كثر الحديث عن موضوع العلاقة بين الدعوي والسياسي، أو بين الديني والسياسي في أوساط متعددة، تغايرت وتنوعت أشكالها ومظاهرها ما بين حركات إسلامية شغلتها الظاهرة السياسية، ومراكز بحثية وسياقات أكاديمية، ولا يختلف أحد في كون هذه القضية تعد من الإشكاليات المعاصرة التي تلبس بها العقل المسلم بسبب ما شهده واقعه من متغيرات في بعده التاريخي والمعاصر يمكن تحديده فيما بعد سقوط الخلافة الإسلامية بشكلها العثماني في بدايات القرن العشرين، وانعكاسات هذه المسألة حول الجدل الذي دار منذ ذلك الوقت حتى اللحظة حول النظر في مسارات هذه العلاقة ومحاضنها وظواهرها الكلية.
ولا شك أن المستجدات على الساحة السياسية في بعدها الإسلامي خاصة بعد ثورات الربيع العربي وما لحقها من الانقلاب في بعض أجزائها العربية تعد من المتغيرات المؤثرة في تأصيل هذه العلاقة وانعكاساتها في الواقع المعاصر، وتبرز في هذا السياق المراجعات المغاربية بشكليها المغربي والتونسي في إطار محاولات تحديد هذه العلاقة وتأطيرها بإطار عام مؤصل بمرجعيتها الإسلامية، ودارت هذه المحاولات بين تبني الفصل بين الدعوي والسياسي كما في شكلها التونسي الذي تبنته حركة النهضة، والتمييز بينهما كما في شكله المغربي الذي تبنته الحركة الإسلامية المغربية، وقد أثارت هذه المحاولات جدلاً كبيراً لم يحسم حتى هذه اللحظة.
ومن هنا وسعياً إلى فهم هذه العلاقة ومعرفة مداها الفكري والتنزيلي، كان موضوع هذه العلاقة والوقوف عند إشكالياتها موضع نقاش بين جملة من الباحثين والمتخصصين والأساتذة من المهتمين بالظاهرة السياسية في الإطار الإسلامي، ودار النقاش حول خمسة محاور هي:
المحور الأول: مراجعة في كتاب “التصرفات النبوية السياسية دراسة أصولية لتصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم بالإمامة”، للدكتور سعد الدين العثماني.
المحور الثاني: الجهود والدراسات التي كتبت حول هذه العلاقة، وركزت على نقد الأطروحة السابقة.
المحور الثالث: الخبرات في الحكم في ضوء فكرة التمييز بين الدعوي والسياسي.
المحور الرابع: العلاقة بين العالم والسلطان والظاهرة العلمائية والسلطة السياسية.
المحور الخامس: رصد ومناقشة موقف التيار السلفي بأطيافه من العلاقة بين الدعوي والسياسي.
المحور الأول: مراجعة في كتاب “التصرفات النبوية السياسية دراسة أصولية لتصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم بالإمامة”[1]، للدكتور سعد الدين العثماني.
مقدمة عامة:
كتاب الدكتور سعد الدين العثماني يأتي في سياق أطروحة عامة كانت ثمرة لعدة تطورات فكرية وحركية شهدتها الحركة الإسلامية في المغرب، بل هي كذلك تطور شهده فكر الرجل من خلال عدة رسائل أخرجها منذ ثمانينات القرن العشرين حتى الآن، أهمها:
-تصرفات الرسول ﷺ بالإمامة: الدلالات المنهجية والتشريعية.
-المنهج الوسط في ا لتعامل مع السنة النبوية.
-جهود المالكية في تصنيف التصرفات النبوية.
-الدين والسياسة: تمييز لا فصل.
-الدولة الإسلامية: المفهوم والإمكان.
وما يجعل هذه الأطروحة موضع النظر والبحث والدراسة أن صاحبها أيضاً تلبس بالممارسة السياسية، بحكم تسنمه -وما يزال- مناصب قيادية في المغرب، ما يجعله يتمتع بالخصوصية التي ينفرد بها عن غيره ممن جمع بين التنظير والتطبيق، وعليه من الأهمية بمكان النظر في هذا الكتاب والأطروحة التي تحتضنه في سياقها الزماني والمكاني والشخصي والحالي، وفي هذا يقول الدكتور امحمد جبرون: “التعرض لأطروحة تصرفات الرسول بالإمامة بالنقد والتحليل والتصويب مسألة حيوية، بل مسؤولية أخلاقية ومعرفية؛ لأسباب كثيرة ليس أقلها وأضعفها إمكانية النفوذ العملي التي تتمتع بها مقارنة بغيرها، وباعتبارها أيضاً أحد عناوين خصوصية التجربة المغربية”.
ولذلك أكد العثماني على ثلاث قضايا في سياق أطروحته التي يعرضها في مواطن مختلفة ومنافذ متعددة[2]:
الأولى: قضية التحولات المتعددة والمتداخلة التي أثرت في الحركة الإسلامية في المغرب فكراً وتطبيقاً، وفي مقدمتها طبيعة الواقع الاجتماعي والسياسي المغربي الذي عرف منذ الاستقلال انفتاحاً اجتماعياً وسياسياً نسبياً وتعددية سياسية نشطة.
الثانية: القطيعة مع مطلب إقامة الدولة الإسلامية، فيشكل كل من الموقف من النظام السياسي وطبيعة العلاقة معه واحداً من أهم التحولات الممهدة للتمييز بين الدعوي والسياسي.
الثالثة: من التنظيم الجماعة إلى التنظيم الرسالي، فالانتقال من تنظيم محوري ومركزي بهيكلة هرمية إلى تنظيم مرن يجمعه مقصد إقامة الدين وإصلاح المجتمع، الذي تلتقي حوله مؤسسات وهيئات مستقلة تنظيمياً تجمعها شراكة استراتيجية في خدمة نفس المشروع، كل ذلك يعد تحولاً كبيراً من التحولات.
ومعمار الكتاب قائم على أربعة أركان:
الأول: تنوع التصرفات النبوية: تأصيل وتصنيف.
الثاني: التصرفات النبوية السياسية: مفهومها وسماتها.
الثالث: مسالك الكشف عن التصرفات النبوية السياسية.
الرابع: أهمية التصرفات النبوية السياسية ودلالاتها.
إشكالية الدراسة: لم يحظ تصنيف التصرفات النبوية بالاهتمام اللازم حسب المقام أو الحال الذي صدرت فيهما عن النبي ﷺ، ومن ثم عدم التمييز بين ما هو دين وتشريع دائم للمسلمين من تصرفاته صلى الله عليه وسلم وما ليس كذلك، مما أفضى إلى تلبس العقل المسلم المعاصر بتخبطات وتشددات في الدين، عجز من خلالها عن حل إشكالات الوجود المسلم نظرياً وواقعياً.
مقصود الدراسة: بناء نظرية متكاملة بقواعداه وضوابطها في التعامل مع التصرف النبوي.
سؤال الدراسة: ما الجوانب المطلقة المرتبطة بالوحي من التجربة النبوية؟ وما الجوانب الزمنية الخاصة بظروفها وسياقها؟
التصرفات النبوية: هي عموم ما صدر منه من تدابير أو أمور عملية من قول أو فعل أو تقرير سواء كانت للاقتداء أو لم تكن، وسواء كانت في أمور الدين أو الدنيا.
التصرفات النبوية السياسية: هي تصرفاته صلى الله عليه وسلم بوصفه رئيساً لدولة المسلمين في عهده، يدير شؤونها ويتخذ الإجراءات والقرارات الضرورية بما يحقق المصالح العامة ويدرأ المفاسد العامة وفق المقاصد الشرعية.
سمات التصرفات النبوية السياسية |
|||
مرتبطة بالمصالح العامة | اجتهادية | أمورها غير دينية | |
– تشريعية.
– ليست خبراً. – ليست تصرفاً بالتبليغ. – ليست شرعاً عاماً ملزماً للأمة. – قابلة للتغيير. – خاضعة للمصلحة. |
النفع الشامل موضوعاً للجوانب المعنوية والمادية، والذي يتعلق بالمجتمع ككل، ويدخل ضمنها دفع الضرر اللاحق بهذه الجماعة.
قال العز بن عبد السلام: “لولا نصب الإمام لفاتت المصالح الشاملة وتحققت المفاسد العامة”. |
– تصرفه بوصفه إماماً أو قائداً سياسياً إنما يتصرف باجتهاده ورأيه الذي يمكن أن يصيب فيه أو يخطئ.
وهذا متفق عليه بين الأصوليين والفقهاء؛ بل حكى الإجماع عليه كثيرون. – التمييز بين ما يشاور فيه الرسول ﷺ، وما لا يشاور فيه. |
– دين عام: يشمل جميع أوجه نشاط المسلم، وجميع الأعمال التي يقوم بها بما فيها ممارسته السياسية.
– دين خاص: يستعمل في مقابل الدنيا. |
تنبيه: قد ترد تصرفات نبوية تشريعية عامة ذات طابع سياسي، لكنها ليست تصرفات سياسية، ولا تصرفات بالإمامة، بل هي تصرفات دينية، مثاله: إيجاب الزكاة في المال، هو واجب مالي، وهو تصرف نبوي، إلا أنه تصرف ديني وتشريعي عام للأمة كلها.
بين التصرفات السياسية والتصرفات بالتشريع العام
التصرف بالتشريع العام | التصرف السياسي |
–إخبار عن حكم شرعي يبلغه الرسول ﷺ عن الله أو يبينه.
–شرع ديني عام للأمة كلها مهما اختلف الزمان والمكان. –ملزم دينياً. –اجتهاد الرسول ﷺ في التصرفات بالتشريع العام اجتهاد ديني لا يقر فيه على خطأ؛ لأنه يدخل في بيان الدين الذي يعبد الله فيه. –التصرف بالتشريع الديني العام أعم من التصرف بالإمامة؛ لأن التصرف التشريعي العام يكون في العبادات والمعاملات. –التصرفات بالتشريع الديني العام يقوم الفرد بتنفيذها دون حاجة إلى إذن أحد. –لا يصدر إلا عن الرسول ﷺ أو من يخلفه من العلماء في تبيين أمور الدين. –يدخله النسخ بالمعنى العام. –متعلق بالشأنين الفردي والاجتماعي. |
–حكم صدر عنه ﷺ بوصفه حاكماً ذات شرعية سياسية في المجتمع المسلم (تقنين وتنفيذ).
–إجراء دنيوي جزئي خاص بعوامل الزمان والمكان والحال. –ملزم بمقتضى السياسة الدنيوية. –اجتهاده في التصرف السياسي دنيوي أو وفق مصالح الدنيا. –لا يكون إلا في أمور الدنيا. –التصرف بالإمامة لا يطبقه الفرد مباشرة، بل يلتزم فيها بما تقرره الجهات المسؤولة عن تدبير شؤون المجتمع. –يصدر عن المسؤولين في تدبير شؤون الدولة والمجتمع. –التصرف بالإمامة لا يقبل النسخ. –متعلق بالشأن الاجتماعي أو الشأن العام. –تتعلق التصرفات بالإمامة أحياناً بوضع الإجراءات التشريعية والتنظيمية لتنفيذ التصرفات بالتشريع الديني العام، مثل وضع الإجراءات لتطبيق نظام الزكاة جمعاً وتوزيعاً، أو تنظيم الوقف وتطوير وسائل الاستفادة منه لتنمية المجتمع. |
الأساس المعرفي والعلمي لنظرية التمييز بين التصرفات النبوية:
التصور:
تصرفات الرسول ﷺ ليست على مستوى واحد من حيث دلالتها التشريعية، بل تتنوع بحسب المقام الذي تصدر عنه: أهو مقام تبليغ الدين، أم مقام الاجتهاد لبيان الوحي، أم مقام الاجتهاد السياسي من موقع الإمامة السياسية، أم غيرها من المقامات والأحوال؟ وكان له ﷺ في كل هذه المقامات أقوال وأفعال وتدابير، فوجب التمييز بينها ليعطى لكل منها حقه: بين تلك التي هي شريعة عامة باقية إلى يوم القيامة، وتلك التي تتغير وتتنوع بتغير زمانها أو ظروفها، وبين التي ليست تشريعاً وإنما تصرف بحكم البشرية.
