فكريةندوات

(التأثر بفكرة فصل الدين عن الدولة ومآلاته)

عقد مركز رؤيا للبحوث والدراسات ندوته الشهرية عبر تطبيق الزوم تحت عنوان: (التأثر بفكرة فصل الدين عن الدولة ومآلاته)، وكان طرح هذا الموضوع متزامناً مع تحولات خطيرة تمر بها الأمة في واقعها المعاصر؛ فبالإضافة إلى تكريس شتاتها وتفريقها أوزاعاً قد انساق بعضها إلى التطبيع مع الكيان الصهيوني والتناسي عن قصد قضايا الأمة المركزية، والإشكال الكبير يتمثل في انسياق بعض الإسلاميين ممن كان له حضوره الفكري والدعوي إلى التلبس بسياسات التطبيع التي كانت إلى عهد قريب عنده من المحرمات الكبرى والمحكمات العظمى التي لا يختلف فيها أحد، وظاهر أن كثيراً من هذه المواقف كان مرجعه تلكم التقريرات والتأصيلات غير الموفقة في جعل الدين مفصولاً عن الدولة والحياة بشتى التبريرات، وكان أخطرها تكييفها في سياق شرعي تُلوى بها أعناق النصوص، فكان كما قال الشاطبي رجوعَ استظهار لا تتسع له الشريعة بمنطوقها ومعقولها.

ولعرض هذا الموضوع على طاولة البحث والنقاش استضاف المركز فضيلة الدكتور عطية عدلان أستاذ الفقه بجامعة المدينة العالمية سابقاً ورئيس مركز محكمات للبحوث والدراسات، وكان عنوان ورقته (مشروع علمنة الإسلام: نظرية سعد الدين العثماني أنموذجاً)، وقد عقب على ورقته فضيلة الدكتور محمد يسري إبراهيم، كما شهدت الندوة تفاعلاً كبيراً من الحضور بالنقاش والاستفسار والمداخلة.

أولاً: مداخلة الدكتور عطية عدلان:

لم تكن فكرة فصل الدين عن الحياة بوجه عام وعن الدولة بوجه خاص سوى خُطةٍ إبليسية؛ تستهدف إقامة الحياة على أساس من رفض ألوهية الله، وهذه – لَعَمْرُ الحق – أُمُّ المعضلات في الحضارة المعاصرة، إنّها المعضلة التي نشأت عنها كل المعضلات، والتي ضربت جذورها في تربة الفكر الحداثيّ الذي يؤسس ويؤصل لعقيدة مفادها: ضرورة تجاوز فكرة سيادة الإله وهيمنته على الحياة، وضرورة أن يتحرر الإنسان من خضوعه لسلطان السماء؛ ليكون سيد هذه الأرض وما فيها من جمادات وأحياء.

إنّ هذا الإنسان لم يُخلق إلا لغاية واحدة محددة وواضحة، وهي عبادة الله: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات 56)، وعن هذه الغاية الأم انبثقت غاية أخرى تدور في فلكها بلا توقف ولا انحراف، وهي عمارة الأرض بمنهج الله: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) (البقرة 30)؛ لذلك ولد الإنسان والمجتمع السياسيّ في لفافة واحدة، ونزل الدين من اللحظة الأولى هدى للناس في كافة مجالات حياتهم، وهكذا جاء الإسلام الذي ختم الرسالات ليحكم حياة الناس كلها، لا لينحصر سلطانه في المسجد وفي قلوب النُّساك الزاهدين، تاركاً الحياة بطولها وعرضها لأرباب شتى وآلهة متفرقين، يحكمونها بسلطان الهوى والشهوة والغرض، وسلطان المصالح الهابطة.

ومن هنا دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى التوحيد وإلى إفراد الله بالعبادة، وسعى إلى جانب ذلك في إقامة الحكم الإسلاميّ الذي لا يتصور إقامة الدين على الوجه الكامل الشامل إلا به، فبمجرد أن تحققت أهداف الدعوة في مكة، من إتمام البلاغ والبيان العام بما يقيم الحجة على الأنام، وتقويض النظرية الوثنية من أصولها تلك التي كانت سائدة في الجزيرة العربية نقطة الانطلاق، وبناء القاعدة الصلبة التي يقوم عليها بنيان الأمة الإسلامية الشامخ؛ بمجرد أن تمّ له ذلك انطلق ساعياً في بناء الدولة؛ فصار في مواسم الحج التي كان من قبل يدعو الناس فيها إلى التوحيد وحسب؛ صار يعرض نفسه على القبائل؛ لعل قبيلة تؤويه وتوفر له الحماية والقوة التي تمكنه من إقامة الدولة.\

وكانت النتيجةُ لهذا السعي الحثيث قيامَ الدولة في المدينة المنورة بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إليها، ومنذُ الهجرة إلى المدينة وَجَدْنا كلَّ مقومات الدولة قائمة بتمامها في المجتمع وإنْ بصور وأشكال اكتست من بساطة الحياة وسذاجتها آنذاك بساطة وسذاجة لا تقلل من شأنها، وَجَدْنا القيادةَ المتمثلة في رسول الله صلى الله عليه وسلم، والسمعَ والطاعة لهذه القيادة، والجيشَ الذي يحمي جماعة من الناس تسكن أرضاً وتقطن وطناً، وقانونا يحكم الحياة، مستمداً من شريعة الله التي لها السيادة وحدها بلا منازع، وقضاءً يُبرم وتُنَفَّذ أحكامه، وحدوداً تقام وقصاصاً يجري وفق أحكام، وبيتَ مال تنحدر إليه الواردات وتصدر عنه المصروفات، ونظاماً داخلياً وعلاقاتٍ خارجيةً وحرباً وسلماً وعهوداً وعقوداً؛ فكانت صورة الدولة كاملة بجميع ما تقوم عليه الدولة من أسس ومؤسسات وآليات وأدوات.

ثم كانت دولة الراشدين خلافةً راشدة على منهاج النبوة، قامت وانعقدت تلقائياً دون تلعثم ولا تردد؛ فلم يختلف الصحابة في السقيفة حول فكرة إقامة الدولة، ولم يجهزوا رسول الله حتى أبرموا أمرهم، ومن بعدهم قام الملك الإسلاميّ دولاً وَرَّثَتْ الحكم وتداولته على غير سنة النبي وخلفائه الراشدين، لكنها ظلت تمثل الإسلام بصورة أو بأخرى، ولا تفكر قط في عزل الدين عن الدولة ولا عن شئون الحياة، ظلت على ذلك ثلاثة عشر قرناً من الزمان، حتى جاء العصر الحديث لتسقط الخلافة في الآستانة، ويتقاسمَ الاستعمار بلاد المسلمين، ويضعَها تحت الحماية والانتداب لدول قامت من أول يوم على ذلك الفصل النكد بين الدين والحياة.

الابتداء الفَجُّ:

وذات يوم استيقظ العالم الإسلامي على صوت الشيخ علي عبد الرازق وهو يصيح في الأمة: «بأن محمدًا صلى الله عليه وسلم ما كان إلا رسولاً لدعوة دينه خالصة للدين، لا تشوبها نزعة ملك، ولا دعوة لدولة، وأنه لم يكن للنبي محمدٍ صلى الله عليه وسلم ملك ولا حكومة، وأنه صلى الله عليه وسلم لم يقم بتأسيس مملكة بالمعنى الذي يفهم سياسة من هذه الكلمة ومرادفاتها، ما كان إلا رسولاً كإخوانه الخالين من الرسل، وما كان ملكاً، ولا مؤسس دولة، ولا داعياً إلى ملك».

وراح يدلل على فكرته بهذه الطريقة الهزلية التي صارت بعد ذلك نبراساً للعلمانيين الكلاسيكيين: «لم نجد فيما مر بنا من مباحث العلماء الذين زعموا أن إقامة الإمام فرض من حاول أن يقيم الدليل على فرضيته بآية من كتاب الله الكريم، ولعمري لو كان في الكتاب دليل واحد لما تردد العلماء في التنويه والإشادة به، أو لو كان في الكتاب الكريم ما يشبه أن يكون دليلا على وجوب الإمامة لوجد من أنصار الخلافة المتكلفين – وإنهم لكثير – من يحاول أن يتخذ من شبه الدليل دليلاً، ولكن المنصفين من العلماء والمتكلفين منهم قد أعجزهم أن يجدوا في كتاب الله حجة لرأيهم؛ فانصرفوا إلى ما رأيت من دعوى الإجماع تارة، ومن الالتجاء إلى الأقسية وأحكام العقل تارة أخرى”.

