سياسيةفكريةندوات

(تسارع مواجهة القرن الحضارية … الإسلام يتحدى)

تقرير الندوة الشهرية

عقد مركز رؤيا للبحوث والدراسات ندوته الشهرية عبر تطبيق الزوم تحت عنوان: (تسارع مواجهة القرن الحضارية … الإسلام يتحدى)، يوم الأحد 4/شوال/1442هـ الموافق 16/مايو/2021م، وقد تزامن عقد هذه الندوة مع الهجمة الشرسة التي شنها الكيان الصهيوني على بيت المقدس وغزة والمرابطين فيهما، والمركز يواكب بشكل مستمر مستجدات الأحداث في العالم الإسلامي وعلاقاته بالعوالم الأخرى بقراءات منهجية واعية فيما نحسب تراعي الربط بين هذه الأحداث والقواعد والأصول الحاكمة في توجيهها وتوظيفها في إعادة الوعي للعقل المسلم وبنائه على أسس منهاجية رصينة تجعله في دائرة من المناعة والحصانة الفكرية عند تعامله مع الأحداث وفواعلها، وقد استضاف المركز لطرح هذا الموضوع على طاولة البحث والمدارسة الأستاذ المهندس طاهر صيام الباحث في السياسة الغربية والاقتصاد العالمي، وشارك في الندوة ثلة من المفكرين والأساتذة وأهل الفكر الذين أثروا الموضوع بمداخلاتهم واستفساراتهم.

أولاً: نص محاضرة المهندس طاهر صيام:

تتضمن المحاضرة عدة محاور، أبرزها:

المحور الأول: نظرة عامة في حركة تاريخ الأمة وأثر الصفويين والرافضة:

نحن بصدد صراع حضاري طويل منذ البعثة النبوية ويأخذ أشكالاً وأبعاداً متعددة، وبداية لا بد لأمتنا الحية أن ترجع لتاريخها حتى نستشرف مستقبلها، فهذا من المسلمات، فأمة مسلمة حية بكل هذه الحضارة والتاريخ لا بد أن في تاريخها الكثير والكثير من العبر والدروس، وهذا الذي استدعى المستشرقين ليصبوا جهدهم قرناً بعد قرن في دراسة تاريخ العالم الإسلامي وطبائع الشعوب المسلمة، واستخلصوا منها دروساً وقاموا بعملية محاكاة للتاريخ، فما يحصل اليوم من تخطيط وتدبير إنما هو نتاج دراسات طويلة عن الأمة لم تبدأ في المعاهد والمؤسسات الحديثة، بل بدأت منذ قرون.

وحري بأمتنا أن تنظر في تاريخها وتقلع منه؛ فنحن أولى بالدروس التاريخية؛ لأن التاريخ يختصر الأعمار وهو معمل الأفكار، فوجب هنا السير مع التاريخ، ولعل الشيخ سفر الحوالي حين كتب سفره (المسلمون والحضارة الغربية) اتبع ذات المنهج الذي أقصد اتباعه في هذا الموضوع؛ لأنه برأينا المنهج الصحيح، فلم يفصل التاريخ، بل قرأه بمراحله المتواصلة وصولاً إلى الواقع واستشرافاً للمستقبل.

ولنبدأ من تاريخ مفصلي في غاية الأهمية، وهو سنة 132هـ، في هذه السنة وفي يوم 14 رمضان دخل أبو مسلم الخراساني دمشق وأعلن نهاية الخلافة الأموية، وهذا الإعلان كان سبباً في انتهاء الخلافة والولاية العامة للمسلمين على جميع أراضيهم إلى اليوم، فمنذ ذلك التاريخ إلى اليوم لم تعد للمسلمين ولاية عامة على سائر أراضيهم المسلمة.

الحضارة الإسلامية بدأت من عهد الأمويين حيث عرَّبوا الدواوين وضربوا النقود، وكان من أبرز الوجوه آنذاك عمر بن عبدالعزيز رحمه الله الذي قام بعمل مفصلي، حيث فتح الخزائن للعلماء والتعليم، وأصبح حوله ما يشبه الجامعة، وقام بخطوة في غاية الأهمية تعد أحد مكامن القوة في الأمة وهي تعليم الأعاجم بعد فتح بلادهم، فضلاً عن خطوة أخرى لا تقل أهمية وهي دعوته لتدوين السنة.

