بحوثمشاريع

الخطاب الدعوي .. التربية بالحوار

مقدمة:

الأزمة التي يمر بها العالم الإسلامي اليوم أزمة حادة، ربما كانت أشد أزمة مرت به في التاريخ. تجمع أعداء الدين لحرب الإسلام بما لم يسبقه من قبل تجمع بهذا الحجم وبهذا الإصرار. وحاجة البشرية إلى الإسلام اليوم ودعوة الناس للحق لا تقل عن حاجتها إليه يوم أنزل على رسول الله. نحتاج أن نقف وقفات طويلة نتأمل فيها نشأة الجيل الأول في زمن الرسول لأن فيها زادا كاملا لكل من أراد أن يدعو أو يتحرك بهذا الدين، فقد صنع ذلك الجيل على عين الله سبحانه وتعالى، كما قال سبحانه لموسى عليه السلام: {ولتصنع على عيني} ونشأ على يدي أعظم مرب في تاريخ البشرية، محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان جيلا فريدا في تاريخ البشرية كله. فقد أجريت عليهم جميع الأحوال من استضعاف في المبدأ، وابتلاء وصبر وتمحيص، ثم تمكين على تخوف، ثم تمكين على استقرار وقوة، ثم انتشار في الأرض. لذلك فإن الدروس المستفادة من نشأة الجيل الأول ومن منهج التربية الرباني هي دروس دائمة لا تتعلق بالنشأة الأولى وحدها، وإنما هي قابلة للتطبيق في كل مرة تتشابه فيها الظروف أو تتماثل، لأنها سنن جارية، وليست حوادث مفردة عابرة لا تتكرر.

ليل المزمل ونهار المدثر .. منهج دعوة وتربية

من يقوم بالدعوة لإصلاح نفسه وعد الله له الهداية ويهدي به الناس، ومن لا يقوم بهذه الدعوة لإصلاح نفسه بل لإصلاح غيره ما وعد الله له الهداية بل يهدي بسبب حركته الناس ولا تصيبه الهداية. “والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا”، فالداعي يصلح بدعوته ما بداخله بالدعوة في النهار والدعاء والتضرع إلى الله في الليل؛ فمن يجتهد ويتحرك ويدعو الناس ولم يتضرع إلى الله بالليل يخاف عليه أن يصيبه الكبر. يرجع النبي إلى زوجته السيدة خديجة ويقول: “دثروني دثروني”، ومرة “زملوني زملوني”. ولكن الله لا يريد من النبي أن يزمل أو يدثر وإنما يريد له أن يقوم لهذا الدين أن يقوم لهذه الأمانة خير قيام فيناديه ربه : (يا أيها المدثر قم فأنذر)، وفي الليل: (يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا ) . ففي الليل قم وفي النهار قم، في الليل بين يدي الله يحي الليل بالذكر والطاعة والدعاء “يا رب عبدك”، وفي النهار يسبح في قلوب الناس ويذكرهم بالله “يا عبد ربك”، ويمشي إليهم في مجالسهم ويكلمهم ويقول لهم كلمة واحدة “قولوا لا إله إلا الله تفلحوا”

ما يستفيد منه الداعي من المزمل والمدثر:

  • أن الترهيب من وسائل الدعوة

يا أيها المدثر قم فأنذر أي حذر قومك من عذاب الله إن لم يؤمنوا، فالترهيب من أساليب الدعوة فلا يجوز إغفالها من قبل الدعاة، مع الحرص على أن يكون الترغيب أكثر لتحبيب الناس في الله وقربهم إليه وهذا يتوقف على حال من تدعو. [1]

  • الدعاة لا يمنون بعملهم على أحد

“ولا تمنن تستكثر” يقول الحسن البصري في معنى هذه الآية: ” لا تمنن بعملك على ربك تستكثره”؛ فلا يجوز للدعاة أن يمنوا على الله أو على أحد من الناس بما يقومون به من نشر الدعوة إلى الله، أو يستكثروا جهادهم في الدعوة، فما يقدمونه قليل جدا مقارنة بعطاء الله ونعمه وفضله علينا.

  • ضرورة الصبر للدعاة

قول الله تعالى لرسوله الكريم: “ولربك فاصبر”، أي اصبر على أذى المشركين بسبب دعوتك إياهم، واجعل صبرك هذا لوجه الله تعالى. وفي هذا إشارة إلى أن الغالب في الدعاة ابتلاؤهم بأذى المدعوين من الكفار والمنافقين والمعاندين والعصاة من المسلمين. فعلى الداعي أن يقابل ذلك بالصبر الجميل ويحتسب أجره عد الله تعالى.

  • مع الصبر الهجر الجميل

“واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا”، ومع ضرورة الصبر للدعاة هجر جميل من الدعاة لمن يقف ضد الدعوة؛ فلا يقابلون إساءتهم بالمثل ويتغافلون عن أذاهم ويمضون في دعوتهم، وعدم إضاعة الوقت في الشجار معهم.

  • حاجة الداعي إلى قيام الليل

من يقوم بأعباء الدعوة إلى الله يحتاج في الليل للصلة مع الله، وفراغ البال من شواغل النهار من معاش والسعى إليه ومن أعمال الدعوة ومقتضياتها. فمن له حال مع الله بالليل يكون له التأثير في الناس بالنهار.

  • الدوام على ذكر الله

يقول الله تعالى لرسوله: “واذكر اسم ربك”، أي دم واستمر على ذكره تعالى ليلا ونهارا، من تسبيح وتهليل وتحميد وصلاة وقراءة قرآن ودراسة وفقه ونحو ذلك؛ فهذا الذكر الدائم المتواصل تكون به في معية الله عز وجل “فاذكروني أذكركم”

  • التوكل على الله في جميع الأمور

فكما أن الله هو المستحق بإفراد العبادة له وحده فهو أيضا المستحق للتوكل عليه كما قال تعالى: “فاعبده وتوكل عليه”، “إياك نعبد وإياك نستعين”. “ومن يتوكل على الله فهو حسبه” أي كافيه.

  • الاستغفار بعد الأعمال الصالحة

فالاستغفار بعد الأعمال عن أي تقصير صدر، ولذهاب الإعجاب بالنفس بعد كل عمل. ففي آخر سورة المزمل يقول الله تعالى: “واستغفروا الله إن الله غفور رحيم”.

 مرحلة التربية الأولى “كفوا أيديكم”  

في مرحلة التربية الأولى بمكة جاء الأمر الرباني للمؤمنين أن يكفوا أيديهم وأن يتحملوا الأذى صابرين. قال الله تعالى: {ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة}. وكان بعض الصحابة قد سأل الرسول حين اشتد الأذى بالمؤمنين: ألا نقاتل القوم؟ فقال عليه الصلاة والسلام: «ما أمرنا بقتالهم». ماذا حدث حين استجاب المؤمنون للأمر وكفوا أيديهم؟. في البيئة العربية والتي تحدث فيها المعارك الضارية لأسباب نرى نحن اليوم أنها تافهة، لا تستحق أن تراق فيها قطرة دم واحدة، وقد تطول تلك المعارك سنوات عديدة، ويفنى فيها كثير من الناس “كمعركة داحس والغبراء”[2]. ما يلفت النظر أن الصحابة وأوائل من أسلموا يؤذون ويتحملون، وهذا مخالف مخالفة تامة لأعراف البيئة ولطبائعهم .

 

 كفوا أيديكم: هي سر الموقف كله!

