الامتداد الزمني للوباء واستمرار أثره السلبي ألقى -ولا يزال- بظلاله على البنى المجتمعية المختلفة، وتأتي في مقدمتها البنية السياسية وهياكلها العامة ما بين تنفيذية وتشريعية .. في غيرها، ولئن كانت المرحلة الزمنية السابقة على ظهور الوباء قد شكلت منعطفاً كبيراً في بعض البلدان العربية التي ظهرت فيها الانتفاضة الشعبية وخاصة في الجزائر والسودان ولبنان والعراق، فإنها في مرحلتها الحالية قد تأثرت بشكل كبير بظهور الوباء واستطالة أمده، وهذا قد ترك أثره البالغ في كثير من القسمات التي شهدتها المرحلة السابقة، حتى على مستوى فاعلية الانتفاضة الشعبية، وفي هذا السياق سنقف عند إشكالية قد تكون مرتبطة بتراكماتها المتقدمة إلا أنها أضحت بصورتها الحالية مستحكمة في البنية السياسية العربية بشكل أكبر في ظل استطالة الوباء واستمرار تأثيره، وهي إشكالية الفشل السياسي لدى الحكومات العربية.
والحديث هنا يسري على البلدان التي لم تعرف الاستقرار السياسي خلال العقدين الأخيرين كالعراق ولبنان، ويسري كذلك على نماذج أخرى تأثرت بشكل كبير بمتقلبات الوضع السياسي تأثراً بمتغيرات عدة أهمها الوباء، والمثال هنا تونس والأردن، فضلاً عن مناطق التأزم المستمرة كما هو الحال في ليبيا واليمن، وأما مصر، فهي مثال ونموذج عصري لمعرفة آثار ومآلات الاستبداد والفساد السياسي في الواقع المنظور.
ومن هنا فإن هناك عزماً للوقوف عند ظاهرة الفشل السياسي في البلدان العربية التي أضحت بؤراً للأزمات، بحيث نقف معها وقفات قصيرة موجزة، نتعرف من خلالها على بعض قسماتها وأحوالها، ونجلي أثناءها عوامل وأسباب انسداد الأفق السياسي، وهل هناك إمكانية للانفراج من الأزمات المستحكمة فيها.
ومن الأهمية الوقوف عند مفهوم الفشل السياسي إذا ما أردنا معرفة العوامل والمتغيرات التي أفضت إليه في الواقع السياسي العربي في تجلياته المعاصرة، وبالنظر إلى معاجم المصطلحات السياسية نرى أن هناك مفاهيم مقاربة لمفهوم الفشل السياسي تداولته هذه المعاجم في تجلية وبيان المعاني التي يقوم عليها هذا المفهوم وما يقاربه من المفاهيم الأخرى، ومن أكثر المفاهيم تداولاً في هذا السياق مفهوم (الدولة الفاشلة)، وهو من المفاهيم المستحدثة التي راجت في تسعينات القرن الماضي، وقد جاء على لسان الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلنتون، ثم أضحى متداولاً في السياق العلمي للعلوم السياسية، وقد وُضعت مؤشرات للحكم على دولة ما بالفشل، وهي[1]:
مؤشرات سياسية: مرتبطة بمدى شرعية ومصداقية نظام الحكم، تراجع قدرة الدولة على تقديم الخدمات العامة، تعطيل أو تعليق تطبيق القانون وانتشار ممارسات انتهاك حقوق الإنسان، حالة عدم الاستقرار السياسي وخاصة على المستوى المؤسساتي، تزايد حدة التدخل الخارجي سواء من جانب الدول أو فاعلين من غير الدول.
مؤشرات اقتصادية: وأهمها عدم انتظام معدل التنمية الاقتصادية، استمرار تدهور وضع الاقتصاد الوطني بدرجات تدريجية متفاوتة أو حادة، ازدياد معدلات الفساد.
