عقد مركز رؤيا للبحوث والدراسات ندوته الشهرية عبر تطبيق الزوم تحت عنوان: (المتغيرات السياسية العربية والدولية في عالم ما بعد كورونا)، يوم الخميس 7/رمضان/1441ه الموافق 30/أبريل/2020م، وتعد هذه الندوة ضمن سلسلة من الندوات عزم المركز على عقدها خلال المرحلة الراهنة التي تمر بها أمتنا المسلمة والعالم، وهذه السلسلة تتعلق بالخطاب العام حول كورونا، وندوة المتغيرات السياسية كانت هي الثالثة من حيث ترتيبها، وقد شارك فيها عدد من الأساتذة والمفكرين والمهتمين بالشأن السياسي بشقية الفكري والحركي، وأدار الندوة فضيلة الشيخ الدكتور هشام برغش المدير التنفيذي لمركز رؤيا للبحوث والدراسات، وتضمن برنامجها مداخلة تمهيدية ثم ورقة رئيسة أعقبها نقاش من قبل للحضور.
أولاً: المداخلة التمهيدية للندوة:
كانت المداخلة التمهيدية لفضيلة الدكتور محمد هشام راغب، وتضمنت الآتي:
(1) كثير من المراقبين يرى أن ما بعد كورونا مختلف تماماً عما قبله، وهذا دال على أن كورونا ليست أزمة عابرة، بل سيكون تأثيرها سلسلة من الأزمات، ويظهر أن العالم لن يعود بسهولة إلى ما كان عليه قبل كورونا، ومن مشاهد الأزمة المشهد الاقتصادي، فهو مشهد ملازم وقرين للمشهد السياسي، والأزمة الاقتصادية الحالية ربما ستكون غير مسبوقة على الأقل منذ قرن، وهذا ينذر بتداعيات كبيرة ومتسارعة على مستويات عدة.
(2) هناك من يرى أن الأزمة الاقتصادية سيصاحبها تغيرات سياسية، وخاصة في الدول التي ستتأثر بشكل مباشر من هذه الأزمة، بل ربما تؤدي إلى حالة من القمع والاضطرابات، ومنطلق كثير من الحكام التحذير من الفوضى التي قد تعم بعض البلاد.
(3) بالرغم من أن جائحة كورونا هي بحد ذاتها أزمة عالمية إلا أنها لم تواجه بشكل عالمي، فمستوى التعاون الدولي مستوى متدنٍ للغاية، بل وصل الأمر إلى حالات من النهب الدولي لبعض الأجهزة الطبية، وحصل ذلك داخل الولايات المتحدة، فجرى تنافس بين الولايات في المزايدة على أسعار بعض المستلزمات والمعدات الطبية، والمقصود أن التنسيق داخل الدولة الواحدة مفقود وفي حالة من الارتباك الشديد، فضلاً عن فقدانه بين الدول، بل رأينا في اجتماع الدول الصناعي الكبرى فشلهم في إصدار بيان واحد مشترك، وكان السبب هزلياً جداً، وهو أن الولايات المتحدة أصرت أن يتضمن البيان الختامي توصيفاً لفايروس كورونا بأنه فايروس ووهان.
(4) في الحالة القومية والوطنية، وهي حالة تمس نحن العرب والمسلمين، بحكم ما تتصف به هذه البلدان من القمع والاستبداد، فإنها مرشحة بسبب الأزمة إلى زيادة في السياسات القمعية، وقد تستلهم في هذا النموذج الصيني في مواجهة أزمة كورونا، هذا من زاوية، ومن زاوية أخرى هناك أمثلة لأنظمة ديمقراطية في العالم قد تحول بعضها إلى نظام قمعي سلطوي، والمثال السافر هنا دولة المجر بحيث يحكمها الآن نظام استبدادي أمام أعين الاتحاد الأوربي دون أن يحرك ساكناً، والشاهد أن المتغيرات هائلة وكبيرة جداً على المستوى القومي وعلى المستوى الدولي.