ويعد الإمام القرافي أول من نبه إلى قاعدة التمييز بين التصرفات النبوية التشريعية والاهتمام بالمقام الذي وردت فيه، وفي تقعيد التصرفات النبوية بالإمامة، وإن كانت صورها وفروعها مبثوثة في كلام الفقهاء والعلماء المتقدمين، إلا أنه يعد أول من جعلها مضمنة في كتب القواعد والأصول وقد كانت من قبل لا يتحدث عنها إلا في أثناء المناقشات الفقهية، ومما قاله في هذا السياق في كتاب الفروق تمييزاً وتفريقاً بين تصرفاته ﷺ: “الفرق السادس والثلاثون بين قاعدة تصرفه ﷺ بالقضاء وبين قاعدة تصرفه بالفتوى وهي التبليغ وبين قاعدة تصرفه بالإمامة“، ثم قال: “وعلى هذا القانون وهذه الفروق يتخرج ما يرد عليك من هذا الباب من تصرفاته ﷺ، فتأمل ذلك فهو من الأصول الشرعية”.
الأدلة:
أولاً: تمييز الرسول ﷺ نفسه لأنواع من تصرفاته، من أمثلتها: (إنما أنا بشر، تأبير النخل، أكل الضب، ثمار المدينة وصلح غطفان، قصة بريرة، قصة أبي بردة بن نيار).
ثانياً: تصريح الصحابة بتنوع التصرفات النبوية، من أمثلتها: (مراجعة الحباب بن المنذر في بدر، مراجعة السعدين في غزوة الخندق، مراجعة عمر بن الخطاب في غزوة تبوك).
ثالثاً: الدلالات المتنوعة لمفهوم السنة: استصحاب معنى السنة لدى الصحابة والمتقدمين من الأصوليين لمعنى السنة، فلا يعد تصرفٌ نبويٌ سنةً إلا إذا كان للاقتداء والاتباع، وقد يأتي التصريح بأن بعض تصرفاته ﷺ ليس بسنة.
رابعاً: أهمية المقام في فهم مراد الشارع من النص: الفهم السليم للنصوص النبوية يحتاج إلزاماً إلى تعرف المقام الذي صدر عنه النص النبوي، فبه يسهل حمل الحكم المستقى منه محمله الشرعي دون إفراط ولا تفريط، وبه يعصم المسلم عن الغلو والتشدد في الدين والجمود في أمور الدنيا.
مسالك الكشف عن التصرفات النبوية السياسية:
أولاً: النص:
–بيان الرسول ﷺ: إشارة الرسول نفسه صراحة أو تلميحاً أن تصرفات معينة نبوية كانت من موقع المسؤولية السياسية.
–اختلاف الحديث: من دلالة النص على كون التصرف النبوي تصرفاً بالإمامة ورود تصرف نبوي بصيغة العموم، مع ثبوت نص أو نصوص أخرى مخالفة تلجئ إلى تأويله واعتباره تشريعاً خاصاً بحكم الإمامة.
–تنوع التصرفات في الموضوع الواحد: من دلالة النص على كون التصرف النبوي تصرفاً بالإمامة، ما نوع فيه رسول الله ﷺ التصرفات، فاقتضى الأخذ بجميع ما صح منها اعتبارها بالإمامة تتغير حسب مقتضيات الأحوال والسياقات.
ثانياً: تصرفات الخلفاء الراشدين: والمقصود بها منهجهم في الحكم وسيرتهم الراشدة لا الاجتهادات الجزئية.
ثالثاً: الإجماع: إجماع الأمة على أن هذا ليس من الدين وليس حكماً شرعياً، فالتصرف النبوي الذي انعقد الإجماع على خلافه إذا توفرت فيه السمات الخمس للتصرفات النبوية بالإمامة، فهو على الراجح تصرف بالإمامة.
رابعاً: قول الصحابي: توجيه الصحابي للتصرف النبوي هو تصرف اجتهادي، وهو أقل قوة من دلالة النص وعمل الخلفاء الراشدين والإجماع، لكنه من الناحية الموضوعية مهم لتوجيه فهم التصرف النبوي، وقد يؤدي إلى صرفه عن التشريع العام إلى كونه تصرفاً بالإمامة وخصوصاً مع وجود أدلة وقرائن أخرى.
خامساً: ارتباط الحكم بعلة أو مصلحة عامة: الأصل في أحكام الشريعة أنها معللة بالحكم والمصالح كما ظهر من خلالة ممارسة الصحابة والتابعين، وكما بين ذلك العديد من العلماء، وهذا مقيد بضابطين:
-أخذ الأصول العامة والمقاصد الكبرى للشريعة بعين الاعتبار، لسلك العلل الجزئية في هذه الأهداف الكلية، حفاظاً على تكامل الشريعة وانسجامها.
-التشاور في ذلك بين أولي الأمر والخبراء وأولي العلم، جمعاً بين العلم بالشرع والعلم بالواقع والخبرة المتخصصة، كما كان الخلفاء الراشدون يفعلون عندما تعرض لهم قضية من القضايا.
سادساً: القرائن المحيطة: والقرينة: كل أمارة ظاهرة تقارن شيئاً خفياً فتدل عليه. وهي نوعان:
-القرائن المقالية: وهي ما يرد في أثناء الكلام مما يبين المراد منه، وقد تكون لفظية أو سياقية.
-القرائن الحالية: وهي ما يتضمنه حال الخطاب من جهة نفس الخطاب، وحال المخاطِب، وحال المخاطَب، وأسباب النزول أو الورود، وطبيعة الأعراف الجارية في بيئة الخطاب.
تنبيه: يعين على إعمال تلك المسالك الخمسة أساساً ثلاثة أمور:
–استقراء ما ورد في موضوع التصرف النبوي المعني من نصوص في القرآن والسنة، ومجموع الأحكام الشرعية المرتبطة به، والمعاني المعلومة من الدين بالضرورة.
–استيعاب ألفاظ الحديث ورواياته بتوسع عند الحاجة.
–استيعاب الأحوال التي ورد فيها الحديث وما يكتنفه من ظروف زمانية ومكانية، ومن بينها معرفة أسباب ورود الحديث الشريف والمصالح والمقاصد الكامنة وراء التصرف النبوي.
أهمية التصرفات النبوية السياسية ودلالاتها:
ومقصود بها الوعي بها وبسماتها في مجالات فقه السنة وفهم الدين وتجديد علومهما:
أولاً: أنها منهج للتفاعل مع الواقع، وهذا يظهر في الآتي:
–التدرج في تنزيل الأحكام.
–اختلاف أحوال الناس وتطورها مع الزمن.
–حفظ النظام العام.
–مراعاة الأحوال الطارئة.
ثانياً: منهج تجديد الدين (منطقة مفوضة):
كثير من العلماء يعدون بعض التصرفات النبوية بالإمامة تصرفات مرتبطة بعللها وجوداً وعدماً، لكننا إذا تمعنا النظر الأمر جيداً، تبين أن بينهما فرقاً، وهو أن الحكم المرتبط بعلته وجوداً وعدماً كلما عادت علته عاد كما هو، بينما التصرف النبوي بالإمامة مرتبط بالمصلحة المراد تحقيقها في المجتمع، وإذا عادت الحاجة إلى تحقيق تلك المصلحة، فليس من الضروري أن يشرع ولي الأمر الحكم نفسه والوسيلة نفسها، وإنما عليه الاجتهاد وفق ظروف المجتمع وحاجات الواقع لابتكار وسائل جديدة مكافئة لتحقيق تلك المصالح التي حققتها التصرفات النبوية بالإمامة في عهده صلى الله عليه وسلم.
وضابط المنطقة المفوضة: هو المصلحة التي تتقيد بمستويين:
–ديني وقيمي وأخلاقي، فليس لهم التصرف على أساس الهوى والمصلحة الذاتية أو على أساس الخديعة والغش.
–موضوعي، فليس لهم التصرف بما هو أقل مصلحة إن كان في الإمكان فعل الأصلح.
ثالثاً: تطوير الفقه العام:
التنظير للتصرفات بالإمامة من قبل علماء الإسلام يعد تنظيراً حقيقياً للفقه العام، والأطر التوجيهية للمحاور التي تشكل مداخل الفقه العام مبنية على جملة من القواعد:
–اعتناء الشرع بالمصالح العامة أوفر وأكمل من اعتنائه بالمصالح الخاصة.
–تقدم المصلحة الاجتماعية على المصلحة الفردية أو تقدم المصلحة العامة على المصلحة الزمنية.
–يتحمل الضرر الخاص لأجل دفع الضرر العام.
–يقدم حق الله على الحقوق الخاصة للناس والمقصود به ما يتضمن رعاية أو حماية لمصالح المجتمع.
–تقدم الواجبات الكفائية على الواجبات العينية.
–تنزل الحاجة العامة منزلة الضرورة الخاصة.
رابعاً: حل إشكالات في الفقه والحديث:
-تعد التصرفات النبوية بالإمامة أساساً منهجياً للجمع بين النصوص المختلفة من وجين:
الأول: توفر أساساً منهجياً صلباً لفهم النواظم التي تربط العديد من أحكام النصوص المختلفة أو المتعارضة فتحيل تنافرها الظاهري إلى وحدة متناغمة وتكشف العديد من أسرار التشريع وحكمه.
الثاني: تمكن من تفادي اللجوء المتعسف إلى تضعيف الأحاديث الصحيحة بسبب تعارضها مع أحاديث أخرى أو تأويلها تأويلات بعيدة لا تسندها الأدلة والقرائن.
خامساً: في الفقه السياسي:
التصرفات النبوية بالإمامة بما هي تصرفات بالسياسة الشرعية تفتح باباً واسعاً لتجديد الفقه السياسي وإعادة النظر من زاوية جديدة في كثير من قضاياه، ومنها:
–مدنية الدولة في التصور الإسلامي: فالدولة في الإسلام دولة مدنية، وليست دولة دينية بالمعنى المتعارف عليه في الفكر السياسي الغربي، فطبيعة التصرفات النبوية بالإمامة وسماتها توضح كيف أن الإسلام ينزع كل عصمة أو قداسة عن ممارسات الحكام وقراراتهم، كما ينزعها عن الوسائل التي تتوسل بها الدولة لإدارة شؤون الأمة، ولهذا يرى ابن خلدون أن الإمامة من المصالح العامة المفوضة إلى نظر الخلق.
–إرهاص مبكر للفصل بين السلطات: بحكم ما اقتضته السمة الأولى من سمات التصرفات النبوية بالإمامة ومن تمييز العلماء بين مختلف التصرفات النبوية، يتبين أن أهم خلاصة حاولوا توضيحها هو التمييز بين ثلاثة أنواع من القضايا: القضايا التي يرجع القرار فيها إلى السلطة السياسية في المجتمع بمختلف أجهزتها ومؤسساتها، والقضايا التي المرجع فيها للسلطة القضائية، والقضايا التي هي من اختصاص العلماء والمفتين، وهذا إنما أخذ استئناساً من التمييز بين أنواع تصرفاته عليه الصلاة والسلام، فتكون أساساً مقبولاً للاستدلال على فكرة الفصل بين السلطات.
–تاريخية التجربة الراشدية: تؤسس سمات التصرفات النبوية السياسية أيضاً لتاريخية التجربة الإسلامية في عهد الخلفاء الراشدين، وبالرغم من كونها تجربة سامقة نحن مأمورون بالاقتداء بها، ولكنها تجربة لا تتجاوز الزمان والمكان والملابسات التي أملتها، فما دامت الممارسة السياسية النبوية نفسها نسبية، فمن باب أولى أن تكون التجربة الراشدية كذلك نسبية، ومنهجية الاقتداء بها يكون من جهة المنهج العام والقيم الهادية دون الجمود على الأحكام الجزئية.
–التمييز بين الديني والسياسي: يعطي التمييز الأصولي بين تصرفات النبي ﷺ الدينية والسياسية إمكانية كبيرة لبناء تصور فكري يؤصل للتمييز بين الديني والسياسي، ليس بمعنى الانفصال لكن بمعنى أنه إن كان السياسي ديناً بالمفهوم العام فإنه ليس ديناً بالمفهوم الخاص، وإذا كان مرجع الديني هو الوحي كتاباً وسنة، فمرجع السياسي هو التجربة البشرية والإبداع الإنساني.
سادساً: المقاصد الشرعية والتصرفات النبوية السياسية:
-التصرفات النبوية السياسية هي تصرفات تدخل في المجال الدنيوي، ومن ثم فإن المقاصد المتوخاة منها هي أساساً مقاصد كلية عامة، والتصرف نفسه خاص بزمانه وظروفه.
–المقاصد الأصلية للتصرفات النبوية السياسية هي مقاصد معقولة المعنى.
