بحوثمشاريع

التغريب.. بذوره وجذوره

كان فتح محمد الفاتح للقسطنطينية أشبه بغزو نابليون لمصر، كلاهما كان فاتحةً ومختتماً ومُثيراً: فاتحةً لعصر، ومختتماً لعصر، ومثيراً لشعبين مَغْزوَيْن.. وإن اختلف القائدان بعد ذلك في أساليب الغزو ونوايا الفتح تبعاً لاختلاف حضارتيهما ومبادئهما.

أراد الفاتحُ أن يُحقق النبوءة النبوية ويأخذ أجرها:” لتفتحن القسطنطينية فلنعم الجيش ذلك الجيش ولنعم الأمير ذلك الأمير”، وأراد نابليون أن يؤسس لنفسه امبراطوريةً شرقية، له وحده غنائمها ومكاسبها.

لم يسفك الفاتح بعد دخوله القسطنطينية محجمة دم واحدة، وأرسى دعائم الحق والخير والعفو والاعتراف بالآخر، بينما ارتكب نابليون من الفظائع ما تشيب لهوله نواصي الولدان، وكانت القسوة والعنف ونفي الآخر سبيله الوحيد لتثبيت دعائم حملته التي لم تثبت.

ظلت القسطنطينية مسلمة إلى الآن، بينما لم تستمر حملة نابليون أكثر من ثلاث سنوات، ثم خرجت مدحورة تجر أذيال الخيبة والفشل.

أباح الفاتح للغرب النصراني خلاصة ما توصل إليه الشرق المسلم من علم ومعرفة وحضارة؛ فلم يمنع علماً يملكه أو يأخذ حقاً ليس له، ومنع نابليون علم الغرب عن الشرق فلم يكن سبباً لظهور عصر التنوير- كما يُشاع- وإنما كان سبباً في إجهاض نهضة شرقية وليدة .

وهذه الاختلافات بين القائدين هي أبرز الاختلافات بين الحضارتين: الشرقية الإسلامية، والغربية المسيحية.

أوليات الحضارة الغربية:

وقد ظهرت هذه الحضارة الغربية عام (476م) حين تفتت الامبراطورية الرومانية وتحولت إلى إمارات وممالك لا يربطها رابط ولا يجمعها جامع، وكان شمال أوروبا قبل ذلك يعج بالهمج الهامج من النورمانديين والصقالبة والسكسون والقبائل التي قاربت التوحش إن لم تكن وقعت فيه، واستعصى كل هذا الخليط على قوة الدولة الرومانية في وسط أوروبا وجنوبها؛ فلم يخضع تماماً لسلطانها أو ينضو تحت رايتها، حتى يئست الدولة الرومانية من السيطرة عليه واكتفت بأن تَسْلَمَ لها حدودُها الشمالية من غزواته المتكررة ونهبه المستمر. وحين سقطت الدولة الرومانية بعد ذلك سقطت معها أوروبا كلها في حمأة ما يُسمى بـ(القرون الوسطى) المظلمة.([1])

وتم للباباوات ما أرادوا بالحيلة والخديعة والمال حيناً، وبرغبة هذه القبائل المتوحشة في الانضواء تحت لواء دين يجمعهم ويوحدهم أحياناً أخرى. وكان التركيز على إظهار بشاعة الإسلام ورسوله وكتابه وأهله في نفوس هذه القبائل هو حجر الزاوية في عملية التبشير الواسعة التي انتهجها الرهبان والقساوسة

ومع ظهور الإسلام وتضييق الخناق على النصرانية الرومانية أو الرومانية النصرانية في الشرق، واتساع الفتوحات، وطرد الرومان من مصر والشام، وحصرهم في الجزء الجنوبي من أوروبا، وفتح الأندلس غرباً، وحصار الصين شرقاً؛ خشي ملوكُ الإقطاع وباباوات الكنيسة الذين جمعوا بين السلطة الدينية والسلطة الزمانية وتسببوا في إسقاط أوروبا في القرون المظلمة من الزحف الإسلامي المستمر،” وخافوا أن يُفضي الأمر إلى زوال سلطان النصرانية عن جنوب أوروبا كما زال بالأمس عن الأندلس ؛ فرأوا أن يتجهوا إلى الشمال ليُدخِلوا في النصرانية هذا الهمج الهامج الذي لا دين له يجمعه ؛ ليكون بعد قليل مدداً لجيوش جرارة تُطبق على ثغور الإسلام وعواصمه في الشام ومصر”.([2])

