مقدمة
لا توجد بلاد بلا خلاف في الرأي والفكر بين مواطنيها، فقد خلق الله سبحانه وتعالى الناس بعقول مختلفة “ولا يزالون مختلفين”، وتتدخل ظروف التربية والنشأة والتجارب والخبرات أيضاً مع غيرها كعوامل مؤثرة في اختلاف الناس.
ويبقى الخلاف مسموحاً به ومقبولاً ما لم يؤدِّ إلى الكراهية والتحريض والانقسام المجتمعي وينذر بحرب أهلية، وتكمن خطورة الانقسام في كونه عائقاً وسداً منيعاً أمام أي نهضة أو تحرر وطني، فمع الانقسام والاستقطاب الحاد لا يمكن توقع شيء إلا الفشل والتابعية، وهذا ما حدث في الحالة المصرية بالضبط؛ التي آل فيها الحكم إلى نظام عسكري شمولي لا يستطيع الاستمرار في حكمه إلا في ظل مجتمع منقسم.
وفيما يلي نتعرض لذاكرة الانقسام والأسباب التي أدت إليه، ومظاهر هذا الانقسام في الشارع المصري، مع توصيات من شأنها أن تفتح المجال للسعي لإنهاء هذا الانقسام.
المبحث الأول: في ذاكرة الانقسام
أولاً: دور الاستعمار في ترسيخ الانقسام
تعود بذرة الانقسام الأولى في العصر الحديث بين أبناء الشعب المصري إلى الفترة التي لجأ الاستعمار فيها في الدول العربية والإسلامية إلى فرض نموذج مشوه للدولة ونظامها وقوانينها تابع للحداثة الأوروبية، وسارت التجارب الوطنية والقومية في الحكم على اعتماد آليات الفرض القسري لهذا النموذج، وقمع المعارضين المنتسبين إلى حضارة مصر العربية والإسلامية، والذين رأوا في هذا النموذج تعارضاً مع القيم الأصيلة والمبادئ المؤسسة لحضارتهم. وهُمشوا وصُنفوا كممثلين للقديم البائد، ولم يقتصر الأمر على مجرد التهميش، بل امتد إلى الملاحقات الأمنية والاعتقالات والقمع السياسي. النخب التي وصلت إلى الحكم في مرحلة الاستقلال الوطني أغلبهم عسكريون تبنوا الحداثة الغربية سواء رأسمالية أو اشتراكية بدرجات مختلفة، ومع ذلك دخلت في صدامات مع قوى ليبرالية أو اشتراكية معارضة بالإضافة إلى أصحاب الفكر الإسلامي، وتحالفت هذه النخبة العسكرية مع نخبة محدودة من رجال الأعمال وأنصار الاستبداد والشمولية في الحكم[1].
فتشكلت هذه النخبة الحاكمة من العسكريين المتحالفين مع رجال الأعمال الذين رأوا في تحالفهم مع العسكريين حفاظاً على مصالحهم، وقد أدى هذا إلى وجود دولة حداثية على النمط الأوربي من حيث الشكل؛ فآليات الديمقراطية موجودة: دستور مجلس نيابي وأحزاب وصحافة وغير ذلك، ولكن بلا مضمون حقيقي؛ فتركزت السلطة بصورة أساسية في أيدي المؤسسة العسكرية وكذلك الاقتصاد، وكان ذلك على حساب بقية الشعب الذي ظهر من أوساطه معارضون ينتمون إلى الفكر الإسلامي بصورة أساسية، وحركة علمانية ليبرالية واشتراكية بصورة أقل.
وبالطبع مال جزء من الشعب إلى تأييد العسكريين وحكامهم لما للجيش الوطني من تأثير على وجدان الناس لافتراض دفاعه عن البلاد وبعده عن السياسة والاقتصاد، ولما عمل عليه الحكام من ترسيخ لحكمهم والترويج له وتحسين صورته عن طريق الإعلام والفن والتعليم وبقية أساليب خداع الجماهير.