–الأحكام في التصرفات النبوية السياسية لا تدور مع علتها وجوداً وعدماً، فالغالب عدم وجود علل لها بالمعنى الأصولي، وإنما ترتبط بالمقصد المطلوب تحقيقه من ورائها، وواجب المسلم التجديد في الوسائل المحققة لذلك المقصد.
المحور الثاني: الجهود والدراسات التي كتبت حول هذه العلاقة، وركزت على نقد الأطروحة السابقة:
هناك جملة من القراءات والمراجعات تركزت حول أطروحة العثماني من خلال كتابه: التصرفات النبوية السياسية، وكتبه الأخرى التي أعقبت هذا الكتاب، وفي هذا السياق نشير إلى بعضها في سياق تقويم ونقد هذه الأطروحة:
أولاً: نظرية الدكتور سعد الدين العثماني في السياسة والدولة في الإسلام: عرض ونقد: وهي دراسة مطبوعة للدكتور عطية عدلان وجه فيها النقد إلى بحث الدكتور سعد الدين العثماني: “الدولة الإسلامية: المفهوم والإمكان”، وقد ضمن عدلان الدراسة أربعة مباحث:
الأول: عرض مجمل لآراء الدكتور العثماني.
الثاني: مناقشة الأصول التي بنى عليها وانطلق منها.
الثالث: فض الاشتباك بين المفاهيم المتمايزة.
الرابع: ردود جزئية.
وأهم ما جاء في كتاب الدكتور عدلان ما يأتي:
-البناء الفكري للأطروحة من حيث أصوله وقواعده، وهي كما يراها عدلان ثلاثة أصول: الأول: التفريق بين ما هو من قبيل العبادات وما هو من قبيل العاديات. الثاني: التمييز بين تصرفات الرسول ﷺ التشريعية وغير التشريعية. والأصل الثالث: عدم ورود نص من الكتاب أو السنة يدل على وجود نظام سياسي إسلامي.
ورأى عدلان أن التفريق بين ما هو عبادي وعادي لا إشكال فيه من حيث أصله، لكن وجه الاعتراض هو الطريقة التي تعامل بها مع هذا الأصل، والمنهجية التي سلكها وصولاً إلى ما يريد اتكاء عليها، وفيما يتعلق بقاعدة التمييز بين تصرفات الرسول ﷺ التشريعية وغير التشريعية، فإن التسليم بهذه القاعدة والإقرار بصحتها وضرورتها لا يعني توجيهها على وفق ما وجهها به العثماني من خلال أطروحته.
بل إن الأخير قصد بها معنى لم يكن مقصوداً لدى العلماء القائلين بهذه القاعدة والمقرين بها، فالعثماني يرى من خلالها أن أمور السياسة دنيوية مدنية، وأن تصرف الرسول بها تصرف دنيوي بوصفه حاكماً للأمة، ولذلك لسنا مطالبين بالاقتداء به في الأحكام الجزئية وإنما هو الاقتداء بالمنهج العام، بينما المقصود عند العلماء هو تصحيح تلقي الناس لها وتعاملهم بمقتضاها.
وأما عدم ورود نص من الكتاب أو السنة يدل على وجود نظام سياسي إسلامي، واندفاع العلماء باتجاه الاتكاء على الإجماع في باب الإمامة، فإنه كما يرى الدكتور عدلان أن العثماني قد سبقه إليه علي عبد الرازق، ومن ثم فإن تأصيله ينطوي على جملة كبيرة من المغالطات، أبرزها:
أولها: أنهم تصوروا وصوروا للناس أن عدم اشتمال القرآن على آية أو آيات تصرح بذكر الدولة أو الإمامة أو الخلافة وتدعو إلى قيام الدولة وتأمر بها، يعني أن القرآن قد خلا منها، وهذا تصور ساذج كما يصفه عدلان، فكم من حقيقة من الحقائق المسلمة التي لا تجحد، لم تنص عليها آية، ولم تذكر في حديث، ولا يستطيع أحد أن يقول إنها ليست من القرآن والسنة، وإنما عرفت باستقراء أحكام الشرع ومصادره وموارده.
ثانيها: تقليلهم من شأن ما لم يذكر في كتاب الله تعالى صراحة، حتى ولو كان كان من المسائل التي أجمعت عليها الأمة، وأطبقت عليها أجيال المسلمين، وهذا مسلك في غاية التعسف والخطورة كذلك، والحقيقة أن الأدلة من القرآن والسنة التي تثبت أن الإسلام مشتمل على نظام سياسي متميز، وعلى أن الإسلام دين ودولة وعلى وجوب الإمامة، وعلى أن ذلك كله من أمور الدين أدلة تبلغ مبلغ القطع، وطريقة الاستدلال بها هي طريقة الاستقراء، ثم ذهب يسردها ويقف عندها بياناً وتوضيحاً.
-فض الاشتباك بين المفاهيم المتمايزة، وفي هذا السياق يرى الدكتور عدلان أن العثماني قد خلط خلطاً شديداً بين ما هو من قبيل الممارسة السياسية وبين الأحكام السلطانية، فالأحكام السلطانية هي التي تختص ببيان النظام السياسي الإسلامي بمكوناته وبقواعده التي تحكمه، والكتب التي تناولتها تختلف عن الكتب التي تناولت الممارسات السياسية.
فهذا قسمان لا يصح أن يلتبس أحدهما بالآخر؛ لأن قسم الأحكام السلطانية هو الذي يحدد شكل الدولة الإسلامية، ويوضح أسس ومؤسسات النظام السياسي الإسلامي، ومن هنا تتسع فيه مساحة الثوابت وتضيق فيه مساحة المتغيرات، أما قسم الممارسة السياسية وتصرفات الإمام في تدبير الدولة، فهذا مجال عملي متجدد، ومن هنا تتسع فيه مساحة المتغيرات وتضيق فيه مساحة الثوابت.
-سياق الردود الجزئية على بعض المسائل التي وردت في أطروحة العثماني، وتحمل مغالطات منهجية كما يرى الدكتور عدلان، وساق في رده إحدى عشرة مسألة، نسوق منها ثلاثاً:
*الاستدلال بتعدد أساليب اختيار الإمام في عهد الراشدين على عدم وجود نظام سياسي في الإسلام، وجاء نقض هذا الاستدلال بالإقرار بأن التولية للأئمة تمضي على وفق نظام ثابت ومستقر، وإن كان هناك قدر من المرونة في مساحة المتغيرات سواء كانت مسائل اجتهادية أو أمور دنيوية.
*ادعاء العثماني أن الصحابة لم يعتمدوا في حجاجهم بالسقيفة على النصوص، وإنما كان حوارهم مدنياً، ويعد هذا بحسب عدلان تهافتاً على مصطلح المدنية، وتكففاً للأمم وتسولاً للنظم منها، وينقض هذا الاستدلال أن حوارهم لم يكن مدنياً وإنما كان مصلحياً مقاصدياً رفيع المستوى، وخلوه من النصوص دعوى تنقضها المرويات، بدلالة رواية: “قريش ولاة هذا الأمر”.
*زعم الدكتور العثماني أن مسائل الإمامة لم تكن قط من أمور الدين، وهو زعم غريب؛ كيف وعلماء أهل السنة يتناولونها في أبواب الفقه الأكبر، ويعنى بها في علم الكلام أكثر من الفقه، وذلك لكون أهل السنة مباينون للشيعة في شأن الإمامة، ويرون أن طريق انعقاد الإمامة باختيار الأمة وليس بالنص كما تقول الشيعة، وانتقد الدكتور عدلان منهجية العثماني في الاستدلال بكلام ابن تيمية موهماً القارئ بأنه في سياق كبار العلماء يخرج موضوعات الإمامة من الأمور الدينية، في حين عند تأمل نص ابن تيمية نجده يرد على ابن المطهر الشيعي في جعله الإمامة أعلى رتبة من مسائل الإيمان، وليس من مقصوده إخراج أخراجها من الأمور الدينية.
وختم الدكتور عدلان دراسته بقوله: “في الوقت الذي يحترق فيه المشروع الإسلامي بفعل الغلاة الذين يقدمون أنموذجاً مشوهاً عن الإسلام والدولة في النظام الإسلامي؛ نجد الكثيرين يسارعون إلى الأنموذج الغربي ويقدمونه لنا بعد نزع جلده ووضعه في خرقة إسلامية على أنه المشروع الأقوم للأمة الإسلامية. كلا الفريقين يرتكب جريمة في حق الإسلام، وفي حق الأجيال الإسلامية القادمية، وكلا الفريقين يكمل الآخر ويقوي مبرر وجوده ومسوغ مشروعه، وإن كانا في ظاهر الأمر متباينين أشد التباين، والإسلام وسط بين هذه المتناقضات، والبقاء للحق الوسط العدل، أما الطيش فيذهب جفاء .. وأخيراً أسأل الله لي ولسعادة الدكتور العثماني التوفيق والسداد ..”.
ثانياً: الدين والسياسة تمييز لا فصل: قراءة ونقد: وهي مراجعة من قبل موقع الدرر السنية، وتضمنت المراجعة عرضاً لكتاب “الدين والسياسة تمييز لا فصل”، وهو من الكتب التي صدرت من رحم كتاب التصرفات النبوية السياسية وغيره، ثم أعقبها بالنقد، وأهم ما جاء فيه الآتي:
-العلمانية بمفاهيم أصولية: يرى الناقد أن أخطر ما في الكتاب أنه يجسر الهوة بين الإسلام والعلمانية، ويفتح الباب لقارع العلمانية للولوج في الحياة السياسية بوجه شرعي، ويقدم الغطاء الشرعي الأصولي اللازم للخطاب العلماني، ويدلل الناقد على ذلك أن هذا التصور الذي طرحه العثماني لعلاقة الديني بالسياسي يتقاطع بشكل كبير مع كثير من الأطروحات العلمانية، ويقول -أي الناقد-“بل الدكتور نفسه واع تماماً لحالة التقارب هذه مع الحالة العلمانية، فيقول في أحد حواراته: (هناك علمانية أقرب ما تكون إلى التصور الإسلامي) ..”.
-تفريغ السنة النبوية من مصدرية الوحي في المجال السياسي: يرى الناقد أن الإشكال ليس في فكرة تقسيم التصرفات النبوية، وبيان ما تعلق بهذه التصرفات من أحكام، وقد جرى الأصوليون فعلاً على التنبيه على صور وأشكال التصرفات النبوية، وبيان ما كان منها واقعاً للتشريع، وما وقع منها بمقتضى غيره من الوجوه، لكن المشكلة اللافتة للنظر أن هذه المسألة الأصولية أضحت منطلقاً عند البعض لتفريغ السنة النبوية شيئاً فشيئاً من دائرة الإلزام الشرعي؛ ليتسع مع الزمن مجال السنة غير التشريعية على حساب التشريعية.
ثالثاً: أطروحة سعد الدين العثماني .. العلمانية بمفاهيم أصولية!: وهو مقال للدكتور امحمد جبرون، جاء في سياق التقويم لأطروحة العثماني، وأهم ما جاء فيها ما يأتي[3]:
-سواء قصد المؤلف هذا الأمر أو لم يقصده، فإن الطريف في عملية الكتابة من جهة، وجمالية التلقي من جهة ثانية، تكمن في المعاني وأشكال التلقي اللامتوقعة لهذه الأطروحة. فتمييز “تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم بالإمامة”، أو ما يمكن تسميته بلغة العصر: التصرفات السياسية للرسول صلى الله عليه وسلم، بأنها في أمور غير دينية واجتهادية ومصلحية، مقابل التصرفات الدينية للرسول هو ترجمة أصولية لمبدأ “فصل الدين عن الدولة (السياسة)”، بل السؤال الأكثر أهمية في هذا السياق: أي مشكل للإسلاميين مع العلمانية مع هذا التمييز وبعده؟.
-هذه الأطروحة يمكن الاعتراض عليها من خلال جملة من الأسئلة وأهمها: ما مدى صواب قصر التصرفات بالإمامة فقط على تلك التي قام بها النبي صلى الله عليه وسلم باعتباره رئيساً للدولة؟ ألا تدخل فيها بعض التصرفات التي قام بها صلوات الله عليه من منطلق النبوة وتبليغ الرسالة؟ وهل فعلاً تصنيف القرافي لتصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم، خاصة تعريفه للتصرفات بالإمامة يوافق ما ذهب إليه سعد الدين؟ ثم ما مفهوم الإمامة المرجعي لتصنيف تصرفاته صلى الله عليه وسلم؟ وهل سنعتمد على معيار الجهاز/المؤسسة (الدولة) في تمييز هذه التصرفات أم معيار آخر؟.
