الديانة اليهودية والتاريخ اليهودي: وطأة 3000 عام
مقدمة عن الكتاب
وها هو الكيان الصهيوني يعيش مرحلةً ستكون حاسمة لمصيره، بحيث بات ما يُعرف بمعسكر اليمين المتطرّف هو الحاكم
يعدّ كتاب “الديانة اليهودية وتاريخ اليهود: وطأة 3000 عام” لإسرائيل شاحاك، من أهم وأبرز الكتب التي نالت استحسانًا كبيرًا، ليس فقط لأن كاتبه يهودي وكان من المستوطنين المحتلّين لفلسطين، بل لأنّ كتابه شكّل دراسة جريئة، فضحت المعتقدات الدينية اليهودية، كما هي في التلمود والقوانين والأحكام الحاخامية والتقاليد اليهودية، على حقيقتها الخبيثة والمميتة. وكان شاحاك يرى بأنه يجب فهم جذور الشوفينية اليهودية والتعصب الديني قبل فوات الأوان.
لكن الأوان قد فات، وها هو الكيان الصهيوني يعيش مرحلةً ستكون حاسمة لمصيره، بحيث بات ما يُعرف بمعسكر اليمين المتطرّف هو الحاكم. وهو ما انعكس صراعًا داخليًا خطيرًا بين مختلف الأطراف السياسية الإسرائيلية مما يهدّد مستقبل كيان الاحتلال، وانعكس أيضًا في تصاعد اعتداءات المستوطنين على كل ما هو مختلف عنهم، سواءً من نفس الدين اليهودي أو من المسلمين والمسيحيين.
في سياق مسيرته الطويلة ضد الأصولية اليهودية والعنصرية الصهيونية والتوسعية الإسرائيلية، نشر إسرائيل شاحاك عددا من الكتب، تحريرا أو تأليفا أو ترجمة:
غير اليهودي في الدولة اليهودية (1975)؛ بيغن وشركاؤه كما هم في الواقع (1977)؛ دور إسرائيل العالمي: أسلحة القمع (بالاشتراك مع نعوم تشومسكي) 1982؛ الخطة الصهيونية للشرق الأوسط (1982)، وهو ترجمة لكتاب عوديد ينون “استراتيجية لإسرائيل في الثمانينات” أو “خطة ينون”؛ أسرار مفتوحة: السياسات الخارجية والنووية الإسرائيلية (1997)؛ الأصولية اليهودية في إسرائيل (بالاشتراك مع نورتون ميزفينسكي) (1999)
وينقسم كتاب “الديانة اليهودية والتاريخ اليهودي: وطأة 3000 عام” إلى مقدمة و6 فصول وقد شملت إحدى الترجمتين للعربية مقدمة للمفكر الفلسطيني إدوارد سعيد:
الفصل الأول: اليوتوبيا المغلقة.
الفصل الثاني: التحامل والمراوغة.
الفصل الثالث: الأرثوذكسية والتأويل.
الفصل الرابع: وطأة التاريخ.
الفصل الخامس: القوانين ضد غير اليهود.
الفصل السادس: النتائج السياسية.
من هو إسرائيل شاحاك؟
إسرائيل شاحاك (1933-2001) إسرائيلي بولندي ولد في وارسو، وهو من الناجين من الهولوكوست ومن غيتو وارسو بالذات. وكان أحد الذين استطاعوا الهرب من معسكرات الاعتقال النازية. هاجر مع والديه إلى فلسطين في 1945 فور انتهاء الحرب العالمية الثانية، وخدم في الجيش، مثل جميع الشباب في الكيان الصهيوني؛ ثم خدم في الاحتياط العسكري لفترات قصيرة في فصول الصيف، ولعدة سنوات.
أنشأ شاحاك رابطة حقوق الإنسان الإسرائيلية، التي أمضى عدة سنوات في رئاستها. وهذه الرابطة هي عبارة عن مجموعة صغيرة نسبيًا من الأشخاص الذين يتشاطرون الرأي، ويؤمنون بوجوب أن تكون حقوق الإنسان متساوية للجميع وليس لليهود فقط.
نال شاحاك دكتوراة الكيمياء العضوية في 1973 وأصبح أستاذ الكيمياء العضوية، في الجامعة العبرية بالقدس، ومن أهم المرموقين في الشرق الأوسط المعاصر. وكان رئيسا سابقا لإحدى المنظمات الإسرائيلية المعنية بحقوق الإنسان والحقوق المدنية. عرف عنه نقده الصريح للحكومة الإسرائيلية وللمجتمع الإسرائيلي إجمالا. كما أنّ كتاباته حول اليهودية أثارت الكثير من الجدل، وقد اتهمه البعض بمعاداة السامية على إثرها.
أنشأ شاحاك رابطة حقوق الإنسان الإسرائيلية، التي أمضى عدة سنوات في رئاستها. وهذه الرابطة هي عبارة عن مجموعة صغيرة نسبيًا من الأشخاص الذين يتشاطرون الرأي، ويؤمنون بوجوب أن تكون حقوق الإنسان متساوية للجميع وليس لليهود فقط.
