اختطاف الإسلامملفـات

العمل الأهلي الإسلامي.. محاولات الاختطاف وتجفيف المنابع

 

مدخل

اختطاف العمل الأهلي الإسلامي.. الأسباب والبواعث

 

ظل العمل الأهلي/ الخيري سمة من سمات المجتمع المسلم كاستجابة جماعية للخطاب القرآني الحاث على التعاون ﴿وتعاونوا على البر والتقوى﴾، والمؤكِّد لتآخي المؤمنين جميعهم ﴿إنما المؤمنون إخوة﴾، والذي وجّه إلى الإنفاق على المحتاجين ﴿وأنفِقوا مما رزقناكم﴾؛ بل وجعل قدراً من هذه الصدقات ركنًا من أركان الإسلام وهو “الزكاة”.

هذا غير المفهوم الذي سرى في مواضع متعددة من القرآن الكريم والسنة النبوية عن العمل الصالح، وما وجّهت إليه السُّنة من أهمية أن يحرص المسلم على ألا ينقطع عمله الصالح بعد موته: “إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث…”، أولها: صدقة جارية، وهذا التوجيه قد أسس للوقف الخيري الذي أسهم بصورة فعالة مع غيره من صور العمل الأهلي في مساعدة المحتاجين، والارتقاء بالعلم والعلماء، والحفاظ على الصحة، ورعاية المسنين، وتقوية دعائم المجتمع ككل، وبث روح التكافل والتعاضد.

وقد أوجدت هذه الظاهرة التكافلية والخيرية عند المسلمين على مدار التاريخ الإسلامي حالة من الاحترام والتوقير لهذا الدين، الذي يدفع المتدينين به والقادرين، إلى فعل أعمال الخير المختلفة، مما قوّى من رغبة المؤمنين في التمسك بدينهم، الذي لا يقتصر فقط على الرعاية الروحية وإشباع حاجات الروح بالمواعظ الأخلاقية والحديث عن الغيب وتزكية النفس وحقيقة الدنيا والآخرة، بل أيضاً هو دين لم يغفل الحاجات المادية للإنسان التي تمكنه من مقارعة ظروف الحياة القاسية من حوله، فأوجد هذه الفكرة التكافلية الوسط ما بين مصادرة أملاك الفرد تحت اسم الاشتراكية ومحاربة الطبقية، وبين ترك الحبل على الغارب للفرد دون أن يراعي أفراد المجتمع الآخرين تحت اسم الرأسمالية وحرية السوق.

فبرزت تطبيقات عملية مشرفة في التاريخ الإسلامي للعمل الأهلي يصعب إحصاؤها، من إقامة المساجد، وإنشاء المكتبات، والمستشفيات، والأسبلة، والآبار، والحمَّامات، والمدارس، والرباطات والتكايا، وغير ذلك، يقول الرحّالة ابن بطوطة عن أوقاف دمشق: “والأوقاف بدمشق لا تُحصر أنواعها ومصارفها؛ لكثرتها، فمنها أوقاف على العاجزين عن الحج، يُعطى لمن يحج عن الرجل منهم كفايته، ومنها أوقاف على تجهيز البنات إلى أزواجهنّ، وهنّ اللواتي لا قدرة لأهلهنّ على تجهيزهنّ، ومنها أوقاف لفِكاك الأسارى، ومنها أوقاف لأبناء السبيل، يُعطون منها ما يأكلون ويلبسون ويتزودون لبلادهم، ومنها أوقاف على تعديل الطرق ورصفها؛ لأن أزقة دمشق لكل واحد منها رصيفان في جنبيه يمر عليهما المترجلون، ويمر الركبان بين ذلك، ومنها أوقاف لسوى ذلك من أفعال الخير”([1]).