-الوعي باتساع دلالة الإمامة واشتمالها على الرئاسة الدينية والدنيوية كان عاماً لدى السلف الصالح من علماء الأمة المتقدمين والمتأخرين، ولا أدل على ذلك من اشتراط فقهاء الأحكام السلطانية في المُقَدَّم للإمامة “العلم المؤدي إلى الاجتهاد في النوازل”. ومع تقدم الزمان وتعذر هذا الشرط في ضوء التحولات السياسية التي طرأت على العالم الإسلامي، فقد أُمر المتصدي للإمامة والخلافة بتقديم من فيه كفاية وغنية من العلماء والقضاة في جانب الدين. أما مفهوم التصرفات بالإمامة الذي طوره سعد الدين العثماني في هذه الرسالة فأصله يوجد عند الإمام القرافي وشيخه العز بن عبد السلام، والغموض الذي يداخله يرجع إلى هذا الأصل الذي نقل عنه، والأصوليين الذين استعملوه بشكل محدود من بعده. وقد انتبه بعض المتقدمين لهذا الالتباس وحاولوا رفعه بتدقيق تعريف لفظ “التصرف بالإمامة”، لكن الدكتور سعد الدين غفل عن هذا التنبيه، ولم يوله الأهمية التي يستحقها.
-إن المصلحة بشكل عام بالنسبة للتصرفات بالإمامة بمثابة العلة اللازمة لها، والصفة اللصيقة بها، ورغم هذه الأهمية فلا نجد تذكيراً على امتداد الكتاب بمعناها الاصطلاحي الأصولي، مع العلم أن الحاجة لمثل هذا التذكير حاصلة؛ ذلك أن السياقات المختلفة التي ورد فيها مفهوم المصلحة تدفع نحو الاعتقاد بطابعها المادي والدنيوي، وهو ما يقتضي التوضيح والبيان، والتساؤل عن المفهوم الصحيح للمصلحة الشرعية.
فمن الملاحظات التي أبداها بعض العلماء وعلى رأسهم ابن تيمية على طريقة مقاربة بعض الأصوليين القدامى لأجناس المصالح الخمس، تغليب الجوانب الدنيوية المادية، وبالمقابل إهمال المصالح المعنوية والروحية والخلقية في تحديدها وذكر أمثلتها وتطبيقاتها، وهي الملاحظة نفسها التي يمكن أن يلاحظها القارئ بيسر على أطروحة سعد الدين، خاصة أثناء حديثه عن سمات التصرفات بالإمامة، ولا يخفى أن عيباً كهذا يمكن أن يحول خطاب المصالح إلى وسائل للنفوذ المادي من ناحية، ومداخل للتفقير الروحي والخلقي من ناحية ثانية.
-إن محاولة تعبئة “الإمامة السياسية” شكلاً ومضموناً بما هو دنيوي ومدني، وفي المقابل العزوف عن ما هو ديني، والتي تندرج في سياقها محاولة الدكتور سعد الدين العثماني في هذا المؤلف، رغم منافعها وفوائدها الكثيرة، ستؤدي في حال نفوذها إلى تأصيل الاتجاهات التي ترغب في إبعاد الدين عن ساحة السياسة أو على الأقل إضعاف العلاقة بينهما.
رابعاً: في تقويم شفوي من الدكتور سيف الدين عبدالفتاح لكتاب التصرفات النبوية السياسية للعثماني، جاء فيه الآتي:
-فيما يتعلق بالتصرفات النبوية خصوصاً والسيرة النبوية عموماً؛ بصوفها مصدراً مرجعياً قد آن الأوان للنظر إليها نظراً أبعد من ذلك النظر التقليدي المعتاد عليه عند الباحثين، وليس معنى هذا أن نحاول الافتئات عليها أو نسقطها إسقاطات لا تسعها، وإنما نتفهمها الفهم الواجب في إطار منظور حضاري شامل على الوجه الذي تأصل فيه على سبيل المثال المدخل السفني في التعامل مع حديث السفينة.
-تعد قاعدة التمييز قاعدة صحيحة، ومن القواعد الأصولية والتأسيسية التي يجب التعامل معها، والبناء عليها بشكل من الأشكال، وهذا ظاهر من خلال تنوع وتغاير التصرفات النبوية، فينظر إليها في سياق ما يسمى بعمية التدبير، سواء كان تدبيراً سياسياً أو اجتماعياً أو تدبير أمر الجماعة الذي كان هو منها، ويقع منها مواقع مختلفة، فقد كان عليه الصلاة والسلام نبياً وإماماً وقاضياً ومفتياً، وهذه وظائف متمايزة من حيث منهج التأسي.
وبالرغم من الإقرار بصحة قاعدة التمييز، إلا أنه إعمالها هو الذي دار حوله الجدل، ومن خلالها نتحفظ على بعض اجتهادات العثماني لاعتبارات تتعلق بأمرين:
الأول: تحميل النقول التي ساقها العثماني بما لا تحتمل، وإلزامها ما لا يلزم، وعندها موقفنا منه موقف منهجي، يحتاج إلى حوار ونقاش في سياقه.
الثاني: تداخل المصطلح السياسي الغربي عنده مع المصطلح الإسلامي كان واسعاً، وهذا أفضى عنده إلى أخطاء في التصور.
-عند تأمل قضية الفصل بين الدعوي والسياسي أو الديني والسياسي، يمكن أن يكون خياراً في بعض الأحوال بشروط الموقف حول الفصل ولا يكون ذلك علمنة أو علمانية، وإذا اشتبه على البعض بسبب إطلاق لفظ الفصل، فإن هذا في حقيقته لا يعد علمانية، بل لا بد من النظر إلى الفكرة العامة والموقوف في الرؤية الكلية وفي إطار السياقات الموجودة، ذلك أن السلوك قد يكون واحداً لكن جهته في الحكم منفكة، فبعضه يكون له حكم الفصل، والبعض الآخر يكون له حكم آخر كالتداخل والتقاطع.
المحور الثالث: الخبرات في الحكم في ضوء فكرة التمييز بين الدعوي والسياسي:
ويتضمن هذا المحور جملة من الفروع:
-خبرة الحكم الإسلامي بعد الربيع العربي: الحالة المصرية والتونسية نموذجاً.
-فكرة عدم التمييز بين الدعوي والسياسي في قراءة عوامل الفشل في الحكم كما يطرحها البعض.
-العلاقة بين الفكرة والحركة، وما بين الحركي والنظري.
-الموازين الضابطة في كيفية التعاطي مع فكرة العلاقة، هل عندنا موازين في الدخول إلى هذه العلاقة؟
-التأصيل في العلاقة بين الظاهرة الدينية والظاهرة السياسية.
-العلاقة بين الدولة والمجتمع في ضوء العلاقة بين الدعوي والسياسي؛ بوصف الدعوي مهتماً بالمجتمع، والسياسي مهتماً بالدولة.
-العلاقة بين الأطراف الإسلامية وغيرها.
1.كل دين له أتباع ورجال مخلصون له فهو ساعٍ للحكم، سواء أكان أولئك الرجال صالحين كالصحابة رضي الله عنهم، أو فاسدين ككثير من الرهبان، وقد حَكَم ومَلَك بعضُ الأنبياء.
2.كل حكم قام واستقر فهو لا يستغني عن دعم الدين له، وانتماء فئة من رجال الدين لذلك الحكم، والاستثناءُ يؤكد القاعدة.
3.مبكرًا لم تكن خصومة في تاريخنا الإسلامي، فرجل الدين كان قائدًا قاضيًا حاكمًا، فاجتمعت الكفاءة والأمانة مع القدوة والديانة.
4.وقعت الخصومة في التاريخ الإسلامي، فافترق القرآن عن السلطان، وابتعد- في الأغلب الأعم- العالِمُ عن الحاكم، وافترقت الديانة والصيانة عن جمع العلوم والتحصيل.
5.في كل حقبة مزدهرة موصوفة بالعدل ورعاية الحقوق، كان هناك اتصال إيجابي بالعلماء من الحكام، ومن العلماء بالحكام، وفي تاريخنا الإسلامي شواهد متعددة.
6.من أزمنة بعيدة وهناك خيارات في تلك العلاقات، التي لا بد منها لقيام الدول، واستقرار المجتمعات المنتسبة للإسلام، فمن ذلك:
أ.خيار الاعتزال والابتعاد: فلا اشتغال للعلماء بشيء له تعلق بالحكام، لا سلبًا ولا إيجابًا.
ب.خيار الاقتراب والمخالطة: بمؤازرة ومعاونة وسعي في تثبيت حكمهم، بدوافع متعددة، وبصور متفاوتة جدًّا.
ج.خيار الإنكار والمعارضة: احتسابًا في شأن المنكرات السياسية، مع الالتزام الإجمالي بالسمع والطاعة في المعروف.
د.خيار العزل والمصادمة: سعيًا في تغيير الحاكم والوضع القائم، بالعزل والإقالة، أو الإلجاء للاستقالة، أو الثورة، أو الخروج ونحو ذلك.
وقد نُسب إلى كل خيار ثُلَّةٌ من العلماء والدعاة في القديم والحديث.
7.اختيارات العلماء والدعاة في العلاقة بالسياسة من قديم، محكومة بقاعدة السياسة الشرعية الكلية في تحصيل المصالح وجمعها، ودرء المفاسد وتقليلها.
8.تنتظر الأمة عودة صادقة للسياسة إلى حظيرة الدين والقيم، وتجديدًا لعهد الأمة بالراشدين، عبر العلماء الربانيين المجربين. قال مجاهد رحمه الله: «الرباني: الجامع إلى العلم والفقه، البصر بالسياسة، والتدبير، والقيام بأمور الرعية، وما يصلحهم في دنياهم ودينهم»([4]). وقال الطبري رحمه الله: «والربانيون هم: العلماء والحكماء، البصراء بسياسة الناس، وتدبير أمورهم والقيام بمصالحهم…»([5]).
9.والرباني إذا اتصل بالحاكم العادل أجرى الله على يديه من الخيرات، وارتفع قدره بين الخلائق، وصار حديث الزمان، والأمثلة على ذلك حاضرة من تاريخ المسلمين.
10.باستبدال الشريعة، وتنحية حكمها، واستدبار ثوابتها، واستباحة حرامها، واستضعاف أهلها، وتولي أعدائها، بل والتولي من قبل أعدائها- بذلك كله تكون قد وقعت نازلة لا عهد للسابقين بها!
حين تحكم دول وحكومات باسم مستعمرٍ، زال في الظاهر، وهو يحكم بواسطة عملائه في الباطن! وأدى من الخدمات لسيده ما لا يقدر عليه المستعمر نفسه!
11.من واقع الاستعمار والاستضعاف والارتهان والتبعية للحضارة الاستعمارية الوافدة، يجب أن ينطلق العلماء في التفكير لرسم حدود العلاقة بين الدعوي العلمي والسياسي، في هذا الواقع شديد الاضطراب والتعقيد.
12.وحقيقة الحال ليس في قبول الدعوي للديمقراطية، وإنما هي قبول السياسي ومن يقف خلفه في الغرب للإسلامي!! والواضح للعيان: أن الديمقراطية الغربية لا تتسع ولا تقبل بالإسلاميين!
13.وقد بات مؤكدًا في ظل الإخفاقات المرتبطة بالربيع العربي، على أرض الواقع: أن هامش الحرية المتاح لممارسة سياسة نزيهة قليل جدًّا، بالنسبة لمن يوصفون بأنهم إسلاميون.
14.وباستعراض مآلات الأمور في بلاد الربيع؛ فإن مساحة الحرية المتاحة تبدو قريبة من الصفر في بلاد كمصر والشام واليمن، بينما هي أفضل قليلًا في تونس! والصدام الدموي ما تزال فصوله تروي الثرى في سوريا وليبيا إلى اليوم، وقد آل حال اليمن إلى ما لا يخفى!
15.وللممارسة السياسية في ظل الاستضعاف وعدم قبول الآخر الغربي وأعوانه للإسلامي والدعوي، ضرورات وحاجات متعددة، تفتح بابًا للترخص الذي يقضي على نزاهة ونقاء ونصاعة ثوب العالِم والداعية من جهة، ويشوه صورته أمام أتباعه من جهة أخرى. ولهذا انتهى الأداء المغاربي بأسره إلى فصل بين الدعوي الديني، والسياسي المصلحي.