ومن هنا بدأت العلمانية تجد لها في البيئة الإسلامية تربة تنبت فيها وتنمو وتترعرع، لقد خرق علي عبد الرازق الجدار، ومضى إلى جحيم اللعنة من العلماء، لكنه كان قد رفع السقف الذي انزلقت تحته بعد ذلك الأفاعي وتدحرجت كرات اللهب، فها هم دعاة العلمانية ينطلقون على حداء إمامهم على عبد الرازق، ويمضون على نهجه، بنفس الشبهات، وإنْ بألوان وأساليب مختلفة.

ها هم دعاة العلمانية الصرحاء: فؤاد زكريا، فرج فودة، محمد سعيد عشماوي، حسن حنفي، نصر حامد أبو زيد، وغيرهم، لكنّهم صرحاء في دعوتهم صادمة، فليقتصر دورهم على ما حققوه في الأوساط المتغربة والبعيدة عن الإسلام، وعلى رفع السقف لمن سيأتي بعدهم، وليكن هناك دور آخر لآخرين يتحدثون باسم الإسلام ويدخلون من مداخل أخرى، فها هم العلمانيون الأكثر خطراً والأعمق أثراً والأوسع انتشاراً، العلمانيون الأخطر وإن لانت ملامسهم: عابد الجابري، محمد أركون، مؤسسة مؤمنون بلا حدود، وغيرهم، فانظر إلى محمد شحرور بعد مشوار من التقسيمات التي لا يعرف لها معيار ولا ميزان؛ طفق يقرر الحقيقة التي يدندن حولها كل من يستهدف التمييز بين الدين والسياسة فيقول: “وبما أنّ الدولة تخضع للتطور دائماً فمن الطبيعيّ أن تُفْصل عن العبادات، وقد فصلها النبيّ صلى الله عليه وسلم بنفسه، وبهذا نرى أن الدولة الإسلامية دولة علمانية بحتة”!!

ثم تأتي الخطوة الأخطر؛ إذْ لماذا لا تتم علمنة الفكر الإسلاميّ من داخله؟ إنها فكرة رائعة وفذّة؛ فليكن المنطلق من كتب الأصول نفسها، وليقتطع هؤلاء الفقهاء الجدد من جبل الأصول حجارة يبنون بها هيكلاً جديداً هو البديل الأكثر فاعلية والأقوى أثراً، فجاء كثيرون، كان آخرهم وأخطرهم الدكتور سعد الدين العثمانيّ، ذلك الذي تضلع في الأصول، ونبت في تربتها لينقلب عليها من داخلها.

أنا لا أقول إنّه وأمثالَه تعمدوا ذلك أو اندفعوا إليه بسوء نية، ولكنها المنزلقات تصنع وتوضع أمام الناس بطرق كثيرة وأساليب ملتوية، والمعصوم من  عصمه الله، ولكون الدكتور العثماني أوفى على الغاية في البراعة ونجح في التسويق للفكرة وغرسها في قطاع عريض من مثقفي الأمة، ولكون نظريته قَدَّت من الفقه والأصول ألبسة ملفقة لها بريق وخداع، سوف نتخذ من نظريته أنموذجاً لبيان خطر مشروع علمنة الإسلام من داخل الفكرة الإسلامية ومآلاته.

عرض نظرية العثمانيّ:

لم ينكر الدكتور سعد الدين العثمانيّ أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام دولة بالمدينة، ولم يَدّع أنّ دولة الخلفاء الراشدين لا علاقة لها بالإسلام، ولم يهبط إلى المستوى الذي هبط إليه العلمانيون الصرحاء، ولكنّه زعم أنّ الدولة التي أقامها رسول الله في المدينة كانت دولة مدنية، وكذلك الدولة الراشدية كانت مدنية بحتة، وأنّ الشريعة الإسلامية لم تأت بنظام للحكم يمكن تسميته النظام الإسلاميّ.

وبنى نظرته هذه وكذلك نظريته في السياسة والحكم والدولة على جملة من الأصول، وانطلق يبشر بها في مؤتمرات عديدة في ماليزيا واسطنبول وغيرهما، وقدم في ذلك أوراقاً بحثية كان أهمها وأشملها وأكثرها تركيزاً تلك الورقة التي قدمها لمؤتمر (الدولة المدنية) بكوالالمبور وقرأها بالنيابة عنه أحد أصدقائه.

واشتملت الورقة على أصول وركائز أهمها ما يلي: 1- السياسة من العاديات ومن أمور الدنيا. 2- الأصل في السياسة الحِكَمُ والمقاصد. 3- تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم السياسية دنيوية اجتهادية. 4- التمييز بين الأمة السياسية والأمة الدينية. 5- التمييز بين السياسة وبين مرجعية النظام القانوني، 6- التمييز بين التشريع القانوني بمفهومه المعاصر وبين التشريع الديني. 7- التمييز بين المباديء السياسية في الإسلام وبين أشكال تطبيقها عبر القرون.

وفي سياق تقريره للأصل الأول أوضح أنّ (التأكيد على التمييز بين المجالين – العبادات والعاديات – هو التنظير للطابع المدنيّ لجزء كبير من تصرفات المسلم مما ليس عبادات يصلح بها دينه، وهي المسماة عاديات أو تصرفات دنيوية وإن كان ذلك لا ينفي كونَها مشمولهً بهدي الدين وخاضعةً لتوجيهاته من حيث العموم) ليخرج في النهاية بخلاصة مفادها (أن المبادئ والمقاصد الشرعية في المجال السياسي تنبثق عنها نظم سياسية متنوعة الأشكال والصيغ وليس هناك نظام سياسي محدد، والمسلمون في ذلك يمكن أن يستفيدوا بالحكمة الإنسانية دون أيّ حرج).

وفي سياق تقريره للأصل الثاني قال: (إنّ تمييز الممارسة السياسية عن مجال العبادات واعتبارها ممارسة مدنية لا ممارسة دينية تجعل السياسة داخلة في منطقة مفوضة للاجتهاد البشريّ) وبعد نضال وجهاد في دفع المحكمات والتطويح بها ذات اليمين وذات الشمال خلص إلى أنه: (ليس في الإسلام شكل محدد لبناء الدولة وممارستها وظائفها، وبالتالي فإن الحديث عن وجود نظام سياسي في الإسلام يجافي هذه الحقائق الواضحة).

ولكي يثبت أن الخطاب الشرعي لم يكن معنياً بأمر الدولة يقول: (ولذلك فإن العلماء لما أرادوا الاستدلال على وجوب أن يكون هناك رئيس للدولة – وهو ما سموه بوجوب نصب الإمام – لم يجدوا نصاً واحداً واضح الدلالة فاعتمدوا دليل الإجماع ) ثم أضاف: (ومن أمثلة ذلك أن الصحابة لما اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ودار النقاش حول من سيتولى الأمر لم يستدلوا بآيات وأحاديث، بل كان السجال سياسيا مدنياً).

ويرتب الدكتور العثماني على أصل التمييز بين السياسة وبين مرجعية النظام القانوني أنّ الشريعة ملزمة دينياً للفرد المؤمن والقانون وضع بشريّ ملزم دنيوياً بحكم طبيعة الدولة، ومن غير المقبول أن يفرض قانون ما على مجتمع تعددي، وأن المؤمن غير مكلف بجعل ما هو دين له قانونا يفرض على المجتمع، وأن تبني مجتمع لقانون لا يمكن أن يكون خارج الوسائل الديمقراطية!!

واعتبر أن تعدد أساليب اختيار الحاكم دليلٌ على عدم وجود نظام ثابت، وادعى أن محاولات سحب مصطلحات البيعة وأهل الحل والعقد ودار الحرب وغير ذلك صورة من صور هيمنة التجربة السياسية التاريخية للمسلمين.

