لا يمكن دراسة تجارب المفكرين العرب والمسلمين في القرنين الماضيين مع الغرب ومواقفهم مما أنتجه، في سياق صعوده العالمي، من فلسفة حداثية ورؤية كونية وحضارة أوروبية، دون اعتبار للسياق التاريخي الذي جاءت فيه هذه التجارب والأفكار والمواقف.
باختصار، كان القرنان الماضيان هما قرني الاستعمار الأوروبي ومحاولة التصدي له والتحرر منه، وهو نفس السياق الذي حتّم على قيادة الأمة اتخاذ برنامج تحديث “متعجل” لمواجهة تغول أوروبا عسكريًا وسياسيًا واقتصاديًا في المشرق العربي الإسلامي.
وأصبح الشغل الشاغل هو تحقيق “التقدم” المادي والتنظيمي والحصول على علوم وتقنية ومدنية أوروبا في سياق التصدي للتمدد الأوروبي! يلاحظ أن جهود “التحديث” و“التقدم” هذه انصرفت بمعظمها تجاه الدولة ومؤسساتها، أو بالأحرى “مأسستها”، بما أفضى في المحصلة إلى تحديث جزء محدود من “الاجتماع” الإسلامي، مرتبط بكيان وحاجات ووظائف الدولة ومؤسساتها.
وحدث ما يشبه الفصام بين نخبة وبيروقراطية الدولة في أعلى البناء الاجتماعي، وبين عموم الأمة التي لم تصلها عملية التحديث، ولم تتمثلها أو تهضمها لأنها كانت مفروضة ومشوهة ومجتزأة، بنيويًا وتاريخيًا.
شكلت الظاهرة الغربية الحديثة بكافة جذورها وتضاعيفها وتضميناتها الفلسفية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية ومشروعها الإمبريالي تحديًا هائلاً للعالم إجمالاً، والعالم الإسلامي خصوصًا.
وأنتجت استجابات المفكرين في العالم الإسلامي لهذا التحدي الغربي الحديث، لاحقًا، معظم الأفكار التي قدمها أو اجترحها هؤلاء المفكرون في مشروعاتهم الفكرية على اختلاف مستوياتها، من حيث الاتساع أو التخصص.
ولا يزال هذا التحدي الغربي ماثلاً أمام المثقفين والباحثين والمفكرين المتمسكين باستقلالهم وأصالتهم الحضارية، لدى معالجة مختلف القضايا والموضوعات الراهنة في العلوم الاجتماعية والإنسانيات.
كذلك، في سياق جهود البحث عن طريق للتحديث مستقل عن مسارات التغريب والأوربة، نتجت عملية “أسلمة” متواصلة على مستوى التقنين والتنظيم والتعليم والتنمية والتحرر الوطني والاستقلال.
وكانت الحركة الإسلامية الحديثة إحدى نواتج هذا النمط من الاستجابة للتحدي الغربي الحديث.
سياق التحديث المبكر
جاء بدء التحديث في مؤسسات وكيان الدولة العثمانية مترافقًا مع سلسلة هزائم عسكرية فادحة في معارك الجبهات الأوروبية أواخر القرن الثامن عشر أمام روسيا وغيرها من القوى الأوروبية، التي استوعبت عبر القرون التكتيكات العثمانية وتمكنت من تجاوزها والتغلب عليها.
ومنذ معاهدة “قينارجه” (1774) التي أنهت الحرب العثمانية الروسية (الكارثية) حول استقلال بولندا وممتلكاتها التي اغتصبتها روسيا، هوت مكانة الدولة العثمانية من الدولة الأولى في أوروبا والعالم إلى الدولة الثالثة أو الرابعة.
كان التحديث على الطراز الأوروبي يعني أولاً إعادة تنظيم القوات العسكرية وإقامة المدارس العسكرية الحديثة، وإدخال تقنيات الهندسة العسكرية، وإرسال بعثات التدريب والتعليم إلى العواصم الأوروبية، وتحديث التنظيم الإداري ومؤسسات الدولة باتجاه المركزية، وهيكلة موارد الدولة، وخصخصة الأراضي العامة، والالتحاق بالسوق الرأسمالية الأوروبية، وغير ذلك.
وقد جرت بعض هذه التحولات لاحقًا تحت ضغط ورعاية السفراء والقناصل الأوروبيين في العاصمة العثمانية، بقصد فتح مسامات الدولة للاختراق.
لم تكن لحظة بدء التحديث لحظة طبيعية أو عادية في تاريخ الأمة، لأن التحديث جرى تحت ضغط الهزائم العسكرية الفادحة والاجتياح الاستعماري الأوروبي للمشرق العربي الإسلامي منذ نهاية القرن الثامن عشر.
إجمالاً، لم تكن لحظة بدء التحديث لحظة طبيعية أو عادية في تاريخ الأمة، لأن التحديث جرى تحت ضغط الهزائم العسكرية الفادحة والاجتياح الاستعماري الأوروبي للمشرق العربي الإسلامي منذ نهاية القرن الثامن عشر، بدءًا بغزو نابليون لمصر، 1798–1801، وطوال القرن التاسع عشر ومعظم القرن العشرين. وقبل ذلك بقرن أو قرنين تعرضت بلاد المسلمين في الهند وجزر الهند الشرقية (أندونيسيا والفلبين والملايو) لموجة استعمارية عاتية قادتها أسبانيا والبرتغال وهولندا.