وبعد السقوط المدوي للخلافة الأموية على يد المسوِّدة ومجئ العباسيين وخاصة في مرحلة أبي جعفر المنصور وبنائه بغداد سنة 145هـ التي استغرق بناؤها 5 سنوات ظهرت معالم حضارية أخرى في الأمة، حيث ظهر علم الكيمياء في الوجود على يد أبي حيان ووضع علم المعادن والإذابة والتقطير والأحماض، وظهر كذلك علم الفلك لأول مرة، ثم جاءت مرحلة هارون الرشيد والمأمون، وفي عهد المأمون شهدت الحضارة الإسلامية ازدهاراً من جهة الاهتمام بالبحث العلمي، فقد تأسست دار الحكمة التي كانت تحتوي على مكتبة عظيمة وظهر الوراقون كدلالة على انتشار العلم والعلماء في كل فن من الفنون مما تيسر آنذاك.

ثم جاء عهد المعتصم الذي تميز بالشدة واستقدم الترك، وهذه المرحلة الزمنية شهدت ظاهرتين: الأولى إيجابية وهي تأسيس أربع جامعات إسلامية، والثانية ظاهرة سلبية وهي تكوُّن إمارات السلاطين الدالة على بدايات التفرق والتجزؤ في الأمة المسلمة، ففيها خرجت الهند عن الخلافة الإسلامية وإن كانت تابعة لها اسمياً، حيث ظهرت الدولة الغزنوية، وظهر أيضاً الأدارسة والأغالبة الذين أسسوا مدينة فاس وجامعة القرويين فيها، وعقب ذلك وفي سنة 350هـ أنشأ الحكم بن الناصر في الأندلس مكتبة عظيمة في قرطبة وكان فيها 400 ألف مجلد.

وعبر التاريخ كانت هناك شخصيات عظيمة قامت بأعمال كبيرة في مجال العلم ونشره في إطار جامعات ومدارس، فعلى سبيل المثال قام نور الدين زنكي الذي عاصره الإمام ابن الأثير على تأسيس الحاضرة العلمية في دمشق، كما عمل الأشرف قلاوون وأولاده على إنشاء مكتبات علمية في القاهرة، وكان لهم جهد علمي بقي أثره إلى عهد الخديوي، كما ظهرت الترجمة العكسية في قرطبة، وهناك شخصية مهمة لم يُلتفت إليها في السياق العلمي ولكنها عُرفت بإنجازها العسكري وهي شخصية محمد الفاتح، حيث قام بنهضة علمية وتعليمية في  القسطنطينية.

مع دخول السنة 300هـ حصل تحول عظيم جداً وهو انتهاء مرحلة القرون الثلاثة المفضلة، وقد شهدت ظهور الفرق المنحرفة، حيث ظهر القرامطة في شرق الجزيرة العربية، والعبيديون في إفريقيا، وظهرت الدولة البويهية الرافضية سنة 350هـ، كما ظهرت الدولة الحمدانية الشيعية في بلاد الشام، وقد أضحى العالم الإسلامي في تلك المرحلة الزمنية أسيراً للتشيع الذي عانى منه المسلمون معاناة شديدة في دينهم ودنياهم ومعاشهم إلى القدر الذي دخلوا فيه إلى دائرة الاضطرار بأكل الميتة وغير ذلك مما دونته لنا مدونات التاريخ.

المحور الثاني: شواهد التاريخ على حيوية الأمة ونهوضها بعد كبواتها واستمرار دور الرافضة:

ولأن الأمة المسلمة أمة حية كما أثبت ذلك تاريخها ووقائعها، فقد شهد العالم الإسلامي تحركاً في مواجهة الحملات ضدها، والتحرك هذه المرة لم يأت من الحواضر الإسلامية المعروفة، وإنما من أطراف العالم الإسلامي، فقد تحرك الغوريون في خراسان وضغطوا على البويهيين، كما ظهر يوسف بن تاشفين في شمال السنغال ودخل الأندلس وأمد في عمره بضعة قرون، كما تحرك السلاجقة في القلب ودخلوا بقوة في عمق الدولة البويهية والحمدانية، ولكن بقي الفاطميون متمسكين بالقاهرة وهؤلاء شرهم عظيم.

عادت السيطرة لأهل السنة بفضل المسلمين الجدد، وفي خضم هذه التحولات في العالم الإسلامي لم يكن الصليبيون بعيدين عن المشهد، فقد تحركوا وكان لهم أكثر من حلف مع الباطنية، وقد استثمروهم في غزو العالم الإسلامي والهجوم عليه، فأول دخول إلى بيت المقدس كان بخيانة من الرافضة بالتواطؤ مع الفاطميين من جهة البحر ومع الإسماعيليين من جهة البر، وشر الباطنية لم يتوقف، ففي الوقت الذي واجه فيه عماد الدين زنكي خطر الصليبيين عمد الإسماعيلية الحشاشة إلى الغدر به وقتله بعد دخوله دمشق ومحاولته تحرير بيت المقدس من الصليبيين، كما أن هناك غدراً آخر من الرافضة حين كان بايزيد الصاعقة يواجه البيزنطيين في حصار القسطنطينية عمد تيمورلنك إلى الهجوم على الأناضول بقصد إضعاف القوة العسكرية لبايزيد وفك الحصار عن القسطنطينية، وخاض معهم بايزيد معركة أنقرة وكانت الغلبة في أولها له، ولكن فصائل من الترك الشيعة انقلبوا عليه وغدروا به، فهزم بسبب ذلك وأسر ومات كمداً في السجن رحمه الله.