ففي سبيل أي شيء يحتمل هؤلاء ما يقع عليهم من الأذى، ثم يظلون مصرين على التمسك بما يعرضهم للأذى؟ أفي سبيل شرف القبيلة؟ أو مغنم أو شهوة؟ لا شيء من ذلك كله. إنما هو سبيل عقيدة يعتقدونها، إن الأذى يشتد حتى يصبح مقاطعة اقتصادية واجتماعية وحصار ثلاث سنوات يصل إلى حد التجويع؛ بل يصل ببعض الناس حتى الموت ولا يتخلفون عن عقيدتهم! لا يمكن في عرف البيئة ولا في عرف البشر عامة أن يتحمل الناس مثل هذا الأذى من أجل باطل. إنما لا بد أن يكون حقا يعتقده صاحبه، ويحتمل الأذى من أجله، ويموت من أجله. بل إن هذا الحق الذي يعتقده هو أغلى عليه من أمنه وراحته ومكانته وكرامته. وحتى من نفسه، حتى من حياته؛ فهل كان من مصلحة الدعوة أن يدخل المؤمنون يومئذ في معركة مع قريش؟ [3] لنفترض أن المؤمنين كانوا قد دخلوا في معركة مع قريش في ذلك الحين، فماذا كان يمكن أن يترتب على ذلك؟ وما هي الفوائد التي تحققت حين كفوا أيديهم ولم يدخلوا في معركة في ذلك الوقت؟. أبسط ما يمكن أن يتصور من نتائج هذه المعركة غير المتكافئة أن تتمكن قريش من إبادة المؤمنين، وهم حينئذ قلة مستضعفة لا سند لها، فينتهي أمر الدعوة الجديدة في معركة واحدة أو عدة معارك متلاحقة دون أن يتحقق الهدف ودون أن يتعرف الناس على حقيقة الدعوة، ودون أن يكتب لها الانتشار. ونفترض أن المعركة على الرغم من عدم تكافئها لم تؤد إلى إبادة المؤمنين كلهم. لمن كانت الشرعية في تلك المرحلة في مكة؟ وما وضع المؤمنين يومئذ؟ وضعهم أنهم خارجون على الشرعية، ومن حق صاحب الشرعية ولا شك أن يؤدب الخارجين عليه! لو دخلوا المعركة وفي حس الناس أن قريشا هي صاحبة الشرعية، وأن المؤمنين خارجون على الشرعية، هل كان يمكن أن يصل الحق الذي يحمله المؤمنون إلى قلوب الناس، أم كان غبار المعركة يغشي على حقيقة القضية، وتنقلب بعد قليل إلى قضية ضارب ومضروب، وغالب ومغلوب، وتصبح قضية (لا إله إلا الله) على الهامش، إن بقي لها في حس الناس وجود على الإطلاق. لقد كانت «كفوا أيديكم» هي سر الموقف كله، هي التي أتاحت لقضية لا إله إلا الله وهي قضية الرسل جميعا ، أن تبرز نقية شفافة واضحة، غير مختلطة بأي قضية أخرى على الإطلاق، فتنفذ إلى القلوب التي أراد الله لها الهداية صافية من كل غبش، فتتمكن من تلك القلوب، ويرسخ فيها الإيمان، كما تنفذ إلى القلوب التي لم يرد الله لها الهداية، صافية من كل غبش، فيكفر أصحابها كفرا لا شبهة فيه، كفرا غير مختلط لا بالدفاع عن النفس، ولا الدفاع عن المال، ولا الدفاع عن الأمن والاستقرار؛ إنما هو الرفض الصريح الواضح للا إله إلا الله. وذلك توطئة لقدر قادم من أقدار الله، هو سنة من السنن الجارية: {ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة} [الأنفال : 42]. هذا الوضوح الذي أتاحته للقضية {كفوا أيديكم}، هو من مستلزمات الدعوة. فبغير استبانة سبيل المجرمين، على أساس (لا إله إلا الله)، واستبانة سبيل المؤمنين في المقابل، على ذات الأساس، لا يمكن أن تتسع القاعدة بالقدر المعقول في الزمن المعقول، وتظل الدعوة تراوح مكانها، إن لم يحدث لها انتكاس بسبب من الأسباب. وحين وضحت القضية على هذا النحو من خلال {كفوا أيديكم} جاء الأنصار، وحين جاء الأنصار اتسعت القاعدة وحدث تحول في التاريخ. هكذا تكونت النواة الأم التي صنعت التاريخ من خلال “كفوا أيديكم”. لقد تمت أمور على غاية من الأهمية في مسيرة الدعوة. حُرر موضع النزاع، إن صح التعبير. إنه قضية (لا إله إلا الله) دون غيرها من القضايا. ليس الصراع الدائر بين قريش وبين المؤمنين على سيادة أرضية، ولا على السلطة السياسية (وقد عرضت السلطة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأباها، وأصر على لا إله إلا الله، والمؤمنون من جانبهم لم يتحركوا حركة واحدة، تهدف إلى الاستيلاء على السلطة). إن التجرد لله عنصر من أهم العناصر التي تحتاج إليها الدعوة، إن لم يكن أهمها على الإطلاق. ولقد تعمق التجرد لله في قلوب الصفوة المختارة خلال فترة التربية في مكة.

 

هكذا تكونت النواة الأم التي صنعت التاريخ من خلال “كفوا أيديكم”.

الوعد بالنصر

ومن أشد ما يلفت النظر في هذا الشأن، أنه في خلال فترة التربية في مكة، لم يتنزل وعد واحد بالنصر لشخص الرسول صلى الله عليه وسلم، إنما كان يقال له: {وإن ما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب} [الرعد: 40]. بينما كان النصر والتمكين لهذا الدين مستيقنا عند رسول الله. يقول خباب بن الأرت رضي الله عنه: شكونا إلى رسول الله وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، فقلنا ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ (وذلك لما اشتد إيذاء المشركين للمؤمنين في مكة)، فقال صلى الله عليه وسلم : «قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل، فيحفر له في الأرض، فيجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار، فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، ما يصده ذلك عن دينه. والله ليتمن الله هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضر موت، لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون» (رواه البخاري).

ما يضر الدعوة:

هكذا كان الدرس الأهم من التربية.. حين ندخل في معارك غير متكافئة مع السلطة، وقبل أن تحدد قضية الشرعية عند الناس يحدث أمران معا كلاهما ضار بالدعوة. الأمر الأول: أن القضية تتحول -بعد فترة من الصراع تطول أو تقصر- إلى قضية ضارب ومضروب، وغالب ومغلوب، وتنسى أو تهمش القضية الأساسية التي يدور حولها الصراع كله: قضية من المعبود على الحقيقة: الله أم آلهة زائفة من دونه؟ وهي القضية التي تتضمن في طياتها مجموعة من القضايا المنبثقة عنها، المترتبة عليها: قضية من المشرع : الله، أم البشر؟ ومن مقرر القيم؟ ومن مقرر المعايير؟ ومن واضع المنهج للناس؟ تلك القضايا التي هي – منذ وضع البشر أقدامهم على الأرض إلى قيام الساعة – موضع الصراع بين أهل الباطل وأهل الحق، وهي التي من أجلها أرسل الرسل.

والأمر الثاني: أننا نتيح فرصة هائلة للأنظمة المعادية للإسلام، أن تزعم للناس أنها لا تحارب الإسلام، وإنما تحارب الإرهاب الذي لا يقره الإسلام، وتصدقها الجماهير بعد فترة تقصر أو تطول، وفي ذلك خسارة للدعوة؛ لأنها تغطي الموقف الحقيقي لهذه الأنظمة، وتؤخر في حس الناس تبلور قضية الشرعية، وهي من القضايا الرئيسية التي يتوقف عليها في النهاية مصير الصراع بين الجاهلية والإسلام.