16.هذا الفصل سواء بني على تأصيل إسلامي للعلمانية أو الليبرالية، كما هو الحال عند بعضهم اليوم، أو بني على فصل عملي دون تبنٍّ لمفاهيم أيديولوجية، أو بني على فقه الضرورات والظروف الاستثنائية؛ بسبب حالة الاستضعاف العالمية؛ فإنه لا يمكن أن يبقى دائمًا أو مستمرًّا؛ ضرورة أن الحركة الفاعلة داخل المجتمعات والتغيير نحو الأفضل يسعى معه الجميع إلى الصورة الأكمل، بارتكاز الحكم على ثابت ديني راسخ نظريًّا على الأقل!
17.وفي ظل الواقع الراهن: لا مانع من وجود الإسلامي بخطابه السياسي التقليدي الانضباطي، المقاوم للتغريب والعلمنة مع الاستبداد والفساد، المؤسَّس على قاعدة شرعية متينة، جنبًا إلى جنب مع أداء سياسي شاب، يتعامل مع المعركة السياسية بأدواتها المعاصرة، ويستلهم تجارب مجاورة، لم ترتدِ ثوب الدين أصلًا، وإنما انطلقت في فضاءات حرة ومتحررة؛ لتشعر الناس بطعم الحرية والعدل، وتحقيق إنجازات واسعة في دنيا السياسة والاقتصاد.
18.ولا يصلح أن يقع التنافر أو التعادي بين الطرح الشاب المنطلق من احتياجات واقعية، من غير أن يتحمل بحمولة أيديولوجية؛ ليستهدف قطاعات واسعة، وليتمتع بحركة وعلاقات متنوعة في المجتمع والدولة على حد سواء.
19.واقعيًّا، فإن العمل السياسي الشاب لا يجمد على قالب لا يتغير، وشكل لا يتطور، والانكفاء على الذات لا يكون عملًا سياسيًّا في الأغلب الأعم. وكما أن العمل السياسي يكون مع الداخل، يكون أيضًا مع الخارج، وفقًا لخلفية بريئة من الاتهام، بقدر بعدها عن القيود الأيديولوجية، وهذا من أهم الضوابط والموازين التي يتعين التأمل فيها.
20.ومن التوفيق: انصراف الدعوي بعد تحديد موقفه الانضباطي من السياسي إلى تقوية المجتمع بمؤسساته، في وجه تغوُّل الدولة وتعديها على المجتمع. وكل وقت أو جهد أو مال ينفق في تقوية المجتمع، هو خطوة في الاتجاه الصحيح، المؤازر لكل جهد سياسي راشد، على مستوى الدولة ومؤسساتها.
21.يسهم بناء التيار المجتمعي العام في تقوية جانب المجتمع، ودعم مؤسساته المختلفة في الإصلاح بكل جوانبه، ويهيئ مناخًا مواتيًا وداعمًا للسعي في تحصيل أسباب عافية المجتمع والدولة معًا، ويتأكد هذا من خلال الأعمال المؤسسية والتنسيق مع الكافة.
22.ليس بالضرورة أن تكون هناك مشاريع مجتمعية كبرى، بل يكفي أن يجزأ المشروع الأكبر إلى عدد كبير من المشاريع الصغرى، مقسمة للقطاعات المجتمعية المتعددة لتتكامل أعمالها، وتتكافل أجزاؤها، وتتواصل لإنجاز المشروع الكبير، بعد مراحل من السعي والانطلاق والعزف المنفرد.
23.تتأكد العناية بالاشتراك والتعاون في بناء المؤسسات العلمية والتعليمية والتربوية والدعوية، وكذا المؤسسات الإنسانية الاجتماعية الأدبية التاريخية الحضارية المختلفة، في شتى فنون ومجالات المعرفة الإنسانية.
24.تتأكد العناية بنشر القيم الحضارية والأسس الفكرية والمعرفية للنهضة، والتبشير بها، والدعوة إليها، وتربية النشأ عليها، والإفادة من التجارب الناجحة في هذا السبيل.
المحور الرابع: حول علاقة العالم بالسلطة والسلطان:
وفيه جملة من الفروع:
–فكرة التحصينات للعالم وعلاقته بالسلطان والحاكم.
–دور الوقف في استقلال العلماء.
–العلاقة بين المؤسسات الدينية والمؤسسات السياسية.
–إشكالية الظهير الديني في التوظيف السياسي (الأزهر والانقلاب نموذجاً).
–الفتوى والسياسة والعلاقة بينهما.
أولاً: تعليق حول إشكالية العلاقة بين الدعوي والسياسي:
هذه القضية التي فتحت حول الموضوع الذي يتعلق بالعلاقة ما بين الدعوي والسياسي، من المهم تسكينه بين ظواهر أكثر كلية وأكثر عمومية من الفكرة التي تتعلق بالدعوي والسياسي في هذا الإطار، وقد عقد له الأستاذ الدكتور حامد ربيع في مقدمته لكتاب (سلوك المالك في تدبير الممالك) حول العلاقة بين الظاهرة الدينية والظاهرة السياسية، وأعتقد أن مفهوم الظاهرة الدينية والظاهرة السياسية يشتمل على عدة موضوعات، من أهمها الموضوع الذي يتعلق بالعلاقة ما بين الدعوي والسياسي.
وفي هذا الإطار كان الأستاذ الدكتور حامد ربيع يتحدث عن مفهوم الدعوة الذي يرتبط بفكرة الالتزام المعنوي فيما يتعلق بالظاهرة الدينية، بينما الظاهرة السياسية هي شعور بالالتزام إزاء الحاكم ولو من منطلق الإكراه المادي والقسر العضوي، وهكذا نجد في الدين تنظيماً على أساس الالتزام المعنوي، بينما السياسة فيها تنظيم لعلاقة مدنية أو دنيوية من منطلق الالتزام المادي، فيشير إلى أنه بالرغم من الاختلاف ما بين الجانبين إلا أن هناك ارتباطاً كبيراً وعلاقة ثابتة تؤكدها كافة الحضارات، ولذلك هو ينفي الوهم الذي يتعلق بأن بعض الحضارات تقول بأن لا تعلق فيها ما بين الظاهرة الدينية والظاهرة السياسية، واصفاً إياه بأنه أسطورة، سواء في القديم أو في الحديث، في التاريخ والذاكرة أو في التطور التاريخي، حتى لما أعلن هؤلاء وقالوا إنهم يتبنون الفكرة والمنهجية العلمانية في هذا المقام، فإن هناك ولا شك تعلقاً وعلاقة بين الظاهرتين.
علم العلاقات بين المجالات المختلفة:
ومن المسائل المهمة في هذا الإطار بحث مسألة العلاقة بين الدعوي والسياسي أو بين الديني والسياسي في سياق ما يمكن تسميته بعلم العلاقات بين المجالات المختلفة، وفي حديثنا عن المجالات فإن هناك مجالات عدة يمكن أن تدخل في سياق هذه العلاقة بين الدعوي والسياسي، ومنها مثلاً المجال الحركي، وهو مجال قد يتردد بين الدعوي والسياسي وينتمي إليهما.
إن معظم هذه المجالات التي تتعلق بهذا الشأن يمكن أن يكون لها مجال يتعلق بما يمكن أن نسميه بالمجال القيمي، والمجال النظامي والمؤسسي في العلاقة، والمجال الحركي الذي يتعلق بالممارسة والنشاط.
ومن المهم أن ننبه إلى أن هناك صوراً ومظاهر متغايرة من العلاقة بين المجالين الدعوي والسياسي، فتارة يكون هناك نوع من التقاطع، فتكون هناك دوائر متقاطعة بين المجالين، كما أن هنك جوانب متمايزة فيهما، فهناك جانب في السياسي لا يدخل في الدعوي، وجانب في الدعوي لا يدخل في السياسي، كما أن هناك جانباً يشترك فيه الدعوي والسياسي في مجال ما يسمى بالمجال المشترك.
ومن ثم فالعلاقة ما بين الظاهرة السياسية والظاهرة الدينية يمكن أن تتخذ أشكالاً غير ثابتة، بمعنى أن هناك علاقة أكيدة ما بين الدعوي والسياسي، ولكن وصف هذه العلاقة قد يكون في سياق التناقض والتصادم، أو التكامل، أو التداخل، فضلاً عن أن هذه الأشكال أيضاً تتعلق بمستويات شتى في سير هذه العلاقة وفقاً لما تتعرض له من عوارض ومؤثرات، فيمكن أن تكون العلاقة ما بين الدعوي والسياسي في حال من حالات التكامل في هذا المقام، ويمكن أن يقوم السياسي باستخدام الدعوي أو الديني لأغراض سياسية، وهو الذي نسميه التسييس.
كل هذه الأمور يجب أن تكون واضحة في علم العلاقات، فالعلاقة لا تكون على شكل واحد، هناك فرق في تأسيس العلاقة، وفرق في أشكال وتجليات العلاقة التي تتخذ أشكالاً مختلفة وفقاً لهذا التجلي الذي يتعلق بهذا الواقع، فحين تعبر السياسة في أجلى صورها عن مسائل قد لا ترتبط بالقيم، في هذه الحالة الأمر المؤكد أنها ستتصادم مع الدعوي؛ بحكم أن منظومة القيم التي تشكل الدعوي هي غير المسائل والمنظومة التي تحكم السياسي في هذا المقام، كما يمكن في وقت من الأوقات أن يحدث تكامل بين السياسي والدعوي، ولذلك الأمر هنا يحتاج موقفاً مركباً وليس موقفاً مصمتاً، كأن العلاقة بين الدعوي والسياسي هي علاقة متناقضة أو علاقة على طول الخط متطابقة، ليس الأمر على هذا النحو، ومن هنا تعريف الإشكال على هذا النحو يؤدي بنا إلى اتخاذ مواقف متعددة ما بين السياسي والديني.
ومن الأهمية التنبيه إلى أن مستويات دراسة الظواهر أو المفاهيم المفردة سواء ما تعلق منها بالتنظير أو ما تعلق بالواقع غير مستويات دراسة الظواهر والمفاهيم في حال تعلقها وتعانقها واشتباكها، وهذا يعني أن دراسة العلاقات بين مفاهيم نظرية وظواهر واقعية يجب أن يكون فيها التحليل أعمق وأكثر اعتباراً في هذا الإطار، ومن هنا فإن دراسة العلاقة بين الديني والسياسي أحوج ما تكون إلى هذا التأكيد.
إشكاليات العلاقة بين الدعوي والسياسي:
وفي مستويات دراسة العلاقة بين الدعوي والسياسي تعرض لنا أربع إشكاليات، وهي:
–إشكالية نظرية، وهي تتعلق بالمجال القيمي في كل منهما.
–إشكالية واقعية متعلقة بالممارسات والأدوات في كل منهما.
–إشكالية تتعلق بالعلاقة بين النظري والواقعي.
–إشكالية تتعلق بتعدد المداخل التي يمكن أن يتقاطع فيها الديني والسياسي، ففيما يتعلق بالمجال الحركي مثلاً، هناك ممارسات حركية في الجانب الدعوي كما هو الحال في جماعة التبليغ، وهناك ممارسات حركية في الجانب السياسي، فالمشاركة السياسية والانخراط في الأحزاب هو عمل حركي.
فيما يتعلق بالبعد الداخلي والخارجي الدولي كما أشير إليه في بعض المحاور، فإنه يعطي أبعاداً أخرى في أشكال العلاقة بين الدعوي والسياسي، وبين الديني والسياسي، فمنها على سبيل المثال:
*ظاهرة العولمة يمكن أن تطرح شكلاً جديداً من أشكال العلاقة ما بين الدعوي والسياسي، إذا ما أحدثت تغييرات على مستوى مواقع التواصل الاجتماعي وإنتاج الأفلام الدعوية بشكل واسع.
*أحداث الحادي عشر من سبتمبر وبروز مفهوم الإرهاب، حيث شهدت اتهام فئة معينة بعينها، أدى إلى مجموعة من الإشكالات النظرية فيما يتعلق في العلاقة ما بين الديني والسياسي وتفاعلهما.
*سقوط الاتحاد السوفيتي أفضى أيضاً إلى كثير من التطورات التي حدثت في أمريكا اللاتينية وأوربا الشرقية، حيث قام الدين فيها بدور أساسي، ففي بولندا مثلاً الكنيسة تعاونت مع النقابة العمالية ذي التوجه اليساري، وتصريحات البابا حول فلسطين وإظهار عدم ارتياحه مما يجري في الأراضي المحتلة.