وبقيت المواجهة مستمرة بين العالم الإسلامي وغيره، وكان من حسنات آل الزنكي القائد صلاح الدين الأيوبي، فيذهب أسد الدين شيركو إلى القاهرة ومعه صلاح الدين، ويقوم الأخير بالقضاء على الفاطميين في القاهرة، واقترن مع النصر العسكري قرارات هامة جداً في جوانب أخرى: فقد ألغى منهج الرافضة، وأعاد المذاهب الأربعة، وعين القضاة السنة، وأغلق الأزهر الذي كان رافضياً آنذاك وبقي مغلقاً 100 سنة حتى أعاد فتحه الظاهر بيبرس، وفي هذا رد على القائلين إن الصراع بين صلاح الدين والفاطميين صراع سياسي وليس دينياً، بل هو صراع عقدي.

وفي سياق المواجهة مع الصليبيين ينتصر صلاح الدين في حطين سنة 583هـ، ولكن الحملات الصليبية لم تنته، كما أن حملات التتار قد شهدت بعد هذه المرحلة الزمنية تسارعاً كبيراً لغزو العالم الإسلامي منذ بدايات القرن السابع الهجري، فسقطت بغداد سنة 656هـ بخيانة الرافضة، والذي واجههم هذه المرة هم المماليك الذين أتى بهم نجم الدين أيوب إلى مصر، حيث تصدوا للتتار وهزموهم في عين جالوت سنة 658هـ، وأيضاً قاتلهم السلاجقة بقوة في الأناضول، وخاض معهم المماليك معركة شقحب سنة 702هـ وقد شارك فيها شيخ الإسلام ابن تيمية بدور كبير.

وأعقب ذلك ظهور الدولة العثمانية الثانية على يد مراد الثاني في القرن التاسع الهجري، وقد قصد محمد الفاتح فتح روما ونزل بسواحل إيطاليا واحتلها ولكن مرض هناك وتوفي.

المحور الثالث: مرحلة ما بعد سقوط الأندلس وتشكل الحضارة الغربية ثم مرحلة الاستعمار:

ومع دخول السنة 900 للهجرة شهد العالم أربعة أحداث كبيرة:

الأول: سقوط الأندلس سنة 903ه.

الثاني: سقوط القبيلة التترية الذهبية المسلمة (القرم) بيد الروس.

الثالث: اكتشاف أمريكا سنة 1492م.

الرابع: اكتشاف رأس الرجاء الصالح على يد البرتغاليين.

ومقصودنا باكتشاف أمريكا إنما هو من جهة النصارى، وإلا فإن المسلمين كانوا قد اكتشفوها قبلهم بقرون، وآذنت تلك الفترة ببدء الحملات الاستعمارية، فأضحت الدولة العثمانية تُضرب من كل اتجاه، فالبرتغاليون احتلوا ساحل عمان وبدؤوا يضربون السواحل الهندية وكانت مسلمة آنذاك، وقد تداولت عليها الدولة الغزنوية والدولة الغورية وكلتاهما سنيتان، ولم يكتف الفرنجة والإسبان بدخول الأندلس بل نزلوا كذلك إلى سواحل أفريقيا، وكانت الدولة العثمانية نشطة باتجاه أوربا أكثر من غيرها من الجهات؛ لسببين الأول الخطر الصليبي، والثاني أن المماليك كان لهم وجود قوي في المشهد في مصر وأفريقيا والجزيرة العربية.

استمرت هجمات الصليبيين على الدولة العثمانية والعالم الإسلامي وكان المسلمون يواجهونها بكل قوة، فقد تحرك السلطان مراد وأرسل القائد خير الدين بارباروسا حيث انتبهوا إلى الخطر الإسباني المتوجه إلى شمال أفريقيا، فتدخلت الدولة العثمانية وضربت الإسبان ودخل شمال أفريقيا منذ ذلك الوقت تحت الدولة العثمانية، كما حاول البرتغاليون احتلال الجزيرة العربية وأرض الحجاز فتصدى لهم العثمانيون وأمَّنوا مناطق نجد والحجاز وأضحت تابعة لهم، والذي ينبغي التنبه إليه في استعراض هذه الوقائع أن هناك ظهيراً رئيساً للحملات الصليبية والمغولية وهو الصفويون والرافضة، فهذه الحملات كانت تحدث بالتنسيق مع الصفويين والرافضة في العالم الإسلامي.

