأجنبية”!

وأحد تجليات هذه الحرب الضروس تدور بين اختطاف الأفكار والتطويع والترويع، وقد جرى تسليط الضوء ضمن هذه السلسلة المباركة على بعض صور هذا الاختطاف والتطويع والترويع؛ سواء ما يتعلق بالمصطلحات والمفاهيم، أو المؤسسات والكيانات، وهذه الدراسة معنية بتسليط الضوء على بعض تجليات هذه الحرب من خلال ما طرحه الأستاذ مالك بن نبي في كتابه “مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي”.

ثانياً: المستشرقون:

    لعب الاستشراق دوره في عالم الأفكار من جهات متعددة، ليس فقط من جهة توجيهه لأبناء جنسه من الغربيين، بل تجاوزه إلى تشكيل عقول المسلمين، ولئن كان الاستشراق أول أمره قد استهدف بني جلدته في حمايتهم من أثر الحضارة الإسلامية بما يعني تحصين عالم أفكار من التأثر بالمنجز الإسلامي، فإنه -أي الاستشراق- قد شهد تطوراً تاريخياً في سياق بناء الأفكار ودائرة الاستهداف، فإنه أضحى موجهاً للمسلمين أنفسهم الوجهة التي يريدها من حيث إضعاف بل إماتة الروح الحضارية والعمرانية التي تمتع بها المسلمون في عهودهم الزاهرة، ومدخله لتحقيق هذا الهدف تشكيك المسلمين بثوابتهم وقيمهم المنهجية العليا والدخول إلى عالم أفكارهم بقصد إماتته بأفكار تجعل هم المسلم الانشغال بدنياه عن دينه، وشهواته عن رسالته، فيكون عابداً لهواه لا يلوي على شيء سوى أنه يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل.

ولا يغيبن عن البال أن الاستشراق لم يعمد فقط إلى بث هذ الروح عبر نقده ونقضه لمفاصل المنظومة الإسلامية بالتشكيك والتشويه، بل عمد أيضاً إلى اتخاذ طرق ظاهرها المدح وباطنها القدح، وهي طرق أشار إليها مالك بن نبي في كيفية بث الوهن في النفسية المسلمة بإشغالها بأمجاد الماضي التي تحققت على أيدي المسلمين والإشادة بمنجزهم الحضاري الذي استفاد منه الغرب نفسه، ولكن مكمن الداء في هذا الطرق وأمثاله يتمثل في جعل هذا المنجز التاريخي منبتاً عن أصله وسببه ألا وهو مرجعهم ومنهجهم المتمثل في تلكم الشريعة بخطابها كتاباً وسنة وما أنجزته العقلية المسلمة من جهود فكرية عظيمة خدمة لهذا الخطاب على مدار التاريخ، ثم الأنكى من هذا حين نشيع في أوساط المسلمين تلكم النفثات المسمومة حين نقرر أن هذا المنجز التاريخي ما هو إلا مرحلة زمنية متأثره بواقعها التاريخي، لا يتسع الزمان اللاحق لاستيعابه وتكراره، وأن دورة الزمان في حاضرنا إنما أتت على منجز حضاري آخر يتمثل في الحضارة الغربية، وإذا أراد المسلمون أن يتجاوزا مشكلهم الحضاري فعليهم اتباع هذا المنجز والسير على خطواته، إنها بحق أفكار مميتة تلكم التي بثها المستشرقون الذي جندوا كل ما أوتوا من جهود وقوى لأجل تحقيق هذا الهدف.

ولعل الإشارات التي وقف عندها مالك في بيان أثر المستشرقين في عالم أفكار المسلمين وما يرتبط به يوضح مدى إشكالية القابلية للاستعمار -كما وصفها- في العقلية المسلمة حتى وإن كان المستشرقون في مراحلهم الأولى لم يستهدفوا المسلمين أصالة بل استهدفوا بني جلدتهم، فيقول في هذا السياق: “تجب هنا الملاحظة بأن هذا اللقاء الجديد -يقصد بين المسلمين والغرب- وقع في ملابسات تاريخية لم يكن فيها العلم الإسلامي علماً حياً ينقل من أفواه الأساتذة مباشرة ومن كتبهم المعاصرة بل أصبح أشبه شيء بعلم الآثار يكتشفه الباحثون الأوربيون بحكم الصدفة ويصدقون أو لا يصدقون في نقله، ثم ينسبونه لأصحابه من العلماء المسلمين، أو ينسبونه لأنفسهم أو لأحد الأوربيين، فهكذا كانت اكتشافات كبرى تنسب لغير أصحابها .. كما تجب الملاحظة أيضاً أن العالم الإسلامي أصبح في هذه الملابسات يعاني الصدمة التي أصابته بها الثقافة الغربية، ويعاني بسببها على وجه الخصوص أثرين: مواجهة مركب نقص محسوس من ناحية، ومحاولة التغلب عليه من ناحية أخرى حتى بالوسائل التافهة. لقد أحدثت هذه الصدمة، عند قبيل من المثقفين المسلمين شبه شلل في جهاز حصانتهم الثقافية، حتى أدى بهم مركب النقص إلى أن ولوا مدبرين أمام الزحف الثقافي الغربي، وألقوا أسلحتهم في الميدان، كأنهم فلول جيش منهزم في اللحظة التي بدأ فيها الصراع الفكري يحتدم بين المجتمع الإسلامي والغرب ..”[1]، ويقول أيضاً عن إحدى الكيفيات التي دخلوا فيها إلى العقل المسلم: “إن الأعمال الأدبية لهؤلاء المستشرقين قد بلغت في الواقع درجة خطيرة من الإشعاع لا نكاد نتصورها، وحسبنا دليلاً على ذلك أن يضم مجمع اللغة العربية في مصر بين أعضائه عالماً فرنسياً. وربما أمكننا أن ندرك ذلك إذا لاحظنا عدد رسالات الدكتوراه، وطبيعة هذه الرسالات التي يقدمها الطلبة السوريون والمصريون كل عام إلى جامعة باريس وحدها، وفي هذه الرسالات كلها يصرون -وهم أساتذة الثقافة العربية في الغد وباعثو نهضة الإسلام- يصرون كما أوجبوا على أنفسهم، على ترديد الأفكار التي زكاها أساتذتهم الغربيون، وعن هذا الطريق أوغل الاستشراق في الحياة العقلية في البلاد الإسلامية، محدداً بذلك اتجاهها التاريخي إلى درجة كبيرة”[2].

