كتبمراجعات

كيف تنتهي الديمقراطية؟

أسس السياسة في الغرب تحت التهديد.

شعار “الديمقراطية تموت في الظلام” الذي تصدره صحيفة “واشنطن بوست” ربما يبدو مغاليا ومبالغا في ضوء كتاب “كيف تنتهي الديمقراطية” الذي يحذر من وقوع ذلك في أجواء مضاءة تماما.

مؤلف كتاب “كيف تنتهي الديمقراطية” هو المفكر السياسي ديفيد رانسمان أستاذ العلوم السياسية، ورئيس قسم السياسة والدراسات الدولية بجامعة كامبريدج.

ينوه المؤلف في بداية كتابه إلى أنه حتى قبل ظهور دونالد ترامب كمرشح رئاسي، كان من الواضح أن التوجه العالمي بعيداً عن الأنظمة الاستبدادية إلى الأنظمة الديمقراطية قد تباطأ. جاء صعود ترامب مصحوبًا بوابل من تحذيرات الكُتاب السياسيين بأننا نتجه إلى ثلاثينيات القرن العشرين وعنفوان الفاشية. لم تكن الأيام الأخيرة من فايمار الألمانية (١٩١٩-١٩٣٣) تبدو جديرة بالدراسة، لكن ذكرها هذه الأيام يتزايد. لقد طور المؤرخون جانباً لطيفاً في دليل المساعدة الذاتية لحركة مقاومة تحت الأرض ضد الاستبداد.

بدأ رانسمان الكتاب بحكاية. عندما كان يشاهد خطاب التنصيب الافتتاحي لدونالد ترامب يوم ٢٠ يناير ٢٠١٧، وأثناء محاضرة في جامعة كامبريدج وبحكم أنه مدير قسم الدراسات السياسية والدولية، لاحظ عندما بدأ ترامب كلامه كيف تغيرت وجوه الطلاب المجتمعين هناك. فقد بدأ الخطاب بشيء من الاحتفال ولكنه فجأة تحول إلى وعيد وإنذارات. كان الخطاب الذي ألقاه ترامب صادما، فقد أعرب عن حسرته على “المصانع القديمة مثل القبور والعصابات والمخدرات والجرائم”. وذكر المستمعين في دعوته لإعادة بناء مجد الأمة بأنهم “جميعا يجري في عروقهم نفس دم الوطنية”، بدت العبارة وكأنها تهديد مبطّن. قبل كل شيء، شكك ترامب في الفكرة الأساسية للحكومة التمثيلية، وهي أن الشعب يفوض المسؤولين المنتخبين لاتخاذ القرارات نيابة عنه. هل كان سيحشد الغضب الشعبي ضد أي مهنيين يعترضون الآن طريقه؟ من الذي سيجرؤ على معارضته؟ وكان رد فعل الطلاب في الجامعة بعد أن انتهى ترامب من حديثه هو الصمت المذهول. لم نكن نحن فقط الذين تفاجأنا فقد غادر الرئيس السابق جورج بوش المكان وهو يقول “كان هذا شيئا قبيحا”.

 

إن كتاب ديفيد رانسمان الجديد ذكي للغاية، ويمتاز عن قرينه الأكثر شهرة (كيف تموت الديمقراطيات لليفيتسكي وزيبلات) بتأصيله الفكري، ونظرته التاريخية المهمة، وأفقه الدولي الواسع فلا يحصر الأزمة بالولايات المتحدة، وإنما يستشف مما وقع ويقع في العالم لرصد الظاهرة، وقياس تراجع الديمقراطية مستشهدا بسحق الربيع العربي، وتمكن نظام بوتين في روسيا وفيكتور أوربان في المجر. الكتاب يقدم مساهمة ثرية في هذه المناقشة وربما يقدم أيضا دحضا لها. كيف تشاطر الديمقراطية الشعور السائد بأن الديمقراطية التمثيلية (= النيابية) لا تبلي بلاء حسنا، ولكنها تناضل بقوة ضد الصراخ الفاشستي في كل منعطف. التاريخ، كما يقول رانسمان في البداية، لا يعيد نفسه. إن التحدي الذي يضعه هو استخدام الماضي لمعرفة ما حدث للديمقراطية اليوم، ولا سيما لتشخيص أمراضها، دون افتراض أن البديل الوحيد هو الذي طبع في ذاكرتنا الجمعية.