وطوال عصر التحديث (وهو أيضًا عصر التنظيمات) العثماني الذي تعهده السلاطين المتأخرون من سليم الثالث ومحمود الثاني إلى عبد المجيد وعبد العزيز وعبد الحميد الثاني، وكذلك على مدى عصر الدول القومية (الوطنية) في المشرق العربي الإسلامي، لم تتمكن المجتمعات العربية والإسلامية من حسم اختياراتها التاريخية فكريًا فيما يتعلق بمشروع إنجاز النهضة والتنمية والاستقلال عن السيطرة الغربية المستمرة حتى اليوم.
ولا تزال الشعوب العربية والإسلامية منقسمة إزاء الموقف من النموذج الغربي ورؤيته الكونية وحالة التبعية المستمرة، خاصة بعد إخفاق محاولات الإفلات من إسار السيطرة الغربية واتخاذ مسارات مستقلة نحو التنمية والنهوض والتحرر الوطني.
ولا تزال المجتمعات العربية والإسلامية تعاني حالة متردية حضاريًا وإنسانيًا وثقافيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، دفعت المفكرين والمثقفين العرب والمسلمين إلى طرح تساؤلات من قبيل:
لماذا تقدم الغرب المسيحي وتأخر المشرق الإسلامي؟
أو ما أسباب التقدم هناك والتأخر هنا؟
وما إمكانية الاستفادة من الحضارة الأوروبية ومحاكاة التجربة الغربية؟ وبأي درجة وفي أي المجالات؟
على مدى قرنين تقريبًا من المناقشات والسجالات، هما التاسع عشر والعشرون، لم تستقر إجابات تلك التساؤلات على نحو واضح أو عملي، فقد كان بعضها جادًا والبعض الآخر ربما لم يجاوز كونه صيحة في وادٍ أو نفخة في رماد، بتعبير عبد الرحمن الكواكبي.
بدايات دامية
اصطدمت محاولات التحديث العثماني المبكرة بسد منيع من اعتراضات شرائح اجتماعية وعسكرية وبيروقراطية ودينية، كتشكيلات الانكشارية ومشايخهم وجهلة العلماء والدهماء الذين احتشدوا ضد إصلاحات السلطان سليم الثالث أواخر القرن الثامن عشر، فدخلوا الآستانة، وقتلوا الوزراء والأعيان المؤيدين للإصلاحات، أو ما كان يسمى “النظام الجديد”.
وأفتى مفتي الدولة العثمانية الجديد (الذي خلف المفتي السابق المؤيد للإصلاحات) بأن أي خليفة يدخل أنظمة الغرب وطرقهم في الدولة، ويجبر رعاياه على اتباعها غير صالح للولاية، فعزلوا السلطان سليم الثالث وأسروه، ثم قتلوه لاحقًا. فكانت بداية التحديث العثماني لحظة بالغة المأساوية.
واصلت الانكشارية وأضرابها تخريب جهود السلطان محمود الثاني التحديثية، واضطر السلطان للقضاء عليهم في “الواقعة الخيرية” التي قتل فيها 6 آلاف انكشاري.
في ذات الوقت، كان الداماد خليل باشا، صهر السلطان وسفيره في فيينا، يكتب إليه من هناك ضاغطًا: “إما أن نحذو حذو أوروبا أو نخرج من أوروبا”. وهكذا كان!
تبنى السلطان محمود الثاني برنامجًا تحديثيًا قائمًا على “الأوربة”، فأقام الإدارات والتشكيلات العسكرية الحديثة، وأشرف بنفسه على تدريب جنوده؛ فأقام في كوخ طيني بأحد المعسكرات ثلاث سنوات، ودفع بابنه السلطان عبد المجيد وابنته السلطانة عائشة إلى صفوف التدريب العسكري وعُلقت صوره على جدران المصالح الحكومية، مما نفّر رعاياه منه ومن مشروعه التحديثي، فأطلقوا عليه بالتركية “كاوور سلطان” أي السلطان الكافر!
وسار على نهجه ابنه وخليفته السلطان عبد المجيد الذي أحاط به رجال التنظيمات مصطفى رشيد باشا وعالي باشا وفؤاد باشا وجودت باشا وغيرهم، وصدر في عهده وثيقتان: “خط شريف” و”خط همايون”، اللتان أعيد فيهما تعريف أسس الدولة لتضاهي نموذج الدولة القومية المركزية الذي اتخذته معظم الممالك الأوروبية، رغم عدم التطابق الواضح بين دول قومية قائمة على استيهام التجانس العرقي والديني، وبين دولة إمبراطورية قائمة على تعدد الأعراق والأديان والثقافات وإدارة شبه ذاتية ونظام مِلّي يتيح للرعايا حقوقًا فردية وجماعية واسعة.
تواضعت الإمبراطورية العثمانية كثيرًا، فأصبح خليفة المسلمين السلطان عبد المجيد يتلقى وسام “رباط الركبة” من ملكة بريطانية، وينتمي ابنه الأمير مراد (الخامس) إلى المحافل الأوروبية الماسونية ويتقدم لطلب يد ابنة الملكة فيكتوريا، وتُفتح أبواب الحرملك السلطاني للفنانين والأدباء والقناصل الأوروبيين للقاء ومجالسة أميرات آل عثمان.