كما ظهر الانقسام على مستوى ثانٍ، وهو الانقسام بين أصحاب الفكر الإسلامي والعلمانيين، واستمرت المعارك الفكرية في الكتب والجامعات والمناظرات والندوات بين الفريقين، مع تمتع الفريق الأول بشعبية كبيرة مقارنة بالفريق الثاني الذي استمد استمرار وجوده من دعم مؤسسات الدولة، وإتاحة وسائل الإعلام له وتصدره القنوات التليفزيونية وأعمدة الصحف وسيناريوهات الأفلام وغير ذلك من الوسائل المؤثرة، في حين مورست أساليب التضييق المختلفة على أصحاب الفكر الإسلامي، من ملاحقة أمنية ومنع إعلامي وتشويه متعمد… إلخ
وقد نجح التيار العلماني بأطيافه المختلفه من قوميين وليبراليين ويساريين في تشكيل الرأي العام حول أصحاب الفكر الإسلامي، بوصفهم تيارات رجعية تريد العودة بالبلاد إلى الوراء وبأنها جماعات متشددة ومتطرفة، وذلك من خلال ما حظي به هذا التيار من دعم مؤسسات الدولة كما سبق، خاصة في الإعلام والفن.
أما المستوى الثالث من الانقسام فقد حدث داخل التيارات الإسلامية نفسها، ما بين سلفيين وإخوان مسلمين وجهاديين وغير ذلك من الجماعات، وانقسمت جماعات على نفسها انقسامات داخلية، ولكن في الجملة وحتى ثورة يناير، كان الانقسام في أوساط التيارات الإسلامية محدوداً، مقارنة بحالها بعد الثورة.
ثانياً: الانقسام بعد ثورة 25 يناير
منذ اللحظة الأولى لاندلاع ثورة الخامس والعشرين من يناير عام 2011م حدث الخلاف في المجتمع المصري، بين شريحة المؤيدين للثورة ومن أطلق عليهم حينها “الفلول” إشارة لكونهم بقايا نظام حسني مبارك، وأيضاً “حزب الكنبة” لإحجامهم عن المشاركة في فعاليات الثورة، ويعد هذا هو الانقسام المجتمعي الأول بعد ثورة يناير، وبُني على ذلك الخلاف استقطاب حاد، خاصة وأن معسكر الثورة في أغلبه لم يضبط شكل العلاقة بينه وبين أنصار النظام السابق، فكان الجميع في سلة واحدة عنده، لا فرق في ذلك بين رموز النظام وعامة الناس، ممن حقيقةً لا يؤيدون النظام إلا لخوفهم من المجهول وما بعد انهياره، وتعاملت تيارات الثورة في مجموعها بفوقية وعدائية مع معارضي الثورة من آحاد الناس، مما أوجد ارتدادات مماثلة من الطرف الآخر، الذي بدوره اتهم أنصار الثورة بالعمالة للولايات المتحدة والغرب والتموُّل من إيران، وغيرها من الاتهامات الخالية من الدليل والحجة.
ثم انتقل الانقسام إلى صف الثورة نفسه، وظهر ذلك في الاستفتاء على التعديلات الدستورية مارس 2011، ما بين مؤيدين ومعارضين، وأسهمت بعض التيارات والشخصيات في إذكاء الاستقطاب بتصوير أن قول نعم هو للدفاع عن الشريعة الإسلامية بتثبيت المادة الثانية من الدستور التي تنص على أن مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع وأن “الأعداء لهم أغراض أخرى”[2]، وعلى الجهة الأخرى سيطر الذعر على العلمانيين والأقباط من أن الشعب سينتخب أصحاب الفكر الإسلامي بأغلبية لمجلس النواب مما يعطيهم الحق في اختيار لجنة كتابة الدستور فأخذوا ينادون بالدستور أولاً[3].
بعد الثورة استمر الخلاف حول الاختيارات السياسية يتميز بالانقسام والاستقطاب، والذي زاد بشدة في جولة الإعادة في الانتخابات الرئاسية عام 2012، انقسام بين معسكري المرشحيْن: الرئيس السابق محمد مرسي ورئيس الوزراء الأسبق الفريق أحمد شفيق، وانقسام بين القوى الثورية نفسها حول دعم مرسي أو مقاطعة الانتخابات.