ثانياً: الورقة الرئيسة في الندوة:
الورقة الرئيسة في الندوة للأستاذ الدكتور سيف الدين عبدالفتاح حول المتغيرات السياسية والدولية فيما بعد كورونا، وأبرز أفكارها فيما يأتي:
(1) بالرغم من الآثار السلبية التي تتركها الجوائح أمثال جائحة كورونا إلا أنها من جهة أخرى تُشكر من حيث إتاحتها للفرص في النظر إلى تنبيهاتها وإشاراتها التي يتطلب الوقوف عندها؛ ذلك أن البشرية عاشت حياتها ولا تزال وفق قواعد وقوانين بشرية وضعية، ومن المؤسف أن بعض هذه القواعد والقوانين على مستوى العلاقات الدولية أو العلاقات السياسية الإقليمية أو الداخلية هي قواعد من صنع الغالبين سواء غلبوا بالسلطة أو غلبوا بالمال، وأياً كان فالكل مطالب بتدبر تلك المعاني والمغازي التي ترتبط بهذه الجائحة خاصة إذا تعلق الأمر بالشأن السياسي والدولي.
(2) ومن المناسب تذكر موضوع كان قد بُحث مراراً، تظهر الحاجة إلى إبرازه في كل أزمة تطرأ في عالم السياسة، وهو إعادة تعريف السياسي، ذلك أن المنعطفات الكبرى التي تحدث في العالم، وخاصة في تلك المناطق التي تمثل عقداً استراتيجية، إنما تؤثر تأثيراً كبيراً على ما يمكن تسميته بإعادة تعريف السياسي، وفي كل مرة يُتعرض لهذه المسألة يكون اللياذ بالمفهوم الإسلامي الأصيل الذي يعيد الاعتبار لمفهوم السياسة، هذا المفهوم الإسلامي الذي يتأسس على قاعدة الإصلاح والصلاحية والمصلحة المعتبرة، ومن المدهش رؤية هذا التعريف مدوناً في المعاجم اللغوية العربية، ففي لسان العرب لابن منظور جاء تعريف السياسة بأنها: (القيام على الأمر بما يصلحه).
وهذا التعريف يؤكد من خلال عناصره المكونة له على جملة من الأفعال الحضارية المهمة:
-أول عناصره وهو (القيام)، وفعل القيام دال على همة ونشاط ونية وعزم وإرادة، فليس هناك قيام إلا ويعقبه نشاط وفعل.
-العنصر الثاني وهو (الأمر)، والأمر هنا يتعلق بالسلطة والهيبة والنفاذ بما يقتضيه معنى الأمر، كما أن الأمر يشير إلى الشؤون والأحوال التي تمثل معاش الناس وما يرتبط به من علاقات ومؤسسات ينشطون من خلالها ويتفاعلون في سياقاتها، وهنا فإن الجمع بين الأمرين بين أمر الهيبة والسلطة وأمر الشأن العام والمجال العام المتعلق بعموم الناس والإنسانية بحيث يشمل العلاقات السياسية الداخلية والعلاقات السياسية الخارجية والدولية، هو أمر في غاية الأهمية؛ لأنه يعبر عن شمول الساحة والمساحة التي تتعلق بمفهوم السياسة.
-العنصر الثالث (بما)، وما هنا ليس مجرد حرف يُتعامل معه بالإهمال والإغفال، وإنما هو تعبير عن علم كبير هو علم الوسائل، وعلم الوسائل مرتبط لزوماً بعلوم المقاصد؛ ذلك أن علم الوسائل من شأنه التعلق بالوسائل والأدوات والمؤسسات والقواعد والإجراءات والقوانين والأبنية، ومن ثم فإن (بما) هذه هي تعبير عن وصل ذهبي يتعلق بعالم الوسائل والأدوات.
-العنصر الرابع (يصلحه)، ومن محاسن الرؤية الإسلامية في دائرة مفاهيمها أنها ترتبط بالغاية والمقصد والهدف تحديداً وتعييناً وتأكيداً، وهنا يظهر المقصد في مفهوم السياسة مرتبط (بما يصلحه)، وصلح عائلة كلمات مشتقة، هي ذات نسب ممتد من مصلحة ومصلح ومصالح وصلاحية وتصالح، وقدرة على استدعاء كل تلك المشتقات التي تتعلق بفعل الصلاح والإصلاح.