مؤشرات اجتماعية: ومن ملامحها تصاعد الضغوط الديموجرافية بازدياد كثافة السكان في الدولة، وانخفاض نصيب الأفراد من الاحتياجات الأساسية، تزايد حركة اللاجئين بشكل كبير إلى خارج الدولة، أو تهجير عدد من السكان في منطقة داخل الدولة بشكل قسري، وجود إرث عدائي لدى أفراد الشعب، انتشار ظاهرة هروب العقول والكفاءات.
مؤشرات أمنية: غياب سلطة الدولة داخل حدودها أو ضعفها، تنامي حالة من ازدواجية المسؤولية الأمنية بحيث تظهر جماعات أخرى داخلها تتمتع بسلطة تضاهي سلطة الدولة.
ومن المفاهيم المقاربة مفهوم (الفقدان السياسي)، وهو خسارة المرء أو الجماعة أو المؤسسة لأدوارها السياسية في المجتمع[2].
ومفهوم (أزمة سياسية)، ويعني أن هناك ثلاث فئات كبيرة تمثل الأزمات السياسية، فهناك الأزمة الحكومية، وتكون عندما تفقد السلطة التنفيذية ثقة مجلس النواب وتضطر إلى الاستقالة، وأزمة عند اضطراب إجماع القوى السياسية حول الإجراءات الدستورية القائمة أو العملية السياسية في البلاد بشكل عام، وأخيراً هناك أزمة الدولة وتكون عندما تصبح فعالية عمل الخدمات العامة المقدمة من جانب الدولة غير فعالة مما قد يؤدي إلى ضياع شرعية النظام الحاكم أو عدم قدرته على فرض القرارات والقوانين التي يصدرها[3].
والسؤال الذي يعرض هنا وبقوة، وهو: هل أن هذه المؤشرات تعبر بشكل كلي أو أغلبي -على أقل تقدير- عن حقيقة الفشل السياسي الذي تتلبس به النظم السياسية العربية ومؤسساتها؟ وهل الفشل السياسي راجع إلى جوانب هيكلية وبنيوية من حيث الأصل، أو أن هناك جوانب أخرى تسهم أيضاً في إحداث هذا الفشل في البنية السياسية مرتبطة بطبيعة عمل هذه الأنظمة وبرامجها السياسية في التعاطي مع الواقع السياسي وتعقيداته، ومرتبطة أيضاً بعقيدة هذه النظم وثقافتها؟
ويظهر أننا بحاجة إلى معرفة معايير نجاح المؤسسات في الواقع قبل الحديث عن مؤشرات الفشل في سياقها العملي والتطبيقي في النماذج المختارة، فإن الأشياء تتميز بضدها، وقد وضع صمويل هنتجتون في سيتينات القرن الماضي معايير أربعة تبين بحسبه فاعلية النظام السياسي وعدمها، فيقول: “إضفاء الطابع المؤسسي هو عملية تكتسب بها التنظيمات والإجراءات قيمة واستقراراً. ويحدد مستوى إضفاء الطابع المؤسسي في أي نظام سياسي بتماسك تنظيماته وإجراءاته واستقلالها وتعقيدها وقدرتها على التكيف”، وقد فصل ذلك في أربعة معايير، وهي: القدرة على التكيف ويقابلها التصلب، التعقيد والتركيب ويقابله التبسيط، الاستقلال وتقابله التبعية، التلاحم (التماسك) ويقابله الشقاق[4].
ويشير معيار القدرة على التكيف إلى المرونة، فكلما كان مستوى المرونة عالياً، كان ذلك ادعى لنجاح العمل المؤسسي، والمرونة ثلاثة أنواع: مرونة وظيفية تتعلق بأهداف النظام ووظائفه، بأن يكون النظام قادراً على تغيير بعض أهدافه المرحلية ووظائفه العملية التي أنجزت أو تعذر إنجازها، ووضع أهداف ووظائف أهم أو أيسر بديلاً عنها، ومرونة إجرائية تتعلق ببنية النظام وإجراءاته الداخلية ذات الصلة بتغيير قادته واتخاذ قراراته، ومرونة عملية تتمثل في تعاطي النظام مع التحديات المتغيرة بأسلوب متغير، دون جمود على الأساليب السابقة[5].
