
مقدمة:
عادت جزيرتا تيران وصنافير، اللتان تقعان عند مدخل خليج العقبة، إلى بؤرة التركيز الإعلامي والسياسي في مصر مجددًا، بعد نشر تقارير صحافية تشير إلى عرض سعودي بشأن إقامة قاعدة عسكرية أمريكية في الجزيرتين.
هذا العرض أثار تساؤلات متعددة حول مستقبل السيادة على الحدود المصرية، لاسيما في ظل الاتفاقية التي وُقعت بين مصر والسعودية عام 2016م بشأن ترسيم الحدود البحرية بين البلدين، وهي الاتفاقية التي بموجبها نُقلت السيادة على الجزيرتين إلى المملكة العربية السعودية والتي أثارت جدلاً واسعًا في مصر وقتها، واعتبرها كثيرون مساسًا بالسيادة المصرية.
التاريخ القانوني لاتفاقية تيران وصنافير:
في 8 أبريل 2016م، وقّعت مصر والسعودية اتفاقية نقل سيادة تيران وصنافير إلى السعودية، وقد لاقت الاتفاقية معارضة شديدة من أطياف عريضة داخل مصر، ما دفعهم إلى رفع دعوى قضائية أمام محكمة القضاء الإداري لإلغاء الاتفاقية، في البداية، وقد قضت المحكمة الإدارية العليا ببطلان الاتفاقية، لكن المحكمة الدستورية العليا في مصر قضت بعدم الاعتداد بحكم القضاء الإداري، متجاوزة بذلك – في سابقة تاريخية لأول مرة- النصَّ الدستوري الذي يُحدد أن من يوقف أحكام مجلس الدولة هو مجلس الدولة نفسه، ما أثار جدلاً واسعًا حول تجاوز الصلاحيات القضائية وعدم احترام قواعد البنية القضائية المصرية
حول تسليم جزيرتي تيران وصنافير:
في هذا السياق المتواصل، لا يزال الحديث عن عدم إتمام إجراءات تسليم جزيرتي تيران وصنافير رسميًّا محصورًا في نطاق النقاش الإعلامي، دون أي تأكيد رسمي مصري بشأن عدم التسليم، ومع أن الجزيرتين قد أُخليتا فعليًّا من غالب القوات المصرية بعد نقل السيادة إلى السعودية، إلا أن الجدل حول الوضع الإجرائي لا يزال مستمرًّا.
في خضم هذا الجدل، أضاف اللواء المتقاعد سمير فرج مدير الشئون المعنوية الأسبق، الذي يُعتبر من الوجوه الإعلامية القريبة من دوائر صناعة القرار في مصر، مزيدًا من الالتباس للنقاش بتصريحه الأخير بأن “مصر لا تزال تمارس السيطرة على جزيرتَي تيران وصنافير“! ولعل هذا التصريح قد يوضح أسباب العرض السعودي لمصر بشأن إقامة قاعدة عسكرية أمريكية في الجزيرتين، واللتان لا تزالان تحت الإدارة المصرية حتى الآن.
من جهة أخرى، لم تغادر قوات حفظ السلام متعددة الجنسيات بقيادة الولايات المتحدة جزيرة تيران، رغم الاتفاق على ذلك، ويرتبط هذا التأخير بعدة عوامل، من بينها طلبات مصرية لم تُنفَّذ بعد، مثل تسليم معدات عسكرية خاصة بالطائرات الأميركية من طراز إف ـ 16 ما أدى لتأخير القاهرة لبعض الإجراءات اللوجستية اللازمة لانسحاب القوات الدولية وتخلية الجزيرة للسعودية، بالإضافة إلى وجود تحفظات إسرائيلية على آلية مراقبة المضيق باستخدام كاميرات من الجانب المصري رغم كونها منصوصًا عليها في التفاهمات، مما أدى إلى تعطيل تنفيذ هذا الانسحاب.
هذه الظروف تعكس تعقيدات كبيرة تتعلق بالسيادة على الجزيرتين، حيث يرى بعض المراقبين أن السيادة السعودية لم تُستكمل فعليًّا بسبب عدم تنفيذ جميع الإجراءات الميدانية، بينما يعتبر آخرون أن توقيع الاتفاقية وتصديق البرلمان المصري عليها يعد كافيًا من الناحية القانونية لنقل السيادة.