وبعد أن قرر أن الأمة سابقة على الدولة وأنها أصل لها رتب على ذلك أن مسائل الإمامة لم تكن قط أصلاً في الدين واستدل بكلام لابن تيمية في صدد رده على ابن المطهر الشيعيّ، ومن هذا الموقع انثنى يؤكد أنّ (هذه المقدمات تبين كيف أن الأمة المسلمة بمعناها الديني هي الأصل، وأن التكييفات السياسية لوجود المسلمين عبر التاريخ إنما هي اجتهادات لمواجهة تكاليف الحياة الجماعية وتحقيق مقاصد الدين في الواقع، فهي فُوِّضت لهم مثل ما فُوِّضت لهم سائر أمور دنياهم ).

ويعيب على المسلمين أنهم لم يوقروا الحدود الجغرافية للدولة والتي هي من أهم محددات معنى الدولة في المفهوم المعاصر؛ ويرجع ذلك إلى أنهم كرسوا مفهوم الانتماء إلى الأمة الدينية وليس إلى كيان جغرافي محدد، ويقول: (لم يكن هناك ما يفيد أن المسلمين كانوا يأخذون بعين الاعتبار في فكرهم السياسي ظاهرة الحدود) ثم يؤصل لما يجب أن يكون مما لم ينتبه إليه المسلمون الأوائل، فيقرر أنّ (انتشار دين معين لا يعني بالضرورة تمدد كيانه السياسي).

وفي النهاية يخرج بنتيجة يراها طبيعية، وهي أننا ينبغي أن نتحدث عن دولة ضمن دول العالم الإسلامي، لا عن دولة إسلامية، وأنّ المعول عليه هو المبادئ والمقاصد، وأنّ الدولة المدنية هي مطلبنا، لأنّ: (الأصول الإسلامية لا تتنافى في شيء مع مفهوم الدولة المدنية بل تؤسس لها على مختلف المستويات).

وفي مقال له على موقع (إسلام أون لاين) بتاريخ 8 يناير 2008م بعنوان “الدين والسياسة تمييز لا فصل ” – وهو ذات العنوان لكتاب له صدر سنة 2009م عن المركز الثقافي العربي، ويعتبر المقال خلاصة ما في الكتاب – فَرَّق بين معنيين للدين، المعنى الخاص الذي ينحصر في العبادات والقربات، والمعنى العام الذي تدخل الأمور الدنيوية تحت توجيهاته، ثم بنى على ذلك أنّه (من كمال الدين أن الله تعالى أوكل أو فوض للإنسان الاجتهاد والإبداع في شئون حياته، ثقة بقدرته الفكرية والمعرفية على الإجابة عن الأسئلة المطروحة، وإجاباته وإبداعاته هي التنظيمات والإجراءات الوضعية التي تنظم الحياة الدنيوية للأفراد والمجتمعات، إنها من الدنيا، لكنها دين أيضاً بالمعنى العام، أي بمعنى أنها تتم في انسجام مع التوجهات والقيم الدينية العامة، ومن هنا اعتبر علماء مدرسة أهل السنة الولاية والسياسة من الطاعات، وعدّوها عبادة، ليس بمعنى أنها “تعبد”، بل على أساس أنها من الأعمال الدنيوية التي تتم في الإطار المرجعي العام للدين، وهكذا فإن تعيين رئيس الدولة أو الإمام يعتبر من باب العمل الدنيوي الاجتهادي الذي يقوم به الناس وليس من باب الدين التعبدي، وهذا لا يمنع من اعتباره ديناً، بالمعنى العام، أي عملاً يعتبر طاعة، فيؤدى بحقه، ويتقى الله فيه: فلا غش ولا خيانة، ولا استخفاف بالمسئولية … وعلى هذا الأساس يجب أن تفهم عبارات فقهاء الإسلام في هذا المجال).

ثم يستطرد: (هذا عن المعنى العام للدين، أما معناه الخاص فيعني ما هو عبادي أو تعبدي من الدين، مقابل ما يعتبر من العادات أو من الدنيا، وهذا المعنى استعمل في بعض النصوص الشرعية، بوضع الدين مقابل الدنيا، ومن ذلك النصوص التالية: حديث الصحابي رافع بن خديج أن النبي الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة وجدهم يؤبرون النخل (أي يلقحونه)، فقال لهم: لعلكم لو لم تفعلوا كان خيراً”. فتركوا تلقيحه فخرج رديئاً، فذكروا ذلك له فقال: “إنما أنا بشر إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به وإذا أمرتكم بشيء من رأي فإنما أنا بشر”، وروته عائشة بلفظ: “إن كان شيئاً من أمر دنياكم فشأنكم به وإن كان من أمور دينكم فإلي”.

وطفق بعدها يسحب هذه النتيجة على السياسة والدولة: (التمييز بين الدين والسياسة ينبني إسلامياً على جملة موجهات هي: أن الدين “هو ما كان مطلوباً لمصالح الآخرة”، بينما أحكام السياسة يدخل ضمن ما هو مطلوب “لمصالح الدنيا”، فهي ليست ديناً بالمعنى الأول، أي ليست وحياً ولا أحكاماً مطلقة، لكنها دين بالمعنى الثاني، أي خاضعة لرؤية الدين العامة للإنسان وللمجتمع، وملتزمة بمبادئه وأخلاقه وإطاره العام. إن مقام رئاسة الدولة (أو الإمامة) إذن مقام دنيوي).

أما كتابه الأقدم والأشهر فهو: ” تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم بالإمامة الدلالات المنهجية والتشريعية “صدر عن جريدة الزمن سنة 2002م، وفيه أَّسَّسَ  لكل هذه الأفكار بالحديث عن تنوع تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم ما بين دينية ودنيوية، وأكثر من سوق نصوص للعلماء والأصوليين في هذا الصدد؛ ليخرج في النهاية بجملة مفادها: (تاريخية التجربة الإسلامية في عهد الخلفاء الراشدين … وما دامت الممارسة السياسية النبوية ذاتها نسبية فمن باب أولى أن تكون التجربة الراشدية كذلك نسبية، وإذا كنا مأمورين بالاقتداء في مجال التصرفات النبوية السياسية بالمنهج العام دون الجمود على الأحكام الجزئية؛ فإن الاقتداء الذي أمرنا به للخلفاء الراشدين لا يمكن إلا أن يكون أيضاً اقتداء بمنهجهم في التعامل مع كل نوع من التصرفات النبوية وأسلوب تفاعلهم مع الواقع الإسلاميّ المتغير، أما الأشكال المؤسساتية والاجتهادات التشريعية والسياسية للفترة الراشدية فإنها نتاج بشريّ محكوم بالسياق التاريخي والظروف الحضارية والمناخ الثقافيّ لعصرها، ويجب ألا تتحول لجزء من الدين الذي يلزم به المسلمون على اختلاف عصورهم).

ولا يزال الرجل يلح بإصرار غريب لترسيخ تلك المفاهيم، فها هو في كتابه الذي صدر في 2012 – أي بعد الكتاب السابق ذكره بعشر سنوات – وهو كتاب: (المنهج الوسط في التعامل مع السنة النبوية) يتحدث – وكأنّ التصرفات النبوية التشريعية استثناء من الأصل – فيقول: (إن اعتبار العديد من التصرفات النبوية صادرة عنه صلى الله عليه وسلم بصفته البشرية وليست وحياً من عند الله تعالى لا ينفي بطبيعة الحال كون كثير من أقواله وأفعاله وتقريراته تصدر عن وحي، فهذا هو الرأي الوسط) ويقول أيضاً: (وغاية ما تفيده أقوال كبار العلماء أن من تصرفاته صلى الله عليه وسلم ما هو وحي من الله تعالى) ، وبعد أن قسم  التصرفات النبوية إلى تصرفات في الدين يتلقاها وحياً بطرق مختلفة ويبلغها .. وتصرفات في الدين اجتهادية لا يقر على الخطأ فيها .. وتصرفات دنيوية ليست وحياً .. قال: ” وهو فيها ليس معصوماً، وقد يخطيء فيها، وقد ينزل الوحي بتصحيح ذلك وقد لا ينزل” الرأي الوسط).

ويظل الدكتور يوغل في بحث المسألة، التي تبدو ويبدو معها وكأنها لاذت به وكأنه نذر حياته لها، فها هو يضع كتاباً بعد عام واحد من الكتاب السابق، أي في سنة 2013م، وهو كتاب: (جهود المالكية في تصنيف التصرفات النبوية).