*الفتوى برزت بوصفها فاعلاً دولياً لا يستطيع أحد أن يتجاهله، ومن صورها فتوى الخميني في إهدار دم سلمان رشدي، ومنها أيضاً فتاوى العمليات الاستشهادية، ويدخل فيها تحويل القضايا ذات الطبيعة السياسية إلى قضايا دينية تستوجب وتستدعي طلب الحكم الشرعي في هذا الواقعات والنوازل والحادثات.
*والأمر أيضاً في امتداد تأثير وتداخل العلاقة ما بين الديني والسياسي، وهذا له أثره حتى في العلم، مثلاً الخوف من صعود الكيان الإسلامي وتأثير ذلك في العلاقات الدولية، والخوف من الدين الإسلامي بعد انتشاره في قلب أوربا والغرب، فماذا تسمى هذه الظواهر، ومنها وصف الكيان الذي يعد في الدول الإسلامية بأنه قوس الأزمات، أو الخطر الإسلامي، أو الخطر الأخضر تمييزاً له عن الخطر الأحمر الذي تمثله الحركات الشيوعية، وفي إطار صناعة الصورة، كل هذا التداخل مرتبط بالعلاقة ما بين الظاهرة الدينية والظاهرة السياسية،
*الدولة المركزية والدولة القومية أيضاً لها خطاب يحاول أن يربط ما بين الظاهرة الدينية والظاهرة السياسية، وأحياناً يخلط ما بينهما في مجموعة من الآليات، في الدولة القومية مثلاً اتهام التيارات الإسلامية بأنها تسعى إلى السلطة، واتهام الجماعات الدينية أو المجموعات الدينية بمحاولة السيطرة على المناشط الدينية، والمناشط الدينية بحكم التعريف المفروض هي فعل اجتماعي ومجتمعي، فالتدين فعل مجتمعي، هو يقصد أن يعمل طبعة معينة للدين تعمل لحسابه، واتهام التيارات الإسلامية بأنها هي التي تقوم بتسييس الدين باستخدام الشعارات الدينية في الحياة السياسية في محاولة منها أن هذا التسييس يعد خلطاً ما بين الدين والسياسة، ولا ينظر إلى كل سلوكياته التي تحاول أن تسيس الظاهرة الدينية من كل طريق من خلال المؤسسات الرسمية التي تقع تحت يده، ومنها استخدام بعض التيارات الصوفية في بعض احتفالاته للتأكيد على شرعية معينة، وهذا الأمر -تسييس الدين وتديين السياسة- يعمل شكلاً من أشكال التداخل في مثل هذه العلاقة.
ولهذا بالرغم من كل ما يقال، فإننا لا نستطيع أن نقف على كل الجوانب التي تتعلق بالعلاقة بين الظاهرة الدينية والظاهرة السياسية، وعليه لا يمكن إطلاق حكم عام على العلاقة، وأي حكم عام يعد في حقيقته مختزلاً.
ثانياً: العلاقة بين العالم والسلطان والظاهرة العلمائية والسلطة السياسية:
هذه العلاقة هي شكل ليس فقط من أشكال العلاقة بين الدعوي والسياسي، ولكن أيضاً هي شكل من أشكال العلاقة ما بين الظاهرة الدينية والظاهرة السياسية، وعالم الدين بطبيعته لا يمكن أن يُمنع من أن يمارس دوراً سياسياً؛ لأن تاريخه دال على أن له دوراً سياسياً، ولذلك العالم في سياق المعادلة ما بين الإمام والرعية والعالم، ثم الأمة بوصفها جامعة لكل هؤلاء، يعد فيها العالم راعياً، فعينه رقيبة على الإمام من أجل مراعاة شأن الأمة، ولذلك أي مؤسسة تتعلق بالحالة العلمائية، فهذه مؤسسة أمة، الأزهر مثلاً في وقت من الأوقات هو الذي اختار الحاكم، وهو الذي عزل وقام بعمل ثورة ضد المحتل (ثورة القاهرة الأولى والثانية)، ولذلك حينما تُؤمم هذه المؤسسة لتكون انعكاساً للحاكم فهذا دليل على اختلال ميزان العلاقة وأنها ليست سوية؛ لأن المؤسسة العلمائية مؤسسة أمة.
ومن مداخل التأثير على المؤسسة العلمائية المدخل المالي، وتاريخياً كان الذي يقوم بالتمويل لهذه المؤسسة هو الوقف، وهذا يعني أن الأمة هي التي كانت تمول هذه المؤسسة وتقوم على شأنها، وبهذا يعد الوقف حصانة للعالم في وظيفته ومعاشه، وانعكس هذا بالضرورة على مواقفه السياسية ودوره السياسي، ويُستدعى في السياق نموذجان تاريخيان، الأول العز بن عبد السلام الذي كان سلطان العلماء بمواقفه الفارقة، والثاني ابن تيمية في أمره بالمعروف والنهي عن المنكر.
فتاوى الأمة والعلاقة بين الديني والسياسي:
فتاوى الأمة تعد نموذجاً للعلاقة ما بين الظاهرة الدينية والظاهرة السياسية بمختلف صورها ومظاهرها تداخلاً أو تناقضاً، ولكن ليس هذا معناه أن نقوم بالوقوف على رأي المفتي في المسائل السياسية كلها، فهذا يسمى (فتونة السياسة)؛ لأن هناك أموراً في السياسة من اليسر الوقوف على حكمها الشرعي ولا حاجة في رفعها إلى المفتي لبيان الحكم، منها مسألة المشاركة في الانتخابات مثلاً، الحاكم قام بالاستيلاء على السلطة واغتصابها ثم دعى إلى الانتخابات، فهل تكون هناك مشاركة على وفق هذا الحال، بالطبع الأصل ألا تكون مشاركة؛ لأن هناك قضيتين دخلتا في موضوع المشاركة، قضية الشرعية وقضية المشاركة، والمشاركة فرع الشرعية، وهنا حاكم اغتصب واستولى، وبما أن شرعيته منعدمة، فكذلك المشاركة بحكم انعدام الأصل، إلا إذا نُظر إلى أن المشاركة يمكن أن تغير الحالة.
ومن جهة أخرى كل الفتاوى المتعلقة بالأمة ليست بحاجة إلى مستفتي، بل المفتي بحكم كون عينه على الأمة وراعياً لها، يستطيع أن يستشعر الحالة التي تقدم سؤالاً من الأمة حتى لو لم يسأله أحد، وهو ما يسمى (الحالة الإفتائية)، ومن ثم تكون فتاوى الأمة من غير مستفت من حيث اللزوم وإلا يمكن أن يكون هناك مستفت.
ماذا تعني فتاوى الأمة؟
وحينما تأتي إلى تصنيف فتاوى الأمة، فهل تعني فتاوى الأمة أن نصنف هذه الفتاوى بين فتاوى الأفراد والأعيان، فتاوى الأمة لا بد وأن تسكن تسكيناً مختلفاً في هذا الإطار.
ووصف فتوى ما بأنها من فتاوى الأمة يعني جوانب متعددة، وهي:
–فتاوى الأمة لا تنتظر المستفتي والاستفتاء مناسبة للاستجابة لقضايا الأمة.
–فتاوى الأمة تستدعي فقهاء وعلماء الأمة، ﴿فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾[التوبة: 122].
–فتاوى الأمة يجب ألا تتحول إلى أمة الفتوى، فلا تحل المشاكل بالفتوى.
–فتاوى الأمة قبلة علماء الإفتاء، وليست مصالح فرد أو فئة، فالعلماء يحققون مصالح الأمة من خلالها.
–الفتوى والاستجابة الإفتائية وجب أن تلاحظ بأنها خطاب لفئات الأمة عامة بكل عناصرها الفاعلة والمتفاعلة والفتوى هنا تصاغ بشكل مختلف فليست هي فتوى الحلال والحرام، والفتوى يكون لها استراتيجية خطاب تخاطب كل عناصر الأمة.
–وجوب تعليم الأمة الدليل في فتاوى الأمة في إطار ما يمك تسميته (التربية بالفتوى).
–الفتاوى التي تتعلق بالأمة لا بد وأن تراعي جامعية الأمة ودافعيتها، فأي فتوى تفرق فهي غلط في حق هذه الأمة.
–فتاوى فتاوى استراتيجية تستهدف إلى استثمار إمكانات الأمة وتحقيق مكانتها وأصول تمكينها.
–فتاوى الأمة دراسات لواقع الأمة والدراسات المستقبلية المرتبطة بها، (فتاوى المآل والاستشراف).
–فتاوى الأمة تربط قضايا الأمة في الواقع والتنظير والقدرة على التعامل المتكامل والمتكافل مع هذه القضايا.
–فتاوى الأمة حصانة الفتوى تتأتى من حصانة مصالح الأمة مجتمعة (آليات تحصين الفتوى).
–فتاوى الأمة تقوم على قاعدة حساب الأضرار التي تحيق بالأمة سواء الواقعة أو المتوقعة أو الآنية أو الممتدة فهي فتاوى مقاصدية.
–فتاوى الأمة هي فتاوى حضارية وبحثية.
إذاً فتاوى الأمة أن تتعرف على مقتضيات ومتطلبات ومكنونات مفهوم الأمة من حيث مصالحها وقضاياها والأدوار المنوطة بها والخطاب المتوجه إلى فئاتها ووعي الأمة وتكوينه والمقاصد المتعلقة بالأمة والنظر المتكامل لقضاياها المتنوعة وتحدياتها الكلية، والأمة في فتواها وجب أن تكون استراتيجية وحضارية ومستقبلية بما يعبر عن ضرورة تأسيس لعلوم التدبر والتدبير وبما يتعلق بعناصر الأمة الجامعة بما يحرك دافعيتها، ففتاوى الأمة حالة تحرك عموم الأمة.
إذا كان الأمر كذلك ونحن نتكلم عن العلاقة بين الدعوي والسياسي، فلا بد من استثمار المدخل المقاصدي في هذه العلاقة، والمدخل المقاصدي يتضمن عشارية مقاصدية:
1.المقدمات والمقومات: فكل من الدعوي والسياسي مقدمات ومقومات، فإذا كان هناك اشتراك، فإنهما يشتركان، وإذا كان هناك تقاطع، فإنهما يتفاعلان، وفي حالة التناقض يلزم البيان بأن هناك تناقضاً وتصادماً.
- المجالات: مجالات الدعوي ومجالات السياسي، وهي تتشابك وتتساند وتتكامل وتتكافل مع المجالات الحضارية والإنسانية والعمرانية الخمس، وينظر إليهما في سياقها: (الدين، والنفس، والنسل، والعقل، والمال).
3.الحفظ وأدواته وأشكاله: أدوات الحفظ في الدعوي يمكن أن تكون غير أدوات الحفظ في السياسي، والحفظ له عناصر متعددة، منها عناصر رئيسة، وهي: حفظ الابتداء، وحفظ البقاء، وحفظ البناء، وحفظ الأداء، وحفظ النماء والارتقاء، وهناك حفظ بالتجميد، وحفظ بالصيانة، وحفظ بالوقاية .. في غيرها.
- الموازين: فهناك موازين تتعلق بالدعوي، وموازين تتعلق بالسياسي، وفي السياسة أمور لها موازينها الخاصة تندرج تحت ما يسمى بالمواءمات، وفي سياق هذه الموازين هناك أربعة موازين كلية متشابكة ومترابطة، وهي: ميزان الضرورة، وميزان الضرر، وميزان المصلحة، وميزان الحاجة.
5.المناطات: فالخريطة التي تتعلق بالدعوي هي غير الخريطة التي تتعلق بالسياسي؛ بحكم تضمن كل منهما أجزاءه الخاصة، ولكن هناك بعض الأجزاء في المجالين يمكن أن تكون في خريطة واحدة بحكم التقاطع أو التكامل، والمناطات في السياق المقاصدي تعني فن إدراك الكلي والجزئي، وإلحاق الفرع بالأصل، والارتباط بعملية الاجتهاد، وتنزيل الحكم على الواقع والواقعة.
6.الأولويات: أولويات الدعوي يمكن أن تكون غير أولويات السياسي، وفي هذا البعد المقاصدي هناك خمس أولويات تراعى في سياق العلاقة بين الدعوي والسياسي: أولوية شرع، وأولوية واقع، وأولوية أداة، وأولوية وقت، وأولوية ضرورة، ولكل مقامها ومكانها وأدواتها وآلياتها المتعلقة بها.
7.الواقع: فللدعوي واقعه، وللسياسي واقعه، والواقع السياسي يمكن أن يزيد على الواقع الدعوي؛ لأن هناك مراعاة لأوضاع تتعلق بالإقليمي والدولي تدخل على الواقع السياسي فتزيده تعقيداً، والواقع له أبعاد نوعية وزمانية ومكانية وإنسانية يلزم استحضارها والنظر إليها في تقويمه والتعامل والتفاعل معه.
