اختطاف الإسلامملفـات

التجديد في طبعته العلمانية

مقدمة

التجديد والاجتهاد موضوعان إسلاميان معروفان، اعتنى بهما العلماء تنظيراً وممارسةً منذ القرن الهجري الأول، وكلاهما يشير إلى عملية نشطة داخل الإطار الشرعي بوسائل أصولية معروفة لمواكبة تطور الحياة وإمداد المسلمين بالحلول المنضبطة بالشريعة، في مسارهم الفردي والعائلي ونشاطهم الاقتصادي والسياسي والعسكري والتربوي والتجاري؛ فتشمل العملية الميادين الشعورية والفكرية والسلوكية بالإجابة على أسئلة الأفراد والجماعة المسلمة وتجديد الصلة بالمرجعية العليا المتمثلة في القرآن والسنة والاستمرار في ربط الأمة بالسمت الإسلامي لتبقى متمسكة بأصالتها وتميزها ولتواجه بثبات وقوة التحديات المختلفة وتتجاوز محطات الضعف التي تعترض سيرها فتبقى ظاهرةً أبداً كما أراد لها ربها عز وجل([1]).

ولطالما كان حديث التجديد حديثاً دينياً وإسلامياً بالدرجة الأولى، إذ إن هذا المصطلح قد نُحت من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه: “يبعث الله على رأس كل مائة عام مَن يجدد لهذه الأمة أمر دينها”([2]).

وقد أخرج أبو داود هذا الحديث في كتاب الملاحم في سُننه، ولعله يقصد بهذا التأكيد على أهمية التجديد عند الفتن والملاحم.

ففي ضوء هذا يكون التجديد لدى المصلحين والعلماء والعاملين في الحقل الإسلامي هو تجديد أمر الدين، سواء بالعمل على حث المسلمين على الرجوع إليه والاستهداء به في حياتهم، أو التجديد الفقهي عبر تحديث المنظومة الفقهية لتواكب النوازل المستجدة، أو التجديد في مقاومة محتلي البلاد الإسلامية عن طريق حث الشعوب على الجهاد من أجل استرداد حقوقهم بعد ركدتهم، إلى آخر هذه الأنواع التجديدية في أبواب الدين والدنيا المتعددة.

ولكن الإشكالية أن مفهوم التجديد قد اختُطف وأخذه أقوام إلى طريق أخرى مختلفة، طريق قد رأوا تحت ضغط سطوة الحضارة الغربية المادية على عالمنا المعاصر، أنها هي الأنسب لعقد ما يشبه “الصلح” بين الدين الإسلامي وأوامره ونواهيه ونسقه الفكري والعملي، من ناحية، وبين الحضارة الغربية وقوانينها ومبادئها الأرضية وتصورها المادي للإنسان، من ناحية أخرى.

واستُخدمت الدعوات المتكررة في القرآن الكريم من قِبل هؤلاء إلى إعمال العقل والفهم والتفكر والتدبر والفقه، استُخدمت بدلاً من ذلك من أجل رفع العقل الإنساني القاصر إلى مكانة تعلو الشرع وأوامره، درجة يستطيع معها أن يحدد بأهوائه المجردة ما هو الوسطي أو المتشدد، وما هو غير صالح لزمننا وما يصلح، وما يُعد إنسانياً وما يعد غير إنساني، بل وحتى ما هو من الإسلام وما ليس من الإسلام. فيما يشبه عَقد محاكمة للوحي بشقيه، القرآن الكريم والسنة النبوية، بدلاً من الإيمان بهما والسعي إلى جعلهما واقعاً معاصراً، أو النظر والتأمل في حِكمتهما، والطرق المناسبة لتنزيلهما على واقعنا، بخلفية إسلامية مستقلة تستصحب الحضارة والتاريخ الإسلامي، وبعقل غير منسحق تحت سطوة حضارة مادية تحكمت في العالم بالحديد والنار ووصلت إلى سدة العالم صعوداً على أشلاء البشر الأبرياء مسلمين وغير مسلمين.