تواضعت الإمبراطورية العثمانية كثيرًا، فأصبح خليفة المسلمين السلطان عبد المجيد يتلقى وسام “رباط الركبة” من ملكة بريطانيا
بعد السلطان عبد المجيد، حاول السلطان عبد العزيز إصلاح مسار التحديث واستدراك أوجه القصور والانحدار نحو “الأوربة”، بإعادة الاعتبار للثقافة العثمانية الأصيلة وسماتها وآدابها والتعليم التقليدي وتوكيد الشخصية الإسلامية للسلطنة والدولة والخلافة، مع الاهتمام الكبير بقدرات الدولة العسكرية والتنظيمية.
لكن الاختراق الغربي، خاصة الإنكليزي والروسي، للإمبراطورية بلغ نقطة اللاعودة؛ فدبر البريطانيون وعملاؤهم في الآستانة انقلابًا على السلطان عبد العزيز بقيادة عميلهم الضابط حسين عوني باشا، وبالتواطؤ مع ابن أخيه وولي عهده السلطان مراد الخامس، بل وتمكن حسين عوني من اغتيال السلطان عبد العزيز بتمزيق شرايينه في بهو قصر “دولمة بهچت” في أحد أكثر المشاهد مأساوية في تاريخ الإمبراطورية.
عبد الحميد ومشروع الإنقاذ
في تضاعيف الانقلاب، أصيب السلطان (الانقلابي) مراد الخامس بلوثة عقلية، وعُزل من السلطنة ليتولاها أخوه السلطان عبد الحميد الثاني الذي واجه تداعيات ما سبق، خاصة الاختراق الأوروبي والمؤامرات العديدة، التي استهدفت ‘الدولة’ بل و‘حياة’ السلطان شخصيًا أكثر من مرة؛ فاضطر لتجميد بعض أجزاء مشروع التحديث (كـ‘مجلس المبعوثان’) لوقف تدهور الدولة المتسارع.
وأقام منظومة أمنية، هي الخدمة السرية أو (بالتركية “خدمت خفيَّت”)، أرهقته وأرهقت الرعية، وانتشرت بين الأجيال الجديدة التنظيمات والمحافل السرية والعلنية التي ناصبته العداء، وتواصلت مع مختلف أجهزة الاستخبارات الأجنبية.
تزامنت عملية التحديث و‘الأوربة’ في الدولة العثمانية ومصر وإيران تقريبًا، وتشابهت بعض أوجهها
لكن الدولة في معظم عهده (32 عاما) ازدهرت اقتصاديًا وتعليميًا وإداريًا وكذلك علاقاتها الدولية.
كما أحيا السلطان كافة الروابط الدينية والسياسية والثقافية ذات الأهمية للدولة والأمة، واتخذ لقب “خان”، فأصبح عبد الحميد خان الثاني: خاقان (إمبراطور) العرق الطوراني، وسلطان الشعوب العثمانية، وخليفة المسلمين. وحاول استدامة مشروع التحديث بدون الكوارث المرافقة له بإحياء الجامعة الإسلامية والفكرة الدينية والرابطة الشرقية، والتصدي للاختراق الأوروبي باختراق مضاد في مساحات العالم الإسلامي الواقعة تحت السيطرة الأوروبية؛ فأرسل رجالاته وعيونه إلى مجتمعات المسلمين بأرجاء الأرض في صورة دعاة وأئمة لربطهم بالخلافة والسلطنة.
المفارقة التاريخية الساخرة أن المدارس التي توسع السلطان في إنشائها هي التي خَرّجت الشبان الأتراك (“جنش توركلر” بالتركية) الذين عارضوه في الخارج والداخل، وشباب الضباط الذين شكلوا جمعية “تركيا الفتاة” و”لجنة الاتحاد والترقي”، التي انقلبت على السلطان وعزلته في 1908، واستولت على الحكم حتى نهاية الدولة وهزيمتها المأساوية في الحرب العالمية الأولى ثم سقوط الخلافة والسلطنة.
هنا نحن أمام ‘جدل’ (أو تفاعل كلي) تاريخي هائل ومضطرد لعملية التحديث وتداعياتها وامتداداتها وسيرورتها، عبر أكثر من قرنين شهدت أشكالاً من الصيرورة التاريخية.
وتزامنت عملية التحديث و‘الأوربة’ في الدولة العثمانية ومصر وإيران تقريبًا، وتشابهت بعض أوجهها. ولا ندري متى وكيف ستنتهي إن كان لها نهاية! لكن أكثر التجارب التحديثية اكتمالاً هي الحالة التركية.
وحتى تجربة مصطفى كمال (أتاتورك) لم تذهب بعيدًا، بل هي امتداد منطقي لمشروع التحديث العثماني كما رآه وتعهده السلطان محمود الثاني وابنه السلطان عبد المجيد ورجال التنظيمات.
وقد استطاع مصطفى كمال والجيوش العثمانية بقيادته تحرير الأناضول من احتلال القوى الأوروبية وإسقاط معاهدة سيفر، التي قضت بتقسيم الأناضول بين الطليان والفرنسيين واليونان والأرمن، وتدويل الممرات المائية (مضيق البوسفور وبحر الدردنيل).
وقد تلقت العسكرية التركية أكبر جزء من عملية التحديث العثمانية للدفاع عن وجود الإمبراطورية، وعملية التحديث ما بعد العثمانية لحاجات الأحلاف الغربية. وأدى كل ذلك لتكريس دور المؤسسة العسكرية في مسيرة الجمهورية التركية.
فواعل عملية التحديث:
منذ بدء مسار التحديث، ومن خلال السرد السابق، نجد أن الفواعل الرئيسية (بنيويًا) في عملية التحديث والاستجابة للتحدي الغربي الحديث هي:
-
- دائرة القيادة وصنع القرار الواقعة تحت ضغط تغول المشروع الاستعماري وراهنية التفوق الغربي عسكريًا واقتصاديًا وسياسيًا، وبصدد صياغة الاستجابة لهذه التحديات الكبرى.