أهمية ملف تيران وصنافير وحساسية الموقع:
تمثل جزيرتا تيران وصنافير نقطة استراتيجية مهمة للسيطرة على خليج العقبة، الذي يعد المنفذ الوحيد لإسرائيل على البحر الأحمر، وهو ما يجعلهما نقاط تحكم رئيسة في حركة الملاحة الدولية عبر هذا الممر المائي الحيوي.
بهذا الموقع الجغرافي بالغ الأهمية، تمنح الجزيرتان مصر القدرة على التحكم في حركة الملاحة البحرية ما يُعد قوة سياسية واقتصادية، وفي حالات الحرب، يمكن لها إغلاق حركة الملاحة باتجاه الخليج، وهو ما كان يمثل ورقة ضغط استراتيجية لمصر في حال نشوب صراع مع إسرائيل المحتلة، ومع تسليم السيادة على الجزيرتين للسعودية تصبح هذه المياه مياهًا دولية تسمح بالملاحة الحرَّة دون تدخل أي طرف، وبفقدان مصر لهذا التحكم الملاحي يضعف موقفها العسكري في مواجهة أي تهديدات محتملة.
التموضع السعودي في معادلة النفوذ البحرية:
في هذا السياق، يُنظر إلى ما يقال عن عرض سعودي بالسماح بإقامة قاعدة عسكرية أمريكية على جزيرتي تيران وصنافير، عند مدخل خليج العقبة، باعتباره خطوة في إطار سعي المملكة لتكريس دورها باعتبارها طرفًا رئيسًا في معادلة الأمن الإقليمي، ويبدو أن الرياض تحاول بذلك التماهي مع الاستراتيجية الأمريكية الرامية إلى ضمان الهيمنة على مفاتيح الجغرافيا الاقتصادية، وعلى رأسها مضيق تيران وقناة السويس، في ظل تزايد التهديدات الحوثية البحرية من جهة، وتنامي الحضور الصيني من جهة أخرى، كما تفتح هذه الخطوة المجال أمام المملكة للحصول على مظلة حماية أميركية واضحة.
هذا التموضع ينسجم كذلك مع توجهات التطبيع الجاري في المنطقة، عبر تقديم المملكة نفسها حليفًا موثوقًا يتيح لواشنطن وتل أبيب تعزيز وجودهما العسكري، بما يحفظ أمن الاحتلال ويعيد ضبط توازنات البحر الأحمر بما يخدم مشاريع التحالف الجديد بين هذه الأطراف الإقليمية والدولية.
التهديد الحوثي في البحر الأحمر والضغوط الأميركية:
من جانب الولايات المتحدة، يعد التهديد الذي تمثله جماعة الحوثي في اليمن أحد أبرز القضايا الملحة على الأجندة الأمريكية للمنطقة، حيث استهدفت الجماعة منذ نوفمبر 2023م ما لا يقل عن 100 سفينة تجارية في البحر الأحمر وخليج عدن، باستخدام الصواريخ والطائرات المسيّرة والزوارق، وقد أسفر هذا الهجوم عن غرق سفينتين والاستيلاء على ثالثة، بالإضافة إلى مقتل عدد من أفراد الطواقم.
هذه الهجمات المتكررة تسببت في تكبد الولايات المتحدة تكاليف مالية باهظة، حيث بلغ إجمالي تكلفة العملية العسكرية الأميركية في اليمن، بحسب شبكة CNN، قرابة مليار دولار مع بداية أبريل الجاري، رغم ذلك، فإن تأثير هذه العمليات في تقويض قدرات الحوثيين لا يزال محدودًا.
ومن جانبها، لا ترغب مصر في المشاركة المباشرة في الضربات الجوية على اليمن، وها هي الآن تواجه ضغوطًا عربية من أجل وجود عسكري دائم للولايات المتحدة في البحر الأحمر، هذه الضغوط الأخيرة تضعها في موقف صعب في التوازن بين مصالحها الأمنية وبين حساباتها السياسية المرهونة بضعفها الاقتصادي وقرارات الخليج والولايات المتحدة!