أولاً: التجديد بين طبعتين.. العلمانية والأصلية

1) التجديد في طبعته العلمانية

مصطلح (العَلْمانِيَّة) مشتق من الكلمة (عَلْم) بفتح العين، وهو مرادف لكلمة (عالَم)، ولا علاقة له بالعِلْم (بكسر العين) كما يتوهم الكثيرون، ومنهم البعلبكي صاحب قاموس المورد، الذي أورده بكسر العين هكذا: (عِلْمانِيَّة). ومصطلح (العَلمانية) في العربية ترجمة مستعارة من المصلطح السرياني ܥܠܡܝܐ: /عَلْمايا/ “عالَماني/عَلْماني” المنسوب إلى ܥܠܡܐ: /عَلْما/ وهو “العالَم” بالسريانية (وألف المد في نهاية الكلمة السريانية هي أداة التعريف في السريانية). ولا شك في أن أحد أسباب الخطأ في نطق (العَلْمانية) بكسر العين إنما هو غرابة الكلمة من الناحية الصرفية أولاً؛ فالكلمة في الأصل ترجمة مستعارة للكلمة السريانية ܥܠܡܝܐ: /عَلمايا/ “عالَماني/عَلْماني” نسبة إلى ܥܠܡܐ: /عَلْما/ “العالَم” كما أبنّا. فتُرجِمَت ترجمة مستعارة في العربية بإضافة النون وياء النسبة بعد ألف المد الأولى في /عَلمايا/ لتبدو كأنها مشتقة على وزن (روحاني) و(نفساني) و(سرياني) .. ولما لم يكن في العربية (عَلْم) بمعنى العالمَ، فإنهم قالوا أولاً (عالَماني)، ثم أسقطوا ألف المد الأولى من لفظ (عالَماني) وسكَّنوا لامه ليصبح (عَلْماني)([3]).

تقول الموسوعة البريطانية عن العَلمانية: “حركة في المجتمع اتجهت بعيداً عن الغيب وركزت على الحياة الأرضية. في العصور الوسطى الأوروبية كانت هناك نزعة قوية للأشخاص المتدينين لاحتقار شؤون الإنسان، والتأمل بدلاً من ذلك في الإله والآخرة. وكردّ فعل على هذه النزعة القَرْوَسطية، عرضت العلمانية نفسها في عصر النهضة، كتطور للنزعة الإنسانية، عندما بدأ الناس يُظهرون اهتمامًا أكبر بالإنجازات الثقافية البشرية وإمكانية تحقيقها في هذا العالم. لقد كان التحرك نحو العلمانية جارياً خلال التاريخ الحديث بأكمله، وكثيراً ما كان يُنظر إليه على أنه معادٍ للمسيحية والأديان. في النصف الثاني من القرن العشرين بدأ بعض اللاهوتيين في الدعوة إلى المسيحية العلمانية، اقترحوا أن المسيحية لا ينبغي أن تهتم إلا بالمقدس والآخرة، ولكن يجب أن يجد الناس في العالم الفرصة لتعزيز القيم المسيحية، هؤلاء اللاهوتيون يؤكدون أن المعنى الحقيقي لرسالة يسوع يمكن اكتشافها وتحقيقها في الشؤون اليومية للحياة المدنية العلمانية”([4]).

إذن نشأت العلمانية “كردّ فعل على هذه النزعة القروسطية” ونتيجة الظلام الذي كان يسود أوروبا في القرون الوسطى، فالقرون الوسطى كانت مظلمة في أوروبا على عكس العالم الإسلامي الذي كانت فيه هذه القرون قروناً ذهبية، حيث الحضارة والتمدن والعلم والرقي، وحيث لم توجد الدولة الثيوقراطية التي وُجدت في الغرب والتي كانت تُحكم فيها الشعوب الأوروبية بواسطة الكنيسة التي كانت لها السلطة فوق الملوك والأمراء مما جعل الملوء يتحالفون معها، حتى اشتهرت مقولة “اخنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قِس”؛ فقد عانت الشعوب الأوربية تحت نير الاستبداد الديني الكنسي، معاناة وصلت إلى أن تبيع الكنيسة صكوك الغفران وتتحكم في مصائر وشؤون الناس وتحارب العِلم تحت شعار محاربة الهرطقة، فأقامت محاكم التفتيش البشعة التي تعقبت كل صاحب فكر وعِلم.

لذلك فالعلمانية منتج غربي نشأ نتيجة بيئة غربية، بيئة حفزت على “التجديد العلماني” كضرورة للتخلص من هذا الإرث المليء بالظلم والاستبداد والجهل المقنن.

ولما خفت نور الحضارة الإسلامية بعد توهج دام مئات السنين، انتقلت المنابر الثقافية وقبلة العلوم إلى الدول الغربية، وأصبحت محط أنظار كثير من أبناء الأمة الإسلامية أنفسهم، الذين ذهبوا وتعلموا على أيادي أساتذة وعلماء يحملون هذه الكراهية لقرونهم الوسطى المظلمة، ويرون أن العلم معادٍ للدين، وهذا صحيح إن كان المقصود بالدين هو الديانة المسيحية كما قُدمت في عصور الظلام الوسطى.