ومعيار التعقيد والتركيب يعني تكاثر الوحدات التنظيمية الفرعية هرمياً ووظيفياً، كما يعني تمايز الوحدات التنظيمية الفرعية بأنواعها المختلفة، وكلما ازداد عدد الوحدات الفرعية وتنوعت، ارتفعت قدرة النظام على الاستمرار والاستقرار، والأكثر من هذا، أن النظام الذي لدية عدة أهداف أقدر على تكييف نفسه بإزاء خسارة أي هدف منها، من نظام ليس لديه سوى هدف واحد، والنظام السياسي الأبسط هو الذي يعتمد على شخص واحد، فيكون أقل استقراراً وهنا يبرز النموذج الاستبدادي وهو قصر الأجل، بينما النظام السياسي الذي تتعدد مؤسساته السياسية وتتباين تكون قدرته على التكيف أرجح، ويتضمن في داخله وسيلة تجديده الذاتي وتكيفه[6].
ومعيار الاستقلال يعني مدى استقلال مؤسسات النظام السياسي عن التجمعات الاجتماعية الأخرى وطرائق سلوكها، والنظام السياسي يكون متصفاً بالاستقلالية حين تتصف مؤسساته وتنظيماتها وإجراءاتها السياسية بمعزل عن التأثر بالمجموعات الاجتماعية والإجراءات غير السياسية، وهذا يستدعي ألا تكون هذه الإجراءات معبرة عن مصالح مجموعات اجتماعية بعينها (عائلة، عشيرة، طبقة، حزب سياسي ..)، وحين تكون مؤسسات النظام السياسي وإجراءاتها عرضة لتأثيرات غير سياسية من داخل المجتمع، فإنها تكون قابلة في العادة لتأثيرات من خارج المجتمع، فيخترقها بسهولة عملاء ومجموعات وأفكار من أنظمة سياسية أخرى[7].
وأخيراً معيار التلاحم والتماسك، فكلما كان النظام السياسي في وحداته متماسكاً، كلما ارتفع طابعه المؤسسي، وكان دليلاً على نجاحه وصموده أمام التحديات، ويتطلب النظام الكفؤ في الحد الأدنى درجة توافق كبيرة على الحدود الوظيفية داخل مؤسساته، وعلى إجراءات حل الخلافات التي تنشأ داخل هذه الحدود، ويساعد في تحقيق التماسك داخل النظام السياسي استقلال مؤسساته، فالاستقلال أداة للتماسك، وهو ما يُمكِّن النظام من تطوير أساليبه وسلوكياته، وقد أشار هنتنجتون إلى أن التوسعات السريعة أو الكبيرة في عضوية النظام أو في عدد المشاركين فيه تؤدي إلى إضعاف التماسك داخله، ومثل بمؤسسة الحكم العثمانية، حيث احتفظت بحيويتها وتماسكها حين كان الانتساب إليها مقيداً، وحين كان التوظيف فيها يتم عبر عملية تثقيف دقيقة، بالانتقاء والفرز المحكم في كل مرحلة، ثم تآكلت المؤسسة عندما ازداد إصرار الجميع على المشاركة في مزاياها، فزادت الأعداد، وانحط مستوى انضباطها وكفاءتها[8].