وكان في كتاباته وأقواله العلنية، معاديًا عداء عميقًا للعنصرية، بل كان معاديا عداء استباقيا، فلم يكن ينتظر أن يعتدي يهود إسرائيل على الفلسطينيين كما يحدث دائما، كونه كمفكر عليه أن يشهد ضد هذه الاعتداءات. ولا مبالغة في القول بأنه يلتزم بموقفه التزاما دقيقا، وسرعان ما أصبح شخصا مكروها جدا في الكيان الصهيوني. ويُذكر أن وفاته أعلنت قبل 20 عاما من حدوثها، رغم أنه كان حيًا يُرزق. فقد ذُكر نبأ موته في تقرير نشرته صحيفة “واشنطن بوست”. ورغم أنه زار الصحيفة ليثبت أنه ليس ميتًا، فقد امتنعت الصحيفة عن نشر تصحيح للنبأ، مما يكشف إلى أي حد يستطيع شاحاك أن يجعل أنصار إسرائيل يمقتونه.
حتى وفاته في 2 يوليو/تموز 2001، في القدس، انصب جهد شاحاك على ترجمة مقتطفات من الصحافة الإسرائيلية العبرية إلى الإنكليزية وتعميم هذه الترجمات في الولايات المتحدة وأوروبا، قناعة منه بضرورة إطلاع الرأي العام الغربي والنخب الثقافية والسياسية على طبيعة الصهيونية، فكرًا وممارسة. وفي بدايات هذه المرحلة، استعان ببعض طلابه العرب لترجمة مختاراته من المصادر الصهيونية إلى العربية.
عمل شاحاك طويلا على تنفيذ مشروع تعرية حقيقة الصهيونية والفكر الاستعماري والديني الذي يدفعها. توفي شاحاك مخلفًا ارتياحًا واسعًا في أوساط الصهاينة والساسة في إسرائيل. مع ذلك، فإنّ كتبه، رغم توفرها بالعربية، نادرًا ما تم تداولها بين العرب حتى منتصف التسعينيات.
قارن شاحاك بين تجربته الشخصية وهو طفل تحت الحكم النازي بأوضاع الفلسطينيين تحت الاحتلال، واستنتج أنّ الصهيونية تتصرف بطريقة تشبه النازية. وكان من مؤسسي الرابطة الإسرائيلية لمواجهة العنف الديني، لكنّه تركها بعد حرب حزيران 1967 لأنّ أعضاءها رفضوا تعميم مبادئهم على الفلسطينيين تحت الاحتلال. أسس بعدها الرابطة الإسرائيلية للدفاع عن حقوق الإنسان، وكانت تضم فلسطينيين ويهودًا، للمطالبة بحقوق متساوية لسكان فلسطين. وهذا ما دعا مستوطنين في الخليل للمطالبة بشنقه لخيانته اليهود.
لكن ذلك لم يمنعه من الاستمرار في مسعاه فقام بإنتاج وإخراج شريط سينمائي باللغة الإنكليزية يبيّن فيه انتهاكات إسرائيل لحقوق غير اليهود، ومنها التعذيب الجماعي في الضفة الغربية بمختلف أشكالها، ظنًا منه أنّ هذا قد يؤدي لتوعية الأميركيين بدعمهم لدولة تمارس العنصرية العنيفة. وبعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان سنة 1982 كتب شاحاك عدة تقارير تصف الانتهاكات الإسرائيلية بحق المدنيين في لبنان.
أصول العنصرية اليهودية
من بعدها بدأ شاحاك بمشروع أكثر جذرية بالبحث الأكاديمي عن أصول العنصرية اليهودية كديانة، ومن ثم واقع الصهيونية كعقيدة سياسية تستخدم الدين لتحقيق أهدافها في السيطرة والقهر. أكد شاحاك في أبحاثه أنّ الصهيونية منظومة مبنية على الفصل العنصري والعدائية العنصرية كعقيدة سياسية. رأى شاحاك أنّ الصهيونية هي التطبيق العملي لمعاداة السامية لكونها تعزل نفسها عن باقي البشر كما أراد الأوروبيون فعله معهم في الغيتو. لكن شاحاك عاد وشدد على أنّ الضحايا الحقيقيين للصهيونية هم السكان العرب الذين تمت محاولة محوهم بالكامل في سبيل عزل اليهود عن الآخرين.
يعتقد شاحاك أن هذه المبادئ الثلاثة التي تُعرّف الصهيونية هي علمنة الديانة اليهودية. فاليهود أينما كانوا، حتى حلول فترة التحديث، على قناعة بهذه المبادئ الثلاثة، باستثناء أنهم أوكلوا العودة إلى أرض إسرائيل وإنشاء الدولة اليهودية إلى التدخل الإلهي
استمد شاحاك تعريفه للصهيونية من كتابات آبائها المؤسسين، وتقوم على ثلاثة مبادئ:
أولا، يكره الناس كلهم اليهود، وهي كراهية تختلف من حيث الشكل عن أي أنواع أخرى من كراهية الآخر أو الغريب. فالصهيونية تفترض أن كراهية الآخرين لليهود لا تزول، فغير اليهود يكرهون اليهود بسبب طبيعتهم. وبما أن معاداة السامية لن تزول من العالم وأنه حتى الشعوب التي لم تعرف اليهود في حياتها ستكرههم فورا إذا احتكت بهم، لذلك يعزل اليهود أنفسم عن غير اليهود.
ثانيا، “أرض إسرائيل” تخص اليهود، جميع اليهود، بصفة دائمة وإلى الأبد.