-
- القوى التقليدية المتضررة من عملية التحديث والمعارضة لأي تغيير بسبب المصالح أو الجهالة أو التداعيات المؤلمة للتحديث.
-
- دعاة الأوربة والتماهي الكامل مع النموذج والخبرة الأوروبية، بمختلف مظاهرها العلمانية والليبرالية والرأسمالية والاشتراكية.
-
- الشرائح والنخب المرتبطة بالغرب: الطابور الخامس، أصحاب المصالح، وكلاء الشركات، الملتحقون بالسوق الرأسمالية.
- دعاة التحديث والأسلمة: استيعاب التحدي الغربي الحديث ونقد الفكر الغربي وتقديم استجابة قائمة على التجديد الديني والفكري والثقافي.
في هذه المعالجة “الفكرية” بطبيعتها، ينبغي التركيز على نخب المفكرين من دعاة ‘الأوربة’ والتماهي مع الغرب أو دعاة التحديث والأسلمة.
ارتبط التوجه نحو أوروبا بالتقدم الصناعي هنالك، وانفتاح النظام السياسي والحياة السياسية البرلمانية والدستورية والفصل بين السلطات ومساحة الحريات، لكن مظاهر وتضمينات الحداثة لا تقتصر على الصناعة والسياسة، بل تشمل الفكر والرؤية الكونية والثقافة والفنون والاجتماع أيضًا؛ كوضع المرأة في المجتمع والتعليم، وغير ذلك مما لفت أنظار المطلعين على الخبرة الأوروبية.
الاتجاه الأول: ‘الأوربة’ والتماهي
بدون محاولة استقصاء جميع المفكرين في هذا الاتجاه، نجد اللبناني شبلي شميِّل (1850-1917) من أوائل الذين دعوا للاستجابة الكاملة للثقافة الغربية. وكان شميل قد سافر إلى فرنسا منتصف سبعينيات القرن التاسع عشر، وترسخت لديه فكرة (نزوة) النشوء والارتقاء لداروين، ثم نقل إلى العربية شرح الطبيب والفيلسوف الألماني لودفينغ بخنر (1824-1899) للنظرية.
فكان شميل أول من نقل النظرية إلى الثقافة العربية قبل ترجمة إسماعيل مظهر لكتاب تشارلز داروين “أصل الأنواع”.
بعث شميل رسالة بعنوان “شكوى وأمل”، إلى السلطان العثماني عبد الحميد الثاني وقال فيها: إن الدولة العثمانية تفتقد العلم والعدل والحرية، وذهب إلى أن ‘الحكم الديني’ و‘الحكم الاستبدادي’ فاسدان كلاهما؛ لأنهما غير طبيعيين وغير صحيحين؛ فالأول يلجأ إلى السلطة لمنع نمو العقل البشري نموًا سليماً، والثاني لا يعترف بحقوق الأفراد، وكلاهما يؤديان لجمود العقل ويعوقان التقدم.
كان شميل من قيادة حزب ‘اللامركزية’ العثماني الذي ضمّ أيضا السيد محمد رشيد رضا وقادة الحركة الإصلاح العربية، واعتبر شميل العلوم الحديثة الأساس الذي قامت عليه الحضارة الغربية المتفوقة ودعا لاقتباسها والأخذ عنها دون تردد.
في مصر، استهل أحمد لطفي السيد (1872-1963) التغريب بالدعوة إلى القومية المصرية (الملتحقة بحضارات البحر الأبيض
المتوسط) كأساس لانتماء المصريين، كما دعا إلى استخدام العامية المصرية بدلاً من الفصحى، وتأثر بالمدرسة الليبرالية الفرنسية (المنكسرة) أواخر القرن التاسع عشر بعد انكسار فرنسا أمام ألمانيا في حرب السبعين (1870).
وربما هذا ما يفسر انهزامية لطفي السيد إزاء الاحتلال الإنكليزي لمصر ودعوته للانكفاء على الذات، ومع ذلك لُقّب لاحقًا بأستاذ الجيل (جيل المثقفين الليبراليين) واعتُبِر أبًا لليبرالية المصرية.
أما سلامة موسى (1887-1958) فكان من رواد الاشتراكية بمصر، ونهل أيضًا من الثقافة الغربية، ودعا لاستخدام العامية بدلاً من الفصحى، بل ذهب (وعبد العزيز باشا فهمي) إلى الدعوة لكتابة العربية بالحروف اللاتينية باعتبار ذلك وثبة للمستقبل، ورغم تبريره ذلك بأمّيّة أغلب المصريين، إلا أن تلك الدعوة مثلت صدعًا في جدار الحضارة العربية الإسلامية ووجدان الأمة وبدا أكثر تأثرًا بالغرب وأكثر سخطًا على المجتمع.
وكان سلامة موسى قد سافر إلى فرنسا ثلاث سنوات تعرف خلالها على أفكار فولتير (1694-1778)، واطلع على أفكار كارل ماركس (1818-1883)، ثم ارتحل بعد ذلك إلى إنكلترا وظل بها أربعة سنوات، انضم فيها للجمعية الفابية (الاشتراكية)، والتقى أحد أهم مفكريها جورج برنارد شو (1856-1950) الذي أشاد بمنهج وقدرة رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم على حل مشكلات البشرية.