ثالثاً: الحكومات الوظيفية المستبدة:

الدولة الوظيفية أو الجماعة الوظيفية هو مفهوم صناعي وضعه الدكتور عبدالوهاب المسيري رحمه الله وجعله موضوعاً لمؤلف بهذا الاسم، وهو إن كان متعلقاً بالظاهرة الصهيونية والجماعات اليهودية، إلا أنه يمكن تعميمه على ظواهر أخرى بالقياس عليها بحكم ما تجتمع فيها من أوصاف وقيود يقاس عليها ويترتب عليها إلحاق حكم الأصل، يقول المسيري في هذا الإطار: “من الظواهر التي تستحق الاهتمام، وبخاصة من الدارس العربي، ما نسميه (الدولة الوظيفية). ونحن نذهب إلى القول بأنه يمكن إعادة إنتاج نمط الجماعة الوظيفية على مستوى الدولة في أشكال مختلفة … يمكن تحويل اتجاه دولة ما بحيث تنحو منحى وظيفياً عن طريق تحويل النخبة الحاكمة إلى جماعة وظيفية تدين بالولاء للاستعمار الغربي. وتنظر للمجتمع الذي تنتمي إليه نظرة تعاقدية باردة فتنعزل عنه وتشعر بالغربة ويزداد ارتباطها العاطفي والثقافي والاقتصادي بالمركز الإمبريالي”[3].

ولعل هذا النموذج التفسيري الذي صاغة المسيري يظهر أثره واضحاً في الأمثلة العربية بشكل سافر، فقد ظهرت هذه الوظيفية عقب ثورات الربيع العربي، حيث كشفت الأخيرة حجم التماهي في استتباع الأنظمة لغير شعوبها، وذلك بإظهار حقيقة العقد المبرم بينها وبين ساداتها، تقوم الأولى بإدامة تغييب عالم الأفكار، وتقوم الثانية بحفظ كراسيها، وكان الخاسر الأكبر في ذلك الشعوب نفسها.

وتأثير هذا النسق في اختطاف عالم الأفكار يظهر جلياً في السياسة المتبعة على يد هذه الحكومات الوظيفية، قاصدة تثبيط الأمة عن مهمتها الحضارية، وإشاعة روح الهزيمة والقعود فيها، بوسائل مختلفة، وأساليب شتى، كلها تصب في تخذيلها، وإماتة الروح الكفاحية، ومن أخطر هذه الوسائل والأساليب: ما سموه سياسة تجفيف المنابع، ويعنون بها: مصادر التوجيه والتثقيف والتعليم للأمة، عن طريق مؤسسات التربية والتعليم، وعن طريق وسائل الثقافة والإعلام، بتفريغها من كل معاني المقاومة والكفاح.

ولهذا يعملون بجد ليفرغوا المناهج التربوية والإعلامية من كل ما يبعث الأمة ويحفزها باتجاه تفعليها الحضاري، ويفرغون المناهج من كل ما يتصل بغرس عزة النفس المؤمنة وقوة الشخصية المسلمة والتمسك بالحق ومقاومة الباطل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .. إلى آخر هذه الفضائل.

ومن أبرز وسائلهم وأدواتهم في تحقيق ذلك مسلك التوظيف الإعلامي والعلمائي الذي ساعد في التعبئة الجماهيرية لهذه السياسات، بالإضافة إلى استدعاء وسائل التواصل الاجتماعي التي أضحت من أكثر الوسائل نجاعة في التأثير على الرأي العام وتغيير قناعاته أو التمويه بالتغيير من خلال رسائل التخييل التي ترسل إلى العامة بأن هناك كثرة غالبة تتبنى هذه السياسات وتدعو إليها.

ومن الأمثلة الصارخة ذلكم التماهي الذي انساقت معه تلكم الحكومات الوظيفية فيما يسمى بصفقة القرن التي أضحت قبلة ووجهة لها تستبقي بها ومعها عروشها وكراسي حكمها، فكان من أثمانها الباهضة التفريط بدينها وثرواتها والتخلي عن ثوابتها خدمة لهذا المشروع الصهيوني الأمريكي، فاندفعت باتجاه النيل من مشروع المقاومة ضد الاحتلال الصهيوني عن طريق توصيفه بالإرهاب نزولاً عن رغبات التوصيف الأمريكي لحركات المقاومة في الأمة، وتزامن ذلك مع الاعتراف الأمريكي بالقدس المحتلة عاصمة للكيان الصهيوني وعزمه نقل سفارته إليها، ولا يخفى أن ذلكم التماهي مع التوصيف الأمريكي يكمن في إطار مشروع صفقة القرن الذي قصد تغيير معالم المنطقة من جديد.

