رسائل ترامب في شرم الشيخ: مشهد التطبيع والإهانة

مقدمة:
كشفت قمة شرم الشيخ الأخيرة عن أحد أكثر المشاهد السياسية دلالة على عمق التبعية العربية واستمرار الوصاية الأمريكية على القرار العربي.
لم يكن حضور دونالد ترامب مشهدًا دبلوماسيًّا عاديًّا، بل استعراضًا رمزيًّا للقوة، يكرّس من خلاله موقع واشنطن كسلطة فوقية تتحكم في اتجاهات السياسة العربية.
المشهد الذي كان شديد الوضوح ظهر فيه القادة يصعدون واحدًا تلو الآخر إلى المنصة لمصافحة ترامب أمام عدسات الكاميرات، لم يكن مجرد بروتوكول، بل لحظة إظهارٍ لمعادلة غير متكافئة: زعيم يتصرَّف بوصفه “المانح للشرعية”، في مقابل أتباع يسعون إلى التقاط صورة تُثبت القرب منه!
وفي هذا السياق، بدا ترامب في خطابه وكأنه يسخر من الحاضرين أكثر مما يخاطبهم؛ كانت نبرته استعلائية، تُخفي احتقارًا لا لبس فيه لكل من يقف أمامه.
قبل قمة شرم الشيخ وفي صباح اليوم نفسه الذي تم فيه تبادل الأسرى، وصل دونالد ترامب إلى تل أبيب، حيث ألقى خطابًا مطولًا أمام الكنيست الإسرائيلي اتسم بمضمونٍ أحادي ومنحازٍ بالكامل لإسرائيل.
هنّأ نتنياهو على ما وصفه بـ”النصر”، وطالب بمنحه عفوًا في قضايا الفساد، وتفاخر بأن الأسلحة الأمريكية كانت عماد العمليات الإسرائيلية طوال عامين، متجاهلًا تمامًا ذكر فلسطين أو أي حديث عن غزة!
هذا الخطاب يُعد بجلاءٍ تامٍّ إعلانًا صريحًا لانعدام دور الوسيط الأمريكي المتوازن، وظهور واشنطن كطرفٍ مباشرٍ في الصراع وشريك في العدوان، يسوّق رواية المنتصر ويمنح الغطاء الكامل للاحتلال، في مشهدٍ يُعلن عن تعريف فكرة “السلام الأمريكي” بوصفها أداة لإدامة الهيمنة لا لإنهاء الحرب.
لقد تداولت وسائل الإعلام مشاهد تُظهر أعضاء “الكنيست” وهم يضحكون ويصفّقون في أثناء حديثه عن “قادة الشرق الأوسط”، بينما كان يُمطرهم بعبارات المدح الزائف ويُخفي وراءها تهكُّمًا واضحًا.
بهذا الخطاب، ظهر خطاب ترامب في الكنيست ثم في قمة شرم الشيخ كمنصة لتكريس منطق “السلام بالإكراه”، حاملةً رسالة مفادها أن النظام الإقليمي العربي يُدار من الخارج وِفق شروط القوة، لا وفق مصالح شعوبه أو تطلعاتها!
وهم النصر الإسرائيلي:
من أبرز الرسائل التي سعى ترامب إلى تمريرها في جولته ترسيخ فكرة أن إسرائيل خرجت “منتصرة”، وأن هذا “الانتصار” ثمرة التحالف مع واشنطن وتفوقها التكنولوجي والعسكري.
هذا الخطاب لم يهدف إلى توصيف الواقع بقدر ما سعى إلى هندسة وعيٍ جديد يُشرعن استمرار الاحتلال، ويُضفي على العدوان طابعًا وهميًّا من “النجاح المشروع”!
لقد تمّ توظيف القوة الأمريكية لتصوير العدوان كدليلٍ على الكفاءة والانضباط الإسرائيلي، لا كجريمةٍ ضد شعبٍ أعزل!
السلام الإبراهيمي:
لم يقدّم ترامب في القمة مبادرة سلام حقيقية، فـ”السلام” في الخطاب الأمريكي لا يعني إنهاء الاحتلال أو تحقيق العدالة، بل إقامة نظام إقليمي جديد يقوم على دمج إسرائيل في المحيط العربي دون أي مقابل سياسي.
لقد غابت عن الخطابات الإشارة إلى الحقوق الفلسطينية أو حتى حق تقرير المصير، وحلَّ محلها خطابٌ اقتصاديٌّ تنمويٌّ سطحيٌّ يتحدث عن “تحسين المعيشة”!
إنها عملية تفريغ مقصود للمعنى التحرري، واستبدال معنى وظيفي يخدم أمن إسرائيل واستقرار النظام الإقليمي الذي تقوده واشنطن به.