إن مسألة إعادة تعريف السياسي لا تقف عند حدود الحركة والفعل السياسي، بل هي مسألة مرتبطة أساساً بالتصورات التي تتعلق بمعنى السياسة وما يتبعه من معانٍ وعلاقات الإنسان وعلاقاته بالكون، ومن عظيم مفاهيم الرؤية الإسلامية أيضاً أن تجدها موصولة مشدودة إلى رؤية للعالم مستندة إلى قاعدة التوحيد، فالتوحيد نسق معرفي وحياتي يتعلق بوعي وسعي الإنسان وحركته في حياته والكون الذي يعيش فيه، ومن المهم الإشارة والتنبيه في هذا السياق على أن مسألة إعادة تعريف السياسي تؤكد على أمرين: الأول متعلق بالعوار والعيوب والمساوئ التي أنتجها هذا النظام الشائه الذي نعيش فيه. والثاني متعلق بمنظومة إصلاح وتغيير يجب أن يقوم عليها الناس بكل قوة؛ لأن بقاء هذه المنظومة بمكوناته الهيكلية سواء في العلاقات السياسية الدولية والداخلية سيفضي إلى مزيد من الأزمات المتتالية والمتوالية أزمة بعد أزمة.
(3) ومن إشكاليات إدارة الأزمات أن الناس كثيراً ما يتعاملون مع الأزمات في إطار تعايش معها وليس في إطار وضع حلول لها والقيام بفعل التغيير المطلوب وموجباته، ويلزم هنا التمييز بين نسقين من التعامل، نسق تجاوز الأزمة ونسق حل الأزمة، وبينهما بون شاسع، فالذي ينتشر بين الناس هو تجاوز الأزمات، والتجاوز هنا معناه التكيف معها، بحيث تظل الأزمات قائمة وموجودة ومحفوظة تفعل فعلها يمكن أن تتوارى بعض الوقت حتى تظهر مرة أخرى في أشكال وتجليات أخرى، بخلاف النظر إلى الأزمة في سياق البحث عن حل جذري لها.
وهذا المعنى الذي يرتبط بكيفية التعامل والتعاطي مع الأزمات والنسق الكلي الذي تسير فيه العلاقات السياسية بشقيها الدولي والداخلي، هذا المعنى ليس جديداً ولا مستحدثاً، فقد عبر عنه علماء من الغرب منذ عقود، حين أكدوا على معنى الفطرة الإنسانية الذي يلزم استحضاره في السياسة وعلاقاتها المختلفة والمتنوعة، وهو يدفع باتجاه إعادة النظر في البنية السياسية وتكويناتها واختلالاتها والعلاقات التي تتأسس عليها.
ومن هؤلاء العلماء الذين أكدوا على هذا المعنى عالم فرنس متخصص بالاجتماع والسياسة وهو إدجار موران، حيث أشار إلى أن العالم تطور تطوراً معلوماتياً وعولمياً، فيقول:
“ألا تتوفر لنا شبكات معلومات واتصالات لا تحصى فورية وعالمية لم تعرف لها الإنسانية مثيلاً؟ أليست لدينا معرفة وعلم بالإنسان والمجتمع والتاريخ نمت نمواً خارقاً؟ ألا تتوفر لنا تحليلات نفسية ومجتمعية تسمح بتمييز الواقعي والحقيقي عن الإيهام والأسطورة والأيديولوجية؟ رغم كل ذلك فإنه في هذه الحالة لا تسهم دروب نمو الإعلام والاتصال والمعرفة والعلم في الكشف عن تضليلنا، فضلاً عن عدم قيامها بتنويرنا؟ أترى ما يفقأ العيون؟ أتدرك ما نرى؟ وما غزا الأفق فعلاً؟ أنتصور تصوراً مضبوطاً ما ندركه؟ ألسنا في مثل عمى أسلافنا بل أسوأ؟ أليس هذا ما يحدث لنا: عدم معرفة ما يحدث لنا؟”
إن هذه الإشارة التي يؤكد عليها موران جزء لا يتجزأ من معضلة السياسي، ولا يمكن النظر إلى العالم وهذا الزمان دون أن نعيد النظر في البعد السياسي، وقديماً قالوا: (الناس على شاكلة ملوكهم)، ولكن اليعقوبي عدَّل ذلك وقال: (الناس على شاكلة زمانهم)، ليؤكد أن السلطة يمكن أن تكون فاعلة ولكن هناك عوامل أخرى تفعل في هذا الأمر فعلها كذلك، والمشكلة الكبرى أن السياسة ذاتها ما زالت متلعثمة مفصولة عن بعضها وخداعة إلى حد كبير، صحيح لا يمكن عزل غير السياسي عن السياسي، ولكن لا يمكن في الوقت نفسه رد كل شيء إلى السياسي، فكل ما هو غير سياسي يتضمن على الأقل بعداً سياسياً دائماً، وعلى العكس فإن كل ما هو سياسي يتضمن أيضاً بعداً غير سياسي دائماً، ولكن من المهم التأكيد بحكم سياق إعادة تعريف السياسي على إعادة النظر في السياسة وتجلياتها على المستويات المختلفة والمتعددة دولياً وداخلياً.