رابعاً: حَمَلة الأفكار العليلة:

إن الناظر في الحالة الثقافية والفكرية والمفاهيمية لدى قطاعات كثيرة من الشباب والمثقفين في البلاد العربية والإسلامية يدرك لأول وهلة ومن غير أدنى جهد حجم التشوهات والضحالة والانحرافات الفكرية التي أوجدتها هذه المؤسسات وأفرزتها تلك السياسات خاصة في مرحلة ما بعد الربيع العربي ونجاحات الثورة المضادة واستفرادها بالساحة الفكرية والثقافية مع تغييب شبه تام من الرموز الفكرية الوطنية والإسلامية، في ظل حالة الاستبداد والاستقطاب الحاد التي تعاني منه أغلب تلك المجتمعات، وفي ظل تمالؤ من المؤسسات الدينية الرسمية ورموزها مع تلك الحالة المرضية!!

ويكفي لإدراك جزء من هذه التشوهات والانحرافات رصد انحراف بوصلة الموقف من الصهاينة المحتلين والأعداء التاريخيين، ليتحولوا إلى دعاة سلام ورفقاء كفاح ضد الإرهاب الفلسطيني وحليفه الإخواني!!

ناهيك عن الموقف من ثوابت ومحكمات الإسلام التي باتت محل نظر واعتراض بل وطعن وازدراء بلا مداراة ولا مواراة بعد أن أيقن مديرو المعركة النجاحات التي حققوها على المستوى الشعبي والنخبي، وشتان بين انتفاضة الجماهير احتجاجاً على قيام وزارة الثقافة المصرية بطبع رواية تسيء للذات الإلهية، وهي “وليمة لأعشاب البحر” للسوري “حيدر حيدر”، حيث اندلعت مظاهرات عارمة رفضا للرواية المسيئة، وبين موقفها من إساءات وطامات كبرى أشد وأصرح من ذلك بكثير!!

غير أن قصر عزو هذه النجاحات وأسباب تحققها إلى تلك القوى الخارجية وامتداداتها الداخلية قول غير صحيح ويفتقد إلى الدقة والموضوعية؛ بل إنه يمكن القول إن المؤثر الأكبر يرجع إلى الخلل الكبير في أولويات الحركة الإسلامية ورموزها وقياداتها، ومنهجية تعاطيها مع التحديات التي تواجهها على المستوى الفكري والثقافي، وآلية التعامل معها.

إن الأثر الكبير والجهود المشكورة التي بذلتها هذه الحركات وقياداتها ودورها في تعليم الجماهير وتوعيتها بكثير من أحكام الإسلام وتشريعاته، والنقلة الكبيرة التي أحدثتها في الشباب ذكورًا وإناثًا، على مستوى التدين الظاهر والانتماء لهذا الدين، والدور المجتمعي الإغاثي الذي اضطلعت به- كل هذه الجهود المشكورة المأجورة إن شاء الله- لم تكن لتكفي وحدها في مواجهة هذه الحرب الفكرية الشرسة التي تولى كبرها مؤسسات تعليمية وثقافية وإعلامية متخصصة وعلماء اجتماع ورجال فكر ونخب ورموز!

فرجال حرب الأفكار غير رجال حرب الميدان، والسلاح المطلوب لهذه غير المطلوب لتلك، وقد كانت أغلب الحركات والكيانات الإسلامية المليئة بخريجي الكليات العملية من الطب والهندسة وغيرها- والذين تبوأ أكثرهم دفة القيادة والتوجيه فيها- إلا أنها كانت في الوقت نفسه تفتقر إلى رجال الفكر والاجتماع، الذين يقع على عاتقهم المواجهات الفكرية، والهندسة المجتمعية، وإحداث القفزات الحضارية والنهضة النوعية.

ولا أدل على ذلك من تجذر كثير من الأفكار السلبية التي تحدث عنها مالك بن نبي في كتابه مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي داخل كثير من تلك الحركات، دون انتباه جاد لخطورتها، وتحرك فاعل لتصحيحها أو إزالتها.

وكما يقول مالك بن نبي: (إن السياسة التي تجهل القوانين الأساسية لعلم الاجتماع- وهو الذي يعتبر علم بيولوجيا البنى والأجهزة الاجتماعية- ليست إلا ثرثرةً عاطفيةً، ولعباً بالألفاظ وطنطنةً غوغائية).

والمقصود السياسة بمفهومها الشامل، بمعنى القيام على الأمر بما يصلحه، وليس المقصود مفهومها القاصر على بعض جوانب العمل السياسي المعروفة.

وتحدث مالك عن نوعين من الأفكار السلبية التي ظهرت في عالمنا الإسلامي وأفرزت هذا الواقع الحضاري المظلم؛ وميز جيداً بينهما:

النوع الأول: الأفكار الميتة، وذكر أنها نتاج إرثنا الاجتماعي، وأنها أفكار انحرفت عن مثلها الأعلى، وخذلت أصولها؛ ومن ثم فليس لها جذورٌ في العصارة الثقافية الأصلية. وهو يولد القابلية للاستعمار!