بهذا الشكل، يصبح “السلام” أداة لإدامة الخضوع، وليس حتى مدخلًا لتسوية صورية تُعيد التوازن بين الضحية والمعتدي.
وفي جوهر هذا المسار، يتجلّى هدف واشنطن الحقيقي: تصفية القضية الفلسطينية وتكريس “صهينة” المنطقة بأسرها، بعد أن اعترف ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل وشرعن ضمََّ الجولان، في امتدادٍ لمنظورٍ يرى في إسرائيل نواة توسّعٍ، وفي التطبيع مع إسرائيل غاية، من أجل منحه شرعية بعد أن أصبح مَجذومًا منبوذًا عالميًّا.
إعادة الإعمار بشروط الإخضاع!
في سياق هذا المنطق، أعلن ترامب عن مبادرة لإعادة إعمار غزة، لتتحول فكرة الإعمار إلى وسيلة ضغطٍ سياسي، فقد أوضح أن الدول العربية والإسلامية ستكون مسؤولة عن تمويل الإعمار، بينما تجاهل تمامًا مسؤولية الاحتلال عن الدمار نفسه!
لكنّ جوهر الرسالة لم يكن اقتصاديًّا، بل سياسيًّا: الإعمار مشروطٌ بالهدوء، والهدوء مشروطٌ بنزع إرادة المقاومة.
بهذا الترتيب، يتحول المال إلى أداة للضبط، وتتحول عملية إعادة البناء إلى مشروع لإعادة صياغة الوعي الفلسطيني والعربي معًا.
ويثير هذا المنحى تساؤلات جوهرية عن ازدواجية المعايير:
لماذا تُنزع الأسلحة من الضحية ولا تُنزع من المعتدي؟!
ولماذا لا تُطالَب إسرائيل، التي تمتلك ترسانة عسكرية هائلة، بنزع أسلحتها العدوانية التي تستهدف المدنيين؟
إن ازدواجية هذا الموقف تكشف أن ما يُسمى “نزع السلاح” ليس مشروع سلام، بل أداة لإدامة الخلل في ميزان القوة.
فالقوى الكبرى تخشى من أي مقاومة، لكنها لا تجرؤ على المساس بالسلاح الإسرائيلي لأنها رهينة للقرار الأمريكي المرتكز كثيرًا على دعم جماعات ضغط يهودية كـ “آيباك”.
لقد استُضعفت غزة لأنها الأضعف، وحوصرت المقاومة لأنها الأكثر إزعاجًا للمشروع الصهيوني.
فأين هذا “السلام” من نزع أدوات الإرهاب الحقيقي، أي من ترسانة الاحتلال نفسه؟! وتعويض الفلسطينيين عن الضحايا والخسائر المادية بدلًا من مكافأة المعتدي بمزيد من الدعم؟!
ومن يعرف طبيعة السياسة الأمريكية وتحوّلات الصراع مع المشروع الصهيوني، يدرك بسهولة أن ما عُرف بـ”وثيقة الضمانات” التي جرى توقيعها في شرم الشيخ لم تُكتب في أروقة الدبلوماسية، بل صاغها على الأرجح جاريد كوشنر، مع شريكه التجاري ويتكوف، وبالتشاور معه!
لقد جسّدت الوثيقة رؤية “التجار الجشعين” في البيت الأبيض، ممن رأوا أن القضية الفلسطينية ليست قضية حقوق وأرض ومقدسات، بل صفقة تجارية يمكن حلّها بمنطق المال والاستثمار!
وجاءت لغة الوثيقة لتؤكد هذا المنحى: “نُدرك أن السلام الدائم هو الذي يُمكّن الفلسطينيين والإسرائيليين من الازدهار “.
هذه العبارات التي تبدو إنسانية في ظاهرها، تخفي مشروعًا للتطبيع الاقتصادي العربي والترويض السياسي، إذ تحدد الطريق إلى “السلام” عبر الازدهار الاقتصادي، لا عبر إنهاء الاحتلال أو استعادة الحقوق.
ثم تأتي الفقرة التي تتحدث عن “تعزيز الروابط بين الأمم والشعوب” لتكمل الإطار النظري لما يسمى بـ”السلام الإبراهيمي”، حيث يُختزل التاريخ الديني في مشهد رمزي يخدم هدف الدمج الإسرائيلي في البنية الإقليمية العربية.
بهذا المعنى، كانت وثيقة شرم الشيخ إعلانًا عن مشروع سياسي خطير: تحويل الاحتلال إلى شريك في التنمية، والمُحتل إلى تابع اقتصادي دائم.