وتم للباباوات ما أرادوا بالحيلة والخديعة والمال حيناً، وبرغبة هذه القبائل المتوحشة في الانضواء تحت لواء دين يجمعهم ويوحدهم أحياناً أخرى. وكان التركيز على إظهار بشاعة الإسلام ورسوله وكتابه وأهله في نفوس هذه القبائل هو حجر الزاوية في عملية التبشير الواسعة التي انتهجها الرهبان والقساوسة؛ فألصقوا بالإسلام كل نقيصة، ونسبوا إليه كل عيب، ورَسَّخُوا في أذهان المتنصرين الجدد أن المسلمين ليسوا أكثر من برابرة متوحشين متعطشين لسفك الدماء وغزو المدن وإذلال الممالك وتخريب العمران، ولفقوا قصصاً وهمية وحكايات مضحكة عن نبي الإسلام- صلى الله عليه وسلم- ؛ فهو حيناً وسيط الشيطان المنبثق من طبيعة الشيطان ذاته، والذي استخدمه في إطفاء نور المسيحية واخترع له كتاباً سماه (القرآن) ليفسد به العهدين (القديم والجديد).. وهو حيناً كاردينال للكنيسة الرومانية الكاثوليكية فشل في الجلوس على الكرسي البابوي فهرب إلى جزيرة العرب بسبب عقدة الإحباط والفشل، وسيطر على الوثنيين البرابرة وسمح لهم بالفسق والدعارة واللواط ليكسب ولاءهم ويُكوّن منهم جيشاً جراراً؛ فينتقم بهم من العقيدة التي تسببت في فشله وإحباطه.. وهو حيناً آخر صاحب أسطورة (الحمامة) التي دربها على نقر حبات القمح من أذنه وخدع بها العرب مدعياً أن هذه الحمامة هي الروح القدس وأن نقرها في أذنه هو تبليغ الوحي. وانتشرت هذه الأسطورة المضحكة في أوروبا كلها بعد ذلك ورددها أدباء كبار مثل: شكسبير الذي أشار إليها في (هنري الرابع، الفصل الأول، المشهد الثاني) حين قال الملك كارل لجان دارك:”ألم تلهم الحمامة محمداً؟ أما أنت فإن النسر ربما ألهمك”.([3])

وقِس على هذا وأمثاله النمطَ الذي اتبعه رهبانُ الكنيسة وباباواتها في تشويه صورة الإسلام ونبيه والمسلمين وكتابهم في نفوس الأوروبيين الذين تم تعميدهم مسيحيين مخلصين في القرون الوسطى . فلما تأكد لهم ثبات هذه العقيدة ورسوخها في نفوسهم انتقلوا إلى مرحلة أخرى؛ ففتحوا لهم باب الطمع والمكاسب الدنيوية لعلمهم أنها المحرك الأساس لهذه القبائل المختلفة، وأفهموهم أن هؤلاء المسلمين قد استولوا على كنوز الدنيا وخيرات الأرض يتمتعون بها ويتقلبون في نعمائها، وأن بلادهم الدافئة تحوي من الخيرات ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر؛ فتأصل- تبعاً لذلك- الحقدُ والطمعُ في نفوس هؤلاء؛ ليسهل بعد ذلك على الباباوات تجييشهم وتجنيدهم؛ ليخوضوا بهم غمار الحروب الصليبية التي أكلت قرنين من الزمان (1096ـ 1291م) وسبعَ حملات كاملة.

وانساح هؤلاء بهمجية بالغة يأكلون الأخضر واليابس ويدمرون ما يقف في طريقهم غير مفرقين بين الممالك النصرانية التي كانت أول هَشيمٍ في الحملات الأولى، وبين الممالك الإسلامية التي سقط الكثير منها في الشام ومصر في الحملات التالية.([4])

إلا أن هذه الحروب بحملاتها المتعددة لم تكن شراً محضاً على الجانبين؛ فقد تنبه المسلمون- نوعاً ما- للخطر المحدق بهم حال فرقتهم وتشرذمهم؛ فعملوا على التوحد والتجمع والانضواء تحت راية واحدة والأخذ بأسباب القوة والبحث عن العوامل التي تحفظهم من تكرار ما حدث- وإن لم يدم ذلك التنبه طويلاً-، واحتك الصليبيون المتخلفون آنذاك بالمسلمين المتقدمين، وعرفوا عاداتهم وطبائعهم ودينهم، ولمسوا فيهم من مكارم الأخلاق وحميد الصفات ما اقتلع من نفوسهم بذور وجذور ما زرعه الرهبان والقساوسة من الكذب والافتراء على الإسلام والمسلمين؛ فلم يروا وحشية ولا همجية ولا بربرية؛ بل رأوا شجاعة وكرماً وعلماً وحضارة وتقدماً ومعاملةً لم يروها في أبناء جلدتهم ورؤساء دينهم؛ فزعزع ذلك من ثقتهم بما بين أيديهم من دين وعلم حتى دخل كثير منهم في الإسلام بعد أن اكتشفوا حجم الخديعة التي وقعوا فيها جراء الكذب والبهتان.

بدايات النهضة الأوربية وتأثرها بالحضارة الإسلامية:

وهنا تنبه بعضُ ملوكهم ورهبانهم إلى الخطر الذي صنعوه بأيديهم واستنبتوه بأكاذيبهم ؛ فبحثوا عن مخرج لهم قبل أن يتفاقم الأمر ويتسع الخرق على الراتق؛ فتأكد لهم أن سرَّ قوة الحضارة الإسلامية هو هذا (العلم) الذي جاء على رأس أولويات هذا الدين؛ ليصبح في ذاته فرضاً لا يكتمل الدين إلا به، وأساساً لا يتم بناء الحضارة بدونه.. وكان هذا هو سرُّ الإسلام الذي مكن لحضارته في الأرض، واكتشفه عقلاء الغرب وذوو العقل والحمية من رجال الكنيسة أمثال: ألبرت الكبير، وتلميذه توما الإكويني الإيطاليين، وروجر بيكون الإنجليزي، وبطرس المبجل الفرنسي، وفردريك الثاني الامبراطور الجرماني ملك صقلية. وشَام هؤلاء وغيرُهُم شيئاً من علوم العربية لغةً وديناً وفلسفة وطباً وفلكاً، وأيقنوا أن الإسلام في ذاته يشتد عوده ويقوى كلما واجه غزواً عسكرياً خارجياً، وأن القوة وحدها ليست السبيل الأمثل لمواجهته ومقاومة سلطانه على النفوس، وأن العلم وحده هو الذي سيستنقذهم من براثن الجهل والتخلف والخرافات التي سيطرت على قومياتهم المختلفة تبعاً لسيطرة الكنائس عليهم، وأن هذا العلم لا يُطلب إلا من منابعه التي حافظ عليها المسلمون وطوروها؛ فطلبوه واجتهدوا في طلبه، وأرسلوا ما يمكن أن يُسمى بعثات علمية إلى حواضر الإسلام الكبرى كالأندلس التي كان لجامعاتها النصيب الأوفر من هذه البعثات لقربها منهم ومشابهة طبيعتها لطبيعة بلادهم؛ فأصبحت الأندلس بذلك منارة أوروبا كلها التي انتقل من خلالها نور الحضارة الإسلامية إلى وسط وشمال القارة.([5])