ومنها ما جعل صلاح الدين الأيوبي في أحد أبواب القلعة الباقية حتى الآن في دمشق، ميزاباً يسيل منه الحليب، وميزاباً آخر يسيل منه الماء المذاب فيه السكر، تأتي الأمهات يومين في كل أسبوع ليأخذن لأطفالهن وأولادهن ما يحتاجون إليه من الحليب والسكر، ومن ذلك أيضاً “وقف الزبادي للأولاد الذين يكسرون الزبادي وهم في طريقهم إلى البيت فيأتون إلى هذه المؤسسة ليأخذوا زبادي جديدة بدلاً من المكسورة، ثم يرجعوا إلى أهليهم وكأنهم لم يصنعوا شيئاً”([2]).

ولكن هذا العمل الأهلي الإسلامي بما يحمله من تقوية للمجتع ومكوناته، واجه حملة تقويض واختطاف، وشكّل تهديداً لجهتين أساسيتين عملتا على احتوائه والتحكم به واختطافه لصالحهما، وذلك ليفقد المجتمع ومكوناته ذلك المصدر الدافع نحو التماسك والتكافل، ويكون المصدر الوحيد للعمل الخيري هو الدولة لتضمن عدم الخروج عن أجندتها مهما كانت فاسدة أو مستبدة، والتابعية المطلقة لها نظراً لعدم وجود بديل أهلي ومجتمعي متماسك يُركَن إليه، ومِن صور ذلك فريق من علماء الدين الذين كانوا يتقاضون رواتبهم من الأمة ممثلة في أوقافها وأعمال برها، فكانوا يتحدثون باسمها ويطالبون بمطالبها ويدافعون عنها، وبعد تحوُّل الأمر إلى الدولة أصبحوا علماء سلطة يتقاضون رواتبهم منها ويتحدثون باسم سلطتها ويدافعون عن وجودها.

 

أولاً: القوى والجهات الفاعلة

هاتان الجهتان اللتان عملتا على تقويض والتحكم بالعمل الأهلي الإسلامي هما:

أولاً: الاستعمار/ الاحتلال؛ إذ حرصت السلطة المستعمرة على إلغاء الوقف، أو السعي إلى تنظيمه لتكثيف الرقابة عليه؛ فقد كان للاستعمار دور كبير في مصادرة الأوقاف نظراً إلى أنها كانت إحدى روافد الوعي الديني والوطني في البلاد وأحد مكامن المقاومة فيها، كما كان الوقف مصدراً لمحاربة الاستعمار لأنه كان يخضع لإرادة الواقف وليس لسلطة المستعمر([3]).

ثانياً: أما الجهة الثانية فهي الدولة المركزية الحديثة، فقد رأت في العمل الأهلي تهديداً لسلطتها، وقررت العديد من الدول المختلفة في وقت متقارب للغاية وضع يديها تدريجياً عليه، فمن يمعن النظر في تاريخ صدور قوانين الأوقاف في الدول العربية التي بُسطت سيطرة الدولة عليها، يجد أنها متتابعة في صدورها ومتشابهة في تواريخها؛ إذ صدر قانون الوقف في مصر عام 1946م، وفي الأردن عام 1946، وفي لبنان عام 1947، وفي الكويت عام 1949م، وفي سوريا عام 1951م، وفي تونس عام 1956، وفي العراق عام 1959م، كما أن المتأمل في هذه القوانين يجد أنها تكاد تكون متقاربة في نصوصها، مع اختلافات بسيطة يقتضيها المذهب المتبع أو الظروف المحيطة بالدولة، وكأنها صدرت من مشكاة واحدة. واكب صدور هذه القوانين التوجه الاقتصادي العام نحو هيمنة الدولة الحديثة على مقدرات الأمة الإنتاجية والاقتصادية ([4]).