وعلى كل حال فليس من المتوقع، كما في المرات السابقة، أن يتحقق أي إعمار حقيقي، فالتجارب الماضية كشفت أن الوعود غالبًا ما تبقى حبرًا على ورق، دون أن يُعاد بناء البيوت أو تُرمَّم بنية تحتية مهدّمة.
فجوهر مبادرة ترامب هو تثبيت فكرة أن عبء غزة يقع على كاهل العرب والمسلمين وحدهم، بينما تُعفى إسرائيل من أي مسؤولية عن الدمار الذي تسبّبته. كانت رسالته واضحة: “أنتم مَن يجب أن يدفع الثمن”.
فرض السلام بالقوة!
من العبارات الأكثر تكرارًا في خطاب ترامب كانت “فرض السلام بالقوة“، وهي العبارة التي تلخّص جوهر المرحلة الأمريكية الجديدة في المنطقة.
القوة هنا لا تعد وسيلة لتحقيق التوازن أو حماية العدالة، بل أداة لإخضاع من يرفض القبول بالواقع الذي تفرضه واشنطن وتل أبيب.
تحت هذا السياق، يُفهم الأمن الإقليمي بحيث يصبح أمن إسرائيل هو المعيار، وتُقدَّم المقاومة بوصفها تهديدًا يجب تفكيكه.
وبهذا المنطق، يُكرَّس “سلام الأمر الواقع“، حيث يُكافأ المعتدي على تفوقه العسكري، وتُحمَّل الضحية مسؤولية استمرار الصراع.
إن هذا التحول لا يعبّر عن تغيرٍ في السياسة الأمريكية بقدر ما يعكس تجديدًا لنهج الهيمنة بوسائل أكثر وقاحة، إذ تُستخدم مفردات “السلام” لإخفاء جوهر الإكراه، وتُستعار لغة “الاستقرار” لتسويغ استمرار الاحتلال.
وعلى كل حال تُظهر قراءة المعطيات السياسية والميدانية أن التطورات في أعقاب هذه المرحلة الأولى من الاتفاق لن تسير نحو الاستقرار، بل نحو إعادة صياغة الصراع بشكل جديد.
فالولايات المتحدة وإسرائيل تسعيان إلى استثمار الهدوء من أجل فرض ترتيبات سياسية تُقصي المقاومة من الحكم، وتُمهّد لإعادة هيكلة غزة بما يتناسب مع مشروع “السلام عبر السيطرة” وهو ما يتوقع ألا يمر بسهولة من المقاومة.
خاتمة:
إن المشهد الذي اختُتمت به قمة شرم الشيخ لم يكن مجرد عرضٍ دبلوماسي، بل لحظة إظهارٍ صريحة لعجز النظام العربي وتعمّق التبعية السياسية.
لقد تحوّل القادة العرب في القاعة إلى شهودٍ على إعادة صياغة واقعهم بيدٍ أمريكية، دون أن يمتلكوا القدرة على الاعتراض أو المراجعة!
مشهد الصعود الجماعي للمنصة، والحرص على التقاط الصور إلى جانب ترامب، شكّل تعبيرًا مكثفًا عن أزمة الإرادة العربية، وعن قبولٍ ضمني بأن مكانة كل دولة تُقاس بدرجة قربها من “المانح الأمريكي“.
بهذا المعنى، كانت القمة تجسيدًا لمشهد الإهانة أكثر مما كانت لحظة دبلوماسية، وأعادت تذكير الرأي العام العربي بأن “التطبيع” لم يعد خيارًا سياسيًّا بل أصبح شرط بقاء في المعادلة التي رسمتها واشنطن.
وفي المقابل، يتقدم دور الشعوب العربية إلى الواجهة أكثر من أي وقت مضى، وهي تعيش بين قهر داخلي وصمتٍ رسميٍّ مخزٍ تجاه ما يجري في غزة.
فهذه الشعوب تبقى الركيزة الأهم في تصويب بوصلة الأمة نحو مقاومتها وقضيتها المركزية، ويتكامل مع ذلك دور العلماء والمفكرين في كشف زيف المواقف الرسمية وبيان حدودها الشرعية والأخلاقية، والتأكيد على أن معركة الوعي لا تقل خطورة عن معركة الميدان، بل هي التي تحدد في النهاية قدرة الأمة على الصمود ومقاومة محاولات تطبيع الهزيمة أو شرعنتها.
فحين تستعيد الشعوب صوتها، ويؤدي العلماء رسالتهم، يمكن للأمة أن تتحرر من ربقة الوصاية وتفرض تصورها للسيادة على أسس العدالة والحق، لا على أساس من الخضوع والتبعية.