حدث ورؤية

المساعدات في غزة: بين حصار التجويع والشهادات الأممية بالتواطؤ والتسييس

في مشهد إنساني بالغ القسوة، يقف قطاع غزة على شفا الانهيار، وسط دمار شامل، ومجاعة تلوح في الأفق، ونزوح جماعي شمل مئات الآلاف من المدنيين، أُُجبروا على مغادرة منازلهم تحت وطأة القصف المستمر وأوامر الإخلاء المتكررة، في ظل انعدام الأمن الغذائي، وانهيار الخدمات الأساسية، وتقييد دخول المساعدات، ما ينذر بكارثة إنسانية متفاقمة، لتتعالى نداءات الاستغاثة، والتحذيرات الصارخة عن كارثة إنسانية متكاملة الأركان، فيما تصطدم جهود إدخال المساعدات بواقع بالغ التعقيد، تختلط فيه الاعتبارات السياسية والعسكرية والاتهامات الموجهة للمؤسسات الغربية، لتتحول المساعدات، التي يُفترض أن تُنقذ أرواحًا، إلى أدوات للضغط، أو ذرائع للتنصل من المسؤوليات!

واقع المساعدات على الأرض.. بين التجويع والتسييس:

تُظهر التقارير الميدانية والبيانات الصادرة عن وكالات الأمم المتحدة أن حجم المساعدات التي تدخل قطاع غزة لا يلبي الحد الأدنى من الاحتياجات اليومية للسكان، فقد أشار المتحدث باسم الأمم المتحدة، ستيفان دوجاريك، إلى أن المنظمة لم تتمكن من نقل أي مساعدات من منطقة التحميل إلى داخل القطاع بسبب “الطرق غير الآمنة التي تحددها السلطات الإسرائيلية”، ما يعكس تقاعسًا أمميًّا عن الضغط الجاد لتأمين الممرات الإنسانية، اكتفاءً بدورٍ شكلي لا يرقى إلى مستوى الكارثة!

وفي الوقت الذي لا يُسمح فيه سوى بمرور عدد محدود من الشاحنات يوميًّا، تنتظر آلاف الشاحنات المحملة بالأدوية والأغذية على المعابر من الجانبين المصري والأردني، دون أن تُفعِّل الأمم المتحدة أدواتها للضغط السياسي أو القانوني لفرض دخولها.

وتقف أكثر من 3000 شاحنة تابعة للأونروا على الحدود، محمَّلة بأدوية شارفت صلاحيتها على الانتهاء، وأغذية غير قادرة على بلوغ الأطفال الجائعين والمرضى المحتاجين، بينما يستمر الصمت الدولي، ورغم التصنيف الأممي الذي وضع القطاع بأكمله في دائرة الجوع الكارثي، تتباطأ المساعدات بشكل مريب، أو تُمنع بشكل متعمد.

في هذا السياق، تبرز “شركة غزة الإنسانية” الأميركية، التي أُنشئت بدعوى تنسيق الجهود الإغاثية، كمثال صارخ على تسييس العمل الإنساني، إذ ترتبط إدارتها بمصالح أمنية أميركية وتوجهات سياسية تخدم الاحتلال، أكثر مما تخدم السكان المحاصرين، ما يجعلها أداة ضغط إضافية تُستخدم لتقييد المساعدات أو توجيهها بما ينسجم مع أولويات الاحتلال والدول الراعية له، مما يُسهم في تعزيز سياسات العزل الجغرافي والدفع نحو التهجير غير المباشر، من خلال توزيع المساعدات في نطاقات عسكرية مغلقة أو مناطق يجري تركيز الدعم فيها عمدًا، الأمر الذي يؤدي إلى تفريغ مناطق واسعة من السكان، ويمنح الاحتلال أداة إضافية لإعادة هندسة التوزيع الديمغرافي في القطاع تحت مظلة العمل الإنساني!

ثانيًا: موقف المؤسسات الأممية:

أمام هذا الواقع الإنساني القاسي، تبدو وكالات الأمم المتحدة – وفي مقدمتها الأوتشا وبرنامج الغذاء العالمي – أشبه بمن يعمل بأدوات منزوعة الفاعلية، وقد شدد المتحدث باسم مكتب الشؤون الإنسانية يانس لاركيه على أن “الكمية الضئيلة جدًّا من المساعدات التي تدخل غزة حاليًّا لا تكفي”، مع رفض الأمم المتحدة المشاركة في “الآلية الإسرائيلية” لإدخال المساعدات، واصفًا إياها بأنها تصريف للانتباه عمّا هو مطلوب فعلًا، وهو فتح كل المعابر وتوفير بيئة آمنة للعمل.