ثم بلغ الانقسام ذروته قبيل مظاهرات 30 يونيو 2013، ووصل الأمر إلى الاعتداء على المواطنين على أساس مظهرهم الخارجي، فكان الرجل صاحب اللحية يتعرض للاعتداء فقط لكونه ملتحياً، وكانت السيدة المنتقبة تتعرض للاعتداء والإهانة فقط لكونها منتقبة، وكانت النتيجة الطبيعية حدوث انقلاب 3 يوليو العسكري، الذي جاء في وقت لم يجد فيه كتلة سياسية قوية ومتماسكة لمواجهته، بل حرص كل من أحزاب الإسلاميين الإصلاحيين من جهة والعلمانيين في أغلبهم من جهة أخرى في الفترة ما بين ما بين الثورة والانقلاب على استرضاء العسكريين ليكونوا في صفهم ضد الآخر، وقد عمل العسكريون على استمالة الإسلاميين في بداية الأمر، مع عملهم على تشويه سمعتهم إعلامياً وسياسياً، وبعد أن تلطخت سمعتهم وتراجعت شعبيتهم، استقطب العسكريون العلمانيين وفرض نفسه أمامهم كحل وحيد للتخلص من حكم الإسلاميين، وقد رحب التيار العلماني بذلك وكان مستعداً لفعل أي شيء لإسقاط حكم الرئيس محمد مرسي؛ فتحالف مع المجلس العسكري وألقى بكل “قيم الديمقراطية” التي طالما دعا إليها وراء ظهره.
وبحدوث الانقلاب العسكري زادت هوة الانقسام في المجتمع، انقساماً كان هذه المرة عميقاً للغاية، فطبيعة الحكم العسكري أنه لا يبسط شرعيته ولا يقدم نفسه للناس إلا منقذاً للبلاد من خطر هائل مزعوم يحدق بها، فيخلق حالة من الاستقطاب الشديد يرفع خلالها راية الحرب على معارضيه، كما يرفع في مصر شعار “الحرب على الإرهاب” ويستهدف تحته جميع مناوئيه بما فيهم الليبراليون واليساريون. لذلك لا يتوقع سعي العسكريين إلى فرض مصالحة مجتمعية أو حدوث ذلك في عهدهم؛ إذ إنه لا يستمر في الحكم إلا في أجواء مشحونة بالانقسام والاستقطاب، لذلك يعد هذا المناخ وديمومته مناسباً له بامتياز.
ثالثاً: مظاهر الانقسام المجتمعي
1- تغلغل الانقسام في المجتمع بعد ممارسات القتل الجماعي والتعذيب والاختفاء القسري للمعارضين، فقد أوجد ذلك ثارات لدى عشرات الآلاف من العائلات إضافة إلى القنابل الموقوتة المتمثلة في عشرات الآلاف من معتقلي الرأي.
2- الكراهية المتبادلة بين مؤيدي الحكم العسكري ومعارضيه، وبنظرة إلى مواقع التواصل الاجتماعي يظهر ذلك جلياً من خلال الاتهامات والتخوين، وفي السب والقذف المتبادل، وقد ظهر ذلك في عشرات المواقف المؤسفة، كما في أحداث فض اعتصام رابعة العدوية، عندما فرح قطاع من الشعب عند قتل ألف إنسان تقريباً، كنتيجة مباشرة لسعي العسكريين وأجهزتهم السابق على هذه “المذبحة” في شيطنة وتشويه المعارضين وغرس الانقسام المجتمعي.
3- الحنق الذي يتزايد شعبياً نتيجة فشل الرئيس المصري حالياً وقائد الانقلاب عبد الفتاح السيسي، في الملف الاقتصادي وتوريطه للبلاد في مزيد من الديون وعجز هائل في الميزان التجاري وانهيار قيمة العملة ورفع الدعم عن السلع الأساسية، مما رفع مؤشر أسعار السلع الغذائية الرئيسية بنحو 40%[4].
وانعدمت فرصة المنافسة مع الشركات التابعة للجيش المعفاة من الضرائب والجمارك والمتمتعة بالحصول على الأراضي والمواد الخام والطاقة بسعر مخفض والعمالة شبه المجانية، وشركات رجال الأعمال المرتبطين بالمنظومة العسكرية والتصفية المستمرة لشركات ومصانع القطاع العام بعد تراجع إنتاجها وجودته وتسريح العاملين فيها طوعياً أو إجبارهم على الرحيل عبر تخفيض الأجور[5].