المساومة على ترك الدعوة

ظهرت نواة هذه الأمة فى مكة فى قلب جزيرة العرب. فقام العقلاء من قريش وهم الآخذون بزمام الحياة فى البلاد وذهبوا إلى النبي وهو الداعى الأول، فقال قائلهم: “إنك قد أتيت قومك بأمرٍ عظيم فرقت به جماعتهم وسفهت به أحلامهم وعبت به آلهتهم ودينهم وكفرت به من مضى من آبائهم، فاسمع منى أعرض عليك أموراً تنظر فيها، لعلك تقبل منها بعضها”. فقال رسول الله: “قل يا أبا الوليد أسمع”. قال: “يا ابن أخى إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً، جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت إنما تريد به شرفاً سودناك علينا حتى لا نقطع أمراً دونك، وإن كنت تريد به ملكاً ملكناك علينا”. استمع رسول الله لكل ذلك فى هدوء وتأنٍ، ثم رفضه فى غير شك ولا تأخير. لم يكن هذا العرض من قريش على شخص الرسول بل كان على هذه الأمة التى كان يمثلها ويقودها، ولم يكن رفض رسول الله لما عرضت قريش رفضاً عن نفسه الكريمة فقط بل كان رفضاً عن أمته إلى آخر الأبد.[4] اقتنعت قريش بهذه المحاورة ويئست من مساومة هذه الأمة ولم تعد تعرض على الرسول مباشرة وعلى هذه الأمة بواسطة ما عرضت من قبل وقطعت منها أملها. وكان بعد ذلك صراع مستمر ونزاع طويل ولم يكن نزاعاً فى أغراض المادة، والشهوات والاستئثار بموارد الرزق والتغلب على الأسواق؛ بل كان نزاعاً بين دعوة الناس للحق، وبين الحياة الحرة المطلقة التى لا تعرف قيداً ولا تخشى معاداً ولا حساباً.

 

لم يكن رفض رسول الله لما عرضت قريش رفضاً عن نفسه الكريمة فقط بل كان رفضاً عن أمته إلى آخر الأبد

غزوة بدر وبيان مهمة الأمة

من يؤويني؟ مكث رسول الله في المدينة عشر سنين يتبع الناس في منازلهم بعكاظ ومجنة وفي الموسم بمنى يقول: من يؤويني من ينصرني حتى أبلغ رسالة ربي وله الجنة؟ كان يقول لهم رسول الله: «تمنعوني؟» قالوا: نمنعك مما نمنع منه نساءنا وأطفالنا. وقالوا: لو استعرضت بنا الصحراء قطعناها، ولو خضت بنا هذا البحر خضناه. ولما علم الله من قلوبهم أنها تجردت له ولدعوة الناس إلى الحق بعد تكوين البيئة والحاضنة الأمنة بالمدينة لدخول الناس في دين الله، مكن لهم في الأرض وأذن لهم في رد العدوان: {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير}. {الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز}. {الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور} . في معركة بدر الحاسمة قد قاد النبي إلى ساحة القتال جيشاً لا يزيد عدد المقاتلين فيه على ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً والجيش المنافس فيه ألف، وكان النبي يعلم يقيناً أنه لو وكل المسلمون إلى أنفسهم وقوتهم المادية لكانت النتيجة معلومة واضحة، نتيجة كل قليل ضعيف أمام قوى كثير العدد. فزع الرسول إلى الله فى إنابة نبي وإلحاح عبد ودعاء مضطر فى كلمات صريحة واضحة خالدة هى خير تعريف لهذه الأمة وبيان لمهمتها وغرضها الذى خلقت له. لم يقل رسول الله (لو هلكت هذه العصابة – وكانت فريسة للعدو- أقفرت المدينة وأوحشت أسواقها وكسدت التجارة وبطلت الزراعة أو تعطل شغل من أشغال الحياة أو وقفت إدارة الحكومات)، لم يقل رسول الله شيئاً من ذلك لأن شيئاً منها لم يتوقف على المسلمين ولم يقم بهم بل كان قبل وجود المسلمين ولا يزال فى غنى عنهم، ولكن الرسول الكريم ذكر شيئاً بعث المسلمون لأجله وقام بالمسلمين وحدهم فقال: ( اللهم إن تهلك هذه العصابة لن تعبد).

 شرط بقاء الأمة 

أجاب الله دعاء النبى الكريم وقضى بانتصار المسلمين على عدوهم وبقائهم، فكأنما كان بقاء المسلمين مشروطاً بقيام حياة العبودية بهم وقيامهم بها، فلو انقطعت الصلة بينهم وبين دعوتهم للناس انقطعت الصلة بينهم وبين الحياة ولم يبق على الله لهم حق وذمة، وأصبحوا كسائر الأمم خاضعين لنواميس الحياة وسنن الكون بل كانوا أشد جريمة وأقل قيمة من الأمم الأخرى، إذ لم يشترط لبقائها وحياتها مثل ما اشترط لهم. (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله).

 الهدف التربوي في الإسلام ومميزاته

تختلف التربية الإسلامية عن التربيات الأخرى التي جعلت هدف النمو الاجتماعي عندها تربية المواطن الصالح، والمواطن الصالح عندهم هو الذي ربي تربية اجتماعية تلائم المجتمع الذي نما فيه وتحقق مصالح ذلك المجتمع وأهدافه ومطامعه. فالمواطن الصالح في المجتمع القومي هو الذي يخدم هدف أمته القومي ولو أدى به هذا الهدف إلى استعمار الشعوب الضعيفة، والفتك بها ونهب ثرواتها، فإيجاد المواطن الصالح المساير لمجتمعه في الحق والباطل لا يصلح أن يكون هدفا للتربية، ولا لتكوين الحياة الاجتماعية السليمة والتصورات المشتركة للمجتمع المستقيم. منهج التربية في الإسلام أحاط بالعملية التربوية من كل جوانبها، الفكرة والجسمية والاجتماعية والفردية والروحية. ذلك؛ لأنه هدف رباني، والهدف الرباني لا يأتي إلا:

كاملا، شاملا، عاما، صالحا للبقاء، موافقا للفطرة الإنسانية، خصب، واضح، التوازن والتوافق، واقعي، مرن .5]

    • كاملًا يستمد كماله من الكمال الإلهي، فهو في كل المجالات، يبعدنا عن النقائص، ويوجهنا نحو الفضائل وخير الإنسانية أفرادا ومجتمعات.

 

    • شاملا يكتنف الحياة من جميع جوانبها، والنفس الإنسانية من كل نواحيها.

 

    • عاما لكل الناس فهو إنساني، وليس خاصا بمصالح أمة معينة، أو قوم بخصوصهم.

 

    • صالحا للبقاء والخلود على مر الزمن، وهو يستمد خلود من أنه جاء من عند الله.

 

    • موافقًا للفطرة الإنسانية، وفطرة الإنسان لا تتغير على مر الزمن، من حيث هو فرد، ومن حيث هو عضو في جماعة، ومن حيث هو بشر من دم ولحم، وله نوازعه وشهواته ودوافعه الغريزية، ومن حيث هو إنسان له عقله، وإرادته وقدرته على الخير والشر. فهدف التربية الإسلامية يربي كل هذه النوازع والدوافع، والفطرة ويوجهها كلها نحو مثلها الأعلى، نحو عبادة الله الذي خلق الإنسان، وإليه مرجعه ومآله.

 

    • وهو هدف خصب تتولد عنه الثمرات الطيبة وليس عقيما؛ لأنه لا يجافي الفطرة، ولا يصد طاقات الإنسان بل يحرضها على الإنتاج الخير، ويدفعها إليه دفعا، ويستوفي منها كل خير تستطيع تقديمه للفرد، والجماعة والإنسانية.

 

    • وهو هدف واضح يفهمه ويعقله جميع البشر؛ لأنه مناسب للفطرة النفسية والعقلية، يعتمد على الإحساس والوعي، يقبله المربي والطالب جميعًا.