وحاول في هذا الكتاب أن يثبت أن المالكية كانوا أرشد المذاهب إذ اهتدوا إلى التفريق والتمييز بين التصرفات النبوية، ذلك التفريق والتمييز الذي ميز الفقه المالكيّ عن الفقه الشافعيّ في كثير من الاستنباطات والتخريجات الفقهية، وأنّ مالكاً بهذا سبق الشافعيّ فيما ظنّ الشافعيّ أنه سبقه فيه، فمن المسائل التي ضربها مثالاً على تفوق الفقه المالكيّ بسبب ذلك التفريق الذي يضبط النتائج مسألة التسعير، وبعد أن ذكر الخلاف فيها قال: (وأياً كان؛ فإنَّ العديد من الأدلة والقرائن – إضافة إلى تطور الفكر الاقتصاديّ اليوم – تبين رجحان اجتهاد مالك، وتجعل للدولة حق التدخل؛ لضبط الأسواق والمنع من فوضى الأسعار، وهو ملحظ مبكر لمالك وضع به حديث أنس بن مالك موضعه الصحيح).

هذه النزعة العثمانوية اتجهت بإسلاميين مشهورين إلى القول بتاريخية النصوص والأحكام وطالت الكثيرين منهم، فاستمع إلى الدكتور الترابي وهو يروم إخضاع الأحكام لتطورات العصر وتقلبات الحياة: (ولم تعد بعض صور الأحكام التي كانت في معيار الدين منذ ألف عام تحقق مقتضى الدين اليوم … لأن أسباب الحياة قد تطورت … وقد تزايد المتداول في العلوم العقلية المعاصرة بأقدار عظيمة، وأصبح لزاماً علينا أن نقف في فقه الإسلام وقفة جديدة، لنسخر العلم كله لعبادة الله).

وهذا فهمي هويدي يهرول إلى ذات الاتجاه: (أما تعبير أهل الذمة فلا نرى وجهاً للالتزام به إزاء متغيرات حدثت، وإذا كان التعبير قد استخدم في الأحاديث النبوية فإن استخدامه كان من قبيل الوصف، وليس التعريف، ويبقى هذا الوصف تاريخياً لا يشترط الإصرار عليه دائماً) ، وغيرهم كثير.

تفنيد نظرية العثمانيّ:

اعتمد العثمانيّ في تقرير هذه النظرية على أسس استقاها من تقسيمات علماء الأصول:

الأساس الأول: هو وقوع التصرفات السياسية ضمن العاديات التي هي من أمور الدنيا، والتي تكون السنة فيها غير تشريعية:

هذا الأساس استقاه من تقسيم المحققين من علماء الأصول للتصرفات التي يَرِدُ عليها الخطاب الشرعي إلى قسمين: عبادات وعاديات، يقول الإمام الشاطبيّ: “فقد علمنا من مقصد الشارع التفرقة بين العبادات والعادات، وأنه غلب في باب العبادات جهة التعبد، وفي باب العادات جهة الالتفات إلى المعاني، والعكس في البابين قليل”.

ويقول الإمام ابن تيمية: “تصرفات العباد من الأقوال والأفعال نوعان: عبادات يصلح بها دينهم، وعادات يحتاجون إليها في دنياهم؛ فاستقراء أصول الشريعة أن العبادات التي أوجبها الله أو أباحها لا يثبت الأمر بها إلا بالشرع، وأما العادات فهي ما اعتاده الناس في دنياهم مما يحتاجون إليه، والأصل فيه عدم الحظر، فلا يحظر منه إلا ما حظره الله ورسوله”.

وبالرغم من أنّ التقسيم الذي اهتدى إليه العلماء موفق إلى حد كبير، وأنّ القاعدة الناجمة عن هذا التقسيم صحيحة لا غبار عليها، إلا أنّ هذا التقسيم وهذه القاعدة لا علاقة لهما بما ذهب إليه العثمانيّ ومن سايره “فالقاعدة يستفاد بها في تنظيم الاستدلال وفي ترتيب الأحكام، وليس في التفريق بين العبادات والعاديات بإدخال إحداهما تحت سلطان الشريعة وإخراج الأخرى من تحت سلطانها، فالعبادات الأصل فيها التوقيف، فلا يقال يجب كذا منها أو يستحب إلا إذا كان قد ورد بذلك شرع، وعلى العكس من ذلك تأتي العاديات؛ فالأصل فيها العفو حتى يقوم الدليل من الشرع على إدخالها تحت حكم من الأحكام، كالحرمة والكراهة، لذلك قالوا: الأصل الحل، فمثلا: كل المعاملات والعقود  وسائر الأنشطة البشرية مباحة في الأصل، فما ورد الدليل بتحريمه استثني من هذا الأصل، ولا يعني هذا أنً المعاملات المالية – مثلاً – خارجة عن سلطان الشريعة بهذا التقسيم، أو أنّ المقاصد الشرعية وحدها هي التي تحكم هذا الباب، ولو تصفحت هذا الباب لوجدت الشريعة قد نظمته بأحكام مصدرها الكتاب والسنة، حتى لا تكاد تجد فيها زاوية إلا وقد ورد فيها نص من أحد الوحيين أو كليهما، وقُلْ مثل ذلك في أبواب الأطعمة والأشربة والقضاء والجهاد والمعاهدات والإمامة وسائر أبواب الدين … أما أنّ هذه العاديات توكل إلى البشر والحكمة البشرية وغير ذلك مما ينتهي إليه فقه الرجل فهذا ما لا يمكن أن يقول به أحد من علماء هذه الأمة … والفرق بين الأمور الدنيوية وبين العاديات كالفرق بين تأبير النخل وبين المزابنة، وكالفرق بين زراعة القمح في الشتاء لا في الصيف وبين المحاقلة، وكالفرق بين صك النقود وطباعة أوراق البنكنوت وبين الصرف، وكالفرق بين وسائل وأساليب التحقيق وبين الدعاوى والبينات، وكالفرق بين صناعة السلاح وبين الجهاد وآثار الحرب، وهكذا ..

فتأبير النخل وزراعة القمح وصك النقود وصناعة السلاح وما شابهها من الأمور الدنيوية، التي تركت في الأصل للتجربة البشرية، ولا تتدخل الشريعة إلا بالحياطة الخارجية التي تحفظ النشاط البشريّ من الانزلاق، وتعظم من الاستفادة به، أما المزابنة، والمحاقلة، والصرف والجهاد والإعداد له والدعاوى والبينات والمعاهدات وغير ذلك فهي من العاديات، التي هي من أمور الدين وإن لم تكن من العبادات، والتي تنظممها الأحكام الشرعية وإن كان الأصل فيها العفو … وأمور الدنيا متروكة للحكمة البشرية والخبرة الإنسانية، ولا تدخل للشرع فيها إلا بالحياطة الخارجية العامة”.

الأساس الثاني هو اعتماد التقسيم الذي ذهب إليه الإمام القرافيّ رحمه الله:  

حيث قسم تصرفات النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى تصرفات بالفتوى، وتصرفات بالقضاء وتصرفات بالإمامة، وبنى على هذا التقسيم أنّ تصرفات الرسول بالفتوى هي الدين التعبديّ لذلك فهي تشريعية، أمّا تصرفاته بالقضاء والإمامة فليست تشريعية لكونها من أمور الدنيا؛ فلا يقع بها التأسي والاقتداء، وهي اجتهادات بشرية لا عصمة لها ولا حجية فيها، ومن ثم فنحن موسع علينا في هذه الأبواب، نأخذها من الحكمة والتجارب.

ومن عاد إلى كلام القرافيّ سيصيبه الذهول من حجم التزوير والتزييف الذي يمارسه الرجل على قرائه؛ فليس في كلام القرافيّ قَطّ ما يدل على أنّ هذا هو قصده من التقسيم الذي ذهب إليه، والذي نسلم بصحته في أصله، “فليس المقصود بهذا التمييز إخراج تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم بالإمامة من الأمور التشريعية وحصرها في الأمور الدنيوية، وإنما المقصود هو تصحيح تلقي الناس لها وتعاملهم بمقتضاها، فما كان من تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم بالقضاء فلا يوكل إلى آحاد الناس التصرف بها إلا عن طريق قاضي الوقت (الحاكم) وما كان منها بالإمامة فلا يصح لآحاد الناس أن يتصرفوا فيها إلا عن طريق الإمام في الوقت، أما ما كان بطريق البلاغ أو الفتيا فموكول إلى كل فرد التصرف به مباشرة اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يتوقف على إمام أو حاكم”.

