استطلاعاتمراجعات

قراءة في أحدث مسح عالمي للتهديدات المتصورة في ٣٨ دولة

رغم الفنبلة الكورية ..تنظيم الدولة في الصدارة         الصورة أ ف ب

 أجرى الاستطلاع مركز بيو للدراسات، وهو مركز بحثي أمريكي مرموق في واشنطن، يعمل في مجال أبحاث الشعوب والنشر. عينات المسح نحو ١٠٠٠ شخص من كل دولة، وهامش الخطأ يتراوح ما بين ٣-٥ ٪ في دول المسح. أسلوب إجراء المسح وتفاصيله منشورة على موقع المركز[1].

تنبيه واجب:

دقة وموثوقية المسح لا يمكن تأكيدها بطبيعة الحال، لكن هذه القراءة تفترض أن معطيات المسح صحيحة.

التهديد الأخطر

نتائج المسح الدولي وضعت تنظيم الدولة كأعلى تهديد متصور في العالم، يليه التغير المناخي ثم الهجمات الإلكترونية من دول أخرى.

التهديدات التي يمثلها تنظيم الدولة حقيقة واقعة، وقد شن هجمات على الأقل في عشرين دولة كلها مرتبطة إما مباشرة بالتنظيم، أو أنه ملهم ومحرض للأشخاص الذين قاموا بها، لكن حجم هذا التهديد ودرجة خطورته يحتاج إلى قراءة لنرى إن كانت نتائج المسح واقعية، أم تمثل صورة ذهنية شعبية غير متطابقة مع الواقع. سنقوم بالقراءة من خلال عينة من أربع دول مختلفة تعطي في مجموعها مؤشرات دالة.

أولًا: الولايات المتحدة

أظهر المسح أن ٧٤٪ من الأمريكيين يرون تنظيم الدولة تهديدًا عاليًا (كانت نسبتهم في مسح إبريل ٢٠١٦ أعلى وبلغت ٨٠٪)، بينما كان التهديد التالي الذي يراه الأمريكيون هو الهجمات الإلكترونية من دول أخرى، والتغير المناخي (٧١٪ و ٥٦٪ على الترتيب)، بينما لم يرَ إلا ٤١٪ من الأمريكيين أن الصين تمثل تهديدًا مرتفعًا (سواء عسكريًّا أو اقتصاديًّا).

وقعت بالولايات المتحدة منذ يناير ٢٠١٣ وحتى الآن خمس حوادث ارتبطت بتنظيم الدولة[2] ، إما بشكل مباشر، أو كان مرتكبو الحوادث متأثرين بدعاية التنظيم وأفكاره. كل هذه الحوادث بادر تنظيم الدولة بتبنيها، برغم أن بعضها كان لأفراد ثبت أن لهم ميولًا متطرفة للعنف من قبل ظهور تنظيم الدولة. إجمالي هذه الحوادث الإرهابية المؤسفة لا يعتبر بالضخامة التي تجعل الأمريكيين يرونه التهديد الأكبر الذي يتوقعونه، لكن لعل أحداث ١١ سبتمبر والضغط الإعلامي للتخويف الدائم من “الإرهاب الإسلامي”، ثم قدوم ترامب لسدة الحكم، كل هذا فاقم من مخاوف الأمريكيين.

التاريخ الحادث القتلى الجرحى
٢٣/١٠/٢٠١٤ هاجم زيل طومسون، المعروف أيضًا باسم الزعيم فاروق عبد الملك، أربعة من رجال شرطة نيويورك في مترو الأنفاق بفأس، فأصاب شرطيًّا بجراح خطيرة في الجزء الخلفي من الرأس وأصاب شرطيًّا آخر في الذراع قبل أن يطلق النار عليه حتى .الموت من قبل الضباط الباقين ٠ ٥
٣/٥/٢٠١٥ هاجم مسلحان مركز كورتيس كولويل خلال معرض “رسم محمد” للفنون الكرتونية في جارلاند بولاية تكساس. ٢ ١
٢/١٢/٢٠١٥ في هجوم سان برناردينو، قام الزوجان رضوان فاروق وتشفين مالك بإطلاق النار مما أدى إلى مقتل ١٤  شخصا وإصابة ٢٢  آخرين، كان مكتب التحقيقات الفدرالي يحقق على أنه عمل إرهابي ١٤ ٢٢
١٢/٦/٢٠١٦ لقى ٤٩  شخصًا مصرعهم وأصيب ٥٣ آخرون فى إطلاق نار جماعي فى ملهى ليلى للشواذ فى اورلاندو بولاية فلوريدا. وتعهد مطلق النار، عمر متين، بالولاء لتنظيم الدولة من خلال استدعاء الشرطة والصحافيين عدة مرات خلال الحادثة. الحادث يعتبر أكبر قتل جماعي يقوم به شخص واحد في تاريخ الولايات المتحدة. ٤٩ ٥٣
٢٨/١١/٢٠١٦ في هجوم بجامعة ولاية أوهايو ، تم نقل ١١  شخصًا إلى المستشفى لإصابات بعد الهجوم بسيارة وطعن جماعي،  كان الجاني، عبد الرزاق علي عرتان، لاجئًا صوماليًّا مسلمًا ومقيمًا قانونيًّا دائمًا في الولايات المتحدة. ٠ ١١