تداعيات هذا التمركز الأمريكي المحتمل على مصر:
يثير التمركز العسكري الأمريكي المحتمل على جزيرتي تيران وصنافير جملة من الهواجس في القاهرة، لما ينطوي عليه من انعكاسات أمنية واقتصادية وسياسية قد تُربك حسابات الدولة المصرية في ملفات إقليمية حساسة.
أولًا: يُتوقع أن يؤدي هذا الوجود الأميركي إلى التأثير سلبًا على الاستثمارات الأجنبية في خليج السويس، خاصة تلك المرتبطة بشركات صينية وروسية، ما قد يعرقل مشاريع استراتيجية تعتمد عليها مصر في تسريع وتيرة التنمية داخل محور قناة السويس، إضافة إلى ما قد يسببه من توتر في علاقاتها مع بكين وموسكو، في ظل تشابك المصالح الاقتصادية والأمنية في مناطق كاليمن والسودان والقرن الإفريقي.
ثانيًا: قد يتسبب التمركز الأميركي في تقليص الترتيبات الأمنية التي حصلت عليها مصر في سيناء بموافقة إسرائيل، وهي الترتيبات التي سمحت بزيادة القوات وبناء نقاط أمنية جديدة في المنطقة، وأي تغيير في هذه المعادلة قد ينعكس سلبًا على قدرة القاهرة على مواجهة التهديدات الأمنية المحتملة.
ثالثًا: من المتوقع أن يُسهم تمركز القوات الأمريكية على الجزيرتين في تعزيز العلاقات الأمنية المباشرة بين السعودية والاحتلال الإسرائيلي، وهو ما قد يؤدي إلى تهميش الدور الإقليمي لمصر وإلى مزيد من التراجع لمكانتها في نظر العواصم الغربية، التي لا تزال ترى في القاهرة شريكًا ضروريًّا ضمن إطار اتفاقية السلام.
ورغم هذه التداعيات المحتملة، لا يُستبعد أن تدرس القاهرة المقترح السعودي، حفاظًا على علاقاتها وتحالفاتها الإقليمية والدولية، خاصة في ظل الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي يمر بها الاقتصاد المصري.
خاتمة:
إذا أُجيز لواشنطن إقامة قواعد عسكرية على تيران وصنافير، فإنَّ الكيان المحتل يكون قد ضمن عمليًّا تأمين هذا المعبر البحري الحساس، تجاريًّا وعسكريًّا، من أي إمكانية مستقبلية لاستعماله ورقة ضغط ضده من أي دولة تملك السيادة عليهْ.
إنها نتيجة منطقية لتفريط صريح في الجزيرتين، تفريط لم يكن مجّانيًّا بطبيعة الحال، بل هو بيعٌ صريح قبض ثمنه النظام الحاكم في مصر، بينما تَجرّع الشعب المصري عواقبه!
وسيناء التي كُبِّلت باتفاقات، سيحيطها الحصار من كل الجهات وستظل مكشوفة، يطمع فيها الاحتلال كما طمع من قبل، فموقعها من ناحية، وثرواتها كذلك يضعانها دومًا في مرمى الأطماع الصهيونية!
ولا يمكن فصل هذا العرض السعودي، عن السياق الأشمل الذي أشار إليه نتنياهو مرارًا، وهو إعادة هندسة الإقليم بما يضمن تفوُّق الكيان الصهيوني المطلق، ليكون ذلك عبر إعادة ترتيب التحالفات والمواقع العسكرية، وتفريغ الجغرافيا المصرية والعربية من أي قدرة يمكنها تهديد الاحتلال مستقبلًا.
أخيرًا، في حال وافقت مصر على العرض السعودي بإقامة قاعدة عسكرية في جزيرتي تيران وصنافير، فإن ذلك يُفضي عمليًّا إلى إفراغ شبه جزيرة سيناء من مضمونها الاستراتيجي، ويؤدي إلى تحويلها تدريجيًّا إلى منطقة منزوعة الإرادة السيادية، تُعاد هندستها لتُصبح نطاقًا عازلًا يخدم مصالح الكيان المحتل، ويؤمّن له هامشًا جغرافيًّا آمنًا على حدود البحر الأحمر.