وهذا هو ما بينه القرافيّ نفسه في الفروق والذخيرة وأسهب في بيانه في تمييز الأحكام، فانظر إليه يقول: “فما فعله عليه السلام بطريق الإمامة كقسمة الغنائم وتفريق أموال بيت المال على المصالح، وإقامة الحدود وترتيب الجيوش، وقتال البغاة، وتوزيع الأقطاعات في القرى والمعادن، ونحو ذلك فلا يجوز لأحد الإقدام عليه إلا بإذن إمام الوقت الحاضر، لأنه صلى الله عليه وسلم إنما فعله بطريق الإمامة، وما استبيح إلا بإذنه، فكان ذلك شرعاً مقرِّراً لقوله تعالى: (واتبعوه لعلكم تهتدون)، وما فعله عليه الصلاة والسلام بطريق الحكم كالتمليك بالشفعة، وفسوخ الأنكحة والعقود … فلا يجوز لأحد أن يقدم عليه إلا بحكم الحاكم في الوقت الحاضر … وأما تصرفه عليه الصلاة والسلام بالفتيا والرسالة والتبليغ فذلك شرع يتقرر على الخلائق إلى يوم الدين، يلزمنا أن نتبع كل حكم مما بلغه إلينا عن ربه بسببه، من غير اعتبار حكم حاكم ولا نظر إمام، لأنه صلى الله عليه وسلم مُبَلِّغٌ لنا ارتباطَ ذلك الحكم بذلك السبب، وخلّى بين الخلائق وبين ربهم”.

وقد انطلق القرافيّ في تقسيمه هذا من التعظيم لكل ما يصدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبيان أنّ الغلط في التزيل لا يكون بسببه هو وإنما بسبب الاختلاف في فهم موقع التصرف النبويّ؛ ذلك “أنه صلى الله عليه وسلم له أن يتصرف بطريق الإمامة؛ لأنه الإمام الأعظم، وبطريق القضاء؛ لأنه القاضي الأحكم، وبطريق الفتيا؛ لأنه المفتي الأعلم، ويتفق العلماء في بعض التصرفات وإضافته إلى أحد هذه العبارات ويختلفون في بعضها”.

فليس مقصود الإمام قَطُّ إخراجٌ التصرفات بالإمامة أو القضاء من دائرة الحجية، وانظر إلى الإمام ابن الشّاط وهو يعلق على الفروق، فقد سمى الجميع حكما شرعياً، حيث يقول: “المتصرف في الحكم الشرعي إما أن يكون تصرفه فيه بتعريفه، وإما أن يكون بتنفيذه، فإن كان تصرفه فيه بتعريفه فذلك هو: الرسول إن كان هو المبلغ عن الله تعالى، وتصرفه هو الرسالة، وإلا فهو المفتي، وتصرفه هو الفتوى، وإن كان تصرفه فيه بتنفيذه فإما أن يكون تنفيذه ذلك بفصل وقضاء وإبرام وإمضاء، وإما أن لا يكون كذلك، فإن لم يكن كذلك فذلك هو الإمام، وتصرفه هو الإمامة، وإن كان كذلك فذلك هو القاضي، وتصرفه هو القضاء”.

وبذلك يتبين لنا أنّ هذا التقسيم لا حجة فيه لما ذهب إليه الدكتور العثمانيّ، ولا ينبغي أنْ ننسى أنّ الأصل في تصرفات النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّها للتأسي والاقتداء، وأنّها حجة على العباد، إلا ما ورد فيه دليل أو قامت معه قرينة تخرجه عن ذلك لكونه من خصائص النبيّ صلى الله عليه وسلم أو من الأمور الجبلية أو من أمور الدنيا، يقول الإمام الآمديّ: “إذا فعل النبي عليه السلام فعلاً ولم يكن بياناً لخطاب سابق، ولا قام الدليل على أنه من خواصه، وعلمت لنا صفته من الوجوب أو الندب أو الإباحة … فمعظم الأئمة من الفقهاء والمتكلمين متفقون على أننا مُتَعَبَّدون بالتأسي به في فعله واجباً كان أو مندوبا أو مباحا … والمختار إنما هو المذهب الجمهوري ودليله النص والإجماع، أما النص فقوله تعالى: {فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا}، ولولا أنه متأسَّى به في فعله ومتَّبَع، لما كان للآية معنى … وأيضا قوله تعالى: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني} ووجه الاستدلال به أنه جعل المتابعة له لازمة من محبة الله الواجبة، فلو لم تكن المتابعة له لازمة لزم من عدمها عدم المحبة الواجبة وذلك حرام بالإجماع، وأيضا قوله تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر}، ووجه الاحتجاج به أنه جعل التأسي بالنبي عليه السلام من لوازم رجاء الله تعالى واليوم الآخر، ويلزم من عدم التأسي عدم الملزوم، وهو الرجاء لله واليوم الآخر … وأما الإجماع فهو أن الصحابة كانوا مجمعين على الرجوع إلى أفعاله، كرجوعهم إلى تزويجه لميمونة وهو حرام، وفي تقبيله عليه السلام للحجر الأسود، وجواز تقبيله وهو صائم إلى غير ذلك من الوقائع الكثيرة التي لا تحصى”

وقد تعامل الصحابة مع هذه الحقيقة المستقرة بفقه ووعي، فإنّك “إذا تدبرت أحوال الصحابة مع النبيّ صلى الله عليه وسلم وجدت هذا ظاهراً في تعاطيهم مع ما كان يصدر عنه من تصرفات، فالأصل أنها موضع التسليم والانقياد، فإذا اشتبه عليهم طبيعة هذا التصرف بادروا إلى السؤال للتحقق بما يؤكد أو ينفي الطبيعة التي صدر عنها هذا التصرف بعد وجود قرينة دفعت لحالة الاشتباه، ولو كان لهم عزل السنة الدنيوية أو السياسية أو العسكرية عن التشريع لبادروا إلى الاعتراض، وإنّما كان سؤالهم ناشئا عن قضية طارئة على تصرف مخصوص مع استصحاب الأصل الذي تصدر عنه التصرفات النبوية”.

أمّا الأمور الدنيوية فهي شيء آخر مختلف عن كل هذه التقسيمات، يعرفها كل عارف بالفرق بين الدين والدنيا، فمن ذلك تأبير النخل، والغيلة التي همّ النبي بالنهي عنها، وغير ذلك مما يدخل في فنون الزراعة أو الصناعة أو التجارة أو الطب أو الهندسة أو المعمار والبناء أو غير ذلك.

عن عروة، عن عائشة، عن جدامة بنت وهب الأسدية، أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لقد هممت أن أنهى عن الغيلة، حتى ذكرت أن الروم وفارس يصنعون ذلك، فلا يضر أولادهم»، فقد همّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينهى عن الغيلة – وهي إتيان المرأة وهي حامل –  “لما خاف من فساد أجساد أمته وضعف قوتهم”، وعن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقوم يلقحون النخيل، فقال: «لو لم تفعلوا لصلح» قال: فخرج شيصا، فمر بهم فقال: «ما لنخلكم؟» قالوا: قلت كذا وكذا، قال: «أنتم أعلم بأمر دنياكم»، وفي حديث رافع: «إنما أنا بشر، إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي، فإنما أنا بشر».

هذه الأمور الدنيوية يمكن أن تقع في باب القضاء، كمهارة القاضي في استخلاص الحقيقة من أقوال المدَّعِيَيْنِ، فعن أم سلمة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إنكم تختصمون إليّ، ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض، فمن قضيت له بحق أخيه شيئاً بقوله؛ فإنما أقطع له قطعة من النار؛ فلا يأخذها “، فالطرائق العقلية التي يهتدي من خلالها القاضي إلى الحقيقة باستقراء كلام المتخاصمين أمر دنيويّ، بينما الأحكام المنظمة للقضاء والمتعلقة بالدعاوى والبينات وطرق الإثبات وشروط القاضي وأحوال نقض حكم القاضي وغير ذلك من الأمور الدينية التشريعية.