وتبنى سلامة موسى كذلك خلالها نظرية النشوء والارتقاء لداروين، وطرح أفكارًا متماهية تمامًا مع الغرب ومتصادمة بشدة مع المجتمع حتى قال: “فلنولِّ وجهنا شطر أوروبا.. ونجعل فلسفتنا وفق فلسفتها”، وقلل من شأن الدين باعتباره خاضعًا للتطور، فهو بزعمه مصدر بشري وليس مصدرًا إلهيًا.
وصاغ ذلك بقوله: “ليس للإنسان في هذا الكون ما يعتمد عليه سوى عقله، وأن يأخذ الإنسان مصيره بيده ويتسلط على القدر بدلاً من أن يخضع له”.
شارك طه حسين (1889-1973) في مرحلة انبهاره بالغرب في صياغة أطروحات التغريب، كما ذكر في كتابه مستقبل الثقافة في مصر: “إن الطريق واضحة بيِّنة مستقيمة لا عوج فيها ولا التواء ، وهي واحدة فليس فيها تعددٌ؛ وهي أن نسير سيرة الأوروبيين، ونسلك طريقهم لنكون لهم أَندادًا، ولنكون شركاء لهم في الحضارة، خيرها وشرها، حلوها ومرها، وما يُحب وما يُكره، وما يُحمد منها وما يُعاب”.
بدأ هذا الانبهار والتماهي التام لدى دراسته في فرنسا (1914-1918)، وهناك التقى عالم الاجتماع الفرنسي دوركايم (1858-1917) الذي أشرف على أطروحته عن فلسفة ابن خلدون الاجتماعية.
الاتجاه الثاني: دعاة التحديث والأسلمة
كان البيروقراطي العثماني المخضرم خير الدين باشا التونسي (1820-1890) من رواد الإصلاح والتحديث في القرن التاسع عشر، واتسمت أعماله بالتركيز على شؤون الدولة والإدارة والحكم.
ولا يُذكر عصر التحديث والتنظيمات بدون الإشارة إلى أفكاره وأعماله وإصلاحاته، وقد سجل كثيرًا من أفكاره الإصلاحية في كتابه “أقوم المسالك لمعرفة أحوال الممالك”.
وتقوم حركة الإصلاح عند “خير الدين” على مبدأين:
الأول: ضرورة التجديد والاجتهاد في الشريعة الإسلامية، بما يتلاءم مع ظروف العصر وأحوال المسلمين، ويتفق مع ثوابت الشريعة، ودعا علماء الأمة إلى توسيع مفهوم السياسة الشرعية.
الثاني: ضرورة الأخذ بالمعارف وأسباب العمران الموجودة في أوروبا؛ لأنها طريق المجتمع إلى النهوض، وإذا كان هذا الطريق يتطلب تأسيس الدولة على الحرية والعدل، فإنهما أصليتان في الشريعة.
دعا خير الدين للإصلاح الشامل على أساس العدل في حكم الرعية، ورفع مظاهر الظلم والعسف من خلال حكم يقوم على الشورى، وتعدد مؤسسات الحكم، وعدم انفراد شخص مهما أوتي من قدرة وكفاءة وحسن سياسة في تصريف شؤون البلاد وإدارة أمور الرعية؛ لأن في الاستبداد والانفراد مدعاة للتفريط في الحقوق.
واشترط أن تعي الأمة مسؤولياتها، وتحسن ممارسة حريتها، وتراقب سير أمور الحكم، وتطالب بحقوقها.
ومن أبرز مآثره صوغ دستور 1861 وكان من أهم بنوده:
-
- الالتزام بمقتضيات وثيقة عهد الأمان التي صدرت سنة 1857.
-
- الفصل بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية.
-
- إنشاء “المجلس الأكبر” المكون من 60 عضواً معيّنين لمدة 5 سنوات. ومن مشمولاته وضع القوانين وتنقيحها وشرحها وتأويلها والموافقة على الأداءات ومراقبة الوزراء ودرس مشروع الميزانية.
- إنشاء شبكة من المحاكم تباشر القضاء.
كما أنشأ المدرسة الصادقية 1875 لتكون مجددة للنهج التقليدي الذي تمثّل بجامعة الزيتونة، فدُرّست اللغات والعلوم الرياضية والطبيعية بالمدرسة الصادقية.
بدوره، يمثّل الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي (1801-1873) نموذجًا هامًا للمفكرين المسلمين في زمن التحديث المبكر، خاصة بعد انتهاء مرحلة انبهاره المبكر بالحضارة الفرنسية، وكان له دوره في نهضة التعليم بمصر الحديثة.
وكان شيخ الجامع الأزهر الشيخ حسن العطار (1766-1853) قد رأى أن يرسله مع بعثة فرنسا إمامًا وواعظًا لطلاب البعثة في 1826.
وقد سجل انطباعاته المبكرة حول الحضارة الغربية في كتابه “تخليص الإبريز في تلخيص باريز”.
وقضى الطهطاوي هناك خمس سنوات، ثم رجع لمصر وافتتح مدرسة للترجمة صارت لاحقًا “مدرسة الألسن”. وأنشأ أقسامًا للعلوم الرياضية والطبيعية والإنسانية، وأصدر قرارًا بتدريس المعارف والعلوم باللغة العربية، فاستطاع أن يجمع بين الأصالة والتحديث، كما أصدر جريدة ‘الوقائع المصرية’ باللغة العربية بدلاً من التركية.