وهذا النوع من الأفكار ليس وليد عصر أو عصرين أو ثلاثة من العصور المتأخرة؛ بل إن بعضها يمتد قرونًا عديدة وفي ربوع شتى، وإن كانت آثارها متفاوتة باعتبار الزمان والمكان، ومدى تمكنها، مقارنة بالأفكار السائدة زمانًا ومكانًا!!

ولا شك أن أرباب الفكر الصوفي الذي انحرف عن مسيرته الأولى ونشأته، يتحمل قدرًا كبيرًا من تبعة التخلف الحضاري الذي عانت ولاتزال تعاني منه الأمة حتى اللحظة!!

فلم يعد التصوف هو الزهد في الدنيا، والانقطاع لعبادة الله كما ذكر ابن تيمية عن متقدمي الصوفية: «والصواب أنهم مجتهدون في طاعة الله كما اجتهد غيرهم من أهل طاعة الله، ففيهم السابق المقرب بحسب اجتهاده، وفيهم المقتصد الذي هو من أهل اليمين، وفي كل من الصنفين من قد يجتهد فيخطئ، وفيهم من يذنب فيتوب أو لا يتوب، ومن المنتسبين إليهم من هو ظالم لنفسه، عاص لربه” الفتاوى (11/18)، وإنما انحرف الفكر 180 درجة إلى الرهبانية والتعلق بالبدع، والمنكرات، والسلبية والانهزامية باسم الرضا بالقضاء والتسليم له!!

وكان أحد أهم تجليات هذا الفكر الميت، مع ما أشاعه من جمود في الحياة وتخلف حضاري هائل باسم الدين، هو قابلية أربابه للاستعمار باسم الدين أيضًا!!

ولا عجب إذن أن تلقى هذه الفرق وأربابها تلك الحفاوة والتمكين والتقديم من المحتلين الغزاة لدول الإسلام، أو من وكلائهم بعد مغادرتهم البلاد التي احتلوها!!

يقول الدكتور عمر فروخ: “يقول الصوفية: إذا سلط الله على قوم ظالماً فليس لأحد أن يقاوم إرادة الله أو أن يتأفف منها. لا ريب أن الأوروبيين قد عرفوا في الصوفية هذا المعتقد فاستغلوه في أعمالهم، فقد ذكر الزعيم الوطني مصطفى كامل المصري في كتابه “المسألة الشرقية” قصة غريبة عن سقوط “القيروان”.

قال: ومن الأمور المشهورة عن الاحتلال الفرنسي للقيروان في تونس أن رجلاً فرنسياً دخل الإسلام وسمى نفسه “سيد أحمد الهادي”، واجتهد في تحصيل الشريعة حتى وصل إلى درجة عالية، وعيّن إماماً لمسجد كبير بالقيروان.. فلما اقترب الجنود الفرنسيون من المدينة استعد أهلها للدفاع عنها.. وجاءوا يسألونه أن يستشير الضريح الذي في المسجد، ودخل “سيدي أحمد الهادي” الضريح.. ثم خرج يقول: إن الشيخ ينصحكم بالتسليم لأن وقوع البلاد صار محتماً.. فاتبع القوم كلمته، ودخل الفرنسيون آمنين في 26 أكتوبر سنة 1881″.

وقل مثل عن الاحتلال الإيطالي لليبيا ودور أكثر هذه الفرق، بخلاف السنوسية وعلى رأسها المجاهد البطل عمر المختار، ولعل ذلك يفسر لماذا حظرها القذافي في ليبيا ومكن لغيرهم!

ويقول “الشعراني”: في البحر المرود ص292-: “لقد أخذ علينا العهد بأن نأمر إخواننا أن يدوروا مع الزمان وأهله كيفما دار، ولا يزدرون قط من رفعه الله عليهم، ولو كان في أمور الدنيا وولايتها. كل ذلك أدباً مع الله عز وجل الذي رفعهم، فإنه لم يرفع أحداً إلا لحكمة هو يعلمها”. انتهى.

ولا يقتصر حمل الأفكار الميتة على هذه الطائفة المنحرفة من الصوفية؛ بل إن هناك فريقًا آخر مقابلًا كان له دور مؤثر وبالغ لا يقل خطورة عنهم، وهم بعض المنتسبين إلى الفكر السلفي، حيث إنهم-وباسم اتباع الكتاب والسنة- جمدوا على جملة من ظاهر نصوص الوحي، وأخرجوها من سياقها الكلي، ومقصدها الرباني، وفرغوها من بعدها العملي التطبيقي، ففقدت أصالتها وفاعليتها التي بهما أحدثت نهضة حضارية عالمية، ووظفت في صورتها المبتورة الميتة في تكريس القابلية للاستعمار، لكنه هذه المرة استعمار داخلي من المستبدين والطغاة!!

ويكفي أن يطالع القارئ بعض هذه النماذج المعاصرة لأرباب هذه المدرسة؛ مدرسة طاعة ولي الأمر؛ في بلاد الإسلام عامة، وبلاد الربيع العربي خاصة؛ ليدرك خطورة أرباب هذه المدرسة الفكرية التي لايقل بحال عن نظيرتها الصوفية المنحرفة!!    وما موقفهم في ليبيا وغيرها عنا ببعيد!!