وتأثر الرواد الأوائل للحضارة الأوربية بعلماء الإسلام وفلاسفته ومتكلميه كابن رشد وابن سينا، وولدت على استحياء حركة الترجمة من العربية إلى اللاتينية، وكان من أوائل الكتب المترجمة (القرآن الكريم) الذي طلب بطرس المبجل من بعض تلاميذه المستعربين ترجمته إلى اللاتينية. ورغم الأخطاء الفاحشة المتعمدة التي حفلت بها هذه الترجمة مثل التخمين والاختصار والحذف حتى لا تكاد توجد آية واحدة مترجمة تعطي المعنى المقارب لحقيقتها.. رغم ذلك كله نجد أن هذه الترجمة قد أصبحت أساساً للترجمات الأخرى والأحكام المبتسرة عن الإسلام في نظر الغرب إلى يومنا هذا.([6])

وكان اختلاف لغة العلم (اللاتينية) في أوروبا عن لغات شعوبها التي غلبت الأمية والجهل عليهم- ويتكلمون فوق ذلك لغات ولهجات شديدة التباين- يُمَثِّلُ عائقاً كبيراً أمام استمرار البشائر الأولى للنهضة الأوربية التي كان الاحتكاك بالمسلمين في الحروب الصليبية سبباً مباشراً في تكوينها وانطلاقها، إلا أن الإصرار والصبر والجلد على تحصيل العلم والمعرفة من ديار الإسلام كان هو العنوان الرئيس لقرنين من الزمان جاءا بعد إخفاق الحروب الصليبية.([7])

وتوهج هذا الصبر والإصرار والجلد بشعلة الغضب والبغضاء والحقد الغائر في النفوس بعد أن سقطت القسطنطينية تحت سنابك خيول جيش محمد الفاتح عام (1453م) لتستيقظ المسيحية الشمالية على تكبيرات الفاتح في حصنها الشامخ (أياصوفيا)، وتكتشف أن المسلمين الذين كانوا بالأمس جَزَرَاً لسيوف الصليبيين في مصر والشام؛ أصبحوا اليوم سيوفاً ومدافع وأساطيل في قلب أوروبا، وأن سنة التداول الربانية قد وقعت عليها ليصير المغزو غازياً والضعيف قوياً والمفتوح فاتحاً.

وتبعاً للنظرية النفسية: (المثير والاستجابة) كان فتح القسطنطينية أكبر مثير للعامة قبل الخاصة ولرعايا الرهبان قبل الرهبان؛ لأنهم يعرفون أنهم سيتحملون بعد ذلك العبء الأكبر في مدافعة هؤلاء القادمين من الشرق.

وجاءت الاستجابة سريعة؛ فنشطت حركة المقاومة العلمية وبحث كبارهم عن روافد العلم والمعرفة فلم يجدوها إلا في ديار الإسلام وكتب علمائه ومفكريه وفلاسفته؛ فجاهد الكثير منهم في تعلم اللسان العربي وأرسلوا بعثات عديدة لهذا الغرض إلى عواصم الإسلام الكبرى في مصر والشام والعراق وشمال أفريقيا ، وجمعوا ما وصلت إليه أيديهم من دواوين العلم والمعرفة الإسلامية، وأظهروا جلداً وصبراً منقطعي النظير يدفعهم في ذلك أمران: حقدهم الغائر الذي يتجدد صباح مساء وهم يرون المسلمين العثمانيين أمام مدينة جديدة في أوروبا يفتحونها ويرفعون فيها راية التوحيد، وتحرقهم الشديد في البحث عن وسيلة حاسمة لإصلاح خلل الحياة المسيحية الغربية التي سيطرت عليها خرافات باباوات القرون الوسطى الكاثوليكية.([8])

وبظهور هذه الطبقة بدأت الحضارة الغربية نهضتها الثانية التي اصطلح على تسميتها بـ(العصور الحديثة)، والتي جاءت مغايرة في الوسائل والأساليب للنهضة الأولى التي وضعت همها في القوة والسلاح والغزو، بينما جاء السلاح والغزو في النهضة الثانية تالياً للمعرفة والعلم وخادماً لهما

وتم لهم ما أرادوا؛ فلم تكن سوى طرفة عين حتى سقط آخر حصن من حصون الإسلام في الأندلس (غرناطة) على يدي فرديناند وإيزابيلا؛ ليمارس هذا الملك وزوجته بعد ذلك عملية من أبشع عمليات الإبادة والتهجير ونفي الآخر فيما عُرف في التاريخ بمحاكم التفتيش، وكأنهم أرادوا الانتقام من العثمانيين في أشخاص الأندلسيين، رغم التسامح والاعتراف والحرية التي قدمها العثمانيون لشعوب البلاد المفتوحة.([9])