 من المستغرب أن يرى الأمريكيون تنظيم الدولة أخطر عليهم من التهديد الروسي

من المستغرب أن يرى الأمريكيون تنظيم الدولة أخطر عليهم من التهديد الروسي، الذي تجري تحقيقات رسمية تشتبه باختراقه للبنية السياسية للبلاد، بل وربما لامتلاكه أدوات وملفات ابتزاز لرئاسة الولايات المتحدة. ومن المستغرب أيضًا أن يكون تنظيم الدولة بأدواته المحدودة أخطر من العملاق الصيني، أو من التغير المناخي الذي يراه كثير من العلماء وراء عنفوان الأعاصير التي تضرب الولايات المتحدة مؤخرًا، وقد قدرت الحكومة الأمريكية أن إعصار هارفي (أغسطس ٢٠١٧) سبب وحده دمارًا قيمته حوالي ١٧٠ بليون دولار، وشرد مليون شخص، ودمر حوالي ٢٠٠ ألف منزل[3]، وترى مراكز بحثية عديدة أن التغير المناخي كان وراء الآثار التي خلفها إعصار كاترينا المروع عام ٢٠٠٥، والذي خلف ١٨٣٣ قتيلًا ودمارًا بكلفة ١٦٠ بليون دولار[4].

بعيدًا عن الجدل السياسي المحيط بنشأة تنظيم الدولة، والقوى التي تدعمه، أو على الأقل غضت الطرف عن تدفق مئات المتطوعين الأجانب إلى صفوفه بسوريا والعراق، أو سمحت له باحتلال مدينة بحجم وأهمية الموصل في أقل من ثلاثة أيام وامتلاك ما بها من ثروات وعتاد عسكري، بعيدًا عن هذا الجدل تبقى التهديدات التي يمثلها التنظيم خاصة بعد انكسار قوته إلى حد بعيد في العراق وسوريا، أقل وأضعف مما وقر في صدور الأمريكيين، ولعل السبب الأكبر لهذا هو التضخيم الإعلامي المقصود.

التضخيم الإعلامي له آثار مباشرة على الوعي الجمعي لأي شعب سواء من ناحية كثافة التغطية الإخبارية والتحليلية أو من ناحية أولويات الاهتمام الإعلامي. من المثير للدهشة مثلًا أن ترى تغطية إعلامية لشبكات تليفزيونية كبرى تقدم خبر اعتداء رجل مسلم بسكين على شرطي في بلجيكا، على خبر إطلاق كوريا الشمالية لصاروخ باليستي عابر للقارات، أثار ذعرًا في اليابان التي مر فوق أراضيها، وتسبب في إطلاق صافرات الإنذار وقطع برامج التليفزيون العامة لوضع إعلانات تحذيرية حكومية وإيقاف خطوط القطارات السريعة، وتعالي أصوات سياسية باليابان تطالب بامتلاك البلاد لسلاح نووي.

وقريب من هذا التغطية الإعلامية المجتزئة للحوادث الإرهابية، خذ مثلًا هذه الإحصائية من مركز دراسات أمريكا الجديدة (New America) المعني برصد هجمات المتطرفين داخل الولايات المتحدة، لترى أن هجمات المتطرفين الإسلاميين وغير الإسلاميين متساوية عبر خمسة عشر عامًا من بعد هجمات ١١ سبتمبر، لكنك لن تجد هذا الانطباع في التغطيات الإعلامية بل ولن تسمع بهذا المصطلح “متطرفون غير إسلاميين” أصلًا.