أمر آخر مهم ساعد على ترسيخ كثير من المفاهيم الغربية، وهو الاستعمار أو الاحتلال الأوروبي للعالم الإسلامي، وسعيها لفرض نموذجها الثقافي على الشعوب الإسلامية، سواء اللغة أو التاريخ أو الفِكر والفلسفة وغير ذلك، وقد نجحوا في ذلك بصورة كبيرة، حتى أننا نجد مئات الآلاف من الشعوب المسلمة لا تستطيع التحدث باللغة العربية بصورة جيدة بنفس حديثها باللغة الفرنسية أو الإنجليزية، وكما حدث ذلك في اللغة حدث أيضاً على مستوى الفكر والاعتقاد.

وبعد استقلال البلاد الإسلامية عن الاستعمار المباشر، ظهر استعمار واحتلال من نوع آخر، وهو الاحتلال المعرفي والثقافي والقيمي، جنباً إلى جنب الاحتلال الاقتصادي والعسكري غير المباشر، فأصبحت كثير من المنابر الثقافية والإعلامية والتعليمية في يد من صُنعوا على أعين الاحتلال سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة، وكانت الاستثناء قليلاً.

فأصبح التجديد لذلك مصبوغاً بالصبغة العلمانية عند قطاع واسع من المفكرين والمثقفين ومَن يُطلق عليهم لفظ “النخبة”، بدلاً من الصبغة الإسلامية التي تعلي من قدر الدين ومقاصده، وتجتهد فقط في وسائل التحقق وفي طرق إيجاد المساحات الجديدة التي تناسب المكان والزمان والأحوال. ومن أهم ملامح تلك الصبغة العلمانية للتجديد، التحرر من كل قيد للاجتهاد أو التجديد، وعدم المبالاة بقطعيات الثبوت والدلالة، وعدم استصحاب التراث الفقهي الإسلامي ليس فقط في أقوال علمائه المنفردة بل وحتى لم يُرفع رأس للإجماعات وما هو مستقر فقهياً.

2) التجديد في طبعته الأصلية

تعرضنا فيما سبق لملامح التجديد في الإسلام، ونلقي الضوء هنا على أهم مقاصد التجديد الإسلامي كما فهمه الفقهاء وعلماء الدين المسلمون، وتتلخص هذه المقاصد في المحاور التالية([5]):

1) المحور الأول:

إحياء ما انطمس واندرس من معالم السنن ونشرها بين الناس، وحمل الناس على العمل بها؛ فيقول شمس الدين العلقمي عن معنى التجديد: “إحياء ما اندرس من العمل من الكتاب والسنة والأمر بمقتضاهما”. وقال عن دور المُجدِّد: “يُجدد ما اندرس من أحكام الشريعة، وما ذهب من معالم السنن، وخفي من العلوم الظاهرة والباطنة”([6]).

ويقول آخر: “المجدد: كل من أحيا معالم الدين بعد طموسها وجدد حبله بعد انتقاصه”([7]).

2) المحور الثاني:

مواجهة البدع والمحدثات، وتنقية الإسلام منها والعودة به إلى ما كان عليه زمن الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام، قال المناوي: “يجدد لها دينها: أي يبين السنة من البدعة، ويكثر العلم، وينصر أهله…”([8]) . ويقول العظيم آبادي: “التجديد: إحياء ما اندرس من العمل بالكتاب والسنة، والأمر بمقتضاهما، وإماتة ما ظهر من البدع والمحدثات”([9]).

ويذكر السيوطي أن: “المراد بتجديد الدين، تجديد هدايته، وبيان حقيقته وأحقيته، ونفي ما يعرض لأهله من البدع والغلو فيه، أو الفتور في إقامته، ومراعاة مصالح الخلق، وسنن الاجتماع والعمران في شريعته”([10]).

ويقول القرضاوي: «إن التجديد لشيء ما: هو محاولة العودة به إلى ما كان عليه يوم نشأ وظهر، بحيث يبدو مع قدمه كأنه جديد، وذلك بتقوية ما وهي[11] منه، وترميم ما بلي، ورتق ما انفتق، حتى يعود أقرب ما يكون إلى صورته الأولى؛ فالتجديد ليس معناه تغيير طبيعة القديم، أو الاستعاضة عنه بشيء آخر مستحدث مبتكر، فهذا ليس من التجديد في شيء… ولا يعني تجديده إظهار طبعة جديدة منه، بل يعني العودة به إلى حيث كان في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته ومن تبعهم بإحسان”([12]).

3) المحور الثالث:

تنزيل الأحكام الشرعية على ما يجدّ من وقائع وأحداث، ومعالجتها معالجة نابعة من هدي الوحي، “فليس المراد بالاجتهاد والتجديد الإلغاء والتبديل وتجاوز النص، وإنما المراد هو الفهم الجديد القويم للنص، فهماً يهدي المسلم لمعالجة مشكلاته وقضايا واقعه في كل عصر يعيشه، معالجة نابعة من هدي الوحي”([13]). وهو العودة إلى المتروك من الدين، وتذكير الناس بما نسوه، وربط ما يجدّ في حياة الناس من أمور، بمنظور الدين لها، لا بمنظارها للدين”([14]).