ثالثا، على جميع اليهود القدوم إلى “أرض إسرائيل” بتعبير الصهاينة، فتعبير أرض إسرائيل أكبر من فلسطين؛ وعلى اليهود القدوم وإنشاء دولة تخصهم.
يعتقد شاحاك أن هذه المبادئ الثلاثة التي تُعرّف الصهيونية هي علمنة الديانة اليهودية. فاليهود أينما كانوا، حتى حلول فترة التحديث، على قناعة بهذه المبادئ الثلاثة، باستثناء أنهم أوكلوا العودة إلى أرض إسرائيل وإنشاء الدولة اليهودية إلى التدخل الإلهي، أي أوكلوها لقدوم المُخَلّص (المسيح اليهودي) وكانوا على قناعة بأن أرض إسرائيل تخصهم وحدهم وآمنوا بمجيئهم إليها مع قدوم المُخَلّص. جاءت الصهيونية لتحقيق ما آمن به اليهود، دون وجود الله والتدخل الإلهي، وبجهود اليهود أنفسهم!
أولا: نقد الاستبدادية اليهودية
يُحلّل شاحاك كتاب تلمود اليهود الذي يحوي تشريعاتهم فـي الدين والدنيا، وتأثير التعاليم والأحكام الحاخامية والتقاليد اليهودية في الدولة الصهيونية التي يريد اليمين الإسرائيلي تحويلها إلى دولة دينية لليهود حصرًا. وهو يقدّم نقدًا وافيا للنزعة الاستبدادية فـي الديانة اليهودية، ويبيّن كيف تحاول هذه الديانة عقلنة ما هو غير عقلاني.
لكن هذا التصنيف يذهب إلى اعتبار أنّ الغوييم ليسوا من البشر أساسًا، بل هم بمستوى الحيوانات مقارنة باليهود. لكن الإشكال هو أنّه بما أنّ الغوييم ليسوا من البشر، يُباح لليهود استعمالهم لخدمتهم، جسديا ومعنويا. فيحل قتلهم أو استعبادهم
يُظهر شاحاك التناقضات فـي النصوص الدينية، ويعرض لقوانين التلمود التي تحكم العلاقات بين اليهود والأغيار والتي لا يمكن دون أخذ تأثيرها بالحسبان أن نفهم الصهيونية والسياسة الإسرائيلية وتأييد يهود الشتات لإسرائيل، وهي قوانين تُبلور نظرة خاصة إلى العالم. يقدّم شاحاك تعريفًا للدولة اليهودية ولأيديولوجية «الأرض المستردَّة». ويبيِّن كيف يكون التوسُّع الإسرائيلي، بحوافزه الأيديولوجية اليهودية أكبر من خطر السياسات القائمة على اعتبارات استراتيجية محض.
من ثَمّ لم يوفر حتى العقائد اليهودية بمختلف مصادرها ليشدد على أنّ الدين اليهودي المستند إلى التوراة العبرية والتلمود والمشناة، إضافة إلى الاجتهادات “الصوفية” العديدة، يعتبر البشر بشكل عام «غوييم»، إلا إذا ولد أحدهم من أم يهودية. أما الغوييم فأقل تفسيراته وطأة هو البشر من غير اليهود، أي من جنس آخر وطينة أخرى غير التي جُبل منها اليهود.
لكن هذا التصنيف يذهب إلى اعتبار أنّ الغوييم ليسوا من البشر أساسًا، بل هم بمستوى الحيوانات مقارنة باليهود. لكن الإشكال هو أنّه بما أنّ الغوييم ليسوا من البشر، يُباح لليهود استعمالهم لخدمتهم، جسديا ومعنويا. فيحل قتلهم أو استعبادهم، وكل ذلك بناءً على فتاوى دينية. لكن، بالطبع، فإنّ هذا المعتقد لا ينسحب على كل اليهود ولا على كل رجال دينهم، لكن الرأي العنصري المتطرف هو السائد اليوم، وهو ما يقود ويدير السياسات الصهيونية في فلسطين.
ذلك بالطبع قد فهمه شاحاك، وكتب سبعة كتب عن الأصولية اليهودية وعن وطأة التاريخ اليهودي على مجتمعهم وتفكيرهم بالعلاقة مع الآخر. وفهم شاحاك أيضًا أنّ المجتمع الغربي إجمالا واقع تحت وطأة فكر الصهيونية المسيحية وفكرة تعويض اليهود عن العنصرية الغربية بحقهم. لكن البعض أيضا واقع تحت بروباغندا أنّ إسرائيل دولة ديموقراطية مزروعة في المشرق العربي الذي تحكمه ديكتاتوريات متخلفة.
وامتزج كل ذلك مع إسلاموفوبيا تغذيها عنصرية الغرب ومظاهر تطرف عنيف انطلق بشكل مريب منذ عملية برجيْ مركز التجارة العالمي في نيويورك، في 11 سبتمبر 2001، وما تبعها من داعشيات مشبوهة على مدى العقدين الماضيين.
ثانيا: معاداة الأغيار
كتب إسرائيل شاحاك في خلاصة كتابه هذا، قائلا: “إن الاختبار الحقيقي الذي يواجه يهود إسرائيل ويهود الدياسبورا (الشتات) في آن واحد هو اختبار نقدهم لذاتهم الذي يجب أن يشمل نقد الماضي اليهودي. كما يتعين أن يكون الجزء الأهم من هذا النقد هو المتعلق بالمواجهة المفصلة والنزيهة للموقف اليهودي من غير اليهود”.