(4) كورونا كشف للجميع من خلال إشاراته وتنبيهاته عن سوءات وعيوب المنظومة الدولية والعلاقات الدولية والعلاقات السياسية الداخلية، وفضح كثيراً من نظم الحكم، حتى تلك الدول التي وُضعت ووَضعت نفسها في خانات التقدم، فإنها لم تسلم بأي حال من الأحوال من تلك الإشارات والتنبيهات التي أكدها كورونا، ومنها ما يتعلق بطبيعة النظر إلى الإنسان والإنسانية، فإذا كانت السياسة هي معاش الناس في الكون والحياة وفي علاقاتهم وتفاعلاتهم ونشاطاتهم، فإن كورونا كشف وفضح تشوهات هذه العلاقات.
ولكن من الإشارات المهمة التي نبه عليه وكشفها أنه ميز في هذا العالم بين طائفتين، الأولى فاعلة والثانية منتظرة، فقد أظهر من هم الذين يفعلون في الكون، ومن هم الذين ينتظرون، أو من هم في نطاق المفعولية، ومن الظواهر السلبية التي كشفها كورونا فائض الكلام والتعميمات والمسائل التي تتعلق بالحديث عن الأثر الذي يمكن أن يتركه كورونا والانقلاب العالمي القادم وكورونا البطل الذي كشف كل شيء وأن هناك قوى جديدة وصعوداً صينياً عالمياً وتبدلاً في القوى الدولية، وهذه الحالة لا يمكن معها إدراك المغزى الذي يتعلق بهذه الإشارات والتنبيهات الكورونية.
وفي كل هذا الخضم من المقالات والتحليلات الفائضة لا أحد يتكلم عن فاعلية عالم المسلمين لا المسلمون ولا غيرهم، ولا أحد يستحضر المعنى الكلي القيمي المتعلق بالمهمة والوظيفة الكبرى المنوطة بالأمة المسلمة وهي وظيفة الشهادة على العالمين (لتكونوا شهداء على الناس)، وهذه الشهادة الغائبة إنما تشير إلى غياب القدرة والفعل والفاعلية في عالم المسلمين في عمليات التغيير القادمة، وكأن هذه العمليات تسري علينا، فالمسلمون موضوع وليسوا فاعلين، فهم في حالة المفعولية، وحتى لم يكونوا في طاقتهم وفعلهم مفعولاً لأجله، بل هم مفعول به ومفعول مطلق، وهي المعضلة الكبرى التي تحدث عنها مالك بن نبي (عالم الفاعلية عند المسلمين).
(5) من الأمور التي يحسن التأكيد عليها ما يرتبط بتداعيات هذه الأزمة، ويمكن الإشارة إلى جملة منها:
أولاً: في سياق التشخيص للأزمة فإن هناك من يرى أن تأثيرها الصحي سيزول مع الزمن، وسوف تتجاوز البشرية هذا الخطر كما تجاوزت أوبئة وطواعين وحروباً سابقة وأزمات مرت، ولكن الأثر الاجتماعي والسياسي والاقتصادي .. إلخ سيبقى سنوات، وربما عقوداً، وعالم المسلمين في حالة من الغياب بعيداً عن التأثير في سياقات الأنظمة العالمية المختلفة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، في الوقت الذي تنضوي فيه الرؤية الإسلامية على بنية وفكر عميق فيما يتعلق بالإصلاح الجذري والتغيير الحضاري، وإذا كان التغيير قادماً فماذا أعد له المسلمون؟ هذا السؤال هو الذي يلزم الالتفات إليه والاهتمام به.
ثانياً: البعض يشير إلى سيناريوهات مستقبلية لأزمة كورونا، ويحاول بشكل من الأشكال أن يتصور هذه السيناريوهات سواء على المدى القريب أو المدى البعيد فيما لو استمرت الأزمة، وهذه التصورات لا إشكال فيها من حيث طبيعة التعاطي مع الأزمة، ولكن يلزم أن يكون المسلمين متدبرين وجهة التغيير وبوصلته، فما هو التغيير المنشود والمقصود أساساً الذي يصب في إطار فاعلية المسلمين وحركتهم؟
ثالثاً: ومن تداعيات هذه الأزمة أثارها على بنية النظام الدولي ووحداته الفاعلة، فبالرغم من أن كورونا يشير في تنبيهاته إلى ضرورة النظر إلى مسألة وجود الجنس البشري ككتلة واحدة، وأن سفينة الأرض يجب أن تنقذ إنقاذاً كاملاً من الاستغلال والجور، إلا أن الغالب في هذه الأزمة هو الحديث عن تعزيز دور الدولة الوطنية والقومية، والدول بدأت بالفعل تغلق حدودها من جراء هذا الوباء وانغلقت على نفسها تهتم بشؤونها.