 

من أمثلة هذه الذاكرة الجمعية، يذكر رانسمان مقولة “إن أنجح السياسيين الديمقراطيين هم الذين يقومون بتحويل الأحزاب إلى حركات اجتماعية”. ويرى أن هذه الذاكرة، بعد كل شيء، هي ذاكرة قصيرة. ربما ابتكر اليونانيون القدماء الديمقراطية، لكنهم شعروا بتناقض عميق بشأنها، واعتبروها مجرد واحدة من مراحل الدورة السياسية. لم يبدأ ظهور موجة ديمقراطية مرة أخرى في بداية القرن التاسع عشر، في الأمريكتين ولفترة وجيزة في جنوب أوروبا، ولم يحدث حتى النصف الثاني من القرن العشرين أن الديمقراطية التمثيلية – بالمعنى الذي نعرفه الآن – أخذت تنتشر حول العالم. في تلك الفترة القصيرة نسبيا من الزمن، حاربها الليبراليون والاشتراكيون، ورفضها – في شكلها “البرجوازي” – الشيوعيون، ودمرها الديكتاتوريون. بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، حصلت الديمقراطية البرلمانية على فرصة جديدة للحياة والتمدد لمناطق جديدة. عندما انتهت الحرب الباردة، بدا انهيار الاتحاد السوفيتي وكأنه ترك الديمقراطية على أنها الحل الوحيد في العالم وأن “الديمقراطية هي الحل” أصبحت عقيدة قابلة للعولمة. وبحلول بداية هذا القرن، أصبح معظم علماء السياسة، يعتقدون أن الديمقراطية الليبرالية هي الوضع الطبيعي الجديد، وهو أمر يجب أن يطمح إليه العالم بأسره. وحتى سحق الربيع العربي، وصعود بعض الأنظمة الديكتاتورية هنا وهناك، رآه هؤلاء المتفائلون أنه مجرد تراجع في الأنظمة السياسية التي كانت جذورها الديمقراطية ضحلة وغير مستقرة. لقد كانت الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 2016 هي التي غيرت في لحظة واحدة النظرة الوردية المتفائلة، وجاءت بتشاؤم مذهول غير قابل للتصديق.

 

تحديات الديمقراطية

“لم تعد الديمقراطية هي الحل الوحيد المتاح”، يوضح ديفيد رانسمان بهذه الجملة القصيرة أهم حقيقة سياسية في عصرنا الحالي. عندما كتب وينستون تشيرشيل عام ١٩٤٧ أن “الديمقراطية هي أسوأ أشكال الحكم ماعدا الطرق الأخرى التي تم تطبيقها من وقت إلى آخر” كان هذا الكلام في وقت كان البديل فيه النازيين والفاشيين ولكنهم تم دحرهم وهزيمتهم، كما كان الاتحاد السوفيتي المستبد فارضا سيطرته العدوانية على أكثر من نصف أوروبا. وبعد مرور سبعين عاما لم يعد واضحا أن الديمقراطية هي أقل أنظمة الحكم سوءا، وأوضح رانسمان أن كلام تشيرشيل كان نصفه فقط صحيحا. فالديمقراطية بالنسبة لنا حاليا أقل الاختيارات سوءا ولكنها ليست كذلك لكل الناس. فمن المتوقع أن يشهد القرن الحادي والعشرون مواجهة الديمقراطية الغربية مع أنظمة سياسية منافسة ستختلف من مكان لمكان وستمتد حتى تشمل سياساتنا. فالإغراءات حقيقية حتى لو كان البديل غير واقعي بالنسبة للشعوب الغربية.

إن الشكوك المحيطة بالديمقراطية لها بعدان أحدهما محلي والاخر عالمي. محليا تواجه الديمقراطية المحلية ما يوصف بالشعبوية، وهي رفض النخب السياسية القائمة وسياساتهم. بينما خارجيا تواجه الديمقراطية حقيقة إمكانية قبول الدكتاتورية ودعمها كشرعية من قبل الأغلبية في الدول التي تُحكم بها.