حاولت تلك الأدبيات إظهار وجه اليهودية الإنساني “الجميل” إزاء “الأغيار”، ولو بـ”الرقابة” على الكتب المقدسة الأصلية المترجمة إلى اللغات الأُخرى غير العبرية أو الآرامية أو اليديشية. إلاّ إن هذه النصوص، لم تملك القدرة على إحداث تغير حقيقي لما يدعوه شاحاك “اليهودية الكلاسيكية”
وشاحاك هو فعلًا أحد رُوّاد هذا النقد الذاتي الحاد والمؤلم. كما أن قيام يهودي عصري وإنساني بقراءة هذه الرحلة عبر التاريخ الديني اليهودي منذ سبعة قرون قبل الميلاد حتى وقتنا الحاضر، والتسليم بصحة هذه الرحلة، ليسا بالتجربة السهلة.
فانتشار نزعة مركزية العرق والكراهية والاحتقار والمعايير المزدوجة التي يتم التعبير عنها نحو “الأغيار” في الكتب اليهودية “المقدسة” الرئيسة والأكثر مرجعية – والمعروفة بالاسم الجامع “الهالاخاه” (القوانين الحاخامية اليهودية) – هو أمر شديد الإزعاج لكل من يتوقع من “اليهودية” تعبيرات ثقافية متنورة.
إن هذه التعابير و”القوانين” مربكة جدا، ويمكن تصنيف ظاهرة “معاداة الأغيار” (على غرار معاداة السامية). ويتم التستر على “معاداة الأغيار” وتقديم المبررات لها خوفًا من ردات فعل مؤذية معادية للسامية ومشاعر ومواقف معادية لليهود، بطرق مختلفة، عبر نتاج ضخم من الأدبيات اليهودية الأكاديمية التي بدأت مع اتساع حركة التنوير اليهودي.
حاولت تلك الأدبيات إظهار وجه اليهودية الإنساني “الجميل” إزاء “الأغيار”، ولو بـ”الرقابة” على الكتب المقدسة الأصلية المترجمة إلى اللغات الأُخرى غير العبرية أو الآرامية أو اليديشية. إلاّ إن هذه النصوص، لم تملك القدرة على إحداث تغير حقيقي لما يدعوه شاحاك “اليهودية الكلاسيكية”. وبحسب شاحاك، تتخذ “معاداة الأغيار” عدة وجوه وتجليات:
– صلاة الصبح اليومية التي يتلوها كل رجل تقي ويشكر فيها الرب على “عدم جعله من الأغيار” (أو من النساء)؛
– حظر تعيين الأغيار في مركز يملكون فيه سلطة على اليهود؛
– رفض المحاكم الحاخامية القبول بشهادات غير اليهود (والنساء اليهوديات)؛
– اعتبار أي امرأة غير يهودية عاهرة؛
– منع أي طبيب يهودي من انتهاك حرمة السبت لإنقاذ حياة شخص من الأغيار (في حين أن إنقاذ حياة اليهود واجب ديني)؛
– حظر بيع أي أملاك غير منقولة، وخصوصًا قطع الأرض في “أرض إسرائيل” إلى الأغيار (وهو أمر تبنّته الدولة الإسرائيلية).
ثالثا: الشريعة اليهودية وقتل الأغيار
في أعقاب المذبحة التي تعرض لها الرجال والفتيان الفلسطينيون داخل وحول الحرم الإبراهيمي في الخليل في 25 فبراير 1994، مَن لم يتساءل: كيف تم ارتكاب عمليات القتل هذه؟ وكيف يمكن للمرء أن يفسر فرحة مستوطني كريات أربع عندما احتفلوا علنًا، خلال ساعات، بمقتل نحو 60 شخصًا؟ أو كيف نفهم رثاء العديد من حاخامات المستوطنين، في أعقاب موجة القتل هذه، قائلين إن “عدد القتلى قليل جدا”؟
وما لم تكن هناك معرفة حقيقية بالثقافة اليهودية والقانون اليهودي، والتلمود على وجه الخصوص، فإن الإجابات لا يمكن إلا أن تكون تخمينية. والحقيقة أن الشريعة اليهودية (النظام القانوني لليهودية “الكلاسيكية” أو الحاخامية) تأمر بقتل غير اليهود في أوقات الحرب.
وإذا كنت عضوًا في غوش إيمونيم ومستوطنًا في أي جزء من “أرض إسرائيل المستردة” (الأراضي المحتلة)، فأنت في حالة حرب دائمًا. ولذلك، فإن قتل الفلسطينيين كما لو كانوا “عماليق” التوراة أو مشاركين في مذابح بولندا أو روسيا بالقرن الثامن عشر هو وصية إيجابية. والأكثر من ذلك، بحسب هذا الكاتب الإسرائيلي الناجي من المحرقة:
منذ عام 1973 يتم نشر هذه العقيدة علنًا لإرشاد الجنود الإسرائيليين المتدينين.. في كتيب أصدرته قيادة المنطقة الوسطى.. التي تشمل الضفة الغربية.
لذلك، لا ينبغي لأحد أن يتفاجأ عندما يطلق الجنود والضباط الإسرائيليون النار على الأطفال الفلسطينيين أثناء الاحتلال؛ أو على نساء ينشرن الغسيل على الشرفة؛ أو ضرب السجناء مقيدين ومعصوبي الأعين بوحشية. وفي الحالات النادرة التي يتم فيها تقديم هؤلاء الجناة إلى المحاكمة، “يُضربون على معصمهم” أو يُسجنون بضعة أشهر.