وفي الوقت الذي شهد فيه العالم الإسلامي تراجعاً حضارياً في شكله التدريجي كانت هناك تحولات كبيرة في العالم الآخر، ونقصد هنا العالم الجديد أمريكا، وسنذكر تواريخ مهمة بشكل سريع قبل الدخول في هذا المحور:

دخول فرنسا الجزائر عام 1830م.

حزب الاتحاد والترقي ظهر عام 1883م.

مؤتمر القوميين العرب في باريس عام 1913م.

سايكس بيكو عام 1916م.

وعد بلفور عام 1917م.

خلع السلطان عبدالحميد الثاني عام 1909م.

الحرب العالمية الأولى عام 1914م.

المحور الرابع: انبثاق الديمقراطية الأوربية والأمريكية وتشكل الكنيسة البروتستانتية:

قبل الحديث عن العالم الجديد وتشكله والمقصود هنا أمريكا، لا بد من الوقوف مع التحولات والتطورات التي حدثت في أوربا، فالأوربيون خرجوا من العصور الوسطى المظلمة بفضل العلوم التي اقتبسوها من المسلمين في الأندلس والقسطنطينية، ومع ذلك كانت لهم معضلة كبيرة مستعصية وهي الكنيسة الكاثوليكية، فهذه الكنيسة كانت تسيطر على مقاليد الأمور في أوربا من حيث طقوسها وفرضها المكوس على الناس وارتباط الأباطرة والأمراء بها على سبيل التبعية لها، وعلى إثر ذلك ظهرت ما يسمى بحركة البروتستانت أي حركة المحتجين، وشهدت أوربا بسبب ذلك معارك كبيرة في إيرلندا وغيرها، وبالرغم من الانتصارات التي حققها البروتستانت على الكنيسة وتشكل الدولة القومية الحديثة عقب مرحلة وستفاليا، إلا أن البروتستانت قرروا الهجرة إلى عالم جديد وانتهاجهم نهجاً مغايراً لما كانت عليه الكنيسة الكاثوليكية، فالحركة البروتستانتية فكرتها إصلاح الكنيسة، وفصل التدين عن الحياة العامة.

وكانت أول طائفة هاجرت إلى أمريكا كانت تسمى البيورتانز، وهي أرقى طوائف البروتستانت، وقد نزلوا في مناطق ولايات تسمى (نيو إنكلاند)، فأقاموا في مستوطنات ولم يصطدموا مع الهنود سكان أمريكا آنذاك، وحاولوا أول مرة انتهاج السياسة الاستقلالية والبعد عن الضرائب مع تدينهم الشخصي، ولكن مع هذا لا مجال عندهم للتدخل في الحرية الشخصية، وبهذا الفكر والمنطق ظهرت الديمقراطية في أمريكا قبل ظهورها في أوربا بسنوات، وعقب ذلك شهدت أمريكا حكم الإنكليز لها ولكندا وقد عمدوا إلى فرض الضرائب على العامة، فثار هنا البروتستانت وانتفضوا فيما سمي بالثورة الأمريكية في أواخر القرن الثامن عشر.

في هذه المرحلة بدأت الديمقراطية تتشكل في أمريكا وأوربا، ولكن بفوارق مهمة، فالديمقراطية في أوربا بقيت مركزية مرتبطة بالملوك والأباطرة، فالحكم مركزي والضرائب تجنى مركزياً، بينما في أمريكا كانت هناك 13 ولاية كان الاتفاق الأولي بينها كونفدراليا، ويجمعهم مجلس شيوخ ولا يوجد رئيس موحد لهذه الولايات، وإنما كل ولاية لها استقلاليتها عن غيرها، ثم بعد مجئ جورج واشنطن وانتخابه رئيساً عام 1790م عمل على جعل الاتفاق بين الولايات فدرالياً، فأسسوا مجلسي الشيوخ والنواب وفيهما ممثلون من الولايات كلها آنذاك، والولايات تقوم بجني الضرائب المحلية، كما أن هناك حكومة مركزية في واشنطن وأضحت منذ ذلك الوقت هي العاصمة السياسية للبلاد.