 

لقد استطاعت الديمقراطية في الماضي التغلب على هذه التحديات. ففي عام ١٨٩٣ سيطر وليام جينينجز برايان في الولايات المتحدة – عقب الأزمة المالية – على الحزب الديمقراطي وترشح ثلاث مرات لرئاسة الحزب برسالة شعبوية كما قام بحملات انتخابية مشابهة لما يقوم به ترامب. تجنب جينينجز الإعلام السائد عن طريق استخدام الإعلام المحلي لقذف السياسيين المحترفين بما فيهم أعضاء حزبه بأنهم أعداء. لقد فشلت حملاته وكان الديمقراطي التالي الذي وصل للبيت الأبيض هو رئيس جامعة برينستون وودرو ويلسون.  قاد النازيون والفاشيون في الفترة بين الحربين العالميتين في أوروبا الأغلبية الكبرى في دول كثيرة خاصة لدى الطبقات المتوسطة في القارة. ولم يمنع ذلك الديمقراطيات المستقرة أن تنمو في أوروبا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية. فلماذا تعتبر الأزمة الديمقراطية الحالية مختلفة عن أي أزمة في الماضي؟

 

يرى رانسمان الديمقراطية في حالة من الفوضى، لأسباب تتجاوز كثيراً ترامب، ولكن ما لم نتمكن من تحفيز خيالنا السياسي لفهم الطرق الجديدة التي يمكن أن تفشل بها الديمقراطيات، فإننا لن نقدر حجم المشكلة التي أمامنا. يحدد رانسمان ثلاثة تحديات معاصرة على وجه الخصوص، لسقوط الديمقراطية: عن طريق الانقلابات أو الكوارث الكبرى أو سيطرة التكنولوجيا، ويناقشها على النحو التالي:

الأول: وهو من المفارقات، أن مستويات العنف السياسي قد انخفضت. وهذا يعني أنه في أماكن مثل الولايات المتحدة أو أوروبا، من غير المحتمل أن يحدث الفشل الديمقراطي بالطريقة القديمة، من خلال الانقلابات العسكرية. ربما يحدث ذلك في أماكن أخرى كما حدث في مصر واليمن، لكن استقرار المؤسسات الديمقراطية الغربية يشير إلى أنه من المرجح أن تقوض الديمقراطيات بشكل خفي، من داخل النظام نفسه. النتيجة الطبيعية لهذا هو انتشار نظريات المؤامرة، ويصبح أصعب وأصعب علينا أن نكتشف ما يحدث بالفعل أو أن نحدد الفرق بين الخوف والواقع. يضرب رانسمان مثالا رائعا لهذه الحالة، ويشرح التناقض بين الوضع في اليونان في عام 1967، عندما كان هناك انقلاب عسكري واضح جدا بالدبابات في شوارع أثينا، وعام 2015، وهو عام الاستفتاء على قبول اتفاق الإنقاذ الخاص بالمفوضية الأوروبية، عندما رأى كثير من اليونانيين حكومتهم وكأنها خضعت بذل أمام انقلاب صامت من قبل شركائها الأوروبيين استولوا به على قرار وسيادة اليونان، وقتها أصبح من الصعب تحديد ما هو الانقلاب الحقيقي وما هي السياسة العادية.

يستخلص رانسمان من هذا أن العنف السياسي أقل تهديدا في ظل الديمقراطيات، إذ ليس لديه القدرة على إسقاط الحكومات، كما أن تأثيره محدود ولا يتعدى هامش الحياة السياسية.

 

التحدي الثاني: يتمثل في الطريقة التي نستجيب بها للتهديدات الوجودية التي تحيط بنا. في الماضي، كانت المجتمعات محطمة بمثل هذه التهديدات: انظر مثلا إلى التعبئة الجماهيرية التي حدثت حول نزع السلاح النووي أو التظاهرات العالمية الضخمة في السبعينيات ضد أخطار التلوث البيئي. الحرب العالمية نفسها خلقت شعورا بالعمل الجماعي، لكن تضاؤل ​​التجنيد الإجباري سيجعل ذلك مستبعدًا في المستقبل. اليوم يبدو الناس مشلولين عندما يتعرضون لتهديد بيئي أو وقوع حادث نووي، وأصبح احتمال وقوع كارثة لا يؤدي إلى عمل جماعي بل إلى السلبية، وعليه فإن التهديدات الكارثية تشل السياسات أكثر مما تحفزها. لقد أعتدنا على كابوس احتمالية حدوث الحرب النووية، وحتى عندما بدت على وشك الحدوث – كما حدث مؤخرا في كوريا – لم يكن لها أثر أو كان أثرها ضعيفا على وضع الديمقراطية الراهن. ومثل ذلك خطر التغير المناخي في أثره المحدود. إن الحالة “الحرجة” – وليست الكوارث المتوقعة – أصبحت تمثل الوضع الطبيعي للسياسة.