واستولى الأوربيون في الأندلس على كنوز مادية ومعنوية لا تقدر بثمن فكانت كتب الفلسفة والإلهيات والفقه والفلك والطب والهندسة والري والزراعة والصناعة وعلوم الأرض وعلوم البحار هي المنابع الأولى التي استقى منها الأوربيون- في نهضتهم الحديثة- وسائلَ الإصلاح الديني والقانوني والعلمي للحياة المسيحية. وظهرت تبعاً لذلك طبقات من الإصلاحيين الأوروبيين في كل مجال؛ فظهر الراهب الألماني مارتن لوثر الذي تهكم على تصورات القرون الوسطى عن الإسلام ورفض فكرة الحروب الصليبية ونادى باتخاذ موقف معتدل من الأتراك المسلمين؛ لأنه رأى فيهم عقوبة ربانية عادلة للمسيحيين بسبب خطاياهم، إلا أنه عاد إلى التعصب الأعمى ضد الإسلام عندما اقتربت جيوش الترك المسلمين من فيينا. والراهب الفرنسي جون كالفن الذي خرج عن الكاثوليكية ولم يعترف بسلطة البابا ورأى أن الإيمان هبةٌ من الله ولا يكتسب بكثرة الطقوس والعبادات. والسياسي الإيطالي نيكولا مكيافيلي الذي أسس لقانون: (الغاية تبرر الوسيلة)، وأن الأخلاق لا مكان لها في السياسة، وأن الكذب والخداع والقتل وسائل مشروعة إذا كانت تفضي إلى الوصول إلى السلطة والاحتفاظ بها.([10])

وبظهور هذه الطبقة بدأت الحضارة الغربية نهضتها الثانية التي اصطلح على تسميتها بـ(العصور الحديثة)، والتي جاءت مغايرة في الوسائل والأساليب للنهضة الأولى التي وضعت همها في القوة والسلاح والغزو، بينما جاء السلاح والغزو في النهضة الثانية تالياً للمعرفة والعلم وخادماً لهما.

عصر الهيمنة والغزو (مركزية الأنا وهامشية الآخر):

وبالمدد العلمي والمادي الذي استمده من أرض الإسلام والصين والهند طار نسر الحضارة الغربية بجناحيه: (الدين والسياسة) إلى أرض الذهب (أمريكا) محملاً بالفكرة التواراتية القديمة: (شعب الله المختار)، وبالفكرة السياسية الميكيافلية الحديثة: (الغاية تبرر الوسيلة)، وبالفكرتين بدأ عصر جديد من الهيمنة الغربية والاستعباد الأوروبي، واستطاع المهاجرون الأوربيون الأوائل أن يُسكتوا صوت الضمير ويوجدوا المبرر العقدي والسياسي لإبادة الملايين من الهنود الحمر والاستيلاء على خيرات بلادهم ومحو ثقافتهم محواً تاماً؛ فكما استغل اليهود القدماء فكرة شعب الله المختار كمسوغ لإبادة الأغيار؛ استغل الإسبان ومن بعدهم الإنجليز ذات الفكرة كمسوغ أخلاقي وديني لإبادة الأغيار مادياً ومعنوياً وتخريب مقدراتهم .. يقول روجيه جارودي :” هذه الأيدلوجيا وهذه الأسطورة ظهرت بوضوح لدى البيوريتانيين الذين هاجروا إلى أمريكا، والذين يرون أنفسهم عبرانيي الإنجيل الذين خرجوا إلى المنفى: لقد استطاعوا أن يهربوا من استعباد فرعون (جاك الأول) وكان هروبهم من أرض مصر (انجلترا) للوصول إلى أرض كنعان الجديدة (أمريكا)، وعندما كانوا يطاردون الهنود للاستيلاء على أراضي أمريكا كانوا يَدَّعون مماثلة يشوع والإبادة المقدسة للعهد القديم”.([11])

ونظر هؤلاء إلى شعوب القارة الجديدة فوجدوا قوماً لا علم لهم ولا ثقافة- أو هكذا ظنوا- حفاة عراة لا يمتلكون من أساليب الحضارة قليلاً ولا كثيراً؛ فتأصلت في نفوسهم الفكرة القديمة عن (الجنس الأعلى) الذي أوجب الله عليه أن يفرض قيمه وثقافته وعلمه وأخلاقه على الأجناس الدُنيا، وأن يقوم بعملية إحلال وتجديد من خلال الإبادة والتطهير، أو من خلال استخدام الجنس الأدنى في عمليات البناء والتعمير والخدمة الشاقة (تماماً كما فعل فرعون مع العبرانيين القدماء).

ونشأ تبعاً لذلك وهمُ (المركزية)؛ لتصبح أوروبا في فكر الأوربيين مركز الكون وقطب الدائرة وحجر الرحى، منها تنبع الفضائل وإليها تعود، وأنها العِرق الأصفى والجنس الأعلى.. وتأسست منذ ذلك العصر المسلمات الثلاث التي يرى روجيه جارودي أن الحضارة الغربية قامت عليها، وهي([12]):

ـ مسلمة آدم سميث في العلاقات الإنسانية، والقائلة :” عندما يعمل كل منا في سبيل منفعته الخاصة فهو بهذا يساهم في تحقيق المنفعة العامة”.