وفي إطار قضية الدين والسياسة في أمريكا وكما أشرنا إلى أنه من المحرمات الدخول في الحرية الشخصية، ولذلك قامت في المجتمع الأمريكي قيم الحرية والاقتصاد الحر، وبالرغم من  أن الرؤوساء الأمريكان في مرحلة القرن التاسع عشر كان متدينين إلا أنهم لم يستطيعوا إدخال الدين في الدستور الأمريكي ولا في السياسات المحلية للولايات، والذي حصل فيما بعد أن طوائف من البروتستانت الأقل تعليماً بدأت تصل إلى أمريكا تباعاً في الولايات الجنوبية، وتشكلت بهم مجموعات ولايات زراعية، وكانت هذه الولايات أكثر تديناً وفقراً لكنها أيضاً كانت تستعبد السود بطريقة غريبة، أما الشمال، فكان صناعياً وكان يقطنه البيورتانز، وقد أسسوا فيه جامعات مرموقة من مثل هارفرد وييل، والأخيرة تخرج منها معظم رؤساء أمريكا، وبسبب مطالبات الجنوب بالكونفدرالية واللامركزية بدأت الحرب الأمريكية في النصف الثاني من القرن الثامن عشر وقد ذهب ضحيتها مليونان من البشر بين قتيل وجريح، وبعدها استقرت الولايات المتحدة حتى وصلت عام 1900م وهي دولة عظمى.

ومما يلزم التنبه إليه في سياق الكنيسة البروتستانتية أنها ذات طبيعة متغيرة، فهي في كل قضية من القضايا تقوم بتعديل عقيدتها، وتخرج منها مذاهب وعقائد جديدة، وعلى إثر هذا التجدد في قضاياها وعقيدتها ظهر ما يسمى بالإنجيليين، وهؤلاء يؤمنون بالتوراة وعودة المسيح والخلاص، إلا  أنهم كانوا قلة أول أمرهم، ولكن بتحركهم وتكاثرهم وخاصة في الجنوب الزراعي بشكل كبير على حساب أهل الشمال الصناعي، فضلاً عن ظهور التبشير الداخلي في أمريكا والراديو الذي استثمر لصالح الإنجيليين، ترتب على ذلك تزايد أعدادهم وتمددهم.

المحور الخامس: الأصولية المسيحية وحقيقة قوة الأنجليكانية الديمغرافية وأدواتها واستهدافها للأمة المسلمة:

وبوصولنا بالقرب من عام 1940م أضحى هناك تمكن لدى اللوبيات الأمريكية سواء لوبيات الأسلحة أو لوبيات الدخان في الولايات الجنوبية، ومن خلالهم بدأ الكثير يعتنق المذهب الإنجيلي، هذا المذهب بتشكله هو في الأصل جزء من البروتستانتية ولكن يوجد فرق جوهري عنه، وهو أن الإنجيليين يقدسون العهد القديم وينظرون إلى بيت المقدس نظرة خاصة تتوافق مع الصهاينة، وعندهم أن الإنجيلي ينبغي أن تعاد ولادته مثلما حصل مع كارتر وبوش، حين خرجا في الإعلام وقالا قد ولدنا من جديد، ومعنى ولادتهم من جديد تطهرهم بهذا المعتقد الإنجيلي.

في عام 1945م أصبح الإنجيليون جاهزين للانقضاض على السياسة الأمريكية داخلياً وخارجياً، وبالرغم من أن الدين له حضوره في السياسة الخارجية لأمريكا، إلا أن وجوده في السياسة الداخلية كان يعد من المحرمات، ولكن استطاعت اللوبيات أن تأتي بشخصيتين إنجيليتين هما ترومان، وبيل جراهام، وهذا الأخير يعد من أعظم الشخصيات الإنجليكانية وهو عبارة عن مملكة في حد ذاته بقدراته المادية الكبيرة التي يوظفها للتبشير بهذا المذهب، وكان بوش الابن كما ذكر في مذكراته لا ينام إلا بعد أن يتحدث معه.

ثم جاء آيزنهاور ونائبه نيكسون وقد استمرا في الحكم ثمانية أعوام، ولذلك نيكسون لم يأت من فراغ، بل له من الدراية والخبرة السياسية الكبيرة التي جعلته يتبوأ دوراً كبيراً في السياسة الأمريكية بعد فترة السيتينات من القرن الماضي، ولكن هذه اللوبيات ووجهت بعائق كبير في هذه الفترة، وهي مجيء كندي الذي فاز في الانتخابات على حساب نيكسون، وكان كندي ليبرالياً متعلماً اتخذ موقف معاداة اللوبيات ودعا إلى تحرير السود، وظهرت في تلك المرحلة حركة مارتن لوثر كنج لأجل ذلك، وهذه المسألة كان لها حضورها أيام إبراهام لنكولن حين حرر العبيد، ولكن بقيت قضايا الحقوق المدنية والأخلاق العنصرية المنتشرة في المجتمع الأمريكي وظلت إلى أيام كندي ونيكسون، وعمل كندي على تقنين الحقوق المدنية للسود، وهو ما جعل اللوبيات تقدم على قتله في الحادثة المشهورة.