 

ثانياً: أدوات اختطاف العمل الأهلي

1- الاختطاف المفاهيمي

مفهوم المجتمع المدني أول مَن أدخله إلى الساحة العربية هو د. سعد الدين إبراهيم، وتبناه بعد ذلك اسماً لنشرته التي كانت تصدر عن (مركز ابن خلدون) فأسماها “المجتمع المدني”، وفي مقالته التي كتبها في (مجلة الديمقراطية) ذكر أن كل “التكوينات الإرثية” يجب أن تخرج من مفهوم المجتمع المدني، ويقصد تلك التكوينات التي تستند إلى الدين، وتلك التكوينات التي تستند إلى روابط طبيعية مثل الأسرة وغيرها، لابد وأن تُقصى من جانب مفهوم المجتمع المدني من وجهة نظره.

فصفة “المدنيّة” من الصفات الملتبسة، النظام المعرفي الإسلامي ورد فيه كلمة “المدينة” ليس فقط نسبة إلى المجتمع المدني -مجتمع المدينة المنورة- ولكن ورد أيضاً في كتابات الفلسفة عن السياسة المدنية، وورد عند هؤلاء الذين يتحدثون عن المدني في كتابات تتعلق بالفكر السياسي الإسلامي وأن الإنسان مدني بطبعه، واستخدم ابن خلدون أيضاً المدني والسياسة المدنية.

إلا أن الالتباس جاء من طبيعة معاصرة حينما كانت كلمة المدني Civic، التي أتت ضمن عناصر تحاول أن تواجه أو تقابل مفهوم ووصف “الديني”؛ كأنه يتحدث عن مدني في مواجهة الديني.

والحديث عن لفظ “المجتمع المدني” اقترن بالحديث وارتبط بمجموعة من الألفاظ الأخرى التي ترتبط بالحضارة الإسلامية؛ فمن المفاهيم التي شاعت خاصة في القرن السابع عشر والثامن وعشر والتاسع عشر مفهوم وصِفة “المجتمع الأهلي”، وهو نسبة إلى “الأهل” أي ما هو غير سياسي بهذا الاعتبار، وأيضاً من الكلمات المهمة جداً للدلالة على قضية المجتمع المدني “مؤسسات الأمة”.. إن هذا التعبير هو من التعبيرات التي يمكن أن تعطي لنا فاعليات المجتمع “المدني”؛ لذلك من الأفضل استخدام كلمة “الأهلي” في هذا المقام، للاعتبارات التي تتعلق بالتباسات تتعلق بصفة “المدني”.

مؤسسات الأمة في الحضارة الإسلامية كانت ترتبط بعناصر كثيرة، العلماء كانوا يشكلون مؤسسات أمة، الإفتاء كان يشكل مؤسسة أمة، المسجد كان يشكل مؤسسة أمة، الوقف كذلك يشكل مؤسسة، لأن الوقف هنا كذاكرة يعبر عن معاني كثيرة، هو يعبر عن المعاني الأربعة التي تتعلق بالمجتمع المدني: (الاستقلالية، الطوعية، المؤسسية، الدور)، إذن نحن أمام خبرة غاية في الأهمية وهي الخبرة الوقفية التي ارتبطت بالخبرة الإسلامية وقدمت فيها رؤية حافزة لهذا الأمر، لدرجة أننا -مثلما كتب د. إبراهيم البيومي- قبل “ثورة يوليو 1952”  في مصر كان 50% من التعليم بما فيها التعليم العالي يقوم به الوقف، و50% تقوم به المصادر الرسمية الأخرى؛ فنحن أمام مجتمع يحمل الدولة ويستطيع أن يتخلل كل هذه المناطق في المجتمع بحيث يُكون لهذه الأمة عناصر فاعليتها([5]).