ـ مسلمة ديكارت في العلاقة مع الوجود التي تجعل الأوربيين أسياداً ومُلَّاكَاً للوجود.

ـ مسلمة فاوست في العلاقات المستقبلية حيث كتب الأديب المسرحي مارلو في مسلمة فاوست الأولى:” أيها الإنسان تحول بفضل عقلك القوي إلى إله وإلى سيد ومولى كل العناصر في الكون”.

والغريب أن هذه المسلمات الثلاث هي التي صبغت الحضارة الغربية ودرجت معها منذ قيامها إلى يوم الناس هذا متخذة أشكالاً وصيغاً مختلفة من الهيمنة الاقتصادية والثقافية والاجتماعية والسياسية تبعاً لاختلاف البيئة والعصر.

أجنحة المكر الثلاثة:

وكان لابد من الاستعداد لجولة ثانية مع الشرق الإسلامي بعد الجولة الأولى (الحروب الصليبية) فنشأت تبعاً لذلك طبقة من المثقفين الغربيين الذين أجادوا اللسان العربي نوعاً ما ليسيحوا في ديار الإسلام ويجمعوا الكتب في كل فن، ويلاقوا الخاصة من العلماء، ويختلطوا بالعامة والدهماء، ويتعرفوا عن قرب على العادات والتقاليد وأصول الدين والفكر والعلوم والصناعات ومخارج المدن ومداخلها، وطبائع الناس حكاماً ومحكومين، ثم يجمعوا كل ذلك بعد ترتيبه وتنقيحه وترجمته ليرسلوه إلى ملوكهم المستعمرين ورهبانهم المبشرين ليصبحوا هم بذلك طليعة المستشرقين.([13])

وبالتعاون الدائم بين (أجنحة المكر الثلاثة): (الاستشراق والتبشير والاستعمار) استطاع الغرب أن يخترق الشرق ويحاصره ويسيطر على الكثير من مقدراته المادية والحضارية. وكان رأس الحربة في هذا الاختراق هو الاستشراق الذي استطاع أن يصوغ النظريات التبريرية للاستعمار (الأنا) ويُسوِّغَ له أخلاقياً ودينياً واقتصادياً اعتداءه على (الآخر) ونهب خيراته وتجفيف منابع حضارته؛ ولهذا نشأت- أو قل: تجددت- نظرية (الأجناس العليا والدنيا) وجاءت في شكل علمي جميل اسمه: (النظرية البيولوجية السياسية) التي تعطي للدول الكبرى الحق في التهام الدول الصغرى.([14])

والعلاقة بين الشرق والغرب لا تكاد تخرج في جوهرها عن هذين الأمرين اللذين حكما تطورات العلاقة بين إقليمي الأرض على مر القرون، ورغم مقولة فولتير الشهيرة:” إذا كان لي كفيلسوف أن أتمنى معرفة ما حدث على سطح الأرض فيجب عليّ أولاً توجيه بصري تجاه الشرق مهد الفنون جميعها والذي يدين له الغرب بكل شيء.

ومن النادر أن تجد حرباً في التاريخ قديماً أو حديثاً لا تتكئ على تسويغ ثقافي أو ديني أو سياسي أو اقتصادي أو تجمع بينها؛ ليمرر القوي أطماعه من خلالها ويجعل منها تُكأة لنهب خيرات الضعيف الذي لا ذنب له سوى ضعفه.. وأعظم به من ذنب.

والمسوغون آلة حرب أخرى من آلات الحرب، يتقدمون ويتأخرون حسب الحاجة، وما من فاتح أو غازٍ في التاريخ امتلك الحنكة والعقل إلا وجعل همه فيهم قبل أن يجعله في سيف أو ترس أو مدفع أو دبابة، وأينما وُجِدَت الجيوش وُجِدَ المسوغون، بل إن الجيوش في ذاتها لا تقوم إلا على فكر المسوغين الذين يؤسسون لأمرين مهمين: مركزية الأنا وهامشية الآخر.

والعلاقة بين الشرق والغرب لا تكاد تخرج في جوهرها عن هذين الأمرين اللذين حكما تطورات العلاقة بين إقليمي الأرض على مر القرون، ورغم مقولة فولتير الشهيرة:” إذا كان لي كفيلسوف أن أتمنى معرفة ما حدث على سطح الأرض فيجب عليّ أولاً توجيه بصري تجاه الشرق مهد الفنون جميعها والذي يدين له الغرب بكل شيء.”([15]) ، إلا أن الغرب كان له رأي آخر ولن نفهم هذا الرأي إلا إذا عُدنا إلى المسلمات الثلاث التي قامت عليها حضارة الغرب؛ فحب السيطرة والسيادة والبحث عن المنفعة الشخصية والإعلاء من شأن الجنس الأبيض والخوف المتأصل في القلوب من يقظة محتملة في الشرق تجعله منافساً للغرب، ثم البعد الديني الذي كان أساساً مهماً في جميع المواجهات بين الطرفين.. كلُّ ذلك جعل نظرة الغرب للشرق تتأرجح بين الخوف والطمع: الخوف من يقظة شرقية تفقده مصدراً أساسياً من مصادر ثروته ونفوذه وتسلطه، والطمع في منابع ثروة لم يشأ العلي القدير أن تكون في بلاده. وكان الأساس المحرك للشعورين هو الدين الذي ظل يؤجج لهيب الخوف كلما خفت، وشعلة الطمع كلما انطفأت.