وبتجاوز هذه المرحلة يرجع نيكسون إلى المشهد السياسي الأمريكي من جديد ولكنه هذه المرة رئيس للولايات المتحدة، وشكل مع وزير الخارجية آنذاك هنري كسينجر ثنائياً خطيراً في السياسة الداخلية والخارجية، وكانا على اطلاع كبير بالثقافات العالمية، وكان نيكسون أكثر حنكة من كسينجر، وقد ألف نيكسون عشرة كتب منها (نصر بلا حرب)(السلام الحقيقي)(النصر الحقيقي)، وأطلق عبارة مهمة: “إن رياح التغيير قادمة في العالم الإسلامي وتكتسب قوة الإعصار)، وهنا جاءت خطة كسينجر لإدارة السياسة الخارجية في المنطقة العربية تحديداً بما يتناغم مع مشروع الصهاينة في فلسطين، فذهب إلى دمشق عام 1972م وبقي يتردد على حافظ أسد، وفي عام 1974م جاء نيكسون بنفسه مع كسينجر إلى دمشق وخرج في موكب مع حافظ أسد في شوارع دمشق في إشارة إلى التنصيب السياسي له بالدعم من قبل الولايات المتحدة، وهذا الأمر استوجب تفاهمات 1974م بين كسينجر وأسد، و1976م الدخول إلى لبنان في صفقة ميرفي حافظ أسد للإبقاء على اليهود في الجولان وخدمة لهم أيضاً في لبنان.

وفي هذه المرحلة تحديداً أضحت التوجهات في ضرب الأمة أكثر جلاء ووضوحاً؛ لماذا؟ لأنهم قرؤوا التاريخ، وأدركوا أن أكثر من أعان المستعمرين للبلاد المسلمة وضرب الإسلام في العمق على مدار التاريخ هم الباطنية والرافضة، ومنذ مرحلة السبعينات حتى اللحظة استطاع الإنجليكانيون من خلال الرؤساء الأمريكان ريجان وبوش إلى فترة ترامب من التمكين للكيان الصهيوني بدعمه في سياساته التوسعية والاستيطانية، إلا أن الفارق بين ترامب وبين غيره أنه لم يكن مقتنعاً بسياسة المراحل في تحقيق الأهداف، وكان مباشراً في التعامل معها، لأجل ذلك أقدم على نقل سفارة الولايات المتحدة إلى القدس.

والذي يهمنا بعد هذا التطواف أن البروتستانت الذين عددهم 900 مليون فيهم 600 مليون إنجيلي، فعدد الإنجيليين تضاعف بشكل كبير، وكان مجال عملهم في الجغرافيا واسعاً جداً استوعب العالم الإسلامي كذلك، ودخل فيهم كثير من البروتستانت والكاثوليك بل دخل فيهم حتى اليهود فحوالي مليونين من اليهود أصبحوا إنجيليين، وفي العالم الإسلامي يوجد 50 مليون إنجيلي في نيجيريا، وفي أمريكا الجنوبية وتحديداً في البرازيل الكاثوليكية يوجد 45 مليون إنجيلي، وفي الصين 60 مليون.

وبالتأمل في هذه الخطط المتداخلة والمترابطة لمواجهة العالم الإسلامي نرى أنهم نقلوا المعركة إلى قلبه من خلال أربعة محاور وهي معاول هدم فيها:

الأول: التبشير والمال.

الثاني: الحركات الباطنية.

الثالث: القتل المباشر.

الرابع: الشبكية، ومنها الإعلام والسوشيال ميديا.  

المحور السادس: مقومات الأمة المسلمة وقواها في المواجهة الحضارية:

المسلمون كما لا يخفى أوضاعهم في غاية الضعف والتشتت والتفرق، ولكن عندهم من نقاط القوة التي يمكن استثمارها في مواجهتهم الحضارية هذه، فأطراف العالم الإسلامي تتنامى، فهناك المسلمون في أوربا وأمريكا، وهناك عودة للدور التركي بعد خروجه في أوائل القرن الماضي، والإسلام له من المقومات والقوى على مستوى فكري ومادي ما تؤهله ليلعب دوراً فاعلاً في السياسة العالمية، ولا يرضى أن تتوجه إليه الضربات، كما أن الرجل الأبيض مأزوم في أوربا، وعدد البيض المسيحيين في أمريكا نزل إلى النصف، واللادينية والإلحاد في أمريكا وأوربا هي الدين الرابع تقريباً 16% والعدد يتزايد، وظاهرة الإلحاد يلزم استثمارها من قبل المسلمين فهي في صالحهم، فالحال مبشر للأمة ويعكس ضعف الأديان الأخرى.