بل إنها من المحتمل أن تقع في باب العبادة، من ذلك ما اعتبره بعض العلماء وقع من رسول الله صلى الله عليه وسلم اتفاقاً، ولم يُرِدْ به أن يتأسى به الناس، فقد خرّج مسلم عن عائشة: «نزول الأبطح ليس بسنة، إنما نزله رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه كان أسمح لخروجه إذا خرج»، وعن أبي الطفيل، قال: قلت لابن عباس: يزعم قومك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، رمل بالبيت، وأن ذلك سنة. فقال: صدقوا وكذبوا … قلت: ويزعم قومك أنه طاف بين الصفا والمروة على بعير، وأن ذلك سنة. فقال: صدقوا وكذبوا. …” ، وبين له أنّهم صدقوا في أنّ الرسول فعله، وكذبوا في وصفهم لهذا الفعل بأنّه سنة.

“هذه الأمور الدنيوية يوجد منها في عالم السياسة وفي النظم السياسية الكثير المتنوع، فأغلب ما يدخل في باب الآليات والأدوات وما هو من قبيل الأمور التقنية المادية يدخل في أمور الدنيا، ومناهج الإدارة للدولة ومؤسساتها، وكذلك أساليب التعامل الدبلوماسي، وما شابه ذلك مما هو موكول إلى قدرات البشر يعد من أمور الدنيا، وما دامت كذلك فليست مما يشمله التشريع، وإنما هي متروكة للإبداع الإنسانيّ، وللحكمة الإنسانية، وللتجارب البشرية المتراكمة …

ولا شك أن آليات اختيار الحاكم وانتخابه، وآليات إدارة الشورى، وكذلك كل ما يمكن أن يقتبس من الغير إذا احتاجت الأمة إليه كالفصل بين السلطات وتوقيت عقد الإمامة وغير ذلك، ومثله جميع ما يدخره الزمان من مبتكرات العقل البشريّ في ميدان الآليات والأدوات؛ كل هذا ممّا تركته الشريعة الغراء للاجتهاد البشريّ والخبرة الإنسانية في إطار تحقيق المصلحة”.

وإذا كان الدكتور العثمانيّ قد خلط كثيراً بين ما هو من قبيل العاديات وما هو من قبيل الأمور الدنيوية؛ مما تسبب في خلط كبير في النتائج التي انتهى إليها فيما يتعلق بالسياسة ونظام الحكم؛ فإنه خلط كذلك خلطاً شديد الخطورة بين الممارسة السياسية وبين الأحكام السلطانية، فالأحكام السلطانية هي التي تختص ببيان النظام السياسي الإسلامي ومكوناته وقواعده التي تحكمه، والكتب التي تناولتها تختلف عن الكتب التي تناولت الممارسات السياسية، وهي التي سماها الدكتور العثمانيّ تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم بالإمامة، والتي سماها علماء السلف السياسة، وفي مرحلة متأخرة سموها السياسة الشرعية؛ تمييزاً لها عمّا ظهر بعد ذلك من ممارسات غير شرعية في السياسة … فهذان قسمان لا يصح أن يلتبس أحدهما بالآخر؛ لأن قسم الأحكام السلطانية هو الذي يحدد شكل الدولة الإسلامية، ويوضح أسس ومؤسسات النظام السياسيّ الإسلاميّ؛ ومن هنا تتسع فيه مساحة الثوابت وتضيق فيه مساحة المتغيرات، أما قسم الممارسة السياسية وتصرفات الإمام في تدبير الدولة فهذا مجال عمليّ متجدد؛  ومن هنا تتسع فيه مساحة المتغيرات وتضيق فيه مساحة الثوابت.

ومساحة الثوابت التي تتسع في الأول وتضيق في الثاني تشمل القواعد والأسس  والأحكام الثابتة، ومساحة المتغيرات التي تضيق في الأول وتتسع في الثاني تشمل مجالين، الأول: مجال الأحكام الشرعية الاجتهادية التي ترتبط بالعوائد أو تتعلق بالمصلحة، والتي تنطبق عليها قاعدة: لا ينكر اختلاف الأحكام باختلاف الأزمان، والثاني: مجال الأمور الدنيوية التي إن جاءت في الأحكام السلطانية تمثلت في الأدوات والآليات والأمور التقنية والفنية وغير ذلك، وإن جاءت في التصرفات السياسية تمثلت في التراتيب الإدارية والمهارات السياسية والقدرات الدبلوماسية وغير ذلك.

فكلا القسمين يشتمل على الثوابت والمتغيرات، كلا القسمين يشتمل على الأسس والأحكام الثابتة، كما يشتمل على الأحكام الاجتهادية المتغيرة وعلى الأمور الدنيوية، وكلا القسمين داخل في ميدان الفقه السياسي في الإسلام، وما يقال هنا في ميدان الفقه السياسيّ يقال أيضاً في ميدان القضاء، وغيره من الميادين، غير أنّ المساحات المتروكة للاجتهاد البشريّ أوسع في الميدان السياسيّ من الميادين الأخرى؛ لحاجته إلى التجديد استجابة للمتغيرات في حياة البشر…”.

الأساس الثالث: الذي اعتمد عليه العثمانيّ فهو زعمه أنّ الإسلام لم يأت بنظام للحكم:

واستدل على ذلك بأنّ الخلفاء اختلفت طرائق توليتهم اختلافاً يدل على أنّه ليس هناك حكم ثابت، وهذا – لعمر الحق – مجازفة أجرأ من المجازفة بالنفيس من المال في مقامرة خاسرة، فالثابت أنّ جميع الخلفاء تم اختيارهم عبر مرحلتين: مرحلة البيعة الخاصة ومرحلة البيعة العامة، فأمّا بيعة الخاصة فهي اختيار وعقد وتولية، وأما بيعة العامة فهي إقرار وإعلان للسمع والطاعة، وهي بمثابة استفتاء للأمة على اختيار نوابها وولاة أمرها للإمام؛ فإن أجازته الأمة ببيعة العامة أو الاستفتاء العام ثبت العقد واستقرت الإمامة، وإلا كان على أهل الحل والعقد أن يعيدوا الاختيار، هذا هو الثابت الذي لم يتغير.

أما الذي تغير من حالة لأخرى فهو بعض الإجراءات التي يمكن أن تدخل في حيز الأمور الاجتهادية والأحكام المتغيرة، مثل مشاركة الإمام لأهل الحلّ والعقد وترشيحه لأحد الصالحين للإمامة لتختاره الأمة، فيما سمي بالاستخلاف، وهو إجراء لا يلغي الحكم الثابت المستمر وهو البيعة بنوعيها: بيعة الخاصة وبيعة العامة، ومثل ترشيح عدد تختار منهم الأمة من شاءت كما فعل عمر، وكل هذه الإجراءات لا تضر بالأصل المستمر، وهو البيعة واختيار الأمة للحاكم، وكونها مصدر شرعية الحاكم.

وسياق الرواية التي روت استخلاف أبي بكر لعمر أوضح دليل على أنّ الاستخلاف لم يكن سوى مشاركة في الشورى والاختيار، روى ابن الجوزيّ في مناقب عمر: «لما ثقل أبو بكر رضي الله تعالى عنه واستبان له من نفسه، جمع الناس فقال: إنه قد نزل بي ما ترون، ولا أظنني إلا لمأتي، وقد أطلق الله أيمانكم من بيعتي، وحل عنكم عقدتي، ورد عليكم أمركم، فأمروا عليكم من أحببتم، فإنكم إن أمرتم عليكم في حياة مني كان أجدر ألا تختلفوا بعدي، فقاموا في ذلك وحلوا عنه فلم تستقم لهم، فقالوا: أرئ لنا يا خليفة رسول الله …». وبدأت بعدها المشورة ثم البيعة، فقوله: ردّ الله عليكم أمركم اعتراف منه وإقرار بانّ السلطان للأمة، وقولهم: أرئ لنا بعدما حاروا في الأمر ولم تستقم لهم استدعاء منهم له ليشاركهم في القرار، وعليه فليس هناك تغير في أصل طريقة التولية، وإنما التغير في بعض التفاصيل التي تنتسب إلى الأمور الاجتهادية أو إلى الأمور الدنيوية، والتي لا تضر بثبات المنهج.