2- سن القوانين المقيِّدة للعمل الأهلي

لجأت الدولة الحديثة إلى القوانين وسنّها  كسلاح تشهره في وجه العمل الأهلي، وتمثل ذلك جلياً مع أهم وجوه ألا وهو الوقْف؛ ففي التاريخ المصري الحديث على سبيل المثال، تشكّلت عملية تأسيس الأوقاف منذ عهد محمد علي إلى قرب نهاية القرن العشرين في صورة موجتين طويلتين أساسيتين هما:

  • موجة مد مستمر في إنشاء الأوقاف، وقد بدأت تلك الموجة حول منتصف القرن التاسع عشر، وبلغت قمتها في منتصف الأربعينات من هذا القرن، حتى إذا ما صدر قانون الوقف رقم 48 لسنة 1946 هدأت بشدة، ثم انكسرت تماماً بقيام (ثورة) يوليو 1952.
  • موجة جذر، أو انحسار شديد، بدأت مباشرة عقب صدور المرسوم بقانون رقم 180 لسنة 1952، ولا تزال موجة الانحسار هذه مستمرة حتى نهاية العقد الأخير من القرن العشرين، مع ملاحظة بدايات بطيئة وتدريجية للصعود مرة أخرى منذ نهاية السبعينيات([6]).

ومن منظور التحليل السياسي والاجتماعي فإن الذي حدث بخصوص هذا الموضوع في تاريخ مصر الحديثة، هو أنه كلما زادت قاعدة الملكية الخاصة وقلت الملكية العامة للدولة، وكانت سياستها أقل تدخلاً في المجالين الاقتصادي والاجتماعي، مع وجود الوازع الديني، زاد الإقبال على إنشاء الأوقاف، وهذا ما ظهر بجلاء في اتجاه موجه الوقف نحو الصعود منذ منتصف القرن التاسع عشر، وبصفة خاصة منذ نهاياته، بعد أن أُقرّ حق الملكية الخاصة الكاملة الأراضي الزراعية، حتى منتصف هذا القرن العشرين تقريباً.

وعلى العكس من ذلك، فكلما زادت القيود الحكومية على الملكية الخاصة، وزادت الملكية العامة للدولة، وزادت الإجراءات اللازمة لإنشاء الوقف، قلّ الإقبال عليه، حتى مع افتراض ثبات الوازع الديني، وهذا ما حدث فيما بعد سنة 1952 وأظهرته موجة الجزر أو الانحسار الشديد في إنشاء الأوقاف الخيرية، وهي التي سمح بها القانون بعد أن نص على منع الوقف الأهلي والوقف المشترك ابتداء، وحل ما كان موجوداً منه وتوزيعه على مستحقيه([7]).

 

3- فرض الرقابة

من الأدوات التي تحدّ من العمل الأهلي فرض الرقابة بواسطة السلطة، وهذا يعني تحكُّم السلطات في مصارف وأنشطة العمل الأهلي ليوجَّه فقط إلى الوجهات التي تصب في مصلحة السلطة ولا تتعارض معها، فتمنع على سبيل المثال إنشاء المراكز البحثية التي تقدم أطروحات الإصلاح السياسي والمجتمعي، وتقف حائلاً أمام تكوين التجمعات العلمية والعُلمائية ودعمها وكفالتها مالياً لمنعها عن الحديث عن هموم الأمة ومطالبها وعن تقديم الرؤى الإسلامية في جميع المستجدات والنوازل.

وأيضاً بمراقبة وتحكم السلطة في العمل الأهلي تستطيع إيقاف أي أعمال خيرية تقوم بها فئة ما في الأمة، لمجرد أن السلطة ترى أن هذا سيقوّي مكانة خصومها السياسيين في وجدان الشعوب، فتكون النتيجة أن يضمر العمل الأهلي بسبب هذا القمع السياسي.

 

4-التشويه الإعلامي

من أدوات اختطاف العمل الأهلي التشويه الإعلامي، في الصحف والقنوات الفضائية والمملوكة للدولة وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، هذا التشويه الذي يقوم على بث دعايات بأن بعض الجمعيات الخيرية عميلة لبعض الجهات الأجنبية وتتخابر ضد البلاد وتستغل العمل الخيري للتأثير على البسطاء إلى آخر هذه الاتهامات، التي تُنفر أهل الخير والمتبرعين عن المشاركة بأموالهم لدعم العمل الأهلي.