وفي إطار الديموغرافيا السنة تضاعفوا كثيراً، ومن ينافسهم هم الإنجيليون، ولكن لماذا دينهم يتراجع؟ الجواب: ليس هناك مقومات حضارة؛ ذلك أن مقومات الحضارة هي الضروريات الخمس على وفق ما ذكر الشاطبي رحمه الله، وهذه الضروريات تتحطم في أمريكا والغرب، فينتشر الإلحاد واللادينية، وثقافة هوليوود، والاكتئاب، والمخدرات، وعصابات القتل.. وغيرها، وهم يحاولون تصدير هذه المشاكل إلى قلب العالم الإسلامي.

قوة المسلمين تتمثل في هذا الدين الذي يتوافق مع الفطرة، ولذلك انتشر في أوربا وأمريكا وأطراف العالم، ولذلك على سبيل المثال حين تجد ماكرون لما تهجم على  الرسول صلى الله عليه وسلم، لم يكن يخاطب المسلمين عموماً ولا الشرق الأوسط ولا حتى المسلمين في فرنسا، وإنما وجهه إلى النصارى في أوربا؛ لأنه يخشى أن يتمدد الدين الإسلامي فيها إما بإسلامهم أو تقبلهم له كدين في بلادهم، والمقاطعة بالرغم من أهميتها، ولكن الأهم منها تفعيل الدعوة في أوربا، فالشيء الفعال أن تهاجمه في عقر داره، ولا ننسى أن ماكرون لا يمثل شخصه وذاته وإنما فرد من أفراد منظومة متكاملة، إذاً لا بد من منازلة اليهود والنصارى في نقاط قوتنا نحن وهي تزايد المسلمين في بلاد النصارى، والهجوم على نقاط ضعفه هو، التي من أهمها إفلاس دينهم، وأزماتهم الاقتصادية والاجتماعية والنفسية وغيرها.

إن الحضارة الإسلامية حضارة إيمانية فطرية برسالة عالمية إنسانية ليست عنصرية ولا يوجد فيها خرافات، وتستجيب لنداء الفطرة، وهي تخترق قلب أي إنسان تتم دعوته دون أن يكون بينه وبينها حواجز وموانع، وهي متوازنة بين الروح والعقل والمادة،  وهي حضارة عادلة أخلاقية شورية ربانية، بينما الحضارة الغربية حضارة مادية قانونية فيها عدل نسبي تقدم قيم العمل والإنتاج، ولكنها تقوم على خرافات الهوليوود والكتب المحرفة، وحضارتهم لا أخلاقية وغير متوازنة بين الروح والعقل والمادة.

ولكن لماذا تنتصر علينا وهذا حالها؟ لأن عالمنا الإسلامي اليوم افتقد للعدالة والشورى والأخلاق بين مكوناته، فتقدم عليه الغرب بميزة واحدة وهي قضية القوانين والعدالة النسبية وقيم العمل والإنتاج، ومن المهم نقل المعركة باتجاهه، وهو حين يسلم؛ فإن تأثيره كبير داخل مجتمعه، فيلزم لذلك تفعيل الدعوة في بلادهم.

ثانياً: اتجاهات النقاش:

كان للمشاركين في الندوة مداخلات واستفسارات، وأهم ما دار حوله النقاش من موضوعات ما يأتي:

(1) لا يكفي مجرد الوعي بالمشهد الأمريكي وما يجري داخله من تحولات، بل لا بد أن يقترن هذا الوعي بالكيفية التي تمكننا من التعامل معه في مدافعته بنفس وسائله وأدواته أو ما يقاربها، وإثارة هذه المسألة تعد دليلاً واضحاً على تقصيرنا في كثير من ثغور المرابطة بملأ فراغاتها بما يساعدنا في الوقوف أمامه، هذا من جهة، ومن جهة أخرى أن الحديث عن استثمار الظاهرة اللادينية في المجتمعات الغربية وأنها تصب في مصلحتنا، علينا ألا ننسى أن لهذه الظاهرة تأثيرها السلبي في مجتمعاتنا المسلمة أيضاً، وهذا يعني تركيز الجهد في مواجهتها؛ لئلا تنتشر في أوساط الشباب، والنظر في مسوغاتها ودواعيها وأسبابها، ومن أهمها: ضعف الخطاب الإسلامي وانشغاله بصراعات جانبية بعيدة عن واجبات الوقت، والزهد بكثير من الوسائل والأدوات، فيتطلب لمواجهة ذلك تطوير خطاب من داخل أمتنا يعمل على رتق الفجوات ويدفع باتجاه إحكام البنية المجتمعية داخلها، واستثمار الضعف في المجتمعات الغربية.