 

التحدي الثالث: هو تأثير الثورة الرقمية، التي تقوض الديمقراطية بطرق عديدة. نحن ببساطة لا نفهم بشكل كاف تأثير الأشكال الحالية للاتصال وجمع المعلومات. المشكلة مع الشركات الضخمة مثل “فيسبوك” ليست حقدها واحتكارها، ولا الخطر المتمثل في أنها قد تنافس الدول. إنهم يديرهم أشخاص يهتمون بشكل أساسي بالأرباح وليس بالسياسة، وهم أقل شرعية وتسلسلًا هرميًا من الأنظمة السياسية التي تحكمنا. لكن وسائل التواصل الاجتماعي التي يملكونها تتعمد السخرية من الديمقراطية لأسباب أخرى. إنهم يشجعون الإشباع الفوري للمستخدمين، بينما تفترض الديمقراطية القدرة على الإحباط والصبر. هذه المنصات تشجع على التظاهر بالموثوقية والأصالة مما يجعل السياسيين يبدون أكثر تزييفا. السياسيون الذين يزدهرون هم الذين يلعبون بنفس مزاج وشروط منصات التواصل. الشعبوية هي الشرط الطبيعي للسياسات الديمقراطية في عصر فيسبوك وتويتر. أنجح السياسيين الديمقراطيين هم الذين يحاولون تحويل الأحزاب إلى حركات اجتماعية – الشيء المشترك بين ترامب وجيرمي كوربين وإيمانويل ماكرون. المشكلة هي أن هذا يمكن أن يعمل لفترة محدودة فقط.

يرى رانسمان أنه لا يوجد شيء من هذه التهديدات الثلاثة حتميا، وأن الديمقراطية ستستمر قائمة في حالات كثيرة وتمضي إلى نهايتها تعرج بقدم واحدة. لا توجد حلول أخرى.

 

الفاشية الجديدة

إن القناعة بأن أي فساد اجتماعي يمكن إزالته أو إدارته هو جزء من المشكلة التي تواجهها الديمقراطية. ولكن يمكننا أن نفهم الوضع الذي نجد أنفسنا فيه بشكل أفضل، ونقوم بعمل أفضل. هناك تعليقات على نفس نهج هذا الاستنتاج الرصين على التطبيقات السياسية المستقبلية مثل رواية “الطريق” للكاتب كورماك مكارثي، وأحاديث الفيلسوف الراحل أكسفورد ديريك بارفيت عن عدم الاهتمام بأخلاقيات الهوية الشخصية وعشرات الموضوعات الأخرى المثيرة للاهتمام. يعد هذا الكتاب “كيف تنتهي الديمقراطية” مقدما بطريقة واضحة خالية من لهجة العلوم السياسية الأكاديمية ولذلك يمكن قراءته والاستفادة منه لفهم ما يحدث في العالم اليوم. إذا كان هذا الكتاب لا يعطي دائما إجابات للأسئلة التي يطرحها فهو بالتأكيد من أفضل الكتب السياسية التي تم نشرها منذ سنوات.

 

لا شيء يشير إلى أن ترامب سيؤسس للفاشية في أمريكا. فالولايات المتحدة ليست مثل مدينة فايمار الألمانية (جمهورية فايمار هي الجمهورية التي نشأت في ألمانيا في الفترة من 1919 إلى 1933 كنتيجة الحرب العالمية الأولى وخسارة ألمانيا الحرب)، كما أن القضاء على الديمقراطية سيتطلب أكثر من الثورة الرقمية. وضع رانسمان قبل نهاية الكتاب تنبؤا وهو: “في يوم ٢٠ من يناير عام ٢٠٥٣ سيقام احتفال في واشنطن بمناسبة تعيين رئيس جديد للولايات المتحدة… ستبقى الديمقراطية الأمريكية على قيد الحياة بالرغم من رئاسة دونالد ترامب”. هذا الرهان يبدو معقولا بما فيه الكفاية، ولكن السؤال هنا: ما هو نوع الديمقراطية التي ستكون في أمريكا بعد ثلاثين سنة؟

 