فالعقيدة على أيديهم تحولت من طاقة حية دافعة فاعلة رافعة إلى جدال نظري تنظيري لا روح فيها، تؤصل للخنوع والذل والاستعباد وقبول الاستبداد بل وتقديسه! وميراث النبوة الأخلاقي والسلوكي لم يعد له وجود في واقعهم!!

وفي هذا السياق يمكن أن نلاحظ من الأفكار الميتة ما يتم استدعاؤه من التاريخ لحسم معارك الحاضر والمستقبل؛ مثل استدعاء التقسيم الفرقي والكلامي للمسلمين، وجعله أم المعارك في الوقت الذي يحدق خطر الاستئصال بالأمة الإسلامية كلها دون تمييز بين هذا وذاك، ومثل مشكلة تولي المناصب العامة بطريقة التغلب والانقلاب والتبرير لذلك بمقولات طاعة ولي الأمر.

وفي الطائفتين تجلت ظاهرة الفكرة الوثن، التي تدور مع القطب أو الشيخ؛ فمقياس صواب الفكرة وصحتها بل وقدسيتها إنما يستمد من القطب أو الشيخ؛ فتتأبى على النقد أو التقويم أو التصحيح أو التجديد والتطوير!!

النوع الثاني: الأفكار المميتة، وهي الأفكار التي فقدت هويتها وقيمتها الثقافيتين بعد ما فقدت جذورها التي بقيت في مكانها في عالمها الثقافي الأصلي، وهذه تولد الاستعمار.

فهذه الأفكار (المستوردة) وإن كانت تتميز بفعاليتها في سياقها الحضاري الغربي غير أنها تفتقد لتلك الفاعلية حينما تنقل للسياق الحضاري الاسلامي، لأنها نقلت بطريق “التكديس” وليس بطريق “البناء” حسب تعبير مالك بن نبي، أو لأنها هي في ذاتها أفكار تحمل قيمًا مضادة للوسط المنقولة إليه؛ فتحدث شرخا في الوعي وبلبلة في الفكر، وتشوها في التصور وتعميقا للتخلف وهدمًا للبناء الاجتماعي.

وإذا كان الذي يتولى كبر نقل هذه الأفكار المميتة من عالمها الغربي إلى عالمنا العربي والإسلامي يغفل عن قصد أو عن جهل هذه الحقيقة؛ وهم دعاة الحداثة والتغريب؛ فإن هذا الأمر لم يكن غائبًا عن رواد النهضة الحديثة في اليابان؛ فالمجتمعان وإن كلن قد تتلمذا سوية حوالي عام (1860) في مدرسة الحضارة الغربية-  إلا أن اليابان اليوم أصبحت القوة الاقتصادية الثالثة في العالم،  حيث لم تصرفها (الأفكار الْمُميتة) في الغرب عن طريقها؛ حيث بقيت وفيةً لثقافتها، ولتقاليدها، ولماضيها.

بينما الواقع العربي والإسلامي اليوم يخبرك واقعه عن خطورة تنكره لهويته وثقافته وتقاليده عندما ولى وجهه قبل أفكار الغرب المميتة!!

غير أن ثمة أمر آخر هنا يجدر الإشارة إليه في هذا السياق، وهو أن الأفكار المميتة لايلزم أن تكون أفكارًا من بيئة تختلف في عقيدتها وهويتها اختلافًا تامًا؛ بل قد يكون هذا الاختلاف جزئيًا، أو قد لا يكون موجودًا أصلاً في الأصول والهوية وإنما في الأعراف والتقاليد والعادات!!

ولذا نجد أن قواعد الفقه والأصول لم تغفل هذه المسألة؛ من خلال نص قواعدهما على اعتبار العرف والعادة في استنباط الأحكام وتغير الفتوى؛ كقولهم: (العادة محكمة)، و (لا ينكر تغير الأحكام بتغير الزمان). وأيضًا تغيرها بتغير المكان والعادات والأحوال والأعراف.

وقد علَّق ابن القيم في إعلام الموقعين على ما ذكرته المالكية في اعتبارهم للعرف المتجدد، فقال: “وهذا محض الفقه، ومن أفتى الناس بمجرد المنقول في الكتب على اختلاف عرفهم وعوائدهم وأزمنتهم وأمكنتهم وأحوالهم وقرائن أحوالهم فقد ضل وأضل، وكانت جنايته على الدين أعظم من جناية من طبب الناس كلهم على اختلاف بلادهم وعوائدهم وأزمنتهم وطبائعهم بما في كتاب من كتب الطب على أبدانهم، بل هذا الطبيب الجاهل وهذا المفتي الجاهل أضر على أديان الناس وأبدانهم”

والمقصود بتلك الأحكام التي تخضع للعرف والعادة، كما قال في درر الحكام شرح مجلة الأحكام: (إن الأحكام التي تتغير بتغير الأزمان هي الأحكام المستندة على العرف والعادة؛ لأنه بتغير الأزمان تتغير احتياجات الناس…). وكذلك تلك الأحكام المستنِدة إلى نصوص ظنية معللة بالمصلحة أو العرف.

وهذه الأحكام تتعلق في الأعم الأغلب بالعادات والمعاملات، وتقل في أبواب العبادات.