وفي المقابل يروّج الإعلام غير المهني لجمعيات تابعة للسلطات وتسيطر عليها ويقوم على إدارتها أشخاص تابعون لها، وتنتشر الإعلانات التليفزيونية وفي الصحف وعلى شبكة الإنترنت التي تحث على التبرع لهذه الجمعيات وسط جميلة من شكوك البعض حول مصير هذه الإعلانات، خاصة مع تردد أخبار عن فساد مستشر في بعض تلك الجمعيات.

 

5- التشويه عن طريق الفن

منذ بدايات القرن الرابع عشر الهجري التي سبقت بقليل بدايات القرن العشرين الميلادي، إلى منتصف كل منهما تقريباً، دخل فقه الوقف ونظامه بشكل عام ضمن الموضوعات التي احتدم حولها الجدل الفكري والسياسي ثم القانوني، بين أنصار القديم وأنصار الجديد، أو بين تيار الأصالة وتيار المعاصرة، وعُرضت مختلف مسائل الأوقاف على بساط البحث والمناظرة، ابتداء من الكلام على مشروعية الوقف وهل هو من الدين أصلاً؟ مروراً بمسألة الوقف الأهلي أو الذري، وهل الأجدى الإبقاء عليه أو إلغاؤه؟ وإلى أي مدى يمكن احترام شروط الواقفين؟ وصولاً إلى البحث في ضرورة وضع تشريع جديد لتنظيم الوقف بما يلائم المجتمع المعاصر ومستجداته.

لم ينتشر ذلك الجدل في كل أنحاء البلدان الإسلامية، بل نراه قد تركز أساساً في كل من مصر وسوريا ولبنان، وبلغ ذروته في الفترة التي أعقبت سقوط الخلافة العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى، وامتد هذا الجدل حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، وخرج فقه الوقف آنذاك ولأول مرة في تاريخه الطويل من دائرة الفقهاء المختصين إلى دائرة أوسع، شملت إلى جانبهم: رجال الفكر والثقافة والسياسة والصحافة وأعضاء البرلمانات ورجال القانون، وحتى الأوساط الفنية، التي كثيراً ما شاركت بالنقد اللاذع لنظام الوقف([8]).

ومن أشهر نماذج الأعمال الفنية التي شوّهت صورة الوقف والعاملين عليه، مشهد في فيلم (أبو حملوس) الذي أُنتج عام 1947، وفيه يظهر (ناظر الوقف) القائم على الأوقاف والذي يجسد دوره الممثل (عباس فارس)، أنه فاسد ويسرق أموال الوقف، وهو شخصية أيضاً برجوازية (سعادة البك) يبدو أنها اغتنت من سرقة هذا المال([9]).

وبالغ بعض كبار الشعراء في نقد الوقف، ومنهم حافظ إبراهيم شاعر النيل الذي زار إيطاليا وبهرته مدنيتها وعمرانها، ونسب الشر في ذلك إلى أن الإيطاليين لا يقفون الأوقاف، وقال: حرم الوقف شرعهم فلهذا ** كل ربع بأرضهم معمور([10]).

 

6- المصادرة

تعد مصادرة الأعمال الخيرية من أدوات اختطاف العمل الأهلي الواضحة، بأن تضع الدولة يدها على الأشكال المختلفة للعمل الأهلي بحجج مختلفة، هذه الحجج التي تصطف بجانب التشويه الإعلامي كممهدات للمصادرة وشرعنتها بحيث لا تكون في صورتها الحقيقية بأنها سرقة جلية، ولا يستثنى أي عمل خيري من عمليات المصادرة الممنهجة، فتصادَر المستشفيات والمستوصفات وكذلك المدارس والصناديق المخصصة لدعم الفقراء والأرامل والأيتام وغير ذلك، وتحول غدارتها إلى الدولة ويتجه ريعها إلى حيث لا يدري أحد، حيث لا رقابة ولا محاسبة.