يذكر رانسمان القليل عن الشعبوية والديمقراطية غير الليبرالية، وهذا القليل الذي يذكره مرفوض. فقد عرف الشعبوية أنها “فكرة استيلاء النخبة على الديمقراطية”، وكتب أن الديمقراطية غير الليبرالية “ليست بديلا عن الديمقراطية بل هي ببساطة التشويه الشعبوي للديمقراطية. يستمد الديمقراطيون المستبدون إلهامهم من أمثال الزعيم المجري فيكتور أوربان الذي يصف نفسه بأنه “ديمقراطي غير ليبرالي”، كما إنهم ينتمون إلى فلاديمير بوتن أكثر من الحزب الشيوعي الصيني.  يتم الحديث عن الديمقراطية وتجريدها من مبادئها الليبرالية ولذلك من الصعب أن تكون هذه ديمقراطية، فهذا استهزاء بالديمقراطية وليس بديلا عنها”. وهنا على غير العادة يؤيد رانسمان وجهة نظر متفق عليها وهي: الديمقراطية غير الليبرالية مستحيلة، وهي مجرد خداع يحاول الجمع بين نقيضين.

 

إن موقف رانسمان يعتبر غريبا بالنسبة لمفكر مزروع وسط تاريخ الأفكار السياسية، فقد تم دمج الديمقراطية بالليبرالية في العقود المتأخرة فقط. لقد ظهرت لفترة طويلة تقاليد فكر الديمقراطية غير الليبرالية في القرن الثامن عشر في فرنسا على يد جان جاك روسو الذي قدم الديمقراطية على أنها تنفيذ الإرادة الشعبية من قبل مشرع شبه (أو نصف) مقدس وهو مفهوم اعتبره الليبرالي الفرنسي الكبير بينجامين كونستانت (١٧٦٧-١٨٣٠) خطرا بما فيه الكفاية للهجوم عليه بلا هوادة. وفي القرن التاسع عشر كرس الليبراليون بقيادة جون ستيوارت ميل كل جهدهم للعمل من أجل دمج الديمقراطية والليبرالية.

وفي القرن العشرين كان ازدراء لينين للديمقراطية البرجوازية في جزء منه بسبب أفكار روسو عن فساد المجتمع المدني، في حين أن مفهوم روسو المشرع شبه المقدس كان إلهاما لزعيم الثورة الإسلامية في إيران آية الله الخميني.

 

عموما لا أظن أن ترامب سمع أصلا عن روسو، وحتى لو سمع عنه لا أظن أنه سيهتم به. ولكن إذا كانت الديمقراطية في أمريكا ستبتلى بحاكم آخر مثل ترامب فستصبح في النهاية كرسومات كاريكاتورية لأفكار روسو عن ديمقراطية غير ليبرالية. سيبذل ترامب أقصى جهده لتحييد السلطة القضائية حتى لا تكون عائقا في طريق السلطة التنفيذية بل تصبح في خدمة نزوات الرئيس، ولن تكون هذه الديمقراطية الأمريكية التي يعرفها الناس الآن. قد يتم تزوير الانتخابات إلى حد ما، وقد يتم تقييد حرية المعارضة للسلطات الحاكمة، ولكن لن تعود أمريكا للدكتاتورية الأوروبية التي كانت في الفترة بين الحربين العالميتين، بل ستكون أحد أنواع الديمقراطية غير الليبرالية الموجودة في روسيا في عهد بوتن وفي المجر في عهد أوربان.

في الواقع لم يستطع رانسمان أن يأخذ الديمقراطية غير الليبرالية على محمل الجد، ربما لأنه يعتبر نظام شي جين بينج في الصين هو البديل المقبول للديمقراطية في الغرب. لا تحتاج الصين لتظهر العداوة للغرب بعكس روسيا في عهد بوتن، إذ يمكن للصين أن تتفوق على الغرب من خلال التوسع الاقتصادي والابتكار التكنولوجي، مع الحصول على الأصول والموارد الغربية الرئيسية.

يمكن للصين أن تحقق لشعبها ازدهارا متزايدا أكثر من روسيا المحصور اقتصادها في عصر الوقود الحفري. كلاهما أنظمة استبدادية، وكلاهما أنواع من الحكومة الشعبوية التي تعتمد في نهاية المطاف على موافقة الأغلبية. وبعكس الأنظمة القديمة التي كانت تستمد شرعيتها من السلطة الموروثة من الماضي، فإن الصين وروسيا تبقى قائمة من خلال تعهداتها بمستقبل أفضل من الماضي. فإذا لم يتم تصديق هذا التعهد فإنهم ينهارون ويتحولون إلى نوعية أخرى من الحكم. ونفس الشيء بالنسبة للديمقراطيات الليبرالية المعرضة لنفس الضرورات.