أساليب التعامل الغربية مع الشعوب الشرقية:

ورغم أن أساليب ووسائل التعامل الغربية مع الشعوب الشرقية تباينت واختلفت تبعاً لاختلاف الشعوب الشرقية ذاتها ومدى إحساس الغرب بمقدار التحدي الذي يمثله شعبٌ من الشعوب الشرقية عليه إلا أن المحصلة النهائية لنظرة الحضارة الغربية للشرق كله كانت واحدة.. يقول أرنولد توينبي:” إن الشعوب غير الغربية تختلف في العنصر والدين واللغة والحضارة، ولكنها تتفق جميعها على نقطة واحدة، إذا سألها غربي عن رأيها عن الغرب فإنها تعطيه كلها الجواب نفسه سواء كانت روسية أو إسلامية أو هندية أو صينية أو يابانية، سيقولون جميعاً: إن الغرب كان أكبر مغتصب في العصور الحديثة، وكل شعب من هذه الشعوب في إمكانه أن يستشهد بتجاربه لتبرير هذا القول”.([16])

وهذا القول من توينبي يدلنا على مدى تغلغل الفكر الاستعلائي الإقصائي في العقل الغربي حين استغل فرصة إقبال حضارته وإدبار حضارة غيره أبشع استغلال؛ فنظر إلى الآخر نظرة واحدة قوامها المنفعة الشخصية والسيادة الكاملة والمركزية المقيتة، ثم تعامل تبعاً لهذه النظرة مع الشعوب الأخرى وفق أنماطٍ ثلاثة :

الأول: الإبادة الشاملة: وذلك حين واجه شعوباً لم تكن لديها القدرة على المقاومة، ولم يرَ الغربُ داعٍ  لبقائها؛ فأبادها وذَوَّبَ من بقي منها فيه؛ فأصبحوا خبراً بعد عين.. وهذا ما حدث مع شعوب العالم الجديد (الهنود الحمر) .

الثاني: الإبادة الجزئية: وذلك حين واجه شعوباً لم تكن لها مقومات حضارية تمكنها من المقاومة، ورأى أنه بحاجة إليها في ثبيت أركان نهضته الاقتصادية العامة؛ فقام باستئصال جزء منها واستئناس الجزء الآخر وإلحاقه بمزرعته، وتلقين الجزء المستأنس لغته وبعض عاداته وأحياناً دينه، مع المحافظة على الحواجز الكبيرة بين مجتمع الرجل الأبيض ومجتمع الكائنات غير البيضاء.. وهذا ما حدث مع الشعوب الأفريقية السوداء.

الثالث: الاستثمار والتدجين: وذلك حين واجه شعوباً تمتلك مقومات حضارية ضخمة تمكنها من المقاومة والصمود رغم تخلفها وضعفها الظاهر، وكانت إبادتها مستحيلة وغير مرغوب فيها؛ فكان لا بد من استثمارها وتدجينها واستخدام الغزو الثقافي والفكري والاجتماعي جنباً إلى جنب مع الغزو العسكري.. وهذا ما حدث مع الشعوب الآسيوية عامة والعربية خاصة.([17])

وحين فوجئت هذه الشعوب الشرقية- آسيوية وعربية- بهذه الهجمة الاستعمارية الجديدة من الغرب الذي لم تكن تقيم له وزناً أو تهتم به، وهالها التفوق التقني والحضاري الذي يمتلكه أدركت أنها لن تستطيع صد هجمته ومقاومة غزوته إلا إذا امتلكت كلَّ ما امتلكه من علم ومعرفة وحضارة لتقاومه بالعلم والمعرفة والحضارة. وعندما وصلت هذه الشعوب إلى هذه القناعة اختلفت طرائق تطبيقها تبعاً لظروف وملابسات وتعقيدات ثقافية وسياسية واجتماعية ودينية فرضت عليها أسلوباً معيناً في التعامل مع الهجمة الاستعمارية الغربية الحديثة؛ فاليابان مثلاً عندما فاجأتها البحرية الأمريكية عام (1853م) أدركت أنه لا بد لها من بناء قوة عسكرية كبيرة تمكنها من صد هجوم الغرب، ولكي تحقق هذا الهدف كان عليها أن تنتج كل المنتجات الحديثة التي ينتجها الغرب لتصبح معه كفرسي رهان تسبقه مرة ويسبقها مرات.

إلا أن النخبة اليابانية انتبهت إلى أن التغريب الكامل أو الجزئي سيكون أشد وبالاً عليها من مدفعية ضابط مغرور يحطمها صبرُ ساعة في ساحات القتال، وأن هذه المدفعية ستخرج- طال الزمن أو قصر- مدحورة مهزومة، ولكن الذي لن يخرج أبداً هو التغريب الذي سيعشش في نفوس اليابانيين وعقولهم ليجعل منهم بعد ذلك مسخاً مشوهاً تابعاً للغرب في كل شأن من شؤونهم؛ فكان عليهم أن يرفضوا (التغريب) جملة وتفصيلاً، ويبحثوا عن أسلوب أمثل ليحققوا به الهدف الذي وضعوه لأنفسهم. ولأنهم آمنوا أن تخلفهم أمرٌ عارض وأن أصالتهم وإرادتهم القومية ستمكنهم من تجاوز هذه المرحلة العارضة؛ وجدوا أن الأسلوب الأمثل لمواكبة العصر وصد الهجمة الغربية هو (التحديث) لا (التغريب).. التحديث من الداخل والعودة إلى الذات مع استيعاب كل منتجات العصر وعلومه؛ فعملوا دون كلل أو ملل على رفع وتيرة التحديث وبعثوا البعوث واستقدموا العلماء ونشطوا في جعل (الآلة) يابانية خالصة، ولم يقتنعوا باستيراد التكنولوجيا الغربية لأنهم يعلمون أن الاستيراد فقط سوف يجعلهم ظلاً يابانياً للغرب، وهو ما رفضوه تماماً. وبينما كان التحديث يجري على قدم وساق وبأعلى معدلات عرفتها دولة شرقية إلى النصف الثاني من القرن العشرين، كان الياباني محتفظاً بدينه وعاداته وتقاليده وحياته العائلية، يرتدي (الكيمونو) ويلبس (القبقاب) ويأكل على الطبلية بالعصيّ ويرى الامبراطور إلهاً يُحظر النظر إليه من أعلى، وبقي المسرح الياباني يقدم روايات التراث بنفس الأسلوب منذ قرون، وظلت المرأة اليابانية في مكانها التقليدي تقوم بدورها الأساس في تربية الأولاد والمحافظة على كيان وقيم العائلة.([18])