هكذا استعرضنا بإيجاز نظرية العثمانيّ ورددنا عليها بما تيسر، كأنموذج لتأثر المفكرين والمتفقهين من بعض الإسلاميين بفكرة فصل الدين عن الدولة، والكثيرون في زماننا هذا يمضون على نفس الطري باسم التجديد، وما هو بتجديد ولكنه عين التضييع والتبديد، وفي المقابل هناك طائفة جامدة لا تريد أن تعترف بأنّ مجال السياسة به مساحات واسعة وفجوات عميقة تركها الشرع للعقل البشريّ ليبدع فيها، وكلا الفريقين أضرّ الدين أبلغ الضرر، وكما قال من قبل شكيب أرسلان: “فَقَدْ أَضَاعَ الإسلامَ جامدٌ وجاحدٌ” جاحد يلهث وراء كل غريب دخيل، وجامد لا يستفيد من أي جديد حتى لو كان مفيداً.

يقول البروفيسور الزعيم على عزت بيغوفيتش: “إنّ فكرة النهضة الإسلامية التي تنظر إلى الإسلام لا من حيث قدرته فقط على تهذيب الإنسان وإنما أيضاً علة تنظيم العالم؛ سوف تصطدم دائماً بنوعين من الناس، وهم المحافظون ودعاة الحداثة، يتعلق المحافظون بالأشكال القديمة، ويتطلع دعاة التحديث إلى الأشكال الأجنبية؛ يجر الأولون الإسلام إلى الوراء نحو الماضي، ويقحم الآخرون الإسلام في متاهات مستقبل أجنبيّ، ورغم هذا الاختلاف فإنَّ هذين النوعين من الناس بينهما قدر مشترك؛ فكلاهما ينظر للإسلام من زاوية ضيقة، حيث لا يرى فيه إلا ديناً مجرداً بالمعنى الأوربيّ لهذه العبارة” .

أجل؛ إنّ كلا الفريقين ينظر إلى الدين نظرة ضيقة، وإنّنا لفي حاجة إلى جهد واجتهاد أصحاب النظرة الواسعة العميقة، الذين يجددون الدين لا يبددونه، ويصعدون به إلى آفاق العزّ والتمكين.

ثانياً: مداخلة الدكتور محمد يسري إبراهيم:

شكر الله لفضيلة الدكتور عطية عدلان كلمته الجامعة حول مسالك التأثر بالفكرة العلمانية في الفكر السياسي الإسلامي المعاصر، والاختراقات التي أصابت العقل المسلم ومدى خطورتها في تغيير منارات المنهج الإسلامي على مدار القرون الماضية، وإن كانت هناك من كلمة عقب كلام الدكتور عطية، فإنه يمكن جعلها في دائرة التأكيد والإشارة إلى شيء من دواخل الفكر والنظر التي أصابت المسلمين اليوم، وهو ما يلزم أن يعقد أهل العلم وأهل النظر والفكر المعتبرين العزم على الرد على هذه المسالك والاختراقات والدواخل وبيان تهافتها، وإبراز ما تنطوي عليه المنظومة الإسلامية من قواعد وأصول وأسس وأحكام وتفاصيل وجهود علمية مباركة في تاريخ هذه الأمة تظهر حيويتها في هذا الجانب المهم من جوانب تفكيرها، وهو الفكر السياسي الإسلامي.

إن المتابع لتحولات التأثر بالفكرة العلمانية في الفكر السياسي الإسلامي يرى أن مدخلها يبدأ من فكرة العلمانية الجزئية، فالعلمانية كمنظمة فكرية تقوم على استبعاد دور الدين من المجال العام، وحصره في المجال الفردي والخاص، فالعلمانية الجزئية تستبعد الدين من المجال العام، ومن الدستور والقانون والنظام السياسي والدولة، وتترك مساحة لدور الدين في الحياة الاجتماعية والفردية الخاصة. بخلاف العلمانية الشاملة التي حاربت الدين حتى في المجال الاجتماعي والفردي، وبالتالي أدت إلى غياب شبه كامل للدين، وعليه تصبح العلمانية الجزئية هي الحل، فهي وسيلة لبناء النظام السياسي طبقاً لتقاليد النموذج السياسي الغربي، وتسمح بتطبيق الليبرالية الديمقراطية، وحماية نموذج الدولة القومية القطرية، دون معاداة للدين، ودون حصار لدور الدين في الحياة الاجتماعية والفردية.

وحتى يتم إقناع الحركة الإسلامية بالعلمانية الجزئية، يتم تسويقها بصور مختلفة، فهي مرات تسوق بوصفها نوعاً من الإجراءات والأدوات الهادفة للتمييز بين العمل السياسي والعمل الديني، ومرات تسوق بوصفها معايير دولية ضرورية للنظام السياسي الناجح، ولكنها في أغلب المرات تسوق بوصفها الطريقة الوحيدة لتحقيق المساواة بين الناس جميعاً، مما يعني أن أي منظومة أخرى ومنها المنظومة الإسلامية، لن تحقق المساواة بين الجميع بقدر ما يمكن تحقيق تلك المساواة من خلال المعايير السياسية الليبرالية.

وفكرة العلمانية الجزئية تسمح بتسويق فكرة الإسلامية الجزئية؛ حيث يتم الترويج لفكرة أن المرجعية الإسلامية هي مرجعية أخلاقية عامة، وهي مخزن القيم، وعليه تصبح الفكرة الإسلامية هي مخزن للأخلاق والقيم، وتصبح العلمانية الجزئية هي مصدر قواعد العمل السياسي، أي مصدر الدستور، وتصبح الإسلامية الجزئية وسيلة لنشر الأخلاق الإسلامية في المجتمع وفي حياة الفرد،  كما تصبح وسيلة لنشر الأخلاق الإسلامية في المجال السياسي والاقتصادي، حيث تتحول الفكرة الإسلامية إلى نموذج أخلاقي، يتم دعم الحياة العامة به.

ويا لها من حيلة قد تنطلي على البعض فيقتنع بها، ثم يسعى في الترويج لها غير مدرك أحياناً أنه إنما يبشر بعلمانية متدثرة في ثوب ليبرالي، ومن أسف أن يضع مفكر غير مسلم يده على تلك الحيلة، في حين أن بعض المسلمين ليس فقط تنطلي عليه بل هو من دعاتها ومروجيها، فلو علم أهل الإسلام أن الإقرار بوقوع انحراف تاريخي في جانب السياسة الشرعية وتداول السلطة وانتقالها عبر عصور الخلافة التي تحكم بالشريعة سوف يفضي إلى تبني علمانية جزئية تحت شعار الإصلاح أو التجديد، لأعادوا النظر مراراً والتأمر تكراراً في تلك المقولات التي شابها الحق في أوائلها وغلب عليها الباطل في منتهاها.

واللافت للنظر كثرة التأكيد على هذا الكلام حتى يكاد يجزم المطالع أن هناك استبطاناً لمقولات علي عبدالرازق، ومحاولة جديدة لشرعية تلك المقولات وإلباسها لبوساً من الشرعية والقبول، والخلاصة أمام هذا الطرح أن الإطار العام للبناء السياسي قد تغير بشكل جذري، وعرف تحولات عديدة وأثر في تطور مفهوم الدولة بين القديم والجديد، بحيث تنتهي هذه المقدمات إلى أن مفهوم الدولة بالمعنى الحديث غير موجود في التاريخ الإسلامي ولا الإنساني قبل العصر الحديث، وعلى اعتبار أننا أمام نوازل في الشأن السياسي بحسبهم وتحتاج إلى اجتهاد مطلق جديد في الفهم والتأصيل، فإن البعض ينادي إلى القول: “بأن الديمقراطية هي بضاعتنا الشورية التي زهدنا فيها”، “وأن الديمقراطية في هذا العصر هي الوسيلة المثلى لتولية الحكام وعزلهم، ولم يعرف البشر حتى اليوم نظاماً أفضل من نظام الانتخابات الحر المباشر”.