في مرحلته المبكرة، كتب شاحاك دراسة باللغة العبرية مكونة من 36 صفحة نُشرت في إسرائيل عام 1966، عنوانها: “نحو يهودية الحقيقة والعدالة وضد المواقف اليهودية تجاه الأغيار”، لكنه نقل نقده لليهودية والتاريخ اليهودي في كتابه “الديانة اليهودية والتاريخ اليهودي” هذا إلى ذروة مستويات النقد. ورغم أن نقده يبدو استفزازيا، لكن الحقائق الصعبة التي يتضمنها معروفة جيدًا داخل إسرائيل، وكانت كذلك لفترة طويلة.
رابعا: جذور تاريخية
لقد شعر بعض اليهود العلمانيين بصدمة وخيبة أمل عميقة عندما علموا من كتاب شاحاك أن الفيلسوف والفقيه اليهودي الأندلسي، موسى بن ميمون (الموقر)، مؤلف مشناة التوراة في القرن الثاني عشر، وهو تقنين مبكر للقانون التلمودي [اتبع فيه ابن ميمون نسق ابن حزم الأندلسي في موسوعته الفقهية “المحلى”]،
جال شاحاك جولة واسعة في التاريخ اليهودي. وقدم عرضا مفصلا بما يكفي للاستشهاد بفصول ونصوص من قوانين الشريعة اليهودية، التي تحدد إجراءات التمييز، أو التقاعس عن الفعل، إزاء غير اليهود في كل حالة يمكن تصورها، وفي جميع مجالات الحياة. إن سعة اطلاع شاحاك على الأدب والتاريخ التلمودي مكنه من القفز عبر القرون واختيار الأحداث الحاسمة التي تسلط الضوء على تطور اليهودية من بابل إلى إسبانيا، ومن إنكلترا إلى مصر، وبولندا وروسيا وفلسطين، وحتى إسرائيل الحالية.
تمت تغطية عدد كبير جدًا من “الموضوعات اليهودية”، ولكن لم يتم تناول أي شيء عن تلك الأجزاء من التلمود التي تعلم الكراهية تجاه غير اليهود، وتعتبرهم صراحة كائنات أقل شأنًا. بل إن عددًا كبيرًا من اليهود ما زالوا غير مدركين لذلك، لكن المؤكد أيضًا أنهم تأثروا بهذه المواقف أكثر مما يدركون.
لقد شعر بعض اليهود العلمانيين بصدمة وخيبة أمل عميقة عندما علموا من كتاب شاحاك أن الفيلسوف والفقيه اليهودي الأندلسي، موسى بن ميمون (الموقر)، مؤلف مشناة التوراة في القرن الثاني عشر، وهو تقنين مبكر للقانون التلمودي [اتبع فيه ابن ميمون نسق ابن حزم الأندلسي في موسوعته الفقهية “المحلى”]، كان هو من أصدر القوانين التي تحكم علاقات الأطباء اليهود بالمرضى غير اليهود. أي أن على الأطباء اليهود منع العلاج عن غير اليهود إلا إذا كان مثل هذا السلوك قد يولد “عداء” غير اليهود.
وبالفعل وصل هذا الحظر إلى القرن العشرين. كما روى شاحاك، بناء على طلب حاخام سلالة لوبافيتش الراحل [الذي طالبه أتباعه بإعلان أنه المِسايا المُخلّص]، مناحيم شنيرسون، تم توجيه نداءات إلى الأطباء والممرضات الإسرائيليين خلال حرب لبنان عام 1982 بعدم تقديم العلاج للجنود الفلسطينيين أو اللبنانيين المصابين!
أحد الأطباء اليهود المعروفين الذين استجابوا لهذا النداء – وبالتالي للقانون التلمودي – كان الدكتور باروخ غولدشتاين سيئ السمعة، مرتكب مذبحة الحرم الإبراهيمي في الخليل في 1994! ولم تقم السلطات العسكرية الإسرائيلية بتأديبه قط على هذا السلوك. ومن خلال الفشل في القيام بذلك، وافق الجيش ضمنًا على تخلي غولدشتاين عن واجباته كطبيب في الجيش. ولم تكن حرب لبنان هي الحالة الوحيدة من هذا القبيل.
خامسا: أدوات الضبط والنظام “اليهودي“
بينما يفضح شاحاك المواقف والممارسات الضارة ضد غير اليهود، والمنصوص عليها في التشريعات التلمودية والحاخامية، فإنه يدين أيضًا مجموعة من الممارسات الداخلية والخارجية البغيضة، أي ممارسات المجتمعات اليهودية التاريخية. وتركز مراجعته على الدور الذي لعبه اليهود نيابة عن الحكام المستبدين والنبلاء الاستغلاليين ورجال الدين رفيعي المستوى: جمع الضرائب العقابية من الجميع، بما في ذلك الفلاحين الذين يعانون من الفقر، والحفاظ على “القانون والنظام” في عموم السكان.
يقدم كتاب شاحاك أمثلة ويجبر القراء على التفكير في الخواء الروحي لهذه الممارسة. ويمكن أن نطلق عليه “عشرات الطرق لخداع الله”.