ازدهرت الحركة العلمية على يده، خاصة الترجمة من اللغات الأخرى، وقام بتعريب القانون الفرنسي كاملاً، لكن المجهود الذي بذله لم يمنع الحكام من اضطهاده مرتين ونُفي في إحداهما إلى طوكر في السودان، وظل رغم ذلك دؤوبًا في أعمال الترجمة والإنتاج الفكري.
وقد وقع نفس الأمر مع الشيخ حسين الجسر، أستاذ السيد محمد رشيد رضا، عندما قام بمزج دراسة العلوم الشرعية مع العلوم الرياضية والمعارف الطبيعية في المدرسة الوطنية الإسلامية بطرابلس لبنان، مما يسترعي التساؤل عن أسباب إجهاض هذه الجهود!
هل كان المطلوب الاقتباس من الحضارة الغربية ومحاكاتها فحسب دون الاتصال بالبعد الثقافي للأمة؟!
أراد الطهطاوي أن يقدم صيغة سابقة لخلفه ممن ينسب إليهم تحرير المرأة المصرية، فصاغ عقد زواجه ملتزمًا فيه أن تكون زوجه طالقًا
إذا تزوج عليها، ووعدها أنها إذا دامت معه على المحبة المعهودة لا يتزوج بغيرها أصلاً ولا يتمتع بالجواري أبدًا.
في مصر امتدت آثار الطهطاوي لكثير من المفكرين اللاحقين كالكواكبي والأفغاني اللذين ناديا بإصلاحات دستورية وسياسية، والإمام محمد عبده وتلميذه محمد رشيد رضا (ومنه إلى تلميذه حسن البنا).
وكان محمد عبده قد وضع برنامجًا للحزب الوطني الوطني القديم (زمن الحركة العرابية):
“هذا الحزب يخضع للجناب الخديوي العالي، وهو مصمم على تأييد سلطته مادامت أحكامه جارية على قانون العدل والشريعة حسب ما وعد به المصريين في سبتمبر 1881، وقد قرن هذا الخضوع بالعزم الأكيد على عدم عودة الاستبداد والأحكام الظالمة التي أورثت مصر الذل، والإلحاح على الحضرة الخديوية، إذ يطلبون منها الاستقامة وحسن السلوك في جميع الأمور، وهم يساعدونه قلبًا وقالبًا، كما أنهم يحذرونه من الإصغاء إلى الذين يحسّنون إليه الاستبداد والإجحاف بحقوق الأمة ونكث المواعيد التي وعد بإنجازها”.
تطور هذا الاتجاه الرئيسي في القرن العشرين نحو تقديم أطروحات ‘حداثية’ في نقد النموذج الغربي، واقتراح نماذج للتنمية المستقلة عن النموذج الرأسمالي والسيطرة الغربية، ساهم فيها عشرات المفكرون أمثال سيد قطب (الإسلام كشرط ذاتي للنهضة)؛ مالك بن نبي (الشروط الموضوعية للنهضة)؛ محمد محمد حسين ومحمد جلال كشك (نقد وتأريخ التغريب والغزو الفكري)؛ محمد أبوالقاسم حاج حمد (نقد الليبرالية والماركسية، طرح العالمية الإسلامية الثانية، منهجية المعرفة في القرآن)؛ عبد الوهاب المسيري (تفكيك الصهيونية، نقد الفكر المادي والعلمانية وطرح الخطاب الإسلامي الجديد)؛ مدرسة المعهد العالمي للفكر الإسلامي في واشنطن: إسماعيل الفاروقي، عبد الحميد أبو سليمان، طه جابر العلواني، منى أبوالفضل، جمال برزنجي، هشام الطالب (إسلامية المعرفة وأسلمة مناهج العلوم الاجتماعية، الجمع بين القراءتين، المنهجية القرآنية، قضايا العقل المسلم)؛ عادل حسين (الفكر الاقتصادي والتنموي والتغييري)؛ منير شفيق (نظرية الثورة المستمدة من الإسلام)؛ محمد إقبال (تجديد الفكر الديني)؛ علي شريعتي (سوسيولوجيا الدين، نقد الفكر الغربي)؛ حامد ربيع (الفكر السياسي الإسلامي)؛ محمد عبد الله دراز وعبد الحليم محمود ورشدي فكّار (دراسات الدين والوحي والفلسفة)؛ علي عزت بيغوفيتش (نقد الفكر المادي وطرح الإسلام إنسانيًا)؛ وهناك عشرات أخرى من المشروعات الفكرية التي تطورت في سياق الاحتكاك بالغرب أو التعرض للتحدي الغربي أكاديميًا أو فكريًا أو سياسيًا أو أيديولوجيًا.
ربما كان سيد قطب أبرز هؤلاء المفكرين في النصف الثاني من القرن العشرين، نظرًا لتميز تجربته الفكرية والشخصية، بجانب تعليمه العربي الإسلامي التقليدي.
كان سيد قطب ناقدًا أدبيًا ذائعًا ومفكرًا عصريًا بامتياز يمتلك أدوات التنظير الحداثي والأيديولوجي، وصاحب بيان ضخم العبارة والإيحاءات والتضمينات والرموز.
بعد مروره بتجربة ليبرالية قصيرة في الثلاثينات، اكتشف سيد قطب مبكرًا خطورة النموذجين الرأسمالي والشيوعي على الشرق والإنسانية، فكتب “معركة الإسلام والرأسمالية” محذرًا من ظلم الرأسمالية ودورها في دفع المستضعفين والنخب نحو الشيوعية.