وقد أوجدت هذه المصادرات حالة من القلق وعدم الثقة لدى المتبرعين أدى إلى إحجام فريق منهم عن التبرع والمشاركة في العمل الأهلي.

 

ثالثاً: اختطاف العمل الأهلي.. قانون الجمعيات الأهلية في مصر نموذجاً

أصدرت الحكومة المصرية منتصف العام الماضي (2017م) قانوناً جديداً من المفترض أنه ينظم عمل الجمعيات والمنظمات غير الحكومية، ولكن الحقيقة أن القانون يضيّق على العمل الأهلي بصورة كبيرة، رغم أن االدستور المصري الحالي ينص على أن للمواطنين حق تكوين الجمعيات والمؤسسات الأهلية على أساس ديمقراطي، وتكون لها الشخصية الاعتبارية بمجرد الإخطار. وتمارس نشاطها بحرية، ولا يجوز للجهات الإدارية التدخل في شؤونها، أو حلها أو حل مجالس إداراتها أو مجالس أمنائها إلا بحكم قضائي.

المادة الثالثة من هذا القانون تحدّ من حرية القائمين على العمل الأهلي في وضع النظام الأساسي لعملهم أو جمعيتهم، واشترط القانون رسومًا قدرها عشرة آلاف جنيه لتسجيل الجمعية، وهو رقم مبالغ فيه على الراغبين في العمل الأهلي والتطوعي وخدمة المجتمع ما يجعل تأسيس الجمعيات أمرا مكلفا للعديد من الفئات الاجتماعية. أما المادة التاسعة من القانون، فهي تفتح الباب أمام الجهة الإدارية لعدم استلام أوراق تأسيس الجمعيات بحجة أنها غير مستوفاة. وقد وصفت المنظمة المصرية لحقوق الإنسان القانون بأنه “سيف مصلت على رقاب الجمعيات الأهلية والمجتمع المدني”.

فالقانون يفرض قيوداً على عمل المنظمات غير الحكومية في مجال التنمية والنشاط الاجتماعي، ويفرض عقوبات بالسجن تصل إلى خمس سنوات في حال مخالفة القانون. ويحظر القانون على المنظمات غير الحكومية إجراء دراسات أو نشر نتائجها دون موافقة الدولة. كما ينص بند في القانون على إخضاع التمويل الأجنبي للمنظمات المحلية لإشراف السلطات. وأمهل القانون المنظمات سنة للالتزام به أو مواجهة خطر حلها من قبل المحكمة([11]).

فالقانون الجديد يستهدف تأميم المجتمع المدني، من خلال تنظيمه كما لو كان أحد الأجهزة الإدارية للدولة، واعتبار العاملين فيه موظفين لدى الدولة، فضلاً عن تبنّي قيود تعسفية جديدة تسعى إلى إرهاب نشطاء المجتمع المدني؛ فهو يمنح الحكومة الحق في التدخل في تنظيم أدق شؤون الجمعيات، كتكوين الجمعية العمومية، وطريقة الدعوة إلى عقدها، ومواعيد اجتماعاتها، وكيفية انضمام الأعضاء وانسحابهم، وتشكيل أو انتخاب مجلس الإدارة، وصولاً إلى حق الحكومة في حل مجلس إدارة الجمعية.

كما يمنح مشروع القانون، الحكومة، حق تقديم طلب للقضاء بحل الجمعية، إذا رأت أن الجمعية عاجزة عن تحقيق الأغراض التي أنشئت من أجلها، وهي صياغة مطاطة وغامضة تتيح للحكومة إحالة أي جمعية لا ترضى عن نشاطها في أي وقت إلى القضاء، وطلب حلها، فضلاً عن أن الجهتين الوحيدتين اللتين لهما حق تقييم نشاط الجمعية، أو ما إذا كانت تحقق أغراضها أم لا، هما الجمعية العمومية، والمستفيدون من خدمات الجمعية.