ثانيًا: لبنان

نتيجة المسح في لبنان مثيرة أيضًا للدهشة، حيث أعرب ٩٧٪ من اللبنانيين أن تنظيم الدولة يمثل أكبر تهديد لهم، وهذه النسبة هي الأعلى على الإطلاق بين كل الدول الثمان والثلاثين الذين شملهم المسح. لبنان تعرض لهجومين فقط من تنظيم الدولة، أولهما في نوفمبر ٢٠١٥ حين فجر انتحاريون أنفسهم في منطقة برج البراجنة بالضاحية الجنوبية لبيروت (وهي منطقة خاضعة لسيطرة حزب الله)؛ فقتلوا ٤٣ وأصابوا المئات غالبيتهم من المدنيين. الهجوم الثاني وقع في بلدة القاع الحدودية مع سوريا، وأوقع خمسة قتلى من المدنيين، وقتل الانتحاريون الأربعة الذين كانوا يحاولون التسلل من سوريا إلى لبنان. هذان الهجومان لا يمثلان من ناحية الحجم والخطورة هاجسًا كبيرًا بالنسبة للبنان التي تتكرر فيها المواجهات الدامية والاغتيالات السياسية، فضلًا عن التهديد الدائم لاجتياح إسرائيلي تكرر مرتين في العقود الأربعة الأخيرة، وأوقعا آلاف القتلى وعشرات الآلاف من المصابين، ودمرا البنى التحتية للبلاد.

لقد صدرت دراسات عديدة في عام ٢٠١٤ تتوقع أن تكون لبنان الضحية التالية لتنظيم الدولة، وأن التنظيم سيستبيحها بالكامل، وأنه سيقوم بصلب المسيحيين من سكانها، وكان جزء من هذه المخاوف وقتها مبررًا بعد التمدد الكبير والسريع لتنظيم الدولة آنذاك، لكن في ربيع ٢٠١٧ وبعد التراجع الكبير للتنظيم والخسائر المتلاحقة التي تحاصره تبدو نتيجة المسح غير منطقية.

ثالثًا: اليابان وكوريا الجنوبية

كلا البلدين بعيد عن لهيب الأحداث في الشرق الأوسط، إلا بما تحتمه عليهما علاقتهما الاستراتيجية مع الولايات المتحدة، لذلك ليس مستغربًا أن يأتي تنظيم الدولة متأخرًا في سلم التهديدات والمخاطر التي يشعر بها شعبا البلدين. مع ذلك تبقى النسبة مرتفعة في كلا البلدين؛ إذ يعد ٦٢٪ من كلا الشعبين التنظيم تهديدًا مرتفعًا، وإن جاء بعد تهديدات ثلاثة أو أربعة أخرى أشد خطورة. يمكن تصور تأثرات وتداعيات الإعلام العالمي المتشابك سببًا قويًّا لارتفاع هذه المخاوف، برغم أن التنظيم لم يقترب مطلقًا من حدودهما، إلا ما قام به التنظيم في يناير ٢٠١٥ من اعتقال رهينتين يابانيين بسوريا وفاوض لإطلاق سراحهما ثم أعدمهما بقطع رأسيهما وتصوير عملية الذبح بعد فشل المفاوضات. كانت لتلك الحادثة تأثيرات مريرة على المجتمع الياباني وربما تكون نتيجة المسح بعد أكثر من سنتين متأثرة بها، وربما أيضًا يكون الكوريون تحت تأثير تلك الواقعة. الفرق بين البلدين أن اليابانيين اعتبروا التنظيم الرابع مكرر في أشد التهديدات، بينما اعتبره الكوريون السادس من أصل ثمانية تهديدات محتملة أجري عليها الاستطلاع.

اللافت للنظر في البلدين أن كليهما اعتبر الولايات المتحدة تمثل تهديدًا ومخاطر مساوية أو أعلى من تنظيم الدولة (٦٢٪ من اليابانيين و ٧٠٪ من الكوريين)، وهي نتيجة مثيرة من بلدين حليفين للولايات المتحدة، وتبدو بها المخاوف الشعبية أعلى وأكثر علانية من العلاقات الرسمية والحسابات السياسية للحكومات.