من جانبها كشفت الأمم المتحدة في تقريرها بتاريخ 13/6/2025 عن مساعي إسرائيل لتفكيك نظام المساعدات الإنسانية المتبع منذ سنوات طويلة في غزة، محذِّرة من تدهور الأوضاع بشكل خطير للغاية، حيث شمل ذلك إغلاق المخابز والمطابخ الجماعية ونفاد المخزون الغذائي، مؤكدة أن الاحتلال يعمل على فرض نظام توزيع جديد يخضع بالكامل لإشراف جيشه، مما يهدد حياة المدنيين ويجبرهم على دخول مناطق عسكرية خطرة لتلقي المساعدات.

وتُظهر التقارير الصادرة عن مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في الأرض الفلسطينية المحتلة مدى خطورة الآلية التي تعتمدها إسرائيل في توزيع المساعدات الإنسانية داخل قطاع غزة، والتي تُنفذ عبر “مؤسسة غزة الإنسانية” المدعومة من الولايات المتحدة، فقد أشار المكتب إلى أن هذه الآلية تضفي طابعًا مؤسسيًّا على القيود الإسرائيلية المفروضة على تقديم المعونات منذ البداية، مما يرسخ نمطًا من التسييس في العمل الإنساني.

وقد وثّقت تقارير ميدانية أن القوات العسكرية الإسرائيلية قتلت ما لا يقل عن 32 فلسطينيًّا أثناء محاولتهم الوصول إلى نقاط توزيع الغذاء التي أقيمت في شمال غرب رفح ووسط غزة، والتي تديرها “مؤسسة غزة الإنسانية” وشركة الأمن الأمريكية المكلفة بالتوزيع، ما يعكس خطرًا واضحًا يتهدَّد المدنيين العُزَّل في ظل هذه الإجراءات.

لقد شهد قطاع غزة تكرارًا ممنهجًا لاعتداءات الاحتلال على المدنيين خلال محاولاتهم الحصول على المساعدات الغذائية، ففي مركز توزيع المساعدات بمدينة رفح جنوب القطاع، أطلقت قوات الاحتلال النار بشكل مباشر على آلاف الفلسطينيين المحتشدين، ما أدى إلى وقوع عدد من القتلى والجرحى، وأوجد حالة من الفوضى والرعب في المكان.

هذه الحوادث تكشف عن نمط استهداف متعمد لنقاط توزيع المساعدات، وهو ما أثار انتقادات واسعة من الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية، حيث عبَّر المفوض العام لوكالة الأونروا، فيليب لازاريني، عن قلقه قائلاً: “المساعدات المرسلة تسخر من المأساة الجماعية… هذه الآلية مذلة وتعرض المدنيين للخطر، ما نحذر منه بات واقعًا، كل يوم يُقتل بعض الجائعين قبل حصولهم على الطعام”.

وأضاف: “الأمم المتحدة مستعدة وقادرة على تقديم المساعدة بفعالية للشعب الفلسطيني في غزة، للتخفيف من وطأة هذه الكارثة الإنسانية، ما يعوق ذلك ليس القدرة، بل العراقيل السياسية والانتهاكات المنهجية التي تمارسها إسرائيل“.

إن تكرار هذه الحوادث على نحو يعكس غياب المحاسبة وتوظيف نقاط المساعدات كأداة ضغط أو عقاب جماعي، يعزز من قراءة سياسية تعتبر أن الاحتلال يوظف سلاح التجويع كسلوك استراتيجي ضمن أدوات السيطرة، في تحدٍّ صارخ لأعمال تلك المنظمات وللأُطر التي تفرضها في مناطق عملها.

وفي بيان رسمي جددت الأمم المتحدة التأكيد على أن آلية المساعدة الإنسانية العسكرية التي تعتمدها إسرائيل تنتهك المعايير الدولية المعتمدة في توزيع المساعدات، وتعرض حياة المدنيين للخطر، وتزيد من تفاقم الوضع الإنساني الكارثي في القطاع، وأشار البيان إلى أن الفلسطينيين يواجهون خيارًا مريرًا بين الموت جوعًا أو المجازفة بحياتهم في سبيل الحصول على كميات ضئيلة من الغذاء تُقدم عبر هذه المؤسسة.