4- انسداد الأفق السياسي أمام المواطنين في حين سيطر العسكريون على كافة مؤسسات الدولة وسلطاتها الثلاث “تشريعية وتنفيذية وقضائية”، تزامناً مع إخضاع كامل وشبه مطلق للسلطة الرابعة “الإعلام”، مع الإبقاء على بعض الأحزاب وتفريغها من مضمونها لتكمل الشكل الديكوري للدولة وبعض الشخصيات السياسية من التيارات المختلفة لتمثيل دور المعارضة.
5- الانقسام الطبقي؛ إذ تضاءلت القواسم المشتركة بين طبقات الشعب المختلفة بعد تمايزها واختلافها نتيجة لسياسات التمييز من قِبل النخبة العسكرية، فهناك طبقة تتمتع بكل سبل الراحة والحياة وأخرى لا تكاد تملك أدناها، فقد قاربت الطبقة المتوسطة على الاختفاء أو اختفت بالفعل، بعد التحاق قمتها “البرجوازيين” بركب السلطة وقيامهم بدور المكمل لها، وانسحاق الباقين وانضمامهم لطبقة محدودي الدخل والفقراء.
6- توسع دائرة السخط على الأقباط كنتيجة مباشرة لدور الكنيسة السياسي النشط في دعم الحكم العسكري، مما أوجد حالة من الرفض في أوساط قطاع عريض من المسلمين للأقباط، مما ينذر بفتن طائفية وبؤر توتر.
7- الشعور بالتمييز في أكثر من محافظة نتيجة إجراءات التعامل، كما يحدث مع مواطني سيناء والنوبة وحلايب وشلاتين وغيرهم، وتحولهم إلى ما يشبه مواطنين من الدرجة الثانية، إذ يقف هذا التمييز والتهميش حجر عثرة أمام أي سعي لتحقيق مصالحة مجتمعية.
8- حصر كليات الجيش والشرطة في طبقات بعينها دون الأخرى، وظهور طبقية جديدة متمثلة في أفراد الجيش والشرطة، فقد أصبح ضابط الجيش أو الشرطة يتمتع بمزايا لا يتمتع بها أغلب الشعب، وأصبح له من النفوذ والسلطة الذين يستغلهما كثيراً لمصالحه الشخصية خارج القانون ما يسبب الانقسام المجتمعي ويولّد الأحقاد والكراهية.
9- انحياز منظومتي العدالة والحماية “القضاء والجيش والشرطة” للطبقة العسكرية الحاكمة والملتحقين بها، من سياسيين ورجال أعمال وإعلاميين وفنانين وما شابه، إذ أصبحت ذات وجهين مختلفين تماماً، فبينما تمثل الأمن والأمان والدرع الحامي لتلك الطبقة وامتيازاتها ومصالحها، تمثل الخوف والرعب والسيف المسلط على رقاب باقي طبقات الشعب المطالَبة بالخضوع التام.
10- الدفع بأفراد من الشعب إلى الاشتباك المسلح مع النظام نظراً لوجود ثارات، وهذا الاشتباك يؤدي إلى مزيد من القمع العسكري لجميع من يعارض، ويؤدي هذا القمع لمزيد من الأحقاد المجتمعية[6].
المبحث الثاني: أدوات الانقسام المجتمعي
لا تستطيع الأنظمة العسكرية البقاء في الحكم، إلا استناداً على دعم كافٍ تتلقاه من شريحة، أو عدة شرائح مجتمعية، تتماهى مصالحها مع مصالح النظام القائم، فتصبح سندًا له يمده بأسباب الاستمرارية؛ فالمعادلة في حقيقتها أكثر تركيبًا؛ فهي ليست منحصرة دوماً في: الشعب ضد السلطة الاستبدادية، وإنما تكون صيغتها: الشعب ضد السلطة الاستبدادية، وفي ذات الوقت “الشعب ضد الشعب”؛ بمعني وقوف الشعب، صراحةً أو إضمارًا، ضد شريحة، أو عدة شرائح منه، ظلت تقف، بحكم مصالحها، مع تلك السلطة. ولا يمكن لنظام مهما بلغ من قوة البطش أن يبقى يومًا واحدًا في الحكم، إن هو فقد السند من كل شرائح الشعب مجتمعة؛ فكل مغامر من العسكريين، الذين لا ينفكون ينقضّون على الأنظمة الديمقراطية، يُجري حسابات أولية حول مدى الانقسام المجتمعي، الذي يضمن له شرائح داعمة، تسند استيلاءه على السلطة وتثبت أركان نظامه. ولا يثب العسكريون على السلطة، أو من يقفون وراءهم إلا بعد أن يكونوا قد أحسوا، خطأً أو صوابا،ً أن الانقسام المجتمعي قد بلغ أشده. كما أن الانقسام المجتمعي يمكن أن يُصنع صناعةً[7].