داخل المجتمعات اليهودية نفسها، حافظت المحاكم الحاخامية المطلقة على القانون والنظام “اليهودي”، من خلال إجراءات عقابية تم فرضها على اليهود الذين انتهكوا قوانين الهالاخاه. يستشهد شاحاك بعدة أمثلة مروعة، بما في ذلك الجلد العلني حتى الموت لليهود القرائين (طائفة يهودية تؤمن بأسفار موسى الخمسة فقط دون باقي العهد القديم والتلمود).
كان هذا ممكنًا لأنه، منذ فترة البطاركة الرومان وحتى فترة “اليهودية الكلاسيكية” التي انتهت في القرن الثامن عشر، كانت المجتمعات اليهودية في جميع أنحاء بلدان “الشتات” تتمتع باستقلالية فعلية داخل النظام السياسي الأكبر. كان اليهود يحكمون ويسيطرون على “مؤسسة” تتألف من طبقة حاخامية ومحاكمها، وتمارس سلطة قانونية كبيرة – بما في ذلك سلطة إنزال عقوبة الإعدام – وطبقة من أغنياء اليهود الذين اضطهدوا فقراء اليهود. كما تعاونت هذه “المؤسسة” أيضًا في قمع السكان غير اليهود نيابة عن التاج والنبلاء الذين حكموا بالقوة الغاشمة من خلال المرتزقة.
ومما يثير التفكير بنفس القدر تحذيرات شاحاك بشأن نظام “الإعفاءات” المفسد أخلاقيا. ومن الأمثلة على ذلك توظيف “غوي” أي شخص غير يهودي (“غوي السبت”) لأداء عمل محظور يوم السبت على اليهود، لكنه يخدم مصالحهم. يقول شاحاك: “لقد كان هذا النظام المنافق لـ “التدبيرات” (حيتيريم) هو السبب الأكثر أهمية لانحطاط اليهودية في عصرها الكلاسيكي”.
يقدم كتاب شاحاك أمثلة ويجبر القراء على التفكير في الخواء الروحي لهذه الممارسة. ويمكن أن نطلق عليه “عشرات الطرق لخداع الله”.
سادسا: الحصرية اليهودية
يدرس شاحاك على نطاق واسع ركيزة أخرى من ركائز الأيديولوجية اليهودية، التفرد أو الحصرية التي ميزت اليهود أينما استقروا. هذه الحصرية مدعومة ببنية قانونية معقدة وشبكة من العادات، وتنتشر في الحياة اليهودية بأكملها من الحمل إلى الدفن. وربما تكون النزعة الحصرية اليوم أقل وضوحا، لكنها لا تزال موجودة بدرجة ما في مجتمعات يهودية عديدة وحياة أعضائها.
كذلك، شجع القانون اليهودي كل أنواع المراوغة والاعتذارات المضللة لاستئصال “عداء” مجتمع السود والسلطات والمجتمع الأميركي الأوسع.
لسوء الحظ، هذه الحصرية مدعومة بقواعد في الهالاخاه لسلوك الازدراء النشط تجاه غير اليهود في كل مجال من الحياة الاجتماعية. تشكل المواقف المناهضة للسود داخل بعض المجتمعات اليهودية في الولايات المتحدة أحد أبعاد هذه الحصرية.
والمؤكد أنها كانت عنصرا في الانفجار الاجتماعي الذي حدث في “كراون هايتس” عام 1991، بين اليهود والسود. عن طريق الصدفة، صدمت سيارة كانت برفقة الحاخام مناحيم شنيرسون صبيا أسود صغيرا. فتم استدعاء سيارة إسعاف مملوكة لليهود الحسيديين لمعالجة إصابات السائق. دخل القانون اليهودي إلى الوضع عندما غادر سائق سيارة الإسعاف دون تقديم المساعدة للطفل المحتضر وهو أميركي أسود. وكما فسرها السائق الحسيدي، فإن الشريعة اليهودية تُحرّم ذلك!
كذلك، شجع القانون اليهودي كل أنواع المراوغة والاعتذارات المضللة لاستئصال “عداء” مجتمع السود والسلطات والمجتمع الأميركي الأوسع. في جميع روايات المأساة، التي أثارت أعمال شغب لمدة ثلاثة أيام وقتل فيها شاب يهودي على يد حشد من الغوغاء، لوحظ جيدًا الغياب التام للحقيقة حول دور قوانين الشريعة اليهودية في التقارير المتصدرة والمناقشات العامة. من خلال جهلها أو تجاهلها، لا تلميح لهذه الحقيقة في العرض الذي انفردت به آنا ديفر سميث والمصمم فنيًا ونال استحسانًا واسع النطاق، وكله يدور حول مجموعة تنويعة من التصورات والمشاعر فيما يتعلق بـ “حادثة” كراون هايتس.
سابعا: وطأة التاريخ
الفصل الذي كتبه شاحاك بعنوان “وطأة التاريخ”، والذي يقدم مراجعة شاملة، وإن كانت لاذعة، للتاريخ اليهودي، ينتهي باستنتاجات لها مضامين معاصرة ذات دلالة:
إن دولة إسرائيل تؤدي الآن تجاه الفلاحين المضطهدين في العديد من البلدان – ليس فقط في الشرق الأوسط ولكن أيضًا خارجه – دورًا لا يختلف عن دور اليهود في بولندا ما قبل عام 1795: دور مأمور الاضطهاد الإمبراطوري.. ومن المميز والمفيد أن الدور الرئيس الذي لعبته إسرائيل في تسليح قوات نظام سوموزا في نيكاراغوا وقوات غواتيمالا والسلفادور وتشيلي وبقية الدول، لا يثير أي نقاش عام واسع في إسرائيل أو بين الجاليات اليهودية المنظمة في إسرائيل أو الشتات.