وغياب هذا الفقه والوعي الحضاري لدى قطاعات عديدة من أبناء الحركة الإسلامية في المشرق والمغرب كان له تأثير سلبي على حركات الإصلاح والإحياء التي سعت لنقلها بنفس مكوناتها وعاداتها وثقافاتها من بيئات وحواضر مختلفة إلى بيئتها وحواضرها دون اعتبار للاختلاف في الأعراف والعادات والمكان والحال؛ فنقلت التجارب النجدية إلى الحواضر المصرية، والمشرقية إلى المغربية والعكس دون مراعاة طبيعة وخصوصية كل بيئة ووسط فيما يتعلق بالعادات والمعاملات المستقرة في هذه وتلك، وهو ما كان له أثر سلبي يتعلق بإيجاد عزلة شعورية وسلوكية بين قيادات هذه الحركات والمجتمع المحيط حالت دون تعميم الإصلاح والإحياء المأمول في المجتمع كله ليصبح نوعيًا انتقائيا نخبويًا، وازدادت الفجوة مع مرور الوقت لتحول بين الإصلاح الشامل والتحول الكلي للمجتمع!!

الوسائل والمؤسسات:  

إن ميدان حرب الأفكار هو مؤسسات الثقافة والفكر والتعليم والإعلام، وهي المؤسسات التي أحكمت تلك الجهات سيطرتها عليها، بل لم تسمح لأحد أن يقترب منها، حتى مع بعض النجاحات الجزئية التي حققتها ثورات الربيع العربي في بعض البلدان؛ إلا أن هذه المؤسسات ظلت خطا أحمر غير مسموح للقوى الوطنية والإسلامية الاقتراب منها!!

وهو ما نص عليه بصراحة ووضوح تام رئيس الوزراء البريطاني الأسبق (توني بلير)، عند استضافته عام 2010م في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى بنيويورك لأجل تكريمه باعتباره مفكراً ورجل دولة، فكان مما تحدث عنه ما أسماه: (هزيمة استراتيجية للغرب في صراعه الفكري مع العالم الإسلامي)، وفي حديثه عن ميدان المواجهة قال بوضوح: “إن مناهج التعليم في البلدان الإسلامية هي المحرك الأساسي للتطرف الفكري”.

وهو ما أكده الكاتب الأمريكي (توماس فريدمان) حين دعا إلى أسماه (حوار الأفكار) بين الولايات المتحدة وبين شعوب العالم العربي والإسلامي، بعد أن لاحظ أن أمريكا تفقد مصداقيتها بشكل مقلق بين تلك الشعوب فكان مما طلبه وأكد عليه أن تكثف أمريكا سياسة تغيير الأفكار بين شعوب الشرق الأوسط، واقترح عليها مثلا أن تمنح خمسين ألف تأشيرة دراسية لطلاب عرب للقدوم إليها، ليكونوا هدفا للتأثير الفكري المباشر!!

وفي إطار حشد المؤسسات الإعلامية للقيام بدورها في (حرب الأفكار)، وضع مدير الاتصالات في البيت الأبيض (تاكر إسكيو) خطة لنشر الأفكار والمفاهيم و (القيم) الأمريكية، كللت وقتها بتأسيس (قناة الحرة) الأمريكية الناطقة بالعربية، وكذلك (إذاعة سوا) من أجل مخاطبة العرب بألسنة أمريكية ناطقة بالعربية.

وقد قال (تاكر) عند تأسيسه لهذه الوسائل الحربية الفكرية: (إننا نملك المال، ونملك الخبرة، ونملك الأفكار، ولن يستطيع أحد أن يقف أمامنا)!

ويكفي للباحث أن يلقي نظرة عابرة عن بعض الأسماء التي تولت وزارة الثقافة المصرية على سبيل المثال ابتداء بيوسف السباعي الذي دعا صراحة إِلى إِعادة البغاء والدعارة العلنية، ومع كونه لا يجيد الكتابة بالعربية إلا بصعوبة شديدة ويفضل العامية ويسخر من الفصحى، فقد كان يتهم العربية بأنها سخيفة، ويجهل مفهوم الموت في الإسلام، وآية ذلك روايته “نائب عزرائيل”- وانتهاء بإيناس عبدالدايم الوزيرة الحالية، ومرورًا بفاروق حسني وحلمي نمنم وموقفه من العلمانية والإسلام والإلحاد، وغيرهم من هذه السلسلة المختارة على أعين القائمين على إدارة معركة الأفكار بعناية فائقة!!

ومثل ذلك يقال في وزارات الإعلام والتعليم والتعليم العالي والمؤسسات المعنية بالثقافة والفكر عامة.

ولأجل المهمة نفسها أنشئت العديد من مراكز الأبحاث المتخصصة في شؤون الشرق الإسلامي المسمى بـ (الشرق الأوسط) مثل مركز (أمريكان أنترابرايز) الذي يهيمن عليه المحافظون اليهود الجدد، ومعهد (بروكنجر) ، ومعهد (كارنيجي) ، ومعهد (الشرق الأوسط) الذي يعرف منطقة الشرق الأوسط بالأراضي الممتدة من أفغانستان إلى المغرب العربي، رصد لها ميزانيات بملايين الدولارات سنويا!

مؤسسات ونماذج النجاح في مواجهة حرب الأفكار:

-تجربة مجلة المنار (للشيخ محمد رشيد رضا) والتي أسسها لتقوم بدور فاعل في التربية والتعليم، ونقل الأفكار الصحيحة لمقاومة الجهل والخرافات والبدع.