كما رفع القانون الحد الأدنى لعدد الأعضاء المؤسسين للجمعيات إلى عشرين عضوًا، أي ضعف ما هو مقرر في القانون القديم، الأمر الذي يعرقل حق المواطنين في تكوين الجمعيات.

وحظر القانون على الجمعيات جمع التبرعات، أو الحصول على أموال من الخارج، إلا بعد تصريح من الحكومة، الأمر الذي يؤدي إلى نتائج وخيمة على نشاط المجتمع المدني، رغم أنه لا تتوافر مصادر تمويل كافية في الداخل، بما يساعد الجمعيات على القيام بأنشطتها.

ويتعامل القانون مع نشطاء المجتمع المدني، باعتبارهم مجموعة من المنحرفين المحتملين، أو المشتبه بهم، إلى أن يثبت عكس ذلك، إذ يمنح القانون صفة الضبط القضائي لممثلي الحكومة عند تفقُّدهم مقار الجمعيات.

والقانون اعتبر أموال الجمعيات والمؤسسات الأهلية أموالاً عامة، وأن القائمين على إدارتها موظفون عموميون. وهو ما يمكن أن يؤدي إلى المزيد من تنفير المواطنين من تكوين الجمعيات والمؤسسات الأهلية، فإسباغ هذه الصفة على أموال الجمعيات والقائمين على إدارتها من شأنه توقيع عقوبات قاسية، على أية مخالفات إدارية لأحكامه، قد تصل إلى الأشغال الشاقة المؤقتة([12]).

 

رابعًا: وسائل المواجهة

  • بث الوعي حول أهمية العمل الأهلي وعوائده الدنيوية والأخروية.
  • إيجاد السبل البديلة للجمعيات الرسمية في الدول الاستبدادية.
  • حث النواب في البلاد ذات المساحات الحرة على اقتراح مشاريع قوانين تتيح الحرية للعمل الأهلي وتخفف من القيود المفروضة عليه.
  • إطلاق الحملات الإعلامية المنظمة التي تبين الآثار السيئة للقيود المفروضة على العمل الأهلي والجمعيات الخيرية.
  • العمل الجاد على تنشيط العمل الأهلي بين صفوف الأقليات المسلمة في بلاد الغرب؛ حيث توجد مساحات من الحرية، وكذلك في البلاد الإسلامية ذات الحكم الرشيد مثل ماليزيا وتركيا.
  • إنشاء الهيئات القانونية والحقوقية التي تدافع عن المؤسسات الأهلية وتترافع في قضاياها.

 

خاتمة وملخص

 

ظل العمل الأهلي/ الخيري سمة من سمات المجتمع المسلم كاستجابة جماعية لخطاب الوحي، وقد أوجدت هذه الظاهرة التكافلية والخيرية عند المسلمين على مدار التاريخ الإسلامي حالة من الاحترام والتوقير لهذا الدين، الذي يدفع المتدينين به والقادرين، إلى فعل أعمال الخير المختلفة، وقد برزت تطبيقات عملية مشرفة في التاريخ الإسلامي للعمل الأهلي يصعب إحصاؤها، ولكن هذا العمل الأهلي الإسلامي بما يحمله من تقوية للمجتع ومكوناته، واجه حملة تقويض واختطاف، وشكّل تهديداً لجهتين أساسيتين عملتا على احتوائه والتحكم به واختطافه لصالحهما، وذلك ليفقد المجتمع ومكوناته ذلك المصدر الدافع نحو التماسك والتكافل، ويكون المصدر الوحيد للعمل الخيري هو الدولة لتضمن عدم الخروج عن أجندتها مهما كانت فاسدة أو مستبدة.