حتى السؤال الأضيق حول النفعية، وما إذا كان بيع الأسلحة لسفاح دكتاتوري يذبح المقاتلين من أجل الحرية هو في مصلحة اليهود على المدى الطويل نادرا ما يُطرح. والأهم من ذلك هو الجزء الكبير الذي قام به اليهود المتدينون في هذا العمل، والصمت التام لحاخاماتهم (الذين يحرضون بصوت عالٍ على الكراهية ضد العرب).
يبدو أن إسرائيل والصهيونية هما بمثابة ارتداد إلى اليهودية الكلاسيكية بشكل عام، وعلى نطاق عالمي، وفي ظل ظروف أكثر خطورة.
ثامنا: خداع وإنكار متعمدان
على مدى قرون، استخدمت المجتمعات اليهودية، من خلال زعمائها، استراتيجيات خادعة لإخفاء الهجمات على المسيحية، وكذلك على غير اليهود إجمالا، والواردة في التلمود. كان الدافع الرئيس هو تجنب أو صد الهجمات على التلمود و”أسلوب الحياة اليهودي” الذي ينتجه التلمود، وفي كثير من الأحيان، لمنع الهجمات على اليهود أنفسهم.
كان الغرض المهم هو تضليل “الغوييم” (يستخدم هذا المصطلح للإشارة إلى غير اليهود، ويكون مصحوبًا حتمًا بتجهم أو سخرية للتعبير عن الازدراء، أو ما هو أسوأ) فيما يتعلق بالقوانين التلمودية التي تحكم كل تفاعل شخصي أو اجتماعي فيما بين اليهود أو بين اليهود وغير اليهود.
يروي شاحاك بعض المظاهر التي لا تعد ولا تحصى لهذه “المراوغة”. وهي تشمل إزالة المقاطع الأكثر عدوانية عند ترجمة التلمود إلى لغات أخرى غير العبرية، أو استبدال الترجمات الكاذبة باللغة “الأجنبية”، أو استخدام كلمات غير ذات صلة بالكلمات الحقيقية المقيتة.
مع ذلك، فإن الكلمات والأفكار الحقيقية، في النسخة العبرية الأصلية، محفوظة في النص الذي قرأه اليهود ودرسوه على مدى أكثر من ألف عام.
في الوقت الحالي، لا تزال القوانين التلمودية سارية، دون تغيير، ولا يتم تحديها بشكل كافٍ، في المجتمعات الأرثوذكسية في إسرائيل. وتتجسد مكونات هذه الممارسات أيضًا في “القانون الرسمي الحاكم”. لذا فإنهم في بقية المجتمع الإسرائيلي يشكلون “حالة ذهنية” تسمح بالتسامح، على الأقل، مع الوحشية والخداع تجاه الفلسطينيين.
وفي الوقت الحاضر، فإن الدافع المشتق لإخفاء الحقيقة حول سياسات وأفعال الدولة اليهودية قد انتقل إلى أحداث ما يسمى “الصراع العربي الإسرائيلي”. علاوة على ذلك، كانت هناك منذ بعض الوقت مزيد من التدخلات في أماكن بعيدة وعالمية النطاق.
إن الأمر غير العادي فيما يتعلق بالأكاذيب والإخفاء والتضليل والتشويهات المتعمدة المنتشرة في جميع أنحاء العالم هو أنها لا يتم إصدارها أو التكليف بها دائمًا “من أعلى” من خلال بعض المراسيم الحكومية. بل إن ما لدينا الآن، وما نعيشه منذ فترة، وخاصة في القارة الأمريكية، هو الرقابة الذاتية ومؤامرات الصمت.
لقد نجح زعماء الجاليات اليهودية المنظمة، وبدعم من معظم الحاخامات، في نسج ستارة صمت حول كثير من الأحداث والتطورات التي تلعب فيها إسرائيل دورًا. لقد تم إقناع عالم الإعلام الهائل والمعقد والمتطور بممارسة الرقابة الذاتية والقبول دون احتجاج برقابة شاملة لتجنب نقد أو إدانة ممارسات إسرائيل.
ومن الصعب تحديد نطاق هذه الرقابة التي يمارسها اليهود وغير اليهود على حد سواء. وعند التحقيق تنحسر أبعاده وخصائصه مثل الضباب في ضوء الشمس. ويقول البعض إن غير اليهود الذين ينضمون إلى هذه الممارسات يخشون وصف “معاداة السامية”. ويدعي آخرون الرغبة في حماية وتعويض اليهود عن الاضطهاد التاريخي، ربما يكون هناك العديد أو مزيج من الدوافع الأخرى.
في الوقت الحالي، لا تزال القوانين التلمودية سارية، دون تغيير، ولا يتم تحديها بشكل كافٍ، في المجتمعات الأرثوذكسية في إسرائيل. وتتجسد مكونات هذه الممارسات أيضًا في “القانون الرسمي الحاكم”. لذا فإنهم في بقية المجتمع الإسرائيلي يشكلون “حالة ذهنية” تسمح بالتسامح، على الأقل، مع الوحشية والخداع تجاه الفلسطينيين.