ووجد في “العدالة الاجتماعية في الإسلام” حلاً للمسألة الاجتماعية.
وفي الأربعينات، قاد حركة فكرية استقطبت موضوعاتها ومقولاتها شباب الحركة الوطنية المصرية بمن فيهم ضباط حركة 23 يوليو 1952، بل كان ملهمًا فكريًا لهم في وقت مبكر من هذه الحركة. وكان كثير من أفكاره قد وجد طريقه إلى برنامج الحركة الوطنية المصرية.
اتضحت أفكاره إزاء الحضارة الغربية في أعماله، خاصة “خصائص التصور الإسلامي ومقوماته”، واعتبر الإسلام شرطًا أساسيًا للحضارة، ورفض تنحية الدين من المجال العام، وانتقد “الفصام النكد” بين الدين والحياة، وقال: “كم أمقت هذه الحضارة الأوروبية وأحتقرها، وأرثي للإنسانية التي خدعت بها، فأوردتها التهلكة.. بريق وضجيج، ومتاع حسي غليظ، وفي هذه الضجة تختنق الروح، ويخفت الضمير، وتنطلق الغرائز والحواس، سكرانة معربدة تهيجها الأنوار الحمراء، كالديكة والثيران في بلاد الأسبان! ما قيمة آلات واختراعات وكشوف لا تحقق للنفس سعادتها ولا تهب للضمير اطمئنانه، ولا تستمتع فيها الإنسانية حتى بالراحة من الضجر والقلق والعربدة والضيق؟”.
ثنائية الحضارة والمدنية
رغم كل ما سبق، فرّق سيد قطب والمفكرون في هذا الاتجاه بين “مدنية” أوروبا و”حضارة” أوروبا؛ فالأولى تعنى بالعلوم الطبيعية وفنون الصناعة والإنتاج والابتكار والارتقاء بالتعليم والاقتصاد والإدارة والصحة العامة والنهوض بالقطاعات الاجتماعية المحرومة، خاصة المرأة، ومكافحة الفقر والجهل والتخلف والأخذ بكافة أسباب القوة المادية بجانب القوة المعنوية؛ لكن بدون التورط في الرؤية الكونية الأوروبية ومقوماتها من فلسفات حداثية وتفكير مادي وأخلاق ذرائعية ونبذ أو ترذيل النبوة وانصراف عن الروحانيات وإفراط في التحرر والملذات والعنف وتغول على الأمم الضعيفة.
وظن بعض هؤلاء المفكرين أن مظاهر المدنية الأوروبية يمكن أن تخلو من الفرضيات الفلسفية الأساسية للحضارة الأوروبية وتصوراتها ورؤيتها الكونية أو تنفصل عنها.
لكن جيلاً معاصرًا من المفكرين أدرك استحالة هذا الانفصال بين مقدمات الحضارة الأوروبية أو فرضياتها (التحتية) الكامنة وبين مدنيتها أو منتجاتها المدنية و”العلمية”. وتمكنوا من رصد أنماط الانحراف العقدي والأخلاقي في صميم العالمية الأوروبية المهيمنة على العالم؛ فوضعوا أيديهم على أشكال من ‘الشرك’ و‘الباطنية’ و‘الحلول’ والمرجعية الذاتية وسيولة المرجعية التي تؤدي إلى فساد العمران والاجتماع والحضارة، وممارسات كالاستعمار والاستعباد والعنصرية والاستغلال والاحتكار والإبادة، وارتباط تطور التجربة الأوروبية جذريًا بالمشروع الإمبريالي الاستيطاني الإحلالي بمختلف أنحاء الأرض.
يلاحظ أن تجارب هؤلاء المفكرين قد اتخذت مسارات شتى بحيث يصعب تعميم نمط معين لتوصيفها دون غيره؛ فمنهم من بدأ تجربته الفكرية منبهرًا بالغرب والثقافة الغربية إلى درجة التماهي والتقمص شبه التام.
ومنهم من تعاطى مع تجربته الأكاديمية في الغرب بحذر وتدرج حتى وصل إلى الصيغة التي قدم بها رؤيته للغرب. ومنهم من تعاطى مع الغرب من خلال الأيديولوجيات غربية المنشأ التي تبنتها حركات وأحزاب سياسية في المشرق، وأتيح له أن يستكشف نقائضها ومغالطاتها، خاصة من خلال مبدأ استحالة نقل الأنساق أو النماذج أو التجارب الاجتماعية بين سياقات تاريخية وثقافية متغايرة وربما متناقضة بطبيعتها؛ ومن ثم سعى لاكتشاف النموذج الاجتماعي السياسي الفاعل في الاجتماع الإسلامي.
لكن كثيرًا من هؤلاء المفكرين انتقلوا مبكرًا من الانبهار والتماهي إلى استعادة التوازن النفسي والحضاري، وتوصلوا إلى إمكانية الالتقاء في مساحات المشترك الإنساني القائم على الحكمة مثلاً، واكتشفوا خصوصيات شعوبهم وثقافاتهم، التي ينبغي اعتبارها لدى أي محاولة للتجديد والاقتباس.
لا يخفى أن هناك تقاطعات أو مساحات مشتركة بين بعض هذه المشروعات الفكرية، نظرًا لأنه من الطبيعي أن يتصدى أكثر من مفكر أو أكثر من مؤسسة بحثية لذات القضايا الراهنة والتحديات المطروحة على الأمة، فتتواكب أو تتزامن الاهتمامات والاجتهادات بل وتتقاطع فيما توصلت إليه من اقتناعات ونتائج.