يشار إلى أن إسرائيل سمحت لـ”مؤسسة غزة الإنسانية” بفتح عدة مواقع في قطاع غزة، في تجاوز لمنظمات الإغاثة التقليدية وقد رفضت الأمم المتحدة التعاون مع المؤسسة ذات مصادر التمويل الغامضة، قائلة إنها لا تحترم المبادئ الإنسانية الأساسية.

ثالثًا: معوقات متعمدة وسياسة التجويع الجماعي:

تبرز في تفاصيل المشهد الإغاثي مؤشرات واضحة على سياسات ممنهجة لعرقلة تدفق المساعدات، وتسييسها كأداة ضغط وتجويع جماعي للسكان المحاصرين.

وبالرجوع إلى تقرير الأونروا رقم 175، بتاريخ 13/6/2025 فقد أكد التقرير تصاعد العمليات العسكرية الإسرائيلية في قطاع غزة والضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية، منذ مارس 2025، ما أدى إلى كارثة إنسانية شاملة.
ويخضع قطاع غزة لحصار خانق منذ 80 يومًا، تسبب في توقف شبه تام لوصول الإمدادات الأساسية، وتواجه البنية التحتية الصحية والإنسانية خطر الانهيار، وسط تدمير ممنهج وتهجير قسري، بينما تحاول الأونروا مواصلة تقديم خدماتها رغم هذه العقبات والقيود.

وقد أكد مكتب “أوتشا” أن الأوضاع الإنسانية تتدهور بشكل متسارع، لا سيما مع استمرار القصف العشوائي على مناطق متفرقة في القطاع، من بينها استهداف مدرسة للنازحين في حي الدرج شرق غزة، ما أسفر عن استشهاد العشرات بينهم نساء وأطفال، ووقوع عشرات الجرحى، وتتزامن هذه السياسات مع تدمير البنية الصحية، حيث خرج الكثير من المستشفيات والمراكز الطبية عن الخدمة، ما عمق من معاناة المرضى والمصابين وسط نقص حاد في الإمكانيات الطبية، كما أن آلية التوزيع القائمة داخل القطاع، مع غياب الأمن، وعدم توفر البنية التنظيمية الكاملة، تُنتج حالة من الفوضى تُغذي الادعاءات حول نهب المساعدات أو سوء إدارتها.

خاتمة: ما العمل أمام انهيار منظومة الإغاثة؟

ما يجري اليوم هو محاولة واضحة لعزل غزة وتجويعها في العلن، بغطاء من الادعاءات الإسرائيلية وبصمت دولي وتخاذل إقليمي مريب، الاحتلال لا يكتفي بالحصار العسكري بل يسعى لتجريد الفلسطينيين من كل مقومات الحياة، تحت ذرائع واهية، بينما تسعى مؤسسات إنسانية للعمل كالأنروا وسط عمليات عرقلة وحرمان من أداء مهامها، في المقابل، تتقاعس الدول العربية عن تحمّل مسؤولياتها، وتغيب الإرادة السياسية لفتح المعابر أو فرض كسر الحصار.

أمام هذا الواقع القاتم، تبرز الحاجة إلى تحرك حازم وفاعل، يتجاوز حدود بيانات الإدانة والتعبير عن القلق، كما يتوجب على القوى والمؤسسات الإسلامية، خاصة في العالم العربي، أن تُعلي من صوتها وتكثف جهودها لكسر الحصار المفروض، إن مأساة المساعدات في غزة ليست خللًا إداريًّا، ولا نتيجة لفوضى داخلية كما تُروّج بعض الأطراف، بل هي صورة مكثفة لسياسة العقاب الجماعي، والمطلوب اليوم ليس مجرد تحسين “آلية التوزيع”، بل استرداد الحق الأصيل، لوقف هذا التواطؤ  على تجويع غزة، حتى لا تتحول المساعدات إلى أوراق سياسية تُساوم بها الدماء، ويُصادر بها الصمود!

ويبقى السؤال الأكبر معلقًا: إلى متى ستظل غزة وحدها تواجه المجاعة، والقصف، والخذلان؟! بعدما تكالبت قوى البطش على هذا الشعب الأعزل، الذي يئن جوعًا وتوجعًا، منتظرًا عونًا من إخوة الدين واللغة والقربى، عونًا يرتقي إلى مستوى التحديات الإنسانية والسياسية القائمة!

زر الذهاب إلى الأعلى