ومن المفارقة أن الرقابة أقل في إسرائيل. وسائل الإعلام تقول ذلك كما هو. فالأغلبية في ذلك البلد، بما في ذلك العسكريون والسياسيون من جميع المشارب، تتفق مع سياسات وممارسات القمع. فالضحايا في نهاية المطاف هم من غير اليهود، والأسوأ من ذلك أنهم “مغتصبون” لأرض اليهود.
ليس من قبيل الغرابة أن يطلق الجنرال رافائيل إيتان، عندما كان رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، على الفلسطينيين لقب “الصراصير”. ضحك الكثير من الناس ولم يعاتبه الحاخامات والقادة الآخرون. ولم يكن مفاجئا أيضًا أن نسمع احتجاجات قليلة من الأوساط اليهودية عندما دعا كبير حاخامات الجيش الأسبق الحاخام شلومو جورين علنًا إلى اغتيال رئيس منظمة التحرير الفلسطينية، ياسر عرفات، عندما كانت حكومة إسرائيل لتوها توقع معه اتفاقا رسميا في القاهرة.
شاحاك ومهمة التحذير
رغم أهمية المُنجَز المعرفي الذي يجسده كتاب شاحاك وأعماله السابقة الأخرى، فإن هدفه أكثر من مجرد نقل نتائج سنوات من البحث إلى اللغة الإنكليزية. أهدافه هي إطلاق تحذير ونداء واضح.
والتحذير هنا هو أن تجاهل الأصولية اليهودية، في شكل الأرثوذكسية الحالية المندمجة في سياسة إسرائيل الداخلية والخارجية، هو أمر بالغ التهور مثل تجاهل أنها قوة نووية إقليمية ذات طموحات توسعية. هذا التحذير موجه إلى يهود إسرائيل والشتات، وكذلك إلى بلدان أخرى في المنطقة وخارجها.
في فصله الأول، يتناول شاحاك بشكل أكثر بلاغة هذه النزعة التوسعية، الحاضرة اليوم كما كانت منذ الأيام الأولى لوجود إسرائيل. وعندما كانت هذه التوسعية موضوع تصريحات علنية للفلسطينيين وشعوب أخرى في المنطقة، كانت تقابل دائمًا بالإنكار الإسرائيلي، حتى مع الاستيلاء على المزيد من الأراضي الفلسطينية.
استمرت أصداء “وعد” رئيس الوزراء الإسرائيلي الأول، ديفيد بن غوريون، باستعادة “مملكة داود وسليمان” على مر العقود، الأمر الذي أدى إلى نشوء طموحات للوصول إلى الحدود “التوراتية” أو “التاريخية”. إن القيام بذلك، كما تزعم السلطات اليهودية الأرثوذكسية ذات النفوذ، سوف يعتبر “عملًا بأمر إلهي”.
يقول شاحاك: “اليهودية التاريخية وخليفتاها، الأرثوذكسية اليهودية والصهيونية، كلاهما عَدوّان لدودان لمفهوم المجتمع المفتوح كما هو مطبق على إسرائيل”. و”هناك خياران يواجهان المجتمع اليهودي الإسرائيلي:
يمكن أن يصبح غيتو حربيًا مغلقًا تمامًا، أو إسبرطة يهودية، مدعومة بأعمال الأنظمة العربية، والتي تبقى موجودة بفضل تأثير الغيتو على المؤسسة السياسية الأميركية والتهديدات باستخدام قوته النووية. أو أن يغدو مجتمعا مفتوحا.
أما الخيار الثاني فيعتمد على إجراء إسرائيل فحصا صادقا لماضيها اليهودي، وعلى الاعتراف بوجود الشوفينية اليهودية والنزعة الحصرية الطاردة، وعلى فحص صادق لمواقف اليهودية تجاه غير اليهود”.
إذن فإن نداء شاحاك الواضح هو أن يواجه اليهود في كل مكان التاريخ وأنفسهم. “لا يمكن محاربة معاداة السامية والشوفينية اليهودية إلا في وقت واحد”.
يأمل كثيرون من اليهود وغير اليهود في العالم أن يكون هناك ما يكفي من الموهبة والحكمة والشجاعة بين عقلاء المجتمعات اليهودية في جميع أنحاء العالم لقبول التحدي الذي قدمه شاحاك ومن ثَمّ الانخراط في عملية النقد الذاتي والبحث عن الذات بروح الأنبياء العظام.
لقد فتحت ملحمة طوفان الأقصى وتداعياتها العالمية المجال لكثير من يهود العالم لمواجهة تحديات الأصولية اليهودية والعنصرية الصهيونية والعنف الإسرائيلي العدمي والإبادة المتواصلة ضد شعب فلسطين.
وقد تصدر الحراك العالمي المناهض للإبادة في غزة جيل شاب من يهود الغرب نشأوا في عائلات صهيونية راسخة لكنهم تمردوا على السردية الصهيونية لصالح السردية الفلسطينية وامتد وعيهم إلى التعرف على الإسلام والقرآن، بل إن بعض المعارضين جذريا لإسرائيل والمشروع الصهيوني ينتمون إلى جيل الناجين من المحرقة النازية وكذلك من جيل أحفادهم.
}وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} (يوسف:21).
د. مازن النجار
باحث في التاريخ والاجتماع