وقد عملت جهتان لى تقويض والتحكم بالعمل الأهلي الإسلامي هما: الاستعمار/ الاحتلال، إضافة إلى الدولة المركزية الحديثة، واستخدم لهذا التقويض أدوات عدة، منها الاختطاف المفاهيمي واستخدام مفهوم المجتمع المدني مع تقرير أن كل “التكوينات الإرثية” يجب أن تخرج من مفهوم المجتمع المدني، أي تلك التكوينات التي تستند إلى الدين، وتلك التكوينات التي تستند إلى روابط طبيعية مثل الأسرة وغيرها، والأداة الثانية هي سن القوانين المقيِّدة للعمل الأهلي فلجأت الدولة الحديثة إلى القوانين وسنّها  كسلاح تشهره في وجه العمل الأهلي، أما الأداة الثالثة فهي فرض الرقابة بواسطة السلطة، وهذا يعني تحكُّم السلطات في مصارف وأنشطة العمل الأهلي ليوجَّه فقط إلى الوجهات التي تصب في مصلحة السلطة ولا تتعارض معها، إضافة إلى التشويه الإعلامي، والتشويه عن طريق الفن والمصادرة.

وقد كان قانون الجمعيات الأهلية الصادر عام 2017م في مصر نموذجاً على محاولات الاختطاف العمل الأهلي، فالقانون يضيّق على العمل الأهلي بصورة كبيرة، ويفرض قيوداً على عمل المنظمات غير الحكومية في مجال التنمية والنشاط الاجتماعي، ويستهدف تأميم المجتمع المدني.

لأجل ما سبق ينبغي على المجتمعات العربية والإسلامية أن تحمي العمل الأهلي وتحرسه لما يترتب عليه من فوائد جمة، وذلك عبر استخدام وسائل مبتكرة ومرنة، ذكرنا نماذج منها في هذا البحث المختصر.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

([1]) ابن بطوطة، تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار، المعروف برحلة ابن بطوطة، ص119-120، ط. دار إحياء العلوم، بيروت، ط1، 1987م.

([2]) د. مصطفى السباعي، من روائع حضارتنا، ص203، ط. دار الوراق، ط1، الرياض، 1999م.

([3]) ينظر: د. فؤاد عبد الله العمر، إسهام الوقف في العمل الأهلي والتنمية الاجتماعية، ص70، ط. الأمانة العامة للأوقاف، الكويت، 2010م.

([4]) فؤاد عبد الله العمر، المصدر السابق، ص63.

([5]) يُنظر: أ. د. سيف عبد الفتاح، محاضرة المجتمع المدني من رؤية إسلامية، ص7-8، مركز الدراسات المعرفية، 8/2/2005م، رابط إلكتروني.

([6]) د. إبراهيم البيومي غانم، الأوقاف والسياسة في مصر، ص105-106، ط. دار الشروق، ط1، 1998م.

([7]) المصدر السابق، ص109.

([8]) ينظر: إبراهيم البيومي غانم، تجديد الوعي بنظام الوقف الإسلامي، ص74-75، ط: دار البشير، 2016م.

([9]) يوتيوب: مقطع مرئي مأخوذ من فيلم أبو حملوس بعنوان: (نجيب الريحاني وعباس فارس مشهد ناظر الوقف الحرامي).

([10]) تجديد الوعي بنظام الوقف، ص75.

([11]) صبري عبد الحفيظ، قانون الجمعيات الأهلية الجديد يتعارض مع المواثيق الدولية، موقع إيلاف، 01-06-2017م.

([12]) ينظر: مشروع قانون للجمعيات الأهلية يخضعها لسيطرة الحكومة والأجهزة الأمنية، بيان لتسع وعشرين منظمة حقوقية، موقع المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، 09-07-2014م.

 
زر الذهاب إلى الأعلى