ولذلك وجد من الإسلاميين كالعثماني من يقول: “إن الأمة الإسلامية بمعناها الديني هو الأصل، وأن التكييفات السياسية لوجود المسلمين عبر التاريخ إنما هي اجتهادات لمواجهة تكاليف الحياة الاجتماعية وتحقيق مقاصد الدين في  الواقع، فهي فوضت لهم مثل ما فوضت لهم أمور دنياهم، وأن وجود دولة إسلامية بمعنى تعبيرها عن الأمة الإسلامية ليست مقصوداً شرعياً دينياً، ولكنها حاجة ومعطى سياسيان”، وقد انتهى به هذا التنظير إلى أن الأصول الإسلامية لا تتنافى في شيء مع مفهوم الدولة المدنية، بل تؤسس لها على مختلف المستويات، وأن اعتبار إقامة الدولة الإسلامية أو الخلافة الإسلامية واجباً دينياً أو شرعياً لا ينسجم مع تلك الأصول، وبناء على ذلك تتحول الأحكام الشرعية إلى قوانين مدنية، تأتي وفقاً للآليات السياسية وتذهب وفقاً لها أيضاً، حيث إن المشروعية العليا للناس وليس لله في شرعه وأمره!، وخلاصة القول ليس بين هذا الطرح والعلمانية الجزئية من اختلاف حقيقي أو جوهري، إنه ذات الطرح والمضمون في لباس وحلة جديدة تزين الباطل وتلبسه لبوس الحق.

إن النظام الإسلامي منظومة قواعد ضابطة ومقاصد حاكمة، لكن معها وعلى التوازي هناك ذخيرة نقلية ونصوص جزئية تفصيلية تتعلق بالسياسة الشرعية في القضاء والجهاد والحكم وركائزه وأدواته وما يتعلق به، كما يتضمن ذخيرة أخرى من أقوال الصحابة وتصرفاتهم السياسية لا سيما في مرحلة الراشدين، وعهد أمراء الصحابة ومن ألحق بهم من التابعين كعمر بن عبدالعزيز، ولكن الانطلاق لدى المتأثرين بالعلمانية من جزء هذه المقدمة المسلمة في جانب القواعد والمقاصد يفضي إلى نتيجة عجيبة مستنكرة، وهي: أن الإسلام لم يأت في النظام السياسي بشيء؛ لأن هذه الكليات موجودة عند  كل الأمم والحضارات، ولا يوجد أحد في الدنيا لا يأخذ بهذه المبادئ، غير أن لكل ثقافة تفاصيلها ومحدداتها لهذه المفاهيم، وحين نلغي الأحكام الشرعية المفصلة لهذه المبادئ فإننا في الحقيقة قد ألغينا الحكم الإسلامي، فالكليات معنى ذهني تجريدي لا يقوم بدون تفصيلات وتفريعات، وحين تبتعد الفروع والجزئيات فإن الكليات والمقاصد التي يؤتى بها تكون مقاصد وكليات أخرى ليست هي الكليات والمقاصد الشرعية، فالمقصد الشرعي والكل الشرعي معتمد ومفسر بجزئياته وفروعه الشرعية.

 

ثالثاً: اتجاهات النقاش:

اتجه النقاش حول موضوع الندوة -بحكم ما أثاره من قضايا ومسائل وردود وتقويم لمسالك التأثر بالأنساق المغايرة للنسق الإسلامي- نحو طرح بعض الأفكار والرؤى التي تأخذ بموضوعها إلى حيز التأكيد على أهمية إشاعته بين المسلمين وضرورة تفعيله في واقع الناس بما يحقق الوعي والصيانة والحماية للمنظومة الإسلامية مضموناً ومنهجاً، وفيما يأتي أبرز هذه الرؤى التي دار حولها النقاش:

(1) الشبهة التي دخلت على بعض الإسلاميين ممن ابتلوا بالممارسة السياسية في الواقع المعاصر هي الغفلة بقصد أو بدون قصد عن كون الظاهرة السياسية المعاصرة تحكمها فكرة الدولة القومية الحديثة، ونموذج الدولة الحديثة ما هو إلا انعكاس لفكرة الحداثة التي هي من بنات أفكار الغرب بعد الصراع بين الكنيسة ورواد الحداثة، وقد انتهى بهم الأمر إلى إزاحة الدين عن الحياة وخاصة الدولة، ولذلك نموذج الدولة الذي عممه الغرب في العالم ما هو إلا تأثر بدين جديد في الواقع، وقد قال برتراند راسل إن الحداثة هي الدين معكوساً، فالدولة التي أراد الإسلاميون ممارسة السياسة في سياقها ما هي إلا فكرة تستبطن ديناً وعقيدة ورؤية للعالم، وهو ما يعني أن كثيراً من الأطروحات التي يسوقها المتأثرون بالعلمانية والليبرالية من الإسلاميين تفضي بهم إلى الاضطراب في القول والعمل لا يمكنهم الفكاك منه كما هو مشاهد ومحسوس في الواقع، والأخطر من ذلك أن يقوموا بتكييف هذه الرؤى والأفكار بلي أعناق النصوص وإخراجها عن مقاصدها التي قصدها الشارع، وهو ما يفضي بالضرورة إلى قراءات مشوهة للشريعة وتغيير لمناراتها في البيئة الإسلامية.

(2) الاتكاء على فكرة المقاصد في حرف مناهج النظر الشرعي المعتبرة أضحت سمة بارزة لكثير من الإسلاميين المتأثرين بالفكرة العلمانية، ولئن كانت المقاصد الشرعية مسلكاً من مسالك النظر الشرعي المعتبر يظهر به معقول النص ويثبت به صلاحية الشريعة بمقتضى عمومها وشمولها الزماني والمكاني وفق ما يقرره علماء الشريعة المعتبرين على مدار القرون السابقة، فإنها أضحت اليوم عند البعض مساراً ينقض الشريعة ومقوماتها بما تقتضيه ظواهر نصوصها ومنطوقها ومفهومها ومعقولها؛ فجعلوا الشريعة بتقريراتهم عرضة للنقض بتغيير معاني نصوصها على وفق ما يثيره الواقع الإنساني؛ والنتيجة بموجب هذه التقريرات تحكيم الواقع في الشريعة ولا تحكيمها وتنزيلها فيه، وهي من القضايا الخطيرة التي يلزم المرابطة في دفعها ورفعها عن العقل المسلم.

(3) جاء على لسان الدكتور عطية في الرد على مسالك المتأثرين بالفكرة العلمانية في السياق السياسي الإسلامي أن الشريعة تضمنت قواعد وأسساً وأصولاً في سياقها الكلي، وتضمنت كذلك أحكاماً تفصيلية جزئية وفرعية تدور في سياق الثوابت والمتغيرات على تفاوت في أقدارها بحسب مجالات عملها، وهذا يستدعي المرابطة من قبل علماء السياسة الشرعية والأحكام السلطانية على عمل موسوعي يستقرأ هذه الثوابت، بحيث تكون مرجعاً للأمة وأجيالها وتقطع الطريق على تلكم الرؤى والأفكار والنظرات التي تحرف معاني الشريعة ومقاصدها في هذا السياق العلمي الهام، وهذا العمل الموسوعي لا يمكن أن يتحقق بجهود فردية، بل ينبغي أن ترابط عليه جمهرة من النخب والمؤسسات والمراكز والجامعات والمجامع بحسب ما يتيسر من طاقات وقدرات.

(4)  قد يكون من المناسب استكمالاً لموضوع الندوة عقد ندوة أخرى مجالها بيان المدافعة لمشروع التأثر بالفكرة العلمانية في العصر الحديث، ومدى تأثر الواقع الإسلامي بها، وجهود علماء الأمة المعاصرين في دفع هذه الفكرة عن الفكر السياسي الإسلامي، والنظر في سياقات الفكرة المعاصرة وانتمائها لتلكم الأطروحات الأولى التي ظهرت في بدايات القرن العشرين وخاصة على يد علي عبد الرازق، والتمكين للفكرة فيما بعد إلى القدر الذي تأثر بها جماعة من المتشرعين من المعاصرين، وقيامهم بالتأصيل والتنظير لها في سياقات مختلفة على مستوى التأليف والتصنيف تارة، وعلى مستوى النشاطات والفعاليات عبر المؤتمرات والندوات والمحاضرات والإعلام تارة أخرى.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

 

زر الذهاب إلى الأعلى