وقد صدر العدد الأول من مجلة المنار في (22 من شوال 1315هـ = من مارس 1898م) ، وحرص الشيخ رشيد على تأكيد أن هدفه من المنار هو الإصلاح الديني والاجتماعي للأمة، وبيان أن الإسلام يتفق والعقل والعلم ومصالح البشر، وإبطال الشبهات الواردة على الإسلام، وتفنيد ما يعزى إليه من الخرافات.

وأفردت المجلة إلى جانب المقالات التي تعالج الإصلاح في ميادينه المختلفة

بابًا للتعريف بأعلام الفكر والحكم والسياسة في العالم العربي والإسلامي، وتناول قضايا الحرية في المغرب والجزائر والشام والهند.

وقد كتب الشيخ رشيد فيها مئات المقالات والدراسات التي تهدف إلى إعداد الوسائل للنهوض بالأمة وتقويتها، وخص العلماء والحكام بتوجيهاته.

ولم يمض خمس سنوات على صدور المجلة حتى أقبل عليها الناس، وانتشرت انتشارًا واسعًا في العالم الإسلامي، واشتهر اسم صاحبها حتى عُرف باسم رشيد رضا صاحب المنار، وعرف الناس قدره وعلمه، وصار ملجأهم فيما يعرض لهم من مشكلات، وأصبحت مجلته هي المجلة الإسلامية الأولى في العالم الإسلامي، وموئل الفتيا في التأليف بين الشريعة والعصر.

ومن التجارب النوعية التي سارت على نفس الموال في هذا المضمار مجلة البيان، وإن كان يعيبها كونها نخبوية؛ مما جعل انتشارها وتأثيرها محدودًا مقارنة بمجلة المنار.

 

– مؤسسات الإعلام الهادف.

– النهضة التعليمية النوعية، وإنشاء المؤسسات التعلمية المعنية بعلوم الفكر والاجتماع.

استراتيجيات ووسائل المواجهة:

أولاً: نحو استعادة فاعلية الفكرة الإسلامية الأصيلة:

إن أولى خطوات النهضة والشهود الحضاري واستعادة المكانة وزمام المبادرة يكمن في استعادة الفكرة الإسلامية فاعليتها مع أصالتها لكي تقارع الأفكار الفعالة للمجتمعات المتحركة في القرن العشرين، أي أن تأخذ مكانها من جديد وسط الأفكار التي تصنع التاريخ.
واستعادة هذه الفاعلية إنما يحتاج إلى منظومة مجتمعية مؤسسية كاملة، ولا يكفي فيها جهود فردية ولا عشوائية ولا جزئية.
ويمكن تسمية تلك المنظومة مربع الفاعلية وتشمل:

المرجعية الشرعية: وأي مشروع نهضوي في الأمة الإسلامية، لا يمكنه أن يغفل المنطلقات الشرعية، كما ذكر كلام ابن خلدون وغيره كثير.
وهذا يقتضي إحياء فقه الفاعلية الذي أحدث هذه النقلة الحضارية الهائلة الشاملة للأمة الإسلامية حتى تصدرت المشهد العالمي في أقل من قرن من البعثة بعد أن كان أبناؤها على هامش التاريخ الحضاري والإنساني!!
سواء تمثلت هذه المرجعية في العلماء والفقهاء، أو تمثلت في مربين، أو تمثلت في قادة، أو تمثلت في محاضن تربوية، أو غير ذلك من المرجعيات المجتمعية، فهذه لها دور كبير في صناعة الفاعلية وبناء الأفراد.

الأسرة: وهي الضلع الثاني في منظومة الفاعلية؛ والأسرة التي تقتل فاعلية أفرادها، تخرج أناساً غير أكْفاء.
الإعلام: والإعلام اليوم يؤثر في المتلقين أكثر مما تؤثر المدارس، وأحياناً أكثر مما تؤثر الأسر، وهو معدود في ضمن أفراد الأسرة الأساسيين.

المدرسة: وهي الضلع الرابع في منظومة الفاعلية، والمدرسة كركن وضلع من مكونات الفاعلية؛ من المهم معرفة مكوناتها المحورية؛ فهي لا تقتصر على المعلم، أو الطالب، أو المناهج، أو البيئة التربوية والتعليمية، أو الأنشطة والفاعليات، أو المباني؛ بل هي نسيج متكامل ومتمازج من كل هذه العناصر؛ وإذا كانت المدارس التقليدية التي تربى فيها علماؤنا المتقدمون، قد أنتجت نماذج رائعة من الفاعلين والقادة المؤثرين؛ فإن نصيب مدارسنا المعاصرة-رغم ما تتمتع به من تقنيات ورفاهية وأبنية نموذجية- للأسف من هذا الإنتاج تكاد تكون معدومة، وما برع وبرز من أفرادها؛ فليس نتاجها وإنما هو نتاج شيء آخر غير هذه المدارس.
إن الثمرة الطبيعية للمنظومة التعليمية في بلادنا هو ماتدفع به الجامعات وغيرها من المؤسسات التعليمية من آلاف الخريجين التقليدين غير الفاعلين، أو بتعبير أكثر وضوحاً آلاف من العبيد لا القادة، وهو نتيجة طبيعية بل حتمية لهذه المنظومة التي تقوم على التلقين وقتل الإبداع!!
ولابد أن تكون أكبر مهمات هذه المنظومة الأساسية هو تجريد الأفكار الأصيلة الفعالة الدافعة؛ لا تجسيدها في شخص أيًا كانت رمزيته، ولا في شيء أيًا كانت قيمته!
فعالم الأفكار دائم ديمومة الإنسان عكس الأشياء والأشخاص الذين يلاحقهما تاريخ النهاية والأشياء تفنى وتتلاشى؛ والأشخاص يموتون؛ أمّا الأفكار فتتطور وتتوارثها العقول والأفهام.