اللافت للنظر في البلدين أن كليهما اعتبر الولايات المتحدة تمثل تهديدًا ومخاطر مساوية أو أعلى من تنظيم الدولة

الخلاصة:

يمكن تلخيص القراءة لتهديد تنظيم الدولة بهذا المسح الدولي المهم في خمس نتائج لافتة:

  1. التركيز والإثارة الإعلامية لها تأثير كبير في تشكيل الوعي الجمعي بما يناقض موازين القوى على الأرض، وقد ساهمت ممارسات التنظيم الإعلامية في هذا الزخم فأعطت صورًا وحشية أضخم من القوة الحقيقية للتنظيم والتهديدات التي يمثلها. بعض هذا التضخيم الإعلامي لصناعة الخوف والتخويف تستفيد منه حكومات ديمقراطية ومستبدة لتمرير أجندات لها، سواء للإنفاق العسكري أو للتدخل المباشر، أو لتبرير سياسات قمعية وكبت للحريات. ويمكن استحضار صور حديثة كحملة التخويف التي بثتها الولايات المتحدة عن قوة وخطورة جيش صدام حسين حتى استطاعت غزو العراق بمساندة دولية وشعبية.
  2. إن خطورة الوعي الزائف أنه يجعل المتلقي غير قادر على رؤية الأمور على حقيقتها بحجمها الطبيعي وأثرها الفعلي، فيميل بالتالي إلى تبني أحكام لا تعتمد على معايير موضوعية، وإنما على صور ذهنية مغلوطة.
  3. التأثير الإعلامي على الوعي الجمعي قد يكون بالتكتم التام على بعض الأحداث (عن طريق حجب مواقع الإنترنت أو القنوات الفضائية)، أو التكتم الجزئي، أو التغطية الانتقائية، أو الإغراق بالمعلومات، ولكل منها أسبابه والمجتمعات التي يناسبها. وقد أصبحت شبكات التواصل الاجتماعي ميدانًا مفتوحًا بدا أول الأمر عصيًّا على التحكم، لكن ظهرت مؤخرًا جهود دولية حثيثة للتحكم في الوعي العام المكتسب من هذه الشبكات من خلال “الذباب الإلكتروني”، أو ملايين الحسابات الوهمية التي تبث محتوى متناسقًا ومتناغمًا مع الأهداف السياسية التي يراد للشعوب أن تتبناها. وقد رصد مشروع بحثي ضخم بجامعة أكسفورد[5] أجري على ثماني دول وخرج بنتائج كبيرة لتزييف الوعي العام والتأثير فيه عبر برمجيات وحسابات وهمية على موقع التواصل الاجتماعي (تويتر). الوعي الجمعي يمكن أن يتأسس على معلومات مغلوطة أو مجتزئة أو تم تضخيمها أو تحجيمها. وقد وجد الباحثون مثلا أن ٤٥٪ من الحسابات الروسية على (تويتر) هي حسابات وهمية للجان حكومية.
  4. ساهمت الممارسات الإعلامية لتنظيم الدولة وبخاصة تلك الأفلام الدعائية عالية الجودة الفنية التي تم بثها لمشاهد قطع الرؤوس وحرق الأسرى، ساهمت في قوة التأثير الإعلامي عن وحشية وخطورة التنظيم.
  5. أسئلة المسح جاءت انتقائية؛ بحيث لم تشمل مصادر قوية لتهديدات ماثلة، مثل الخطر النووي لنظام كوريا الشمالية، أو الخطر الإسرائيلي المتمثل في كيان نووي في قلب منطقة ملتهبة تموج باضطرابات هائلة، فضلًا عن الأخطار المتوقعة لأي مواجهة اقتصادية بين الصين والغرب. كما خلا المسح أيضًا من التهديد الإيراني بالرغم من المخاوف التي يثيرها لدول عديدة بالشرق الأوسط، بل ولأوروبا والولايات المتحدة، التي ما زالت تعتبره أحد أركان “محور الشر”. خلو المسح من هذه التهديدات المحتملة قد يكون من أسباب ارتفاع نسبة التهديدات المحتملة لتنظيم الدولة.

[1] http://www.pewresearch.org/methodology/international-survey-research/international-methodology/global-attitudes-survey/all-country/2017/

[2] https://en.wikipedia.org/wiki/List_of_terrorist_incidents_linked_to_ISIL

[3] http://fortune.com/2017/09/03/hurricane-harvey-damages-cost/

[4] https://www.ncdc.noaa.gov/billions/events/US/1980-2017

[5] http://comprop.oii.ox.ac.uk/

زر الذهاب إلى الأعلى