 

    • وهو هدف يؤدي إلى التوازن والتوافق، وعدم التعارض بين جوانب الحياة والنفس، بل يوفق بينها جميعا في غاية واحدة مثمرة ذات فروع تضم هذه الجوانب كلها.

 

    • وهو هدف واقعي ميسر التطيبق يؤثر في سلوك جميع الناس بمختلف ثقافاتهم وأعمارهم.

 

  • وهو هدف مرن يستطيع مسايرة الظروف والأحوال على اختلافها، كما أنه يساير الإنسان في مختلف العصور والأقطار مهما تعددت سبل عيشه وأساليب حياته من تجارة وزراعة وصناعة.

التربية بالحوار:

الإيمان يزيد بالطاعة، وبقراءة القرآن، وبتأمل آثار رحمة الله في الكون، وأساس الإيمان فهم أركانه، ووعي معانيه، والتصديق بها، واليقين الذي تنتج عنه راحة النفس، واستقامة السلوك، على أساس ما صدقه القلب، من معاني الإيمان. وتربية الإيمان تبدأ من توضيح الهدف الأسمى للتربية الإسلامية أي من توضيح أولا التربية بالحوار، والحوار أن يتناول الحديث طرفان أو أكثر، عن طريق السؤال والجواب، بشرط وحدة الموضوع أو الهدف، فيتبادلان النقاش حول أمر معين، وقد يصلان إلى نتيجة، وقد لا يقنع أحدهما الآخر، ولكن السامع يأخذ العبرة ويكون لنفسه موقفًا. وللحوار أثر بالغ في نفس السامع أو القارئ الذي يتتبع الموضوع بشغف واهتمام وذلك لأسباب كثيرة أهمها:

    • عرض الموضوع عرضا حيويا، إذ يتناوله الخصمان بالأخذ والرد، مما لا يدع مجالا للملل بل يدفع السامع أو القارئ إلى الاهتمام والتتبع، لما يتوقعه من جديد أو من انتصار أحد الخصمين على الآخر.

 

    • إغراء القارئ والسامع بالمتابعة بقصد معرفة النتيجة، وهذا أيضا يبعد الملل ويجدد النشاط.

 

    • إيقاظ العواطف والانفعالات مما يساعد على تربيتها، وتوجيهها نحو المثل الأعلى، كما يساعد على تأصل الفكرة في النفس وعمقها.

 

  • عرض الموضوع عرضا واقعيا بشريا تتبناه فئة مؤمنة وتدافع عنه أو تحكي لنا أثره في سلوكها وحياتها، مما يجعل لهذا الحوار نتائج سلوكية طيبة، وهذا من أهم أغراض التربية الحقة.

أنواع الحوار وأساليبه وأشكاله في القرآن والسنة

    • الحوار الخطابي أو التعبدي

 

    •  الحوار الوصفي

 

    •  الحوار القصصي

 

    • الحوار الجدلي

 

  •  الحوار النبوي

 1- الحوار الخطابي أو التعبدي:

خاطب الله عباده المؤمنين في عشرات المواضع من كتابه مصدرًا خطابه بنداء التعريف بالإيمان: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}، وكلما قرأه مؤمن سارع قلبه بالجواب: “لبيك يا رب”، ولذلك اعتبرت هذا الأسلوب حوارا، وقد يجري العكس، فإذا خاطب المؤمن ربه داعيا إياه في بعض آيات القرآن، أجابه الحق جل جلاله بما يناسب المقام، والأدلة على ذلك واضحة أشهرها ما رواه الإمام مسلم عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: “قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل”.فإذا قال العبد:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين} قال الله تعالى: “حمدني عبدي”. وإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيم} قال الله تعالى: “أثنى علي عبدي”. وإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّين}، قال: “مجدني عبدي”، وقال مرة: “فوض إلي عبدي”. فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قال: “هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل”. فإذا قال: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} قال: “هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل”. قال حذيفة بن اليمان: “صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فافتتح “البقرة”، فقلت: يركع عند المئة ثم مضى، فقلت: يصلي بها في ركعتين، فمضى، فقلت: يركع بها، ثم افتتح “النساء” فقرأها، ثم افتتح “آل عمران” فقرأها، يقرأ مترسلًا: إذا مر بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ”. فتسبيح رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعوذه، وسؤاله، مناجاة لله تعالى، أثناء تلاوة القرآن، فهو أشبه ما يكون بالحوار.

النتائج التربوية وتأثير الحوار الخطابي :

    • التجاوب مع أسئلة القرآن والتفكير بمعناها والجواب على ما يمكن الجواب عليه، أو استحضار الجواب في القلب

 

    •  التأثر العاطفي بمعاني القرآن

 

    • توجيه السلوك والعمل بمقتضى القرآن الكريم

 

    • وذلك نتيجة طبيعية للتأثر العاطفي والقناعة الفكرية الناشئة عن أسلوب الحوار.

 

  •  إشعار القارئ للقرآن بعزة الإيمان ومكانته عند الله حتى خاطب عباده بوصفهم به.

أشكال الحوار الخطابي:

تعددت أشكال الخطاب الموجه من الله تعالى ومقاصد الأسئلة القرآنية العامة التي لم تكن موجهة إلا من الله، لجميع خلقه أو لجميع المؤمنين أو لجميع الناس، وأحيانا يوجه الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، ويراد به التشريع لجميع المؤمنين. ويمكن تعداد أهم الأشكال لهذا الحوار الخطابي كما يلي:

    •  الخطاب الموجه للذين آمنوا

 

    •  الحوار الخطابي التذكيري

 

    •  الحوار الخطابي التنبيهي أو الإيضاحي

 

    • الحوار الخطابي العاطفي

 

    •  الحوار العاطفي الترديدي

 

    •  الحوار الخطابي التعريضي

 

  •  الحوارالوصفي والقصصي والجدلي
  • الخطاب الموجه للذين آمنوا

الخطاب الموجه للذين آمنوا، أو المصدر بنداء التعريف بالإيمان؛ وفي هذا الخطاب يكون المنادى معرفا، فهو اسم موصول صلته جملة “آمنوا”، والقصد من هذا التعريف الإيماء للمخاطبين: أن يعتزوا بإيمانهم؛ لأن الله جل جلاله يرفع من شأنهم ويخصهم بهذا الوصف العظيم، ويناديهم به حتى أصبح وكأنه علم عليهم. وأن يحرصوا على هذا الإيمان ويستمسكوا به، فهو صفتهم المميزة أمام الناس وأمام الإنسانية، وما كان لهم أن يتراجعوا عنه. وأن يشعروا بمسئولية التكليف فهو مبني على الإيمان، وما داموا قد أخذوا أنفسهم بالإيمان بالله، فقد أخذوا أنفسهم بالعمل بكل ما يأمرهم به الله.

  • الحوار الخطابي التذكيري

ويقوم على التفكير بنعم الله وبنعمة الإيمان والتذكير بما فعله الأقوام السابقة كتذكير بني إسرائيل: {يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ}.  وأما التذكير بنعمة الإيمان، في قوله تعالى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى، وَوَجَدَكَ ضَالًا فَهَدَى، وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى}. ولهذا الحوار أثر نفسي عميق فهو يوقظ في النفس عاطفة العرفان بالجميل والشكر لله، وبالتالي يربي عاطفة الخضوع، والانقياد لأوامر الله تعالى، وإنما تربي العاطفة بتكرار إثارة انفعال معين نحو موضوع معين، إن الاستعداد هو العاطفة المطلوبة.على أن العاطفة يجب أن تكون قوة دافعة تدفع صاحبها إلى التطبيق والتضحية والسلوك المستقيم، فالتذكير بنعمة الغنى تدفع إلى البذل والسخاء في سبيل الله، والتذكير بنعمة الإيواء تدفع إلى رحمة الأيتام، ورعايتهم وهكذا. والآيات القرآنية ذات الأسلوب الاستفهامي دالة على هذا، فكلما ورد سؤال يذكر نعمة من نعم الله، كان جوابه إما ملحوظا وإما صريحا، كما في سورة الضحى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ، وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ، وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ}.