ولكن تبقى هناك إشارات هامة في نجاعة البنية المؤسسية ليست مرتبطة فقط بهيكلتها وبنيتها، فإن المعايير التي أشار إليها هنتنجتون تأخذ بالاعتبار التكيف والتوافق مع البيئة المحيطة بالنظام السياسي وواقعه لإنجاح سياساته وإجراءاته وقراراته والحفاظ على استقراره واستمراره، وهذه الإشارات مرتبطة بالبعد القيمي والحضاري لسياق حضاري مغايرة، وهو المنظومة الإسلامية، حيث تقف الرؤية الإسلامية حول النظام السياسي عند أبعاد أخرى تأخذها بالاعتبار فوق نجاح سياسات النظام وقراراته وإجراءاته واستهداف استمراره وهو مقصود كذلك، وهذه النجاعة في بنية النظام السياسي مقترنة أساساً بتحقيق الغايات والمقاصد الشرعية، فهي المعيار لتقييم المؤسسة وتطويرها، ففاعلية النظام السياسي تقاس بمدى اقترابه من هذه الغايات العليا، وأحد ملامح خصوصية الرؤية الإسلامية حول النظام السياسي هو الربط بين ثلاثية (العقيدة، المقصد، الوظيفة)، لتكون الغاية الكبرى ليست الاستقرار في حد ذاته كما هو الحال في الرؤية الغربية، بل مدى قدرة النظام السياسي على الاقتراب من المقاصد الشرعية العليا[9].
وعند الربط بين المقاصد والوظائف يمكن التمييز بين مجموعتين: الأولى هي الوظائف الموضوعية الأصلية وهنا تقع منظومة الحفظ الخماسية (حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال)، والثانية هي الوظائف التنظيمية، والتي تهتم بترتيب وتحديد الأولويات والعلاقات والحدود داخل المجموعة الأولى من الوظائف، وهو ما يعني جملة أن كافة مخرجات مؤسسات النظام السياسي وفقاً للرؤية الإسلامية يجب أن تحقق الوظائف الموضوعية سواء أكانت حفظاً أم إنماء أو دفعاً وفق ضوابط إجرائية تستمد من الشريعة وقواعدها، ويأتي دور الوظائف التنظيمية للموازنة وتفعيل قواعد الترجيح بين مقاصد الحفظ الخمسة في الواقع السياسي[10].
وعلى هذا الأساس ووفقاً لمعايير النجاعة المؤسسية في بنية النظام السياسي سواء في شكله الغربي أو نسقه الإسلامي، فإن الواقع السياسي العربي يعاني من فشل سياسي ذريع تفاقمت أزماته واستحكمت في الآونة الأخيرة مع انتشار الوباء واستطالة أمده وتنامي آثاره، والبحث يستدعي الوقوف عند نماذج كاشفة لهذا الفشل في إطار تنزيل هذه المعايير عليها تفحصاً وقراءة في واقعها والآثار الناجمة عن هذا الفشل على مستوى البنى المجتمعية بجميع مكوناتها، وللحديث صلة ..
[1] انظر: الموسوعة السياسية ، مادة الدولة الفاشلة، https://goo.gl/iS1GwN.
[2] د.وضاح زيتون، المعجم السياسي، عمان/الأردن، دار أسامة، ط1، 2010م، ص261.
[3] معجم المصطلحات السياسية، معهد البحرين للتنمية السياسية، 2014م، ص15.
[4] صمويل هنتنجتون، النظام السياسي في مجتمعات متغيرة، بيروت، دار التنوير، ط1، 2017م، ص38.
[5] محمد مختار الشنقيطي، معايير النجاح المؤسسي في العمل الإسلامي وثنائياته الكبرى، الرياض، دار الأمة، ط1، 1430هـ/2009م، ص3.
[6] صمويل هنتنجتون، النظام السياسي في مجتمعات متغيرة، مرجع سابق، ص43.
[7] المرجع السابق، ص46.
[8] المرجع السابق، ص48.
[9] د.باكينام الشرقاوي، المنظور الحضاري الإسلامي ودراسة النظم السياسية، بحث منشور في كتاب: نحو دراسة النظم السياسية من منظور حضاري مقارن: مداخل منهجية، القاهرة، مفكرون الدولية، ط1، 1439هـ/2018م، ص140.
[10] المرجع السابق، ص143.