وهي معضلة تصورية من حيث أصلها، فالغرب ذاته الذي أحدث نموذج الدولة القومية هو نفسه حينما أراد تطوير هذا النموذج طوره إلى حالة من حالات العولمة التي تؤكد على غلبة عملية التنميط للسلوك في العالم على شاكلة نمط الحياة داخل الحضارة الغربية، وهو نمط حين أراد أن يخرج من دائرة الوطنية إلى دائرة العولمة لم يفقد أبداً مفهوم السيطرة والتحكم والصراع والقوة، ولذلك السؤال الأبرز الآن هل سيتعزز دور الدولة الوطنية وسيسود على حساب منظومات أخرى؟ فهناك من يتحدث عن مصير الاتحاد الأوربي مثلاً وغيره من المنظومات.
رابعاً: من تداعيات الأزمة أن كورونا كشف عن هشاشة الكيانات السياسية في القوى الفاعلة في بنية النظام الدولي، بل فضح ممارسات مشينة تعبر عن ابتزاز في علاقاته بشكل يصلح أن يوصف بكونه (لحظة نماذجية) حسب تعبير الدكتور عبد الوهاب المسيري، وهذه اللحظة النماذجية تكشف عن الرؤية للإنسان والنظام والعلاقات والكون والحياة، وفي سياق آخر تحدث البعض عن النظم السياسية وتغيرها في إطار المنظومة الدولية، وهناك من يرى أن الصين قادمة على أنها دولة كونية ستكون في مقدمة الدول الأخرى على قاعدة التداول، وهذا الكلام ليس دقيقاً، فالنظم لا تغيير هكذا فجأة، وإنما هي مرتبطة بمنظومة سننية واطراد سنني في الحياة واطراد عملية التغيير والعوامل الفاعلة فيه والأسباب الدافعة له، وإذا كانت هناك تغيرات وتحولات سياسية فإنها لن تكون كبيرة على مستوى التوقعات وإنما تتسم بكونها طفيفة صغيرة.
خامساً: المشهد الكوروني أظهر لنا غياب المنظومة الدولية التي ما أنشئت في الأصل إلا للأمن الجماعي بزعمهم، وهذا المشهد لا يختلف اثنان في أنه يشكل خطراً على الأمن الجماعي الدولي والإقليمي، ولكن لم يُر أي دور إيجابي لهذه المنظومة ولا كذلك المنظمات الأخرى كمنظمة الصحة العالمية التي لا يظهر عملها فيما يبدو إلا في إطار توزيع صكوك غفران وبراءة عن هذه الدولة أو تلك في سياق مصالح دنيئة يحرص عليها بعض موظفيها في تلك الدول مع أنظمتها.
سادساً: ومن تداعيات هذه الأزمة أيضاً أثرها على السياسات الداخلية في الدول الوطنية، وخاصة ذات السياسات الاستبدادية المستمرة فيها، فهذه النظم لا تعرف للإنسانية معنى وإنما تعرف فقط كما يقول الكواكبي (التمجد) فإن أرباب هذه النظم الاستبدادية حريصون على التلبس بالمجد بأفعال لم يقوموا بها أصلاً، والخشية أن تكون مرحلة ما بعد كورونا هي مرحلة تمدد الاستبداد وتغوله بصورة أكبر، حيث تزداد وتتسع السياسات القمعية كما هو الحال في النظام المصري الذي لا يزال مستمراً في سياسات الاعتقال وخطاب الكراهية وفرق تسد.
والإشارة المهمة في ختام الكلمة أن النظر إلى ما بعد كورونا لا يكون إلى التغيير القادم فحسب، بل يكون إلى بوصلته ووجهته المنشودة التي تجعل للمسلمين همّاً ونظراً وتأكيداً على جانب فاعليتهم في العالم.