  • الحوار الخطابي التنبيهي أو الإيضاحي

من أوضح صور هذا الحوار، أن يرد سؤال من الحق جل جلاله، يليه جواب، فتكون غايته لفت الأنظار إلى أمر هام، ثم شرح هذا الأمر كقوله تعالى: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ، عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ، الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ}. وقوله تعالى: {الْحَاقَّةُ، مَا الْحَاقَّةُ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ، كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ}. وقد اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلوب القرآن في هذا اللون من الحوار، فقال فيما رواه أبو هريرة: “أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ذكرك أخاك بما يكره، قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته”، رواه مسلم. وهذا أسلوب رائع، يضاهي أسلوب الاستجواب في المدرسة الحديثة، ويزيد عليه: فالاستجواب المدرسي مقصور على أمور عادية علمية جافة، والحوار القرآني أو النبوي يتحدى عقول السامعين وأفكارهم بأمور جديدة أو غامضة، ثم يشرحها لهم ويوجههم إلى الأخذ بخيرها وترك شرها، فغايته وجدانية سلوكية: وجدانية بحيث يكره إلى السامع أو المخاطب الشر، ويجيب إليه الخير، ويثير عواطفه وانفعالاته في سبيل تحقيق سلوك طيب، والابتعاد عن سلوك شرير.

  • الحوار الخطابي العاطفي

وهو خطاب أو استفهام يعتمد على إثارة عواطف إنسانية أو انفعالات وجدانية، تترك أثرًا فعالا في الانقياد للسلوك الطيب والعمل الصالح، كالخوف والأمل، الرغبة والرهبة. – فالخشوع لله والشعور بعظمته كقوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ}، وفي هذا تحد للإنسان، ليتأمل في عظمة خلق الله للسماوات والكواكب، وقد نوه الله تعالى ببعض الآثار النفسية لهذا التحدي، والتأمل بقوله: {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} ، فالشعور بعظمة الله هنا يتجلى حين يرافقه شعور بضعف الإنسان، ويلازمه انقياد وطاعة، وخشوع لله.

– والشعور بالندم إزاء المعاتبة، والتأنيب كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ}. وكقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} .

 -والخوف من عذاب يوم القيامة وأهواله واضح في قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا}، ثم يبين الله تعالى بعض الآثار النفسية لذلك الموقف بقوله: {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا}  – وإثارة عواطف الشكر لله والشعور بفضله ومنه، مبثوثة في كثير من الآيات، كقوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ، أَأَنْتُم أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ}. وبعد كل استفهام دليل دامغ على عجز الإنسان، وعظمة الله وقدرته، فالماء الذي نشربه لا نملك أن نجعله حلوًا لو كان مالحا {لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلا تَشْكُرُونَ}، والنبات الذي نزرعه لا نملك ربه لو حبست عنه الأمطار، وغارت الآبار والأنهار، أو جاءته ريح سموم، فأصبح حطاما أو هشيما: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ، أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ، لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ، إِنَّا لَمُغْرَمُونَ، بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ}، فلا يملك القارئ المتدبر إلا أن يخشع قلبه لفضل الله، ويلهج لسانه بحمده وشكره.

تربية العواطف الربانية: وتربية هذه العواطف أو غيرها يخضع، كما تدل الحياة، ونتائج أبحاث علم النفس، شروط أهمها:

    •  أن تثور الانفعالات الوجدانية في مواقف من الحياة الفردية أو الاجتماعية المناسبة وترافقها استجابات سلوكية مناسبة.

 

    •  أن تتكرر هذه الانفعالات، وتتكرر معها الاستجابات السلوكية المناسبة، كالصلاة والبكاء من خشية الله، وقراءة القرآن والدعاء، والتلذذ بمعاني القرآن وأساليبه.

 

    • أن يؤدي هذا التكرار إلى استعداد وجداني، يجعل صاحبه مستعدًّا للانفعال، كلما تكررت المناسبة، أو تكرر المعنى أو الموضوع الذي أثار الانفعال أول مرة، كاستعداد المؤمن للحماسة من أجل العقيدة، ولتحقيق أوامر الله والغضب لله، والدعوة إلى دينه.

 

  •  والعاطفة الفعالة تؤدي بصاحبها إلى سلوك مناسب يرضيها ويحقق غايتها، فهي قوة دافعة ما تزال تدفع صاحبها حتى يسلك ذلك السلوك، فعاطفة الخشوع تدفع المؤمن إلى طاعة الله وتحقيق أوامره، وكذلك الشكر على النعم يدفع إلى الصدقة، أو حسن استعمال المال أو الجاه أو البصر، في طاعة الله وتحقيق شريعته، دواليك.

الحوار العاطفي الترديدي   

وهو الذي يتردد فيه سؤال معين، مثير لعواطف متشابهة، فيتكرر عددًا من المرات، بينها فواصل من الآيات المؤثرة، فيأخذ هذا السؤال كل مرة معنى يتناسب مع ما سبقه من الآيات بالإضافة إلى معناه الأصلي، كتكرار قوله تعالى في سورة الرحمن: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} ، وبعدها 31 موضعا بنفس السورة، وقوله تعالى في سورة القمر: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}، وأربعة مواضع بعدها في نفس السورة، وقوله أيضا: {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} وأربعة مواضع بعدها أيضا من نفس السورة، وهذا التكرار يساعد على نشوء العاطفة الربانية، وتمكينها وترتيبها في النفس، ونموها، كما يساعد على استعدادها للثورة في عدد من المواقف المتنوعة، بحسب تنوع الآيات السابقة للسؤال المتكرر، كل ذلك إلى جانب تربية العبودية لله، وهو الهدف الأصلي المقصود بالدرجة الأولى من هذه الآية الكريمة، فالتصديق بآلاء الله ونعمه، وآيات قدرته ووحدانيته، يثمر في قلب المؤمن ثمرة عظيمة هي إخلاص الخضوع، والعبودية والانقياد لله وحده، وهذا من أهم نتائج “العاطفة الربانية”، وهي العاطفة السائدة تترعرع في التربية الإسلامية، فتتوجه سائر العواطف بتوجيهها، وتهذب الغرائز، والنزعات الإنسانية بسيطرتها، فتستقيم الشخصية، وتقوى وتتضافر جميع الطاقات والاستعدادات، وتتجه إلى تحقيق هدف واحد.

  • الحوار الخطابي التعريضي

وهو خطاب من الحق جل جلاله إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم يتضمن تعريضا بالمشركين كوصف مساوئهم أو ضعفهم، أو الاستهزاء بباطلهم، أو تهديدهم بعذاب الله. – فالتنويه ببعض ترهاتهم، واتهاماتهم الباطلة لرسول الله كقوله تعالى: {فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ}، وفي هذا الشكل من أشكال الحوار الخطابي تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، وللمؤمنين، وتقوية لعزائم الدعاة إلى الله. – والتهديد من الله تعالى، كقوله: {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ، وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِين}. – ووصف مساوئ بعض المشركين، كقوله تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى، عَبْدًا إِذَا صَلَّى}. للحوار الخطابي التعريضي آثارًا تربوية في النفس أهمها:

    •  تسلية المؤمنين والدعاة إلى الله تعالى عما يلاقون من عنت، وإرهاب في سبيل الله، وإشعارهم بأن العاقبة لهم، وأن الله معهم ضد أعمال أعداء الله.