هناك ما هو أكثر في عيوب الشعوبية من المظالم المادية. هناك نقطة مهمة في الثورة ضد النخب الحاكمة في الغرب وهي اكتشاف عدم كفاءتها الاقتصادية، فهي لم تفشل فقط في توقع الانهيار المالي بل فشلت أيضا في تخيل احتمالية حدوثه!. وعندما حدث ذلك الانهيار تم تجنب الكساد الكبير من خلال السياسات النقدية التوسعية. كانت النتيجة ارتفاعًا كبيرًا في أسعار الدين والأصول، مما جعل النظام هشًا كما كان من قبل، إن لم يكن أكثر من ذلك. هذا الفشل الاقتصادي اثار سؤالا مهما: على ماذا قامت الخبرة المعرفية التي بنت عليها النخب الحاكمة الليبرالية شرعيتها؟

 

يتعاطف رانسمان مع “الإبيستوقراطية” وهو نظام حكم كان ينادي به أفلاطون في اليونان القديمة، ويقول:

“أصبحت الإبيستوقراطية قوية ومؤثرة في عهد ترامب وناريندرا مودي (رئيس وزراء الهند) مع تغير المناخ والأسلحة النووية.” ولكن رانسمان مع ذلك لم يناد بها. فهو يظن أنها فكرة طائشة، لأن الديمقراطية تتجنب الحلول السيئة الخطرة أكثر من نظام يعتمد على جعل السلطة في أيدي هؤلاء الذين يعتبرون أنفسهم يعرفون ما هو الأفضل لنا.

الإبيستوقراطية تكون قوية عندما تكون المعرفة المعنية متأصلة بالخبرة عمليا وتاريخيا. وبناء على ذلك كانت شكوك العسكرية المهنية بخصوص تتابع الحروب الكارثية التي أطلقتها الحكومات الغربية من العراق فصاعدا. فإذا كان قد تم تفادي حريق (عالمي) أكبر في سوريا، فإن الفضل في ذلك يعود إلى العقول المفكرة في البنتاجون.

ولكن من الذي لا زال يصدق نظريات العولمة التي أعطت أسبابا غير حقيقية حول “إجماع واشنطن” المنسي تقريبا؟ من الذي لا يدرك أن معظم “العلوم الاجتماعية” هي في الواقع أكثر قليلا من مجرد أيدولوجية متخثرة؟ إذا كان أصحاب التعليم العالي لديهم قيمة تصويتية أكثر من هؤلاء الذين لم يحصلوا على شهادات جامعية كما نادى ميل، سنكون في نهاية المطاف محكومين بالبدع الفكرية منذ جيل مضى. إن القضية ضد تطبيق الإبيستوقراطية في الغرب اليوم تعني الحكم من قبل الإيديولوجيين الراحلين.

 

وذلك يذكرنا – مرة أخرى – بالصين. فالنظام الصيني ليس مثاليا كما يدعي، وبالتأكيد به قدر كبير من المحسوبية والفساد. ولكن تتمتع النخبة الحاكمة عن نظرائها في الغرب بميزة أنها غير مقيدة بالجدل والتصحيح الأيديولوجي. فإذا كانت الصين هي القوة الوحيدة في العالم التي لديها سياسية خارجية عقلانية مستمرة تعتمد على تحقيق الأهداف بطرق فعالة، وهذا بسبب أنها لم تتشرب الأيدولوجية الليبرالية التي تقود الفكر في الغرب والتي تعتبر الواقعية في السياسة الخارجية غير أخلاقية. لن يستمر بالطبع هذا التحرر الأيديولوجي، إذ يمكن لشي بينج أن يشعل القومية إذا انهار الاقتصاد. ولكن في الوقت الحالي تعتبر الصين من خلال التعاملات مع ترامب القوة العاقلة الوحيدة.

 

مقارنة مع كتاب “كيف تموت الديمقراطية”

ما يلفت الانتباه في كتاب كيف تموت الديمقراطية (للمؤلفين ستيفن ليفيتيسكي ودانيال زيبلات) أن الصين تكاد تكون غير مذكورة فمن الغريب أنه لا يوجد أي ذكر عن البلد وقائدها الحالي في فهارس الكتاب. قد يبرر كل من ليفيتيسكي وزيبلات هذا الاستبعاد للصين بحجة أن موضوعهم عن كيفية خضوع الديمقراطية للأنظمة المستبدة وأن الصين ليست أصلا دولة ديمقراطية. ولكن أيضا لم يتم ذكر الهند على الرغم من أن الكثيرين يرون علامات واضحة للشعبوية في نهج مودي للديمقراطية. ونتيجة هذا التغافل هو كتاب ضيق الأفق.