ولم يفكروا أبداً في فصل التعليم المدني الحديث عن التعليم التقليدي أو الديني القديم بل مزجوا بين المنهجين ليتلقى جميع اليابانيين ذات الكم والكيف الذي يؤهلهم للقيام بواجباتهم، وحتى لا تنقسم أمتهم إلى قسمين: قسم الأفندية الذين تشربوا العلوم الغربية الحديثة التي تحتاج إليها اليابان؛ فيصبحوا هم رواد التحديث وتفتح لهم المناصب الكبرى أبوابها، وقسم الشيوخ المحافظين الذين حافظوا على القديم فأصبحوا عاطلين عن العمل لعدم حاجة العصر لهم.

أما تركيا فقد اندفعت بأقصى سرعة ممكنة نحو التغريب بعد قرن كامل من العجز عن التحديث؛ فكتبت من الشمال إلى اليمين وبحروف لاتينية كالغرب تماماً، وخلعت الإسلام بعد أن كانت هي عاصمة الخلافة، وقرأت القرآن والأذان باللاتيني، وحولت المساجد إلى متاحف، ولبست البدلة والقبعة بأمر القانون، وعطلت يوم الأحد، وجعلت الزواج والطلاق على الطريقة الغربية المسيحية، وحررت المرأة على أوسع وأبشع نطاق، ولم تترك صغيرة ولا كبيرة من مظاهر الغرب إلا وقلدتها.. وظلت رغم ذلك دولة متخلفة يفتك بها الجهل والفقر والمرض والأمية.([19])

لقد تغربت بالكامل وذبلت روحها وبهتت شعلة الحضارة التي حافظت عليها قروناً طويلة في نفوس نخبتها التي انكسرت وانهزمت روحياً أمام القصف الثقافي والاجتماعي والسياسي الغربي فأعادت تشكيل مجتمعها على نسق المحتل المنتصر في العادات والتقاليد والمظاهر السلوكية والقشور الخارجية دون أن تنفذ إلى عمق فكرة الحضارة.

إلا أن المقارنة بين اليابان وتركيا فيها شيء من الإجحاف والظلم لتركيا؛ فما تعرضت له الأخيرة كان أقسى وأعنف وأشرس مما تعرضت له الأولى؛ فالغرب لم ينس أبداً خيول محمد الفاتح ولا جيوش الانكشارية ولا رايات الإسلام التي رفرفت فوق قلاع المدن الأوروبية ولا الفكرة القديمة عن الإسلام ونبيه، ولا الصراع الطويل بين المسيحية الغربية والإسلام الذي يرونه شرقياً. وعَمِل (الخوف والطمع) عمله في نفوس الأوروبيين؛ فكان لا بد من منع تركيا بشتى الأساليب والوسائل من التحديث الحقيقي والعلم الحقيقي والتكنولوجيا الحقيقية. واتفق الغرب كله- رغم اختلاف مصالحه وتوجهاته وأنظمته- على جعل تركيا ظلاً باهتاً للغرب وإلهائها بمظاهر وقشور خادعة توهمها أنها أصبحت قطعة من أوروبا، بينما هي في الحقيقة كخيال (المآتة) يلبس ثوباً براقاً على روح من خشب.

مصر وبداية الاختراق التغريبي للعالم العربي:

وكان ما حدث في تركيا في أوائل القرن العشرين هو ذاته الذي خُطط لحدوثه في مصر في أواخر القرن التاسع عشر علي يدي نابليون وحملته التي ضمت المدفع والمطبعة، إلا أن الخطة في مصر لم تنجح تماماً كنجاحها في تركيا؛ فلم تكن مصر آنذاك في حجم دولة الخلافة الإسلامية التي دوخت أوروبا عدة قرون حتى يجتمع عليها الغرب الصليبي كله، كما أن الغرب الصليبي لم يكن متفقاً وراضياً تماماً عن سيطرة فرنسا على مصر، وقد حاولت بريطانيا مدفوعة بمصلحتها وأطماعها الاستعمارية وتنافسها التقليدي مع فرنسا أن تمنع ذلك وتعيقه، كما أن أحوال مصر الداخلية لم تكن تهيأت بعد لتقبل فكرة التغريب كما تقبلها الأتراك بعد ذلك، ثم إن الأجنحة الداخلية المتصارعة أو المتداخلة أو المتقاطعة أحياناً في مصر مثل: المماليك، والعثمانيين، ومحمد علي، والأزهر ورجاله، وعامة الشعب؛ كان لها أبلغ الأثر في حفظ مصر من السقوط التام كما سقطت تركيا.