(2) أهمية بسط الموضوع والتأكيد عليه في سياقات تواصلية أوسع من اختصاره بهذا الشكل الذي أثير فيه، وعليه ينبغي طرحه بشكل أكثر بياناً وتفصيلاً، ويتأتى هذا بشكل واضح في سلسلة من المحاضرات في إطار دورة تخصصية، أو سلسلة من المقالات، أو جعله في إطار مشروع بحثي جامع؛ ومرجع ذلك اتساع دائرة النظر بسبب التداخل لجملة من الأبعاد التاريخية والموضوعية والمجالية، فضلاً عن التغاير في الأنساق الحضارية بحكم ما يثيره الموضوع في سياق التحديات الحضارية وما فيها من أشكال الصراع والمواجهة بين الأمة المسلمة وغيرها من الأمم، ولعل الأحداث الأخيرة التي جرت في فلسطين والعدوان الصهيوني على المسجد الأقصى وغزة تدفع باتجاه تسكينها في هذا السياق التاريخي الذي تعرضت له المحاضرة في إطار النسقين الإسلامي والأوروأمريكي.

(3) بحكم الطبيعة الموضوعية التي انساقت إليها المحاضرة عرضت في المداخلات إشكالية الأصل في العلاقة بين المسلمين وغيرهم: هل هي التعايش أو الصراع؟ وهذا الموضوع قديم متجدد ما بقيت العلاقات بين الحضارتين قائمة بأحداثها ووقائعها ومقوماتها وهي كذلك ستبقى، ولكن ينبغي التنبه إلى أن الأصل هو التعايش والتدافع الحضاري، وأما الصراع فهو استثناء لا يكون قاعدة وأصلاً لهذه العلاقات.

(4) تطرق المحاضر إلى البعد الشبكي الذي يعد أحد المعاول التي وظفت في مواجهة هذه الأمة وإضعافها، والتاريخ أثبت أن لكل قرن سماته من الممارسة السياسية التي تحكم الفواعل والعلاقات، سواء على مستوى العلاقات الخارجية والدولية أو على مستوى العلاقات الداخلية، والظاهرة الأبرز التي تحكم زماننا هي التحول من العمل الجماعي إلى العمل المؤسسي إلى العمل الشبكي، فالعالم أصبح يدور في فلك ثلاثة مظاهر في غاية الأهمية، وهي: الجماعات الشبكية، وتحالفات الشبكات، وحروب الشبكات.

هذه الظواهر الثلاث هي التي تهيمن على المشهد السياسي العالمي، ولذلك كل حدث أو واقعة أو ظاهرة من الظواهر لو تأملت الفاعل فيها لوجدته فاعلاً شبكياً، وتتعدد الجماعات الشبكية والتحالفات الشبكية، فهناك شبكات الاستخبارات الدولية، وشبكات التنصير، وشبكات الإلحاد، وشبكات دعم الأقليات، وشبكات السلاح، وعلى سبيل المثال فيما يتعلق بنا نحن المسلمين، فإن أكبر انزياح بشري تشهده الكرة الأرضية خلال القرن الماضي وبدايات هذا القرن لم يكن على يد مهربين بل قامت به شبكات عملاقة، تقوم بإفراغ محيط الكيان الصهيوني من خمسة عشر مليوناً من المسلمين.

وهذا تحدثت عنه تقارير الموساد بتفصيل حين أشارت إلى أن الخطر اليوم على هذا الكيان ليس من جهة الجيوش العربية وإنما من الأكداس المليونية من المسلمين في القاهرة ودمشق وبغداد وغيرها التي تنذر بزوال هذا الكيان، ولعل تصريح نتنياهو الأخير قد اقترب من هذا البيان، ولكي يواجهوا هذا الخطر كان عليهم أن يحدثوا هذا الانزياح البشري والتهجير القسري لأهل السنة من محيط هذا الكيان، وإنشاء كيانات صديقة من الأكراد والدروز والعلويين بحسب ما ذكرته تقاريرهم.

صنيع الشبكات هذه بمختلف صورها ومظاهرها من شبكات أسلحة وإلحاد وشبكات دعم للأقليات لإضعاف هذه الأمة، وشبكات الاستخبارات الدولية .. في سواها تدفعنا باتجاه مراجعة الذات وإخراجها من حالة السبات، وإلا سنكون مجالاً لمشاريع هدم واستخراب عالمية تقوم بها الدول الكبرى وأدواتها في الأمة من أتباع وذيول، وواجب الوقت يستدعي اليوم أن تخرج جماعاتنا الإسلامية من قوالبها الجامدة التي تأسست عليها في القرن الماضي وتحولت بها في التسعينات إلى مؤسسات منغلقة على أنفسها، وإلا فإن حظها سيكون مثل حظ الجمهوريات التي تداعت وسقطت في الزمن القريب، وسيتجاوزها الزمان؛ لأنها لو بقيت على حالها الأول فستحكمها التحولات والتغيرات.

 

زر الذهاب إلى الأعلى