إن جزءًا من أزمة الديمقراطية هو إدراك أنها لم تعد موجة المستقبل. إذا استمرت الصين في رفع مستويات المعيشة، والتصدي للمشاكل البيئية، وإدارة التكاليف الاجتماعية للتشغيل الآلي (الأتمتة)، فستهتز شرعية الديمقراطية الليبرالية بشدة.

يبذل الكاتبان باعتبارهم أساتذة في جامعة هارفارد مجهودا لجعل تحليلهما دوليا. فقد تم تحليل تجربة كل من أردوغان في تركيا وبينوشيه في تشيلي وفوجيموري في بيرو على أنها تجارب ديمقراطية غير ناجحة بالإضافة إلى فنلندا التي شهدت حركة فاشية ناجحة في الثلاثينات. والنتيجة هي مجرد تحليل إخباري لمساعدة القارئ في التعرف على علامات تسلل (أو ظهور) الاستبداد.

المراجع العالمية المحدودة لهذا الكتاب تعمل على تركيز المؤلفين الرئيسي على إدارة ترامب. فعندما يفكران فيما يمكن أن نفعله “نحن” لمقاومة التهديدات تجاه الديمقراطية، تشير “نحن” هنا إلى الأمريكيين الليبراليين، على الرغم من أن أمريكا ليست مركز العالم وبعيدا عن احتمالية تحديد مصير الديمقراطية هناك. وكما كتب رانسمان “قد تكون رئاسة ترامب تشتيتا كبيرا عن التهديدات الكبرى للديمقراطية في أماكن أخرى من العالم”.

 

خلاصة الكتاب

تحتاج جميع الدول إلى تلبية طلبات الحكام، فكل الدول الحديثة عبارة عن أشكال للحكومة الشعبية. حتى النظام الملكي في المملكة العربية السعودية، يجب أن يُظهر أنه يسعى من أجل مستقبل أفضل لشعبه، ومن هنا يأتي البرنامج الذي يروج له حاليا ولي العهد محمد ابن سلمان. ليس هناك شيء خاص بالديمقراطية الليبرالية، كما أنه لا يوجد ضمان بأنها ستنجو مما تطلبه الشعوب الحديثة من حكامهم.

 

في الخلاصة يرى رانسمان أن مشكلة رئاسة ترامب ليست في أن هناك مؤامرة شريرة للسيطرة على أمريكا، وإنما في أنه لا يتم فعل أي شيء للتعامل مع جميع قضايا السياسة الحقيقية التي تواجه البلاد، حيث أن عملية صنع السياسة تغرقها السرعة المحمومة للدورة الإخبارية. وفي الوقت نفسه يتم تجاهل عنف الأسلحة وأزمة الأفيون وكل الأمراض الاجتماعية العاجلة الأخرى.

“كيف تنتهي الديمقراطية” كتاب رائع ويتميز بالكثير من الحس السليم. يقرر الكتاب أن وراء ضجة وغضب سياسات عهد تويتر، لا تزال هناك صراعات حقيقية للمصالح. لكن ما يجسده رانسمان جيدا هو الشعور بالعيش في عصر تعتبر فيه الديمقراطية أمراً مفروغاً منه، وبالتالي يُسمح لها بالتفكك والانهيار من الداخل. يذهب رانسمان إلى أبعد من ذلك: إنه ليس مجرد أنه أمر مفروغ منه، بل إن البعض يعتقد أننا قد فزنا في كل معاركنا بالفعل، وأن الديمقراطية هي بحق النظام السياسي المفضل لكبار السن، وهذا لا يمكن اعتباره وصفة مقبولة لاستعادة بريق الديمقراطية. إذا كان كل ما يحمي الديمقراطية الآن هو مجرد الإحساس بأن البدائل الأخرى أسوأ، فماذا يحدث عندما لا يعود الناس يعتقدون أن هذا هو الحال وأن من البدائل الأخرى ما هو أفضل وأكثر أمانا وازدهارا؟

 

زر الذهاب إلى الأعلى