خريطة الجهود الفكرية والإصلاحية
منذ بدأ التفاعل بين المفكرين المسلمين والغرب في القرن التاسع عشر وحتى مؤخرًا، توزعت جهودهم الفكرية وغطت معالجاتهم مجالات هامة متعددة، بل شملت معظم (إن لم يكن كافة) المجالات الضرورية لإنجاز عملية التحديث والنهوض بالأمة في وجه التحديات المتواصلة.
في هذا السياق، يمكن تصنيف هذه الجهود في عدة محاور أو مسارات أو مجالات:
- الإدارة والتقنين وإصلاح الحكم
منذ البداية شغل رجال الإصلاح بشؤون الدولة ومسائل تحديث الإدارة وإصلاح الحكم، والأخذ بما اتخذه الغرب من دساتير وقوانين وبرلمانات وحريات ونظم وإصلاحات ومؤسسات، وإقامة العدل وتحسين الموارد البشرية والاقتصادية وضبط المالية العامة وتحديث الجيوش، وغير ذلك.
وقد أمكن وضع هذه الأمور موضع التنفيذ منذ عصر التنظيمات، وتراكم حولها ميراث ناضج من الخبرات والممارسات والمؤلفات التي يمكن الاستعانة بها أو البناء عليها.
الإنتاج الفكري والأكاديمي
على مدى قرنين، تعرض العالم الإسلامي لموجة عاتية من التبشير والاستشراق والغزو الفكري، التي حاولت تقويض السردية التوحيدية في أسسها ومسلماتها والتشكيك بكل ما هو مقدس وكل ما تجتمع الأمة على الإيمان به.
وقد تصدى العلماء والمفكرون لهذه الموجة بما يعرف بـ”تيار الدفاع الإسلامي” الذي تولى الرد عليها، واستعاد للأمة توازنها وثقتها بذاتها.
ثم توالت المشروعات الفكرية التي أعادت تأسيس مناهج العلوم الإسلامية والعربية بشكل أكاديمي حديث.
وقدم المفكرون المسلمون إسهامات هامة في دراسة وتفكيك التجربة الغربية والظاهرة الاستعمارية.
وتراكمَ إنتاج فكري وتجديدي يكفي لبناء منظومة تعليمية راقية في العلوم الاجتماعية والإنسانيات تواكب ما يشهده العالم من تطور في هذه المجالات، رغم غياب معظم هذا الإنتاج عن مناهج التعليم الرسمية
نقل العلوم والتقنيات
منذ قرنين وحتى اليوم، لم تتوقف البعثات العلمية إلى دول الغرب الصناعية لدراسة مختلف المعارف، خاصة العلوم الطبيعية وتقنياتها وفنون الهندسة والصناعة والأبحاث والتطوير.
وحصل علماء المسلمين على أرفع الدرجات العلمية في مختلف التخصصات. وأصبح لدى الأمة الكفاية من العلماء والباحثين القادرين على استيعاب وتطوير أرقى التقنيات.
لكن ذلك لم يحدث لأن النهوض العلمي والتقني عملية “تاريخية” وليس عملية “ذهنية”؛ أي يحتاج إلى الاستقلال وحرية القرار والإرادة القومية وتراكم الخبرات وتوافر المواد الخام وانفتاح أسواق الأمة أمام إنتاجها وحماية الإنتاج المحلي من الإنتاج المستورد حتى يستطيع المنافسة.
خبرات النضال والتحرر:
ساعدت المشروعات الفكرية في تكوين وعي الأمة بذاتها وإنضاجها لخوض مرحلة التحرر الوطني من الاستعمار والسيطرة الأوروبية المباشرة، ومع بداية عقد السبعينات من القرن الماضي، خرجت آخر قوات للاستعمار وإدارته من جميع بلاد العرب (عدا فلسطين بالطبع). لكن السيطرة الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية ما زالت قائمة، بل وتفاقمت في العقود الأربعة الأخيرة. وتواطأت النخب الحاكمة التي خلفت الإدارة الاستعمارية على تكريس واستمرار التبعية، وأصبحت هذه النخب عقبة كأداء في سبيل النهوض والتحرر الكامل.
على سبيل الخاتمة:
يمكن القول بأن الجهود الإصلاحية والمشروعات الفكرية قد استكملت معظم الشروط اللازمة لإنجاز عملية التحديث والنهوض في العالم الإسلامي لو تحقق له الاستقلال الكامل وحرية الإرادة والإفلات من نير التبعية، وأن هذه الجهود والأفكار قد غطت مختلف مناحي النهوض الفكرية والعملية.
لكن هناك عدد من العقبات التي حالت حتى الآن دون إنجاز ذلك:
-
- – استمرار الاختراق الغربي للعالم الإسلامي والهيمنة الإمبريالية على قراره ومقدراته ونخبه الحاكمة.
-
- – فساد النخب الحاكمة وخضوعها للدول الإمبريالية الكبرى وتواطؤها ضد الأمة وشعوبها.
- – إخفاق الحركات الاجتماعية الراهنة، خاصة الحركات الإسلامية، في تعبئة الأمة نحو التغيير والتحولات التاريخية اللازمة للتحرر من السيطرة الغربية والنخب الفاسدة لأسباب عديدة، منها إهمال ما سلف من جهود إصلاحية وفكرية، وتجفيف الفكر والاجتهاد في صفوفها، واستبداد القلة بقراراتها ومصائرها، وانفصالها عن جماهير الأمة.