 

  •  الإيحاء إلى قارئ القرآن بأن تحتقر صفات المشركين وأعمالهم وإيقاظ انفعالات الاشمئزاز من باطلهم وكفرهم، حتى تصبح هذه الانفعالات عاطفة متأصلة في النفس عن طريق التكرار. والإيحاء كما يرى علماء النفس هو: إيصال القناعة بفكرة ما إلى ذهن السامع عن غير طريق التلقين المباشر، فقد يكون عن طريق القصة أو التعريض، وهو أشد تأثيرًا في بعض الأحيان من التلقين المباشر.

2- الحوار الوصفي   

يعرض الحوار الوصفي صورة حية لأحوال أهل النار أو أهل الجنة النفسية؛ فهو يستعين بالمخيلة والوصف الدقيق على تربية العواطف الربانية والتأثير في نفس القارئ أو السامع بهذه الآيات، ومما يزيد هذه الصورة تأثيرا أن الوصف جاء على ألسنتهم وباعترافهم، فهم يصفون ندمهم وآلامهم، وأي عاقل يسمح لنفسه أن يكون مكانهم؟  يعتمد الحوار الوصفي على الإيحاء، فالآيات هنا تحذرنا من هذا المصير، دون أن تقول لنا: “إياكم أن تقعوا فيما وقع فيه هؤلاء”، وهذا الإيحاء أشد تأثيرا من التلقين، ولم يقتصر القرآن على وصف مشاعر أهل النار، بل وصف لنا بعض مشاعر أهل الجنة في حوار وصفي رائع. فالحوار هنا بين الحق جل جلاله، وبين ملائكته، والحديث عن الظالمين الذين استحقوا عذاب جهنم، لقد استفاقوا من قبورهم، فأدركوا أن هذا اليوم هو يوم الدين، وجاء النداء الرباني لزبانية جهنم ليدلوا الظالمين إلى طريق النار، ثم استمر الحوار لبيان ضعفهم، والاستهزاء بهم بعد أن ينالوا حسابهم، في ذلك الموقف: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ، مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ}، وعجزوا عن الجواب، فأخبرنا الله جل جلاله عن حالهم: {بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ}، ثم دار الحوار بين قادة الظلم والباطل، وبين السوقة الذين استسلموا للباطل في الدنيا، فحشروا في العذاب جميعا: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ، قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ}، وتنصل قادة الظلم من المسئولية: {قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ، وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ، فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ، فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ}.

 3- الحوار القصصي

وهو الذي يأتي في طيات قصة واضحة في شكلها وتسلسلها القصصي، وهذا الحوار لا يتعدى أن يكون جزءا من أسلوب القصة، أو عناصر في القرآن، أما أن يكون هناك قصة كلها حوار على غرار ما يسمونه اليوم بـ”المسرحية”، فهذا لم يرد في القرآن بهذا الشكل المسرحي، ولكن بعض القصص جاءت في بعض المواضع يغلب فيها الحوار على الإخبار، كقصة شعيب مع قومه في سورة هود، فالآيات العشر الأولى من هذه القصة كلها حوار، ثم ختم الله القصة بآيتين، بين فيها عاقبة قوم شعيب. انتشر هذا الحوار في كثير من القصص القرآني، والحوار القصصي ذو أثر فكري بالإضافة إلى أثره الوجداني العاطفي، وذلك للأسباب التالية: يعتمد تأثير الحوار القصصي على الإيحاء، فهو يوحي إلى القارئ بطريق غير مباشر أن يكره حجج الكافرين وأحوالهم، وخاصة عندما يرى مصيرهم في آخر القصة.

* يربي العواطف الربانية في النفس، كالحب في الله، والرغبة في الدعوة إلى الله، والحماسة لأنبياء الله.

* يعرض حجج الأنبياء عرضا فكريا ربانيا، وتدحض فيه حجج الظالمين الماديين، ويبين لنا منطقهم المتهافت. فقوم شعيب لم يبقوا عليه حياته، إلا خوفا من “رهطه”، وشعيب ما كان ينصحهم إلا خوفا من الله ورغبة في إرضائه.

* يمتاز بذكر نتيجة القصة، ومصير كل من الظالمين والمؤمنين، وتصويره تصويرا مرتبطا بالحوار وبمراحل القصة ارتباطا وثيقا، وذلك بعد ترقب وتلهف يشد القارئ والسامع إلى تتبع الحوار، وتأمل معانيه، فهو يربي الفكر والتصور الرباني لأمور الحياة، ولروابط الحياة الاجتماعية، مع مقارنة ذلك بتصورات الظالمين المترفين، القائمة على القوة أو المنفعة العاجلة، أو الجاه أو المصالح الشخصية.

4- الحوار الجدلي

وهو حوار يجري فيه نقاش أو جدال غايته إثبات الحجة على المشركين للاعتراف بضرورة الإيمان بالله وتوحيده، والاعتراف باليوم الآخر وبرسالة النبي، وببطلان آلهتهم، وصدق أقوال الرسول كوصفه لما رأى عندما عرج به إلى السموات العلى، كما في سورة النجم: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى، مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى، وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى، عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى}.

نتائج تربوية: يشترك الحوار الجدلي مع سابقيه بأمور تربوية، ويمتاز بأمور أخرى أهمها:

– يربي الحوار الجدلي الحماسة للحق، وتحري الصواب والرغبة في الحجة الدامغة، وهذا من العواطف الربانية التي يجب الحرص عليها على تنميتها عند الناشئين.

– كما يربي، عن طريق الإيحاء، كراهية الباطل والأفكار الشركية والإلحادية، وتفاهة هذه الأفكار وبطلانها.

– يربي العقل على التفكير السليم، والوصول إلى الحقائق بأسلوب صحيح.

– وأهم مزاياه أنه يربي العقل على التفكير الموضوعي الواقعي، والارتقاء بالحجج من المشهود المحسوس إلى المطلوب المغيب، فقصة إبراهيم مع النمرود جاء فيها الحوار الآتي: بدأت القصة بلفت نظر القارئ، على طريقة الحوار الخطابي، إلى أهميتها: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ}. وبهذا الإيجاز بين الله لنا “بطلي” القصة: إبراهيم المؤمن بربه، ورجلا غره أن أتاه الله ملكا، فأراد أن يزعم لنفسه بعض صفات الألوهية، لكن إبراهيم ضرب له أمثلة محسوسة يراها كل إنسان ولا ينكرها عاقل شيئا، ولا يستحقون التقديس والعبادة.

5- الحوار النبوي

لقد اقتبس رسول الله صلى الله عليه وسلم، من كل ما مر من أنواع الحوار القرآني وأشكاله، وكل ما هو مثبت في القرآن العظيم من أساليب التربية والتعليم، ولا غرو فقد كان خلقه القرآن، وكانت حياته التربوية والتعليمية ترجمة حية بشرية، لآيات الله ومراده ووحيه. كان رسول الله حريصا على تعليم الصحابة بطريق الحوار، وكانت رغبته أشد في أن يكون الصحابة هم البادئون بالسؤال، فقد روى البخاري ومسلم -واللفظ له- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما بارزًا للناس، وفي رواية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “سلوني”، فهابوه أن يسألوه فجاء رجل، فجلس عند ركبتيه، فقال: يا رسول الله ما الإسلام؟ قال: “لا تشرك بالله شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان”، قال: صدقت، ثم سأله عن الإيمان والإحسان وموعد قيام الساعة، قال أبو هريرة: ثم قال الرجل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ردوه علي” فالتمسوه فلم يجدوه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “هذا جبريل أراد أن تعلموا إذا لم تسألوا” 1 وفي لفظ للبخاري: “هذا جبريل جاء يعلم الناس دينهم”. ويؤخذ من هذه الأحاديث أمور تربوية أهمها:

– مشروعية ترغيب المعلمين في أن يكونوا هم السائلين، ليكون التعليم مبنيا على رغبتهم، وليكون أشد وقعا في نفوسهم.