ثالثاً: اتجاهات النقاش:
تركزت اتجاهات النقاش حول جملة من الأمور التي أثارها موضوع الندوة، ويمكن إجمالها في الآتي:
أولاً: طرح تساؤلات حول الخطوات العملية في جعل عالم المسلمين مؤثراً وفاعلاً على المستوى الحضاري بمختلف مكوناته، وكيفية التجسير بين التأصيل النظري والواقع الإنساني وخاصة السياسي في سياق الوسائل والأدوات، وأثير التساؤل حول النموذج التركي ونهضته المعاصرة في مرحلة ما بعد كورونا وفيما إذا كان قادراً على مواصلة هذه النهضة في ضوء التحديات الكبيرة التي يواجهها نظامه السياسي.
ثانياً: تركز حول طرح مشروع سني حضاري لعالم المسلمين، والتأكيد على أهمية النظر إلى الأمة بعيداً عن النظم السياسية الحاكمة فيها التي أضحت عالة عليها، وهذا يستدعي التحرك على مستوى الأمة باتجاه وضع مشروع إسلامي سني يقف على حقيقة المشروعات المعادية لها، وقوام هذا المشروع يتمثل بوضع تصورات له تراعى فيه الأبعاد المنهجية والاستراتيجية والسياسية والاقتصادية والإعلامية .. وغيرها، والمسارعة بإيجاد كيان قائد من علماء الأمة ومفكريها ليس فقط في سياق توجيهي، بل في سياق قيادي على شاكلة أهل الحل والعقد في التاريخ الإسلامي، والسعي إلى تجاوز كل ما هو موجود من تحزبات وتجمعات ولافتات إلى تيار عام للأمة.
ثالثاً: وكانت الإجابة مركزة على أهمية النظر إلى الحلول الواقعية على وفق المشروع الحضاري السني، وكيف يمكن أن يجد له طريقاً في مواجهة المشاريع المتدافعة في المنطقة، ولكن لا ينبغي التغافل عن كون هذه المشاريع المتدافعة تراعي في الأصل مصالحها الاستراتيجية التي تحاول تحقيقها بشكل من الأشكال، وهذه المنطقة هي منطقة عقدة استراتيجية كما يقول علماء الاستراتيجية، فهذه المنطقة بموجب هذه العقدة إما أن تكون حاكمة أو محكومة، ومن المهم أن تتدبر الأمة حالها ووضعها وتستعيد المكانة اللائقة بها مستثمرة الأدوات والإمكانات الموجودة، وتحاول أن توجد الوسائل والمؤسسات المفقودة لبلوغ الهدف المقصود والمنشود.
ومن سبل الحل الجاد والجذري أن تؤسس الأمة عقلاً استراتيجياً تتعلق به مهمات وتحالفات وقدرات تستثمر في مواجهة هذه المشاريع المتدافعة في المنقطة، وأمر هذه الأمة لا يقوم إلا بمؤسسة لهذا العقل الاستراتيجي مرتبطة بها وتعمل لأجلها، ولكن إيجاد هذه المؤسسة لا بد أن يكون بحق مراعياً الشروط والقيود التي تجعل هذه المؤسسة فاعلة وباقية، وهذا يتطلب وضع تصور عميق عنها ودراسات وأوراق بحثية معمقة تؤكد على أهمية دورها والكيفية التي من خلالها تستثمر الطاقات والقدرات في الأمة، والخطوة الأساسية والرئيسة في هذا الاتجاه متعلقة بالشروع العملي في إيجاد هذه المؤسسة؛ لئلا تبقى الأمة ونخبها في دائرة المبادرات والأفكار، فالمسألة متعلقة هنا بوعي وسعي، والسعي له سننه وقواعده الأساسية الضامنة لفاعليته.
وفيما يتعلق بالنموذج التركي وتقويمه في ظل هذه الأزمة، فهو من النماذج المهمة التي يمكن النظر إليها على أنه إحدى الروافع الأساسية في الأمة، وكشأن غيره فإن هذا النموذج سيتأثر بالأزمة، ولكن الهم المرتبط به هو ضمان بقائه في دائرة الفعل الحضاري، وعندها يلزم أن يكون مراعياً لشروط وسنن الاستمرار والبقاء بل والنماء والارتقاء، ولا شك أن شخصية قيادية يتمتع بها هذا النموذج يعد أمراً مهماً ولكن لا يكفي لضمان استمرار نجاحه، بل يتطلب أن يوجد من الوسائل والأدوات الضامنة لبقائه في دائرة الفاعلية والتأثير.