8.المآلات: فينظر في مآلات الدعوي والسياسي، وعلم المآلات هو علم التدبير وعلم التخطيط، يقوم بفحص ودراسة التأثيرات والمترتبات، والاستشراف للمستقبل، ولا بد من توظيف هذا العلم في صناعة وصياغة الفنون، وخاصة في مجال العلاقة بين الدعوي والسياسي.
9.الوسائل والآليات: وهي متعلقة بالوسائط التي تحقق الغايات والمقاصد، والوسائل هي مقدمات الواجب، الأدوات والآليات، الأبنية والمؤسسات، القواعد والإجراءات.
10.القيم السارية والوسط الحاضن: القيم سارية في المقاصد، فلا يحفظ الدين إلا بعدل ومساواة وحرية ومسؤولية، ولا تحفظ النفس إلا بمنظومة قيم، وكذلك العقل والمال، ويمكن أن تترجم القيم إلى وسائل ومؤسسات، والواقع جزء من الوسط؛ فالوسط أوسع وأشمل، يرتبط بالمجتمع الدولي والسياسة الإقليمية، فهذا الوسط يشكل حدوداً على القرار الداخلي أو محفزات له، وينظر إلى العلاقة بين الدعوي والسياسي أو الديني والسياسي في ضوء ذلك كله.
المحور الخامس: رصد ومناقشة موقف التيار السلفي بأطيافه من العلاقة بين الدعوي والسياسي:
الحديث عن هذه الجزئية المتعلقة برصد موقف التيار السلفي بأطيافه من العلاقة بين الدعوي والسياسي تستدعي مجموعة من المحاور:
–استعراض مفهوم التيار السلفي ومكونات هذا الطيف.
–العوامل المؤثرة في الفكر والحركة لدى هذا التيار داخلياً وخارجياً.
–موقف التيار السلفي من الممارسة السياسية.
–إشكاليات ممارسة التيار السلفي العمل السياسي.
–موقف أطياف التيار السلفي من دعاوى الفصل أو التمييز بين الدعوي والحزبي أو السياسي.
أ.استعراض مفهوم التيار السلفي ومكونات هذا الطيف.
-مفهوم التيار السلفي، ومكوناته.
يستخدم مصطلح السلفية بمعاني ومقاصد وإسقاطات مختلفة حسب الشخص أو الجهة التي تستخدم المصطلح، مع التأكيد على أنه لا يكاد يتفق على تعريف محدد متفق عليه لمصطلح السلفية:
-فهناك من يستخدم المصطلح بديلاً عن عبارة المتشددين أو الأصوليين.
-وهناك من يستعمله بمعنى الجماعات التي تنبذ المذهبية الفقهية، وكان هذا المصطلح هو السائد لمفهوم السلفية قبل أن ينتشر التيار السلفي على شكل فكر شامل.
-وهناك من يطلقه على المعنى الحزبي للفكرة والذي يرمز فيه لجماعات محددة تسمى بالسلفية مثل بعض الجماعات في الكويت والأردن.
-وهناك المعنى الأعم وهو المقصود هنا وهو جميع التيارات التي ترفع شعار الالتزام بالدليل الشرعي وتنسب ذلك لمنهج السلف الصالح:
وهذا التيار لا يحصره شكل محدد؛ فهو موجود على شكل:
-جماعات حركية.
-وموجود على شكل شخصيات متبوعة.
-كما هو موجود على شكل فكر مكتوب ومدون ومنتشر دون كيان حركي.
تفاوت نظرة التيار السلفي للسياسة:
التيار السلفي بالمفهوم الذي اخترناه لا يعتبر تشكيلاً متناسقاً موحد التفكير بل يمتد باعتبار مواقفه السياسية على مدى طيف واسع ربما يفوق في سعة خلافاته مسافة الخلاف بين السلفيين وغيرهم.
فبينما تؤمن طائفة منتسبة إليه بالتسليم المطلق للأنظمة الحاكمة في العالم العربي وتعتبر طاعة الحاكم جزءاً من الدين؛ نجد في الجهة المقابلة طائفة ترفض الأنظمة رفضاً مطلقاً وتعتبر جهادها جزءا من الدين، وبين هذه وتلك طوائف منتسبة إلى السلفية تختلف وتتنوع نظرتها ومواقفها بعداً أو قرباً من هاتين الطائفتين.
مكونات وتيارات الطيف السلفي:
يمكن تقسيم التيارات السلفية بحسب مواقفها السياسية إلى عدة تيارات رئيسة:
التيار الأول: وهو التيار الذي يختزل الفكر السياسي في الإقرار للأنظمة الحاكمة بالشرعية ووجوب الطاعة التعبدية لها ويشترط التصريح بالكفر من أجل النظر في الشرعية.
ويطلق عليه في الدوائر السلفية التيار الجامي أو المدخلي نسبة إلى محمد أمان جامي أو ربيع المدخلي وهما من رموز هذا التيار والمنظرين له.
وقد تزامنت نشأة هذا التيار وظهوره مع أزمة الخليج وظهور تيار من العلماء السلفيين في المملكة السعودية يرفض توجه المؤسسة الرسمية والدولة لأول مرة، مع وجود قبول له قوي في الشارع الخليجي خاصة الشبابي؛ مما يلقي بكثير من الشكوك حول الجهات التي تقف ووراء ظهوره ودعمه وانتشاره في عدة دول على نحو سريع، خاصة أن هذا التيار وضع على كاهله مهمة إسقاط العلماء والدعاة الذين لا تتفق مواقفهم مع موقف الدولة ومؤسساتها الرسمية.
ومع أن هذا التيار ينسب نفسه للسلفية ألا أن بقية الفرق السلفية تعتبرهم من طوائف المرجئة.
التيار الثاني: هو تيار الجماعات التي تسمي نفسها سلفية مثل اتجاه الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق والشيخ حامد العلي في الكويت وجماعة أنصار السنة في السودان ومصر سابقاً.
وهذا التيار لديه شيء من التنظيم والنشاط السياسي يتجلى في أنشط صوره في النموذج الكويتي من خلال جماعة الحركة السلفية العلمية التي يعتبر الدكتور حامد العلي من رموزها.
التيار الثالث: هو التيار الأوسع انتشاراً وتأثيراً في الطيف السلفي ويتميز بنشاط فكري وحركي ويعتبر أقدر النشاطات السلفية على الاتصال بالدوائر الاسلامية الواقعة خارج التيار السلفي بل وحتى التيارات غير الإسلامية. ويندرج تحت هذا التيار اتجاه الشيخ محمد سرور زين العابدين رحمه الله والشخصيات المحسوبة على مدرسته مثل الشيخ سلمان العودة والشيخ سفر الحوالي، وكثير من رموز الحركة الدعوية السعودية الموقوفين لدى السلطات.
التيار الرابع: هو تيار الفكر الجهادي النظري ويطلق عليه البعض التيار القطبي، وهو تيار ينظّر للمشروع الجهادي بأطر عامة دون الدخول في فتاوى وتفاصيل الأعمال الجهادية ودون تحديد الأنظمة التي يتحدث عنها.
ويطرح هذا التيار موقفاً رافضاً للأنظمة الحالية غالباً بالإشارة بدلاً من العبارة ويطرح تأصيلاً واضحاً في رفضها دون أن يسميها.
التيار الخامس: هو التيار الجهادي العملي وهو تيار فرض نفسه عددياً وفكرياً في الطيف السلفي بعد التجربة الأفغانية وبعد المواجهات التي حصلت مع النظام المصري والنظام السوري في الثمانينات والنظام الجزائري في التسعينات. ويصرح هذا التيار برفض الأنظمة الحاكمة المحددة بالاسم ويقطع بعدم شرعيتها علناً ويدعو لمقاومتها وإزالتها بالقوة.
ب.العوامل المؤثرة في الفكر والحركة لدى هذا التيار داخلياً وخارجياً.
هناك عدة عوامل له تأثير حاضر في توجهات هذا التيار ومواقفه السياسية في الجملة؛ منها عوامل تتعلق بالنشأة والتاريخ وأخرى تتعلق بالعلاقات والبيئة الحاضنة والداعمة:
فأما ما يتعلق بالنشأة والتاريخ؛ فمن ذلك:
ما تعرضت له الحركة الإسلامية عامة والسلفية خاصة من اضطهاد وتنكيل عبر تاريخها، مما جعل أكثر رموز الحركات السلفية-التي لم تحظ في الجملة بالحاضنة التربوية واللحمة الجماعية التي كانت لدى جماعة الإخوان في محنتها- تؤثر الانعزال والانغلاق على نفسها، وتنأى عن السياسة والاحتكاك بأي صورة مع الأنظمة القائمة، ثم تطور هذا الأمر لدى قطاع عريض من رموزها وأفرادها جعلهم يؤصلون لهذا التوجه تحت باب المصالح والمفاسد، وكانت المصلحة في كثير من الأحوال هي مصلحة الداعية لا مصلحة الدعوة وسلامة الذات لا سلامة المنهج كما أورثت تجربة مرحلة الاستضعاف لدى أغلب رموز هذا التيار الخوف من المجهول، والتردد لفترة طويلة قبل اتخاذ القرار.. حيث كانت العواقب لديهم أهم من الدوافع.
وأما ما يتعلق بالمؤثرات الخارجية على مواقف الحركة ورموزها فأهمها هو الارتباط المشيخي والمالي بالمملكة السعودية؛ ومن ثم فإن أغلب هذه الحركات استنسخت المنهج المشيخي السعودي في التعامل مع الأنظمة والحكومات-بغض النظر عن اختلاف البيئة وطبيعة نظام الحكم ومنهجه وتوجهاته على الأقل في الظاهر- ونأت بأنفسها عن الاشتغال بالسياسة، وكانت مواقفها أقرب لمواقف المؤسسة الدينية الرسمية في المملكة.
ناهيك عن توظيف الدعم المالي والمعنوي من خلال مؤسسات رسمية أو شبه رسمية سعودية في رسم معالم تلك المواقف والتوجهات والسياسات.
ت.موقف التيار السلفي من الممارسة السياسية.
فيما عدا سلفية الكويت-لأسباب كثيرة بعضها تتعلق بالثقافة وبهامش الحرية هناك-؛ فإن التيار السلفي في الجملة قبل ثورات الربيع العربي نأى بنفسه عن الممارسة السياسية والاشتغال بالسياسة، وذلك لأسباب كثيرة بعضها سبق الإشارة إليه، والبعض الآخر يتعلق بأدبيات التيار وقناعات رموزه، دون تأصيل عميق لهذا الموقف أو ذاك، وليس أدل على ذلك من اندفاع عناصر هذا التيار ورموزه بعد ثورات الربيع العربي لممارسة السياسة بجميع صورها، بقرار فردي من الرمز دون محاولة التأصيل والتمهيد لهذا التوجه الجديد ومحاولة تهيئة الأتباع للتوجه الجديد الذي يتنافى تماماً مع توجه رموزهم القديم الذي تربوا عليه واعتبروه ديناً وحقاً لا خلاف فيه!!
وكان الظهور الأكبر للتيار السلفي في مصر عبر حزب النور الذي حصل على ما يقارب 25 في المائة من مقاعد البرلمان المصري، وحلّ ثانياً في أول انتخابات حرة يشهدها المجتمع المصري منذ عقود.
تلا الظهور السلفي في مصر ظهور أحزاب سياسية سلفية أخرى في كل من تونس واليمن حتى المغرب؛ ففي تونس منحت الحكومة في الآونة الأخيرة ترخيصاً لحزب ذي مرجعية سلفية أطلق عليه حزب «جبهة الإصلاح»، وهو أول حزب بهذه المرجعية يطلب خوض غمار السياسة في تونس.
كما أعلن عدد من الشخصيات اليمنية تتبنى المنهج السلفي، تأسيس عدة أحزاب سلفية.
وفي المغرب أعلن محمد الفزازي، وهو أحد رموز التيار السلفي، أنه يستعد لتأسيس حزب سياسي تكون مرجعيته إسلامية.
ث.إشكاليات ممارسة التيار السلفي العمل السياسي.