ثانياً: وسائل التحصين والمواجهة:

وبمقتضى ما نُوه إليه في مربع الفاعلية؛ لاستعادة فاعلية الفكرة الإسلامية الأصيلة وتهذيبها وتمحيصها مما شابها من أفكار عليلة وميتة ومميتة، فيلزم التأكيد على وسائل الحماية والتحصين التي تكفل الاستعادة لهذه الفكرة وتفعيلها في واقع الناس:
– حتمية الاستثمار في عالم الأفكار: (مؤسسات بناء الأفكار- الفكرة المبادرة- الفكرة الدافعة-النافعة-الرافعة)، وإنما يتحقق ذلك بتأسيس مؤسسات ومراكز بحثية فاعلة في واقع الناس، ولا تقف عند حدود النخب الفكرية والعلمية، بل تأخذ باعتبارها أيضاً تفعيل دورها في توجيه صناع القرار السياسي باتجاه اتخاذ السياسات الحافظة للمنظومة المجتمعية من الدواخل والخوارج، وتأخذ باعتبارها -أي هذه المؤسسات- توعية العامة من خلال ما تتخذه من وسائل وآليات التواصل معهم باتخاذ خطاب ميسر وظيفته النذارة من كل يمس ثوابتهم ودينهم وعقيدتهم.
– بناء وتحصين البنية التعليمية بمختلف مراتبها ودرجاتها: (الابتدائي، الإعدادي، الثانوي، التعليم المتوسط، الجامعي)، وإنما يتحقق ذلك بمراعاة مناهج التعليم ومدخلاتها ومخرجاته، ويعني هذا الاهتمام بالمنظومة التعليمية من جهات أربع: المعلم، المتعلم، المناهج، الوسائل، ومن الأهمية بمكان الأخذ بنظر الاعتبار منهجية التوحيد المعرفي الذي يكفل البناء المعرفي الإسلامي في كل مناهج التعليم، وهذا يسع مناهج العلوم الإنسانية ومناهج العلوم التطبيقية، دون أن يتناقض مع قوانين العلم الخاصة، بحيث تكون مقاصد الإسلام حاضرة في كل مناهج التعليم، وهذا يضمن أن يكون المتعلم على دراية بالقواعد والأسس الفكرية الإسلامية الحافظة لعقله مما يشوش عليه من الأفكار العليلة من الداخل أو الخارج.
– التأكيد على المؤسسة الاجتماعية الأم (الأسرة): للقيام بدورها الفاعل في تشكيل عقول أبناء الأمة، وهذا يثبت أهمية التنشئة الاجتماعية ومراعاة التأسيس للأسر الفاعلة في المجتمع الإسلامي ومتابعتها على مستوى بناء عقول أبنائها.
– المؤسسة الإعلامية الموجهة للعامة يلزم أن تكون متناغمة الفكرة الإسلامية الأصيلة، وضرورة تهذيبها من التسميم الإعلامي والسياسي والفكري، والحيلولة دون انسياقها مع محاولات الاختطاف لعالم أفكارنا، وإنما يتسنى ذلك بامتلاك القرارين السياسي والإعلامي.
– دور المؤسسة العلمائية والدعوية في تحقيق الوعي على مستوى العامة: من خلال ما يبث من أفكار الفاعلية بوسائل التواصل المختلفة سواء كانت مباشرة أو غير مباشرة، ولا يخفى دور المسجد في تصحيح المفاهيم ورفع ودفع الانحرافات الفكرية والسلوكية وإعادة تشكيل العقلية المسلمة وحماية عالم الأفكار .. إلخ.
– السياسات العامة: والفكرة لا يمكن أن تؤتي أكلها وتثبت نجاعتها ما لم تعضدها قوى مجتمعية وعلى رأسها النظام السياسي الحاكم من خلال سياساته العامة، ومن خلالها يحفظ النظام بنيته الثقافية بوضع سياسات مجتمعية عامة تراعي منظومته بمستويات متعددة ومتنوعة، ومنها السياسات المتعلقة بالفكر والثقافة، وتتناغم هذه السياسات مع التفاعلات والأنشطة التي تقوم بها المؤسسات المجتمعية على شاكلة المؤسسة العلمائية والعلمية والوقفية والمؤسسات الأهلية الأخرى، أو بحسب ما يطلقه عليها بعض المفكرين (مؤسسات الأمة).

 

[1] مالك بن نبي، إنتاج المستشرقين وأثره في الفكر الإسلامي الحديث، بيروت، دار الإرشاد، ط1، 1388هـ/1969م، ص9-10.

[2] مالك بن نبي، الظاهرة القرآنية، دمشق، دار الفكر، ط16، 1439هـ/2018م، ص54.

[3] عبدالوهاب المسيري، الجماعات الوظيفية اليهودية نموذج تفسيري جديد، القاهرة، دار الشروق، ط2، 2002، ص39-40.

زر الذهاب إلى الأعلى