وللانقسام أدوات، ومن أهمها ما يلي:
1- الإعلام
الإعلاميون التابعون للنظام بالإضافة إلى إعلاميي التيار العلماني ومثقفيه ونخبته وأغلب الفنانين، لم يكتفوا بتصوير الإسلاميين بأنهم غير أكفاء ودونيون وغير مناسبين للحكم، بل أيضاً بأنهم غير مصريين، فهم يصفونهم بالآخر، ويقولون عنهم إن ولاءاتهم هي لحزبهم وللقوى الخارجية على غرار حماس أو قطر، كما يعدونهم تنظيماً إرهابياً وغير شرعي أحكموا قبضتهم على البلاد، وكان لابد من إطاحتهم لأن بقاء مصر يتوقّف على هذا الأمر[8].
وبعد الانقلاب العسكري عمل الإعلاميون التابعون للنظام على التحريض على قتل المعارضين واتهامهم بشتى التهم، مما أوجد استقطاباً شديداً في المجتمع[9].
2- علماء الدين المؤيدون
استخدم العسكريون بعض علماء الدين المؤيدين له لترسيخ الانقسام في المجتمع، وذلك عن طريق شيطنة المعارضين والتأصيل لوجوب قتلهم لكونهم من الخوارج، وأشهر من قام بهذا الدور مفتي الجمهورية السابق د. علي جمعة؛ إذ تحدث إلى جمع غفير من العسكريين منهم السيسي ووزير الدفاع الحالي صدقي صبحي ووزير الداخلية السابق اللواء محمد إبراهيم، وقادة أفرع الجيش ووزارة الداخلية، ومما جاء في حديث جمعة عن المعارضين:
“اضرب في المليان.. هؤلاء الخوارج..طوبى لمن قتلهم وقتلوه، يجب أن نطهر مدينتنا ومصرنا من هذه الأوباش.. إنهم لا يستحقون مصريتنا.. إننا نصاب بالعار منهم.. يجب أن نتبرأ منهم براءة الذئب من دم ابن يعقوب.. ناس نتنة ريحتهم وحشة في الظاهر والباطن.. ولقد تواترت الرؤى بتأييدكم من قِبل رسول الله ومن قِبل أولياء الله.. مسجد حرّقه رسول الله لأنه لا يريد هذه اللواعة ولا هذا المكر.. لا تخف بدعوى الدين.. فالدين معك والله معك والرسول معك والمؤمنون معك”[10].
3- الكنيسة
استخدُمت الكنيسة لتأجيج الانقسام أيضاً، وذلك بعمل أساقفتها وكهنتها على تأييد الحكم الاستبدادي وإضفاء الدعم القوي للسيسي[11]، والوقوف بذلك ضد فئات واسعة من الشعب المصري ممن تعرضوا لمظالم هذا النظام، وقد عُد ذلك دعماً لنظام مستبد وفاسد من قِبل الكنيسة، وسادت علاقة حسنة للغاية استفزت جموعاً من المصريين بين الكنيسة ونظام السيسي رغم تورط النظام في إسالة دماء آلاف المصريين؛ فيؤرَّخ أن كل رؤساء مصر السابقين كانت لهم زيارات للكاتدرائية، إلا أنها لم تكن للتهنئة فى قداس عيد الميلاد، وجرت العادة على أن يرسل رئيس الجمهورية مندوبًا له، لحضور الاحتفال والتهنئة بالعيد مع عدد من الوزراء، حتى كسر السيسى القاعدة، ليكون أول رئيس فى تاريخ مصر يحضر القداس بنفسه أربع مرات على التوالي[12].