ويقول الطيب برغوث عن التجديد إنه «تمكين الأمة من استعادة زمام المبادرة الحضارية في العالم كقوة توازن محورية، عبر إحكام صلتها من جديد بسنن الآفاق والأنفس والهداية، التي تتيح لها المزيد من الترقي المعرفي والروحي والسلوكي والعمراني”([15]).

ثانياً: بواعث التجديد العلماني(الطابور الخامس)

الباعث الأهم الظاهر لدى دعاة التجديد بملامحه العلمانية، هو محاولة التوفيق (أو التلفيق) بين القيم الإسلامية وما يخالفها من القيم الغربية، بتجديد أو بمعنى أدق “تغيير” بل “تحريف” الدين ليصبح غير متعارض مع قيم “الحداثة والمدنيّة والعصر”، والإشكال الكبير هنا أن القيم السائدة عالمياً الآن مستمدة من فلسفات وأطروحات مادية، نشأت بعد أفول قرون الظلام الوسطى في أوروبا ومع بدايات عصر التنوير وما تلا ذلك، فلسفات أرضية منقطعة الصلة في كثير منها بالقيم الأخلاقية والإنسانية والدينية جراء ما مرّت به الشعوب الأوروبية من تجارب استبدادية باسم الدين يندى لها الجبين.

هذه الفلسفات المادية والأرضية والتي تجعل المنفعة واللذة غاية الوجود الإنساني، تتعارض مع الإسلام الذي أعلى من قيمة الأخلاق والإنسان والتراحم بين البشر، ووضعَ الماديات كعامل مساعد للإنسان لعبادة الله وحده وما يقتضيه ذلك من تعمير الكون وإرساء قيم العدل والإحسان والابتعاد عن الظلم بكل أشكاله، السياسي والاجتماعي والاقتصادي… إلخ، فلم يجعل المنفعة أو اللذة غاية وهدفاً في حد ذاتها.

المحاولات التجديدية التلفيقية لا تنفك عن شعور بالانهزامية الحضارية أمام سطوة وهيمنة الحضارة الغربية الحديثة، فكل ما لا يتوافق مع المبادئ الغربية يُستحى منه حتى وإن كان هو العدل والحق والأفضل للمجتمع.

ثالثاً: الاستراتيجية المتبعة

لقد اختار هذا التيار التجديدي العلماني نهجاً آخر غير الّذي درج عليه عامة التغريبيين، والّذي كان يجاهر بمعاداة الإسلام وقيمه وأحكامه وأخلاقه، ويستخفّ بها ويدعو إلى الثورة عليها، اختار أن يتحرّك من داخل دين الله ويستعمل مفرداته التي يطمئنّ إليها المؤمنون ويرفع لافتة الغيرة على الإسلام وأهله، ويبحث في تراث الأمة ويستشهد ببعض ما ورد فيه حتى يلقى القبول ويستطيع تمرير أفكاره “التجديدية”، التي تهدف في نهاية المطاف إلى علمنة الإسلام أي إفراغه من محتواه وإزالة صبغة الربانية عنه وإخراجه من حياة الناس العامة ليبقى محصوراً في أحسن الحالات في الشعائر التعبدية ومسائل تغسيل الموتى ودفنهم… فهو إذن استشراق جديد تطورت أساليبه وبقيت أهدافه، ولا تخفى الخطورة حين يتولى محاربة الإسلام من الداخل قوم “من جلدتنا ويتكلمون لغتنا”، وتبلغ الخطورة مداها عندما ينخرط في عملية “التجديد والاجتهاد” مَن له علم بالقرآن والسنة وكان أستاذاً في الجامع الأزهر ثم أعلن باسم التجديد والاجتهاد رفضه للسنّة النبوية وإعادة قراءة الإسلام بناءً على ذلك. هؤلاء “المجددون والمجتهدون” لا يهاجمون الدين ولا أحكامه ولا أخلاقه؛ بل ينمقون كلامهم بالإشادة بمحاسنه المتلائمة مع “القيم الإنسانية” مثل العدل والمساواة والأخوّة والكرامة، وينتقون آيات وأحاديث يدعمون بها ذلك لينتقلوا إلى صلب عملهم وهو تحرير الدين وفكه من أيدي العلماء “الجامدين والمتاجرين به”، ويأملون من ذلك اتقاء نفور الناس من أطروحاتهم وانخداعهم بالحديث عن محاسن الإسلام وتقبل أفكارهم باعتبارها آراء منسجمة مع منظومة الدين العقدية والفكرية مثل باقي الآراء الاجتهادية([16]).

رابعاً: الجهات