ترتب على الاندفاعة العنيفة نحو الممارسة السياسية بكل صورها وتجلياتها لدى كثير من مكونات التيار السلفي، دون تأصيل منهجي، ودون أي سابقة لهذه الممارسة ودون مشاركة حقيقية في العمل النقابي أو الطلابي أو نحوها من الأعمال التي كانت ميداناً تدريبياً لجماعة الإخوان المسلمين ولأعضائها- ترتب على ذلك ظهور مجموعة كبيرة من الإشكالات المنهجية والعملية لهذا التيار منها:
-غياب البرنامج السياسي الذي يمكن أن يَحْمله التيَّار السلفي، ويتفق مع أدبياته التي تربى عليها.
-إقحام العقل السلفيِّ على التعامل مع الأدوات والأوعية السياسيَّة المعاصرة دون أن يستوعبها أو يهيأ لها.
-اضطراب موقفها وتعاملها مع التيارات المناهضة للفكرة الإسلاميَّة، سواء العلمانيَّة، أو الليبرالية، أو اليساريَّة، أو غيرها، وبينما رفضت التحالف الجزئي معها في الانتخابات حرصاً على سلامة المنهج وصفائه؛ إذا بها تصطف معها كلياً لإسقاط الإخوان المسلمين!!
-تغييب معيار الكفاءة والتخصص في الاختيار ليحل بدلاً منه معيار الانتماء الدعوي والمشيخة!!
-ازدواجية الخطاب حيناً وكارثيته أحياناً وتوظيف المنابر لأغراض حزبية بحتة لا علاقة لها بدين ولا دنيا الناس!!
-والأهم من هذا وذاك، وهذه الإشكالية لها تعلق مباشر بهذا العنوان:
غياب رؤية راشدة مبنية على دراسة واعية حول طبيعة الخطاب الذي ينبغي على التيار تبنيه في خطابه السياسي للجماهير؛ أهي الحفاظ على خطابه المُحافظ، والذي يبدو في بعض الأحيان متشددًا في بعض القضايا التي رُبَّما تحتاج إلى قدرٍ من المُرونة النَّابعة من رُؤًى شرعيَّة معتبَرة؟
أم هي تبني خطاب سياسي آخر نابع من السياسة الشرعيَّة، ويراعي متغيِّرات المجتمعات المعاصرة، بحيث يكون نَمُوذجًا يُحتذَى في العمل السياسيِّ بصفة عامة؟
بعبارة أخرى ما علاقة الدعوي بالسياسي في الخطاب والوظيفة؟
وكانت كل هذه الإشكالات والتساؤلات بحاجة ماسة إلى تأنٍّ وتريُّث من التيار ورموزه ومفكريه وبلورة لأفكاره قبل التفكير في الانخراط السياسي، دون أن تكون عنده الدُّربة السياسية الكاملة والتجربة التطبيقيَّة، ودون وجود رؤية تنظيرية واضحة يهيئ بها المجتمع لاستقباله سياسيا، وتعيد تقديم ومراجعة خطابه السابق الذي فرضته عليه الظُّروف السياسية السابقة.
لكن للأسف الشديد فإن شيئاً من ذلك لم يحدث بل دخل الساحة السياسية مُجازِفًا بفكره وخطابه، ومتخففاً في كثير من الأحكام التي كان يتبناها، وكان ذلك على حساب خطابه الفكريِّ والدَّعوي، وفي ظل ضعف وقلة خبرة وعدم دراية بطبيعة التحديات والمؤامرات وفي ظل تربص إعلامي وتضخيم للأخطاء أو الهفوات مقصود خسر قطاع كبير من التيار خطابَه الدعويَّ الذي استقطب جمهورًا عريضًا.
وفي المقابل فإن قطاعاً آخر بقي على كثيرٍ من أطروحاته الفكريَّة التي اصطدم كثير منها بثوابت سياسيَّة ومجتمعية معاصرة، فخسر نفسه سياسيًّا.
ج.موقف أطياف التيار السلفي من دعاوى الفصل أو التمييز بين الدعوي والحزبي أو السياسي.
أدبيات التيار السلفي في الجملة والتي تقول إنها تقوم على فهم السلف، ترى شمولية الإسلام، وأنه لا يوجد في الإسلام طريق للدنيا وآخر للآخرة؛ بل هو طريق واحد، ويقولون إن الخليفة كان يمارس السياسة والقضاء والفتيا والإمامة؛ ومن ثم فإن الدعوة إلى التمييز بين هذه وتلك هو نوع من العلمانية، وهي لاتختلف كثيراً عن مقولة لادين في السياسة ولا سياسة في الدين.
ولاشك أن هذا الإطلاق على عمومه يحتاج تحريراً؛ وهذا يستدعي النظر في مجالات التماس بين هذا وذاك؛ ومن ثم يأتي الحكم أو الموقف من إمكانية هذا الفصل أو التمييز.
هناك ثلاث نقاط تماس تجمع بين الدعوي والسياسي:
1.المرجعية: وهي هنا المرجعية الإسلامية من قرآن وسنة وفقه وشريعة، وتمثل المرجعية القواعد والمنطلقات التي يستقي منها السياسي أو الدعوي رؤيته وبرنامجه.
2-الهدف: وهو في حالة المشروع الإسلامي بشقيه الدعوي والسياسي يمكن التعبير عنه ببساطة في هدفين استراتيجيين على المدى البعيد وهما إصلاح العباد وإصلاح البلاد.
3-التنظيم والإدارة: وهي العلاقة التي تدير وتحكم العمل بين الدعوي والسياسي، وتنظم تعامل أفراد المشروع الإسلامي مع هذين الشقين.
لاشك أن تحرير وتفكيك هذا العموم يحل كثيرًا من إشكالات هذا الخلاف؛ ففيما يتعلق بالمرجعية والهدف؛ فليس هناك محل للقول بفصلهما أو تمييزهما في كل من الدعوي والسياسي.
فالمرجعية هي الضوابط والحدود التي ينبغي أن تكون حاضرة لدى التيار الإسلامي في أي من الخطين السياسي أو الدعوي.
والهدف الدعوي أو السياسي في حالة المشروع الإسلامي مهما بلغت إنجازاته ليس هدفاً في حد ذاته وإنما هو وسيلة للوصول للهدف الاستراتيجي للمشروع وهو إصلاح العباد وإصلاح البلاد..
تبقى النقطة الثالثة من نقاط التماس المتعلقة بالتنظيم والإدارة، وهذه في رأيي لاينبغي أن تكون محل خلاف في ضرورة اعتبارها، مراعاة للتخصص ولغيره من الأسباب -التي ستأتي الإشارة إليها لاحقاً-.
ولعل كلام الدكتور أبي يعرب المرزوقي يتعلق بهذه النقطة تحديداً حيث يقول:
“ وتبقى قضيتان لا بد من الحسم فيهما: فالفصل ينبغي أن يتعلق بعمل الاشخاص في نوعي النشاط الديني والسياسي.
الأولى: فلا يمكن أن يكون المرء سياسياً وأن يمارس الإمامة الدينية أو التنظير العقدي في نفس الوقت...
والثانية: ولا يمكن أن يكون المرء سياسياً وأن يمارس مهمة القيام بالشعائر الدينية، وخاصة الصلاة والفتوى والتعليم الديني الجماهيري فهذه ليست من مهام أي متعاط للسياسة.
ذلك أن أخلاق السياسة كأخلاق الحرب مبنية بالجوهر على اللغة الدبلوماسية التي تبطن أكثر مما تظهر-وهي تشارك الحرب في هذه الخاصية لأن استراتيجية العمل تفرض الكتمان في حين أن التعليم والتربية بالجوهر مبنية على نفي مثل هذه الخصائص التي تسمى بلغة الدين نفاقا.Top of Form
“
ويقول مؤكداً رفضه الفصل أو التمييز بينهما باعتبار المرجعية أو الأهداف: “…الدعوة أوسع وأشمل من السياسية التي تصبح بفضلها مشدودة إلى ما يحررها من الانتهازية ومنطلق الغاية تبرر الوسيلة.
وعندما يتكون حزب ذو صلة بمرجعية من هذا النوع فإنه يكون مكلفاً بتحقيق شروط الاستعمار في الأرض للجماعة حتى تتحرر من الحاجات التي قد تجعلها تابعة لمن بيده استعباد الناس بسلطانه على سد حاجاتها الأولية. فتكون السياسة بهذا المعنى علم أدوات تحقيق الغايات والعمل بهذا العلم حتى تتمكن من التغلب على الإكراهات فلا يتحول الحزب إلى إمعة يفرض عليه أعداؤه فهما معينا لمرجعيته…”.
ويقول مؤكداً على ذلك: “ الفصل إذن ليس سلباً لما تتميز به المرجعية بل هو التمييز بين ما تتطلبه الغايات (الدعوة) وما تتطلبه الأدوات (السياسة) مع جعل هذه تابعة لتلك وليس العكس…
فحزبية أي حزب تقاس بهذه المعاني: اي إن البرنامج الذي يقدمه لنيل ثقة الجماعة لا يمكن أن يكون في قطيعة مع المرجعية إلا بمعنى الفصل بين مقتضيات فاعلية الأداة بما توجه شمولية الغاية.
أما إذا تحول الفصل إلى ترضية من يريد أن يحدد مرجعيتك بدلاً منك حتى يرضى عنك ويقبلك فمعنى ذلك أنك من البداية سلمت بالهزيمة الروحية وجعلت حزبك أداة لتحقيق برنامج عدو أمتك لا برنامجها هي في تحقيق مفهوم الحرية والكرامة الإنسانية.
والحزب أي حزب ليس كياناً مستقلاً عن المرجعية بل هو جهاز عمل لتحقيق أهداف المرجعية سواء كان الحزب ذا مرجعية دينية أو علمانية أو حتى ملحدة“.
وأما عن مواقف رموز التيار السلفي التفصيلية من هذا الفصل؛ فلم أقف على شيء من ذلك بنصه عنهم إلا أن أدبياتهم كما سبق تسير في رفض اتجاه الفصل أو التمييز، دون تفصيل بين المرجعية والأهداف والأدوات، وهو ما تؤكده الممارسة العملية في النقاط الثلاثة جميعًا.
يبقى أن أؤكد إلى أن التمييز في الأدوات والتنظيم له من الأسباب العديدة والوجيهة ما تستدعي دراسة أوسع ونقاشاً أشمل؛ حيث تتعدد مبررات من يرى بضرورة فصل السياسي عن الدعوي تنظيميا، نذكر منها سريعاً:
1.طغيان الجانب السياسي والاهتمام به على حساب الدعوي في حال الجمع بينهما إدارياً.
2.ثقافة المجتمعات السائدة، والتي تتعامل دوما مع الجوانب السياسية بشيء من الحذر والخوف، مما يجعل هذا الشعور يمتد ليشمل الجانب الدعوي في حال اتصاله إدارياً وتنظيمياً مع الجانب السياسي.
3.احتياج الشق السياسي لمرونة أكبر وسرعة حركة يقيدها ويبطئ منها ارتباط السياسي بالدعوي في بعض الأحيان.
4.وجود بعض الاختلافات في الأهداف المرحلية والتكتيكية بين الدعوي والسياسي، مما يجعل حسم هذا الاختلاف يأتي بالضرورة لحساب جانب من الاثنين على الآخر.
5.انفصال السياسي يتيح فرصة أكبر لمشاركين من خارج أبناء المشروع الإسلامي والذين يتفقون مع المشروع السياسي حتى وان اختلفوا مع الدعوي، وهو ما يعكس نجاحاً للمشروع الإسلامي فى أن يصبح تبنيه أمراً عاماً ليس مقصوراً على أبناء المشروع الإسلامي فحسب.
6.تأثر صورة الدعوي سلباً في حال مزجها بالسياسي، وإمكانية امتداد الخصومة بين البعض والفكرة السياسية الإسلامية لتشمل الدعوة المرتبط به، ونقل الداعية من خانة الواعظ الناصح لخانة الخصم والمعارض السياسي.
7.إعطاء المبرر للأنظمة المستبدة للتشويه الإعلامي للدعوة والدعاة والبطش الأمني والتضييق على الدعوة ورموزها.
[1] أصل الكتاب رسالة ماجستير قدمها العثماني إلى كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة محمد الخامس بالرباط سنة 1999م، تحت إشراف الأستاذ محمد بلبشير الحسني، وضمت لجنة المناقشة الأساتذة: أحمد الريسوني، ومحمد زايد بوشعرا، وحسن العلمي.
[2] سعد الدين العثماني، التمايز بين الدعوي والسياسي في التجربة المغربية، منشور في موقع الجزيرة، بتاريخ: 12/5/2016م.
[3] منشور في الفجر نيوز بتاريخ: 17/1/2009م.