4-الفن
أما الفن فقد استخدم بصورة متزايدة للإقصاء والاستقطاب، ومن أكبر الأمثلة على ذلك أغنية المطرب علي الحجار “إحنا شعب وانتوا شعب”، إذ جاء فيها خطاب كراهية وتكفير بامتياز، ومما ورد فيها:
“احنا شعب وانتو شعب”
“رغم أن الرب واحد لنا رب وليكوا رب”
“انتوا تجار المنابر النازلين الصاعدين ”
“في المصالح والمناصب الآكلين الشاربين”
“لما أمريكا بتأمر تصرخو بقولة آمين”
“احنا شايفين أن ديننا دعوة للنور والحضارة”
“وانتو حاصرتوه في حكاية ثوب قصير أو ستارة”
“ولأن مصر المؤمنة قبل التاريخ في دمنا”
“عمرنا ما هنبقي زيك ولا انت هتكون زينا”
“لِم غنمك أو جمالك والعشيرة والخيام وابعد بعيد عن أرضنا”[13].
المبحث الثالث: المصالحة المجتمعية
أولاً: حول مصطلح “المصالحة المجتمعية“
عند ذكر المصالحة يتبادر إلى الذهن المصالحة السياسية مع النظام القائم، والمقصود هنا خلاف ذلك، المقصود مصالحة مجتمعية تحشد أكبر عدد ممكن من المكونات المجتمعية لإزالة أسباب الانقسام وأدواته، وتكوين كتلة مجتمعية سياسية قوية تقود عملية التغيير وتقف حجر عثرة أمام مساعي النظام في تحقيق أجندته الداخلية والخارجية.
والمصالحة المجتمعية عبارة عن حالة تسود المجتمع، ولا تقتصر على الأحزاب والروابط السياسية؛ بل أيضاً تمتد على مستوى الأفراد، سواء الرموز الإعلامية والفكرية والدينية، أو على مستوى فردي؛ فهي في الأساس مسؤولية فردية تقع على عاتق كل شخص، فالجميع مطالب بإيقاف خطاب الكراهية والتخوين والسباب، وخطاب التعالي والفوقية، والتفريق بين عامة الشعب من غير المتورطين في الدماء بصورة مباشرة ممن يمارس عليهم التضليل اليومي عن طريق الإعلام والشائعات وسياسات التخويف والإرهاب الفكري والسياسي، وبين قادة وأركان النظام المستبد، والجميع مطالب أيضاً بالتواصي بسريان هذه الحالة في المجتمع، عن طريق بث ذلك في وسائل التعليم والإعلام والثقافة والفكر وكل وسيلة مممكنة.
ثانياً: مصالحة مجتمعية بأجندة وطنية
مما سبق يتضح أنه لا حل يبدو في الأفق لرأب هذا الصدع المجتمعي، ولانتشال مصر من أزمتها، إلا بإزالة أسباب الانقسام وأدواته، وباتفاق سياسي بين قوى المعارضة والثورة ومن ينضم لها من فئات الشعب، اتفاق تسبقه مصالحة مجتمعية واسعة قدر الإمكان تغطي أكبر مساحة مستطاعة من المكونات المجتمعية، تجتمع على هدف تغيير هذا النظام كونه العامل الأول والأساسي في ترسيخ الانقسام المجتمعي، ولما ثبت من فشله وآثاره الكارثية يوماً بعد يوم.
وذلك بالطبع يؤكد ضرورة إعلاء المصلحة العامة والبعد عن الاستقطاب وتركيز الجهود على هدف إزالة أسباب الاستقطاب، ولا يلزم من تبني مشروع فكري وسياسي ما عدم الانفتاح على التيارات المعارضة الأخرى المتفقة على هدف إزاحة النظام، خصوصاً في ظل استهداف شامل لجميع التيارات من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، ووجود خطر أعظم ونظام وظيفي يعمل وفق أجندات لا تبدو إطلاقاً أنها في مصلحة أحد، ولكن الإشكالية هنا تكمن في تحديد كنه التيارات المختلفة التي تصطبغ بصبغة “الوطنية” والتي يجري التحالف معها ولا يعود بالسلب على المصالح نفسها؛ فسابقاً أيدت بعض التيارات -التي سبق وعارضت نظام مبارك- الانقلاب العسكري على الرئيس المنتخب محمد مرسي.
فالمقصود تكوين ما يشبه الائتلاف العام يضم القوى والقطاعات الجادة والصادقة، ائتلاف سياسي على أساس وثيقة عمل تُبنى على إدراك المصالح العامة للبلاد وخطورة ما هي فيه، ويسعى إلى إزاحة النظام السائد، مع وضع آلية لإدارة الخلاف الذي حتماً سيكون موجوداً وباقياً ومستمراً؛ فالبحث عن ائتلاف تذوب فيه جميع الفوارق هو ضرب من المستحيل، لكن المتاح هو تكوين ائتلاف راشد يدار فيه الخلاف بحكمة وتعقل؛ فالظرف التاريخي يفرض وجود ذلك، لأن الأنظمة تستفيد من تشتت المعارضة أيما استفادة، بل وتذكي هذا التشتت لتبقى قوى الثورة والمعارضة منشغلة بعضها ببعض (فرّق تسُد)؛ وهنا يبرز معوِّق الاستقطاب الذي يعد كالفيروس القاتل الذي يؤدي إلى انحراف الوجهة وفساد الاجتماع على الهدف المنشود، لذلك يُعد وضع آلية لإدارة الخلاف والقضاء على هذا الفيروس من الأولويات في هذا الإطار؛ فسؤال الائتلاف والحلف والمشروع الجامع هو في الحقيقة من أهم الأسئلة التي تنشغل بها الحركة المعارضة، بأن تسعى إلى التحالف والائتلاف وتوسع تفاهماتها مع الفصائل والقطاعات الأخرى الممكنة، حتى تصل إلى صياغة عامة لذلك الائتلاف، الذي في داخله يعرف كلٌ وظيفته وفاعليته. ومجال الاختلاف يبقى موجوداً مع الاعتراف بذلك حتى لا يشكل الخلاف حجر عثرة أمام التحالف مستقبلاً.
ثالثاً: أجندة المصالحة المجتمعية
تهدف المصالحة المجتمعية إلى الاتفاق على ميثاق لإنقاذ البلاد، يسبقها نقاش واسع، خطاب تصالحي، انفتاح مجتمعي، ثم الترويج لهذا وتفعيله وتوسيع قاعدته الشعبية، وإعداد قائمة اتهام موثقة للنظام العسكري وما يجر البلاد إليه، للتدليل على أهمية المصالحة المجتمعية بأسرع وقت.
ومن العناصر المقترحة لتؤكد الوثيقة عليها وتجتمع عليها الفئات المختلفة:
- شكل العلاقات المدنية العسكرية، وابتعاد الجيش عن السياسة وضرورة مراقبته ومحاسبته مدنياً، وإيقاف عسكرة الدولة في الاقتصاد والوظائف.
- رفض الظلم والقتل والاعتقال السياسي ومحاكمة من يتورط في ذلك.
- مقاومة الانقلاب العسكري بكل صورة؛ لإنهاء وجوده كونه السبب الأكبر في هذا الانقسام.
- تقديم إعلام متوازن ومهني يكشف الحقيقة ويفند الشائعات التي رُوجت سابقاً وتُروّج بحق معسكر الثورة. ويرسخ للوحدة المجتمعية أمام الخطر الذي يهدد بسقوط البلاد، ويبتعد عن القضايا الجانبية التي من شأنها أن تفرق المجتمع وتصرفه عن خصمه الأساسي.
- تقديم الأطروحات العلمية والثقافية التي تجابه طرح مثقفي السلطة.
- ملء الساحة الدينية والدعوية لمزاحمة رجال الدين التابعين للسلطة والمتحدثين باسمها من المسلمين والأقباط.
- التصحيح والمراجعة لأخطاء تيارات الثورة والمعارضة والاعتراف بذلك مما يزيل التوتر ويساعد على التعاون وفق أطر جديدة.
- تقديم خطاب توعوي يتفهم التضليل الذي يُمارس على عقول مؤيدي النظام من عامة الجماهير، وبذلك يكون خطاباً بعيداً عن التحقير، يركز على نشر الوعي والإقناع باستخدام الأدلة الموثقة.
خاتمة
مما سبق يتبين أن الانقسام قد تغلغل في المجتمع المصري منذ قيام ثورة الخامس والعشرين من يناير عام 2011، وأنه يزيد حدة وتصاعداً منذ ذلك الحين، وقد أسهم في ذلك بصورة أساسية الحكم العسكري الذي عمل على ترسيخ الانقسام في المجتمع منذ لحظة توليه إدارة شؤون البلاد بعد تنحي حسني مبارك، تمهيداً لإحكام قبضته على البلاد، في واقع تغيب فيه الكتلة السياسية القوية عن المشهد وتسود بدلاً منها تيارات وأحزاب وجماعات مفككة ومتعارضة، وقد نجح في إحكام تلك القبضة بالفعل من خلال الانقلاب العسكري على أول رئيس مدني منتخب.
ومن لحظة الانقلاب العسكري في 2013 تفاقم الانقسام المجتمعي بصورة أكبر، صورة ترشح مصر بامتياز لقيام حرب أهلية، مما ينذر بنتائج خطيرة تجر البلاد إلى ويلات؛ لذلك تقع المسؤولية كما تبين من العرض السابق على التيارات المعارضة والثورية أن تضع هذا الخطر -المتمثل في الحكم العسكري وما يصدره من كراهية وفرقة- والتخلص منه وتحقيق مصالحة مجتمعية واسعة قدر الإمكان فوق أي أهداف خاصة أو أجندات فئوية.
ونشير في النهاية إلى دور التيارات الإسلامية المهم في تحقيق المصالحة المجتمعية، إذ على عاتقها تقع مسؤولية كبيرة بهذا الصدد، لما تتمتع به من حضور في الشارع المصري لم يزُل حتى الآن، رغم ممارسات الإقصاء، وسياسات تجفيف المنابع التي ينتهجها النظام القائم ضدها. ولكنها مطالَبة أولاً أن تصنع تياراً إسلامياً عاماً تنصهر داخله الخلافات بمعناها السلبي، وتختفي الصراعات الحزبية التي كان لها دور كبير في تحجيم أداء التيار بعد الثورة المصرية، مع بقاء تعدد وجهات النظر، واعتماد آلية لإدارة الخلاف، والتنسيق على المستويات المختلفة. مما يؤهلها كي تنتقل إلى مستوى السعي لتحقيق مصالحة مجتمعية أوسع.
[1] بتصرف من: محمد شومان، انقسام مصر وأوهام الانتصار، 8-12-2013م، موقع الأوان.
[2] موقع يوتيوب: نعم للتعديلات الدستورية الشيخ سعيد محمود، 18-02-2018م.
[3] موقع يوتيوب: لا للتعديلات الدستورية، 16-03-2018م.
[4] بي بي سي، هل يستمر غلاء الأسعار في مصر، 12-02-2018م.
[5] ينظر: أحمد مرسي، الجيش يزاحم المؤسسات الاقتصادية المدنية في مصر، مركز كانيجي، 24-6-2014م.
[6] ينظر: جمال الهواري، كيف تذبح دولة.. هدم المؤسسات والصراع المجتمعي، موقع ترك برس، 23-10-2013م.
[7]حول هذا المعنى: د. النور حمد، فرص الثورة والانقسام المصلحي، 17-8-2016م، موقع سودانايل.
[8] داليا مجاهد، الانقسام العميق في مصر، مركز كارنيجي، 25-07-2013م.
[9] ينظر: رموز التحريض في إعلام مصر، الجزيرة نت، 7-9-2013م.
[10] يوتيوب: فيديو بعنوان: (علي جمعة شيخ العسكر طوبى لمن قتلهم وقتلوه)، رابط إلكتروني.
[11] جريدة اليوم السابع، (أساقفة الكنيسة يعلنون دعمهم للسيسي.. الأنبا أرميا يقود حملات أقباط الخارج لانتخاب الرئيس والأنبا هدرا: يبذل مجهودًا فوق البشر.. والأنبا لوكاس يصفه بقليل الكلام كثير الفعل.. والأنبا مرقس يسأله: متى تنام؟)، 12-03-2018م.
[12] محمدي الجارحي، التاريخ يضع السيسي في الصدارة 6 رؤساء في حضرة الكنيسة، موقع مبتدا، 06-01-2018م.
[13] أغنية “احنا شعب وانتوا شعب”، علي الحجار، يوتيوب، رابط إلكتروني.