إلا أن حملة نابليون وما تلاها من خروج العثمانيين وانتهاء دولة المماليك، واستتباب الأمر لمحمد علي وخلفائه وبزوغ فجر ما يُسمى بالدولة المصرية الحديثة وما ترتب على ذلك من انتهاجٍ للنهج الغربي في كثير من شؤون الحكم والإدارة، وإرسال البعثات العلمية إلى أوروبا، واستقبال مصر للآلاف من المهاجرين الأوربيين والشوام، وتكبيل الأزهر وإعاقته عن ممارسة دوره.. كل ذلك وغيره، كان أشبه بتهيئة اجتماعية وثقافية لقبول التغريب الذي بدأ يتغلغل تدريجياً في شتى مناحي الحياة في مصر والعالم العربي بعد ذلك.

وكانت المغالطة الكبرى التي اعتمد عليها التغريبيون في تهيئة الأجواء لقبول التغريب تحت دعاوى التحديث والتطور والتمدن هي إقناع العقل العربي خاصةً والمسلم عامةً: أن النهضة العربية والإسلامية الحديثة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالحملة الفرنسية على مصر، وأنه لولا الحملة لما كانت النهضة. وأن المرحلة الزمنية التي سبقت الحملة الفرنسية كانت مرحلةَ مواتٍ شامل مَثَّلَ مصطلح (عصور الانحطاط) عنواناً بارزاً لها لا يكاد يناقشه أحد.. فهل كان ذلك كذلك؟!

هذا ما سنناقشه في الدراسة القادمة بمشيئة الله.

[1]  ـ انظر بتوسع : قصة الحضارة ـ ول ديورانت  ـ ترجمة : محمد بدران ـ مكتبة الأسرة ـ القاهرة2001م ـ ج11ـ12ـ م6 .

[2]  ـ المتنبي ، رسالة في الطريق إلى ثقافتنا ـ محمود محمد شاكر ـ دار المدني بجدة ومكتبة الخانجي بمصر1987م ـ ص35.

[3]  ـ الإسلام والمسيحية ، أليكسي جوارفسكي ـ ترجمة : د. خلف محمد الجراد : مراجعة وتقديم : د.محمود حمدي زقزوق ـ عالم المعرفة ـ الكويت 1996م ـ ص74ـ75.

[4]  ـ انظر بتوسع : الحركة الصليبية ، صفحة مشرقة في تاريخ الجهاد العربي في العصور الوسطى ـ د.سعيد عبد الفتاح عاشور ـ مكتبة الأنجلو المصرية 1978م ـ  ط3ـ ج 1ـ2.

[5]   ـ المتنبي ، رسالة في الطريق إلى ثقافتنا ـ محمود محمد شاكر ـ مرجع سابق ـ ص38.

[6]  ـ الاستشراق وتغريب العقل التاريخي العربي ـ محمد ياسين عريبي ـ منشورات المجلس القومي للثقافة العربية ـ الرباط 1991م ـ ط1 ـ  ص 145.

[7]  ـ المتنبي ، رسالة في الطريق إلى ثقافتنا ـ محمود شاكر ـ مرجع سابق ـ ص40.

[8]  ـ المرجع سابق ـ ص44 ـ45.

[9]  ـ قصة الحضارة ـ ول ديورانت ـ  م12ـ ج23ـ مرجع سابق .

[10]  ـ الإسلام والمسيحية ـ أليكسي جوارفسكي ـ مرجع سابق ـ ص97.

[11]  ـ كيف صنعنا القرن العشرين ـ روجيه جارودي ـ ترجمة : ليلى حافظ ـ دار الشروق ـ القاهرة2001م ـ ط 2ـ ص132.

[12] ـ الإرهاب الغربي ـ روجيه جارودي ـ ترجمة : داليا الطوخي  ، ناهد عبد الحميد ، سامي مندور ـ دار الشروق ـ القاهرة 2004م ـ ط 1ـ ج1ـ ص135.

[13]  ـ المتنبي ، رسالة في الطريق إلى ثقافتنا ـ محمود شاكر ـ مرجع سابق ـ ص48.

[14] ـ انظر  كتاب: (مملكة الحيوان) لكوفييه ، و(مقالة في التفاوت بين العروق الانسانية) لغوبينو ، و (عروق الانسان السوداء) لروبرت نوكس ، و(القوانين النفسية لتطور الشعوب) لغوستاف لوبون . وتهدف هذه الكتب وغيرها إلى القول بأن الشرق ينتمي بيولوجياً إلى عرق محكوم وينبغي له أن يُحكم ، وهذا قدره ومصيره .

[15]  ـ انظر :الجذور الشرقية للحضارة الغربية ـ جون إم هوبسون ـ ترجمة : منال قابيل ـ مكتبة الأسرة ـ القاهرة2008م ـ ص23.

[16]  ـ العالم والغرب ـ أرنولد توينبي ـ ترجمة : سعيد المر ـ دار البعث ـ د.ت ـ ص52.

[17]  ـ ودخلت الخيل الأزهر ـ محمد جلال كشك ـ الزهراء للإعلام العربي ـ القاهرة 1990م ـ ط3ـ ص19ـ20.

[18]  ـ المرجع السابق ـ ص12ـ 22.

[19]  ـ نفسه ـ ص23.

زر الذهاب إلى الأعلى