– إجراء حوار أمام المتعلمين، ليتابعوا الحوار ويتعلموا منه أمر دينهم، وكانت هذه الطريقة تروق بعض الصحابة رضي الله عنهم.

أسلوب الحوار من أساليب التربية الإسلامية، لذلك أرسل الله جبريل يسأل الرسول ويصدقه، والصحابة يسمعون بكل لهفة وشوق، ليقتدي المعلمون والمربون بهذا الأسلوب في حياتهم التعليمية والتربوية.

 الحوار النبوي الإقناعي: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحاور في سبيل الإقناع وإقامة الحجة، فقد أراد شخص أن يدخل في الإسلام، فاستأذن رسول الله أن يبيح له الزنا، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم ما معناه: “ألك أم؟ ” قال: نعم، “ألك أخت؟” قال: نعم، ثم قال: “أتريد أن يزنى بأمك؟ ” قال: لا”، وهنا أقلع الرجل وتاب عن هذا الخلق الدنيء، واقتنع بترك الزنى عن طريق هذا الحوار النبوي، الذي يتضمن قياس معاملة الغير على معاملة النفس، وأن يترك الإنسان أذى الآخرين، ما دام لا يريد أن يؤذيه الآخرون. وكذلك محاورته مع عدي بن حاتم: روى الإمام أحمد والترمذي، وابن جرير من طرق عن عدي بن حاتم.. فذكر خبر فراره إلى الشام، وأسر أخته وإسلامها وترغيبها إياه بالإسلام، وقدومه إلى المدينة، وسماعه سورة “براءة” من رسول الله صلى الله عليه وسلم، واعتراضه على آية: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا} ، وجواب الرسول ثم قال: “يا عدي ما تقول؟ أيضرك أن يقال: الله أكبر؟ فهل تعلم شيئا أكبر من الله؟ ما يضرك؟ أيضرك أن يقال: لا إله إلا الله؟ فهل تعلم إلها غير الله؟ ” ثم دعاه إلى الإسلام فأسلم وشهد شهادة الحق، قال: فلقد رأيت وجهه استبشر، ثم قال: “إن اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون”. هذا الحوار الإقناعي يقوم على سؤال المتعلم، أو المخاطب عما يعرفه بالحس أو البداهة، ثم يبني السائل على الجواب ما يريد بناءه من استجواب آخر، حتى يصل إلى الإقناع بكل ما يريد تعليمه إياه أو إقناعه به، فقد كان حوار رسول الله صلى الله عليه وسلم حوارًا تدريجيا، بدأ بالمناقشة حول معنى الآية، وحول اتخاذ النصارى لأحبارهم أربابا، أي مشرعين من دون الله، ثم تبين خطؤهم لعدي بن حاتم، فلما أنس منه الرسول صلى الله عليه وسلم تعقلا، ورغبة في الحق تابع سؤاله عن رأيه في شعار المسلمين “الله أكبر” و”لا إله إلا الله” حتى أقر بشهادة الحق. وهكذا كان الحوار الاستجوابي في التربية الإسلامية بعد قراءة القرآن، من الوسائل الناجحة لإقناع من يُرجى إسلامه من المفكرين والعقلاء، وهو وسيلة ناجحة في الدعوة، وما زال من أفضل الوسائل المتبعة إلى يومنا، إنه وسيلة للتعليم والإقناع، وإلزام الخصم بالحجة.

التربية بالقصص القرآني والنبوي

للقصة وظيفة تربوية لا يحققها لون آخر من ألوان الأداء اللغوي من أهم مميزاتها:

  • تشد القارئ، وتوقظ انتباهه

دون توانٍ أو تراخٍ، فتجعله دائم التأمل في معانيها والتتبع لمواقفها، والتأثر بشخصياتها وموضوعاتها حتى آخر كلمة فيها. ذلك أن القصة تبدأ غالبا بالتنويه بمطلب أو وعد أو الإنذار بخطر، أو نحو ذلك مما يسمى في الدراما عقدة القصة، وقد تتراكم قبل الوصول إلى حل هذه العقدة، مطالب أو مصاعب أخرى تزيد القصة حبكا، كما تزيد القارئ، أو السامع شوقا وانتباها وتلهفا على الحل أو النتيجة. ففي مطلع قصة يوسف، مثلا، تعرض على القارئ “رؤيا يوسف عليه السلام” يصحبها وعد من الله، على لسان أبيه، بمستقبل زاهر، ونعم من الله يسبغها على هذه الأسرة الفقيرة المتعثرة، الداعية إلى الله. وتتتابع المصائب والمشكلات على بطل القصة “يوسف عليه السلام” ويتابع القارئ اهتمامه ينتظر تحقيق وعد الله ويترقب انتهاء هذه المصائب والمشكلات بتلهف.

  • تتعامل القصة القرآنية والنبوية مع النفس البشرية في واقعيتها الكاملة.

فالقصة القرآنية ليست غريبة عن الطبيعة البشرية، ولا محلقة في جو ملائكي محض؛ لأنها إنما جاءت علاجا لواقع البشر، وعلاج الواقع البشري لا يتم بذكر جانب الضعف والخطأ على طبيعته، ثم بوصف الجانب الآخر الواقعي المتسامي الذي يمثله الرسل والمؤمنون، والذي تؤول إليه بقصة بعد الصبر والمكابدة والجهاد والمرابطة، أو الذي ينتهي عند المطاف لعلاج ذلك الضعف والنقص، والتردي البشري في مهاوي الشرك، أو حمأة الرذيلة، علاجا ينهض بالهمم، ويدفع بالنفس للسمو، ما استطاعت، إلى أعلى القمم، حيث تنتهي القصة بانتصار الدعوة الإلهية، ووصف النهاية الخاسرة للمشركين الذين استسلموا إلى الضعف والنقص، ولم يستجيبوا لنداء ربهم فيزكوا أنفسهم. أهم النماذج التي يريد القرآن إبرازها للكائن البشري، ويوجه الاهتمام إلى كل نموذج بحسب أهميته، فيعرض عرضًا صادقًا يليق بالمقام، ويحقق الهدف التربوي من عرضه، ففي قصة يوسف يعرض نموذج الإنسان الصابر على المصائب في سبيل الدعوة إلى الله “في شخص يوسف”، ونموذج المرأة المترفة تعرض لها حبائل الهوى، فيملأ قلبها الحب والشهوة، ويدفعها إلى محاولة ارتكاب الجريمة، ثم إلى سجن إنسان بريء مخلص، لا ذنب له إلا الترفع عن الدنايا والإخلاص لسيده، ومراعاة أوامر ربه. ونموذج إخوة يوسف: تدفعهم هواتف الغيرة والحسد، والحقد والمؤامرة والمناورة ومواجهة آثار الجريمة والضعف، والحيرة أمام هذه المواجهة. ونموذج يعقوب: الوالد المحب الملهوف والنبي المطمئن الموصول، يعرض القرآن كل هذه النماذج البشرية عرضا واقعيا نظيفا من غير إفحاش، ولا إغراء بفاحشة أو جريمة، كما يفعل مؤلفو القصص التي يسمونها واقعية أو طبيعية، من رواد جاهلية القرن العشرين، ذلك أن من أهم غايات القصة القرآنية: التربية الخلقية عن طريق علاج النفس البشرية علاجا واقعيا.

  • تربي القصة القرآنية العواطف الربانية وذلك عن طريق :

*إثارة الانفعالات كالخوف والترقب، وكالرضا والارتياح والحب، وكالتقزز والكره، كل ذلك يثار في طيات القصة بما فيها من وصف رائع ووقائع مصطفاة، فقصة يوسف مثلا تربي الصبر والثقة بالله، والأمل في نصره، بعد إثارة انفعال الخوف على يوسف، ثم الارتياح إلى استلامه منصب الوزارة.

* توجيه جميع هذه الانفعالات حتى تلتقي عند نتيجة واحدة هي النتيجة التي تنتهي إليها القصة. فتوجه مثلا حماسة قارئ القصة نحو يوسف وأبيه، حتى يلتقيا في شكر الله في آخر القصة، ويوجه بغض الشر الذي صدر عن إخوة يوسف حتى يعترفوا بخطئهم، ويستغفر لهم أبوهم في آخر القصة، وهكذا..

*عن طريق المشاركة الوجدانية، حيث يندمج القارئ مع جو القصة العاطفي حتى يعيش بانفعالاته مع شخصياتها، ففي قصة يوسف يعتري القارئ خوف أو قلق عندما يراد قتل يوسف، وإلقاؤه في الجب، ثم تنسرح العوطف قليلا مع انفراج الكربة عنه، ثم يعود القارئ إلى الترقب عندما يدخل يوسف دار “العزيز”، وهكذا يعيش القارئ مع يوسف في سجنه، وهو يدعو إلى الله، حتى يفرح بإنقاذه، ثم بتوليه وزارة مصر، وبنجاة أبيه من الحزن، وهو في كل ذلك رسول الله والداعية إلى دينه.

  • تمتاز القصة القرآنية بالإقناع الفكري بموضوع القصة

عن طريق الإيحاء والاستهواء والتقمص: (فلولا صدق إيمان يوسف لما صبر في الجب على الوحشة، ولما ثبت في دار امرأة العزيز على محاربة الفاحشة، هذه المواقف الرائعة توحي للإنسان بأهمية مبادئ بطل القصة وصحتها، وتستهويه صفات هذا البطل وانتصاره بعد صبر ومصابرة طويلة، فيتقمص هذه الصفات حتى إنه ليقلدها، ولو لم يقصد إلى ذلك، وحتى إنه ليردد بعض هذه المواقف ويتصورها، ويسترجعها من شدة تأثره بها).

عن طريق التفكير والتأمل: (فالقصص القرآني لا يخلو من محاورات فكرية ينتصر فيه الحق، ويصبح مرموقا محفوظا بالحوادث، والنتائج التي تثبت صحته وعظمته في النفس وأثره في المجتمع، وتأييد الله له، ففي قصة يوسف تجد حوارا يدور بينه وبين فتيين عاشا معه في السجن فدعاهما إلى توحيد الله، وقصة نوح كلها حوار بين الحق والباطل، وكذلك قصة شعيب، وصالح وسائل الرسل، حوار منطقي مدعوم بالحجة، والبرهان يتخلل القصة، ثم تدور الدوائر على أهل الباطل، ويظهر الله الحق منتصرا في نتيجة القصة، أو يهلك الباطل وأهله، فيتظاهر الإقناع العقلي المنطقي والإثارة الوجدانية، والإيحاء وحب البطولة “الاستهواء”، والدافع الفطري إلى حب القوة وتقليد الأقوياء، تتظاهر كل هذه العوامل وتتضافر، يؤيدها التكرار مرة بعد مرة، فما أكثر تكرار بعض قصص القرآن، حتى تؤدي بمجموعها إلى تربية التصور الرباني للحياة، وللعقيدة واليوم الآخر، وإلى معرفة كل جوانب الشريعة الإلهية معرفة إجمالية، وإلى تربية العواطف الربانية من حب في الله، وكراهية للكفر وحماسة لدين الله ولحماته، ولرسل الله، وولاء الله وانضواء تحت لوائه، وإلى السلوك المستقيم وفق شريعة الله، والتعامل حسب أوامره، وبهذا تحيط القصة القرآنية نفس الناشئ بالتربية الربانية من جميع جوانبها العقلية، والوجدانية والسلوكية).

أغراض القصص القرآني

القصة في القرآن هي إحدى الوسائل بإبلاغ الدعوة وتثبيتها. والتعبير القرآني يؤلف بين الغرض الديني والغرض الفني، وبهذا امتازت القصة القرآنية بميزات تربوية وفنية تجعل الجمال الفني أداة مقصودة للتأثير الوجداني، وإثارة الانفعالات، وتربية العواطف الربانية. أهم هذه الأغراض

    •  إثبات الوحي والرسالة

 

    •  بيان أن الدين كله من عند الله.

 

    •  أن الله ينصر رسله والذين آمنوا

 

    •  شد الأزر للمؤمنين وتخفيف لهم عما يلاقون من الهموم والمصائب.

 

    •  تنبيه أولاد آدم إلى خطر غواية الشيطان

 

  •  بيان قدرة الله تعالى والخوف من الله لتربية عاطفة الخشوع والخضوع والانقياد.

مميزات القصص النبوي

    •  بساطة الأسلوب وتفصيله ووضوحه سهل الفهم مما يجعله مناسبا للأطفال والكبار

 

    • تكرار بعض الألفاظ والعبارات للإلحاح على الغرض من القصة كتكرار قول كل واحد: “اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك، فافرج عنا ما نحن فيه”.

 

  •  طرافة الموضوع وجاذبيته للنفوس.

 

القصة في القرآن هي إحدى وسائل إبلاغ الدعوة وتثبيتها.

خاتمة:

الهدف الأساسي لوجود الإنسان في الكون، هو عبادة الله والخضوع له، والخلافة في الأرض ليعمرها بتحقيق شريعة الله وطاعته، وقد صرح القرآن بهذا الهدف في قوله تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ).وإذا كانت هذه مهمة الإنسان في الحياة فإن تربيته يجب أن تكون لها نفس الهدف؛ أن التربية تعني تنمية فكر الإنسان وتنظيم سلوكه وعواطفه على أساس الدين. وبذلك “تكون الغاية النهائية للتربية هي تحقيق العبودية لله في حياة الإنسان الفردية والاجتماعية”. فالتربية الإسلامية هدفها تربية المواطن المؤمن والمجتمع المسلم، الذي تتحقق فيه عبودية الله وحده، وتتحقق بتحقيقها كل فضائل الحياة الاجتماعية من تعاون، وتكافل وتضامن ومحبة، كما أنها تروي الحاجة إلى الأنس بالمجتمع والحاجة إلى الانتماء والاعتزاز بالأمة، تروي ذلك كله بدون انحراف، أو انقياد أعمى، أو فقدان للمواهب وللذاتيات، والمقومات الشخصية. أي أنها تجمع باتزان بين تربية الذاتية الفردية، والنزعة الاجتماعية من غير أن تغطى إحداهما على الأخرى، أو تنحرف أي منهما عن الخير، وعن طاعة الله والاستقامة في الحياة. مما يساعد على خطاب دعوي راشد يجمع الأمة ولا يفرقها.

………………………………………………………………………………………………………………………………………….

[1] المستفاد من قصص القرآن للدعوة والدعاة د. عبد الكريم زيدان

[2] معركة نشبت في أواخر العصر الجاهلي بين قبيلتي عبس وذبيان، بسبب سباق أجرياه على فرسين إحداهما تسمى داحس والأخرى تسمى الغبراء، فاختلفت القبيلتان على نتيجة السباق، فقامت بينهما الحرب، وانضم لكل قبيلة حلفاؤها، وطالب الحرب وقتل فيها خلق كثير، حتى تدخل من تدخل للصلح بينهما، فوضعت الحرب أوزارها.

[3] كيف ندعو الناس .. محمد قطب

[4] فن الدعوة .. أبو الحسن الندوي

[5] أصول التربية الإسلامية وأساليبها في البيت والمدرسة والمجتمع ..عبد الرحمن النحلاوي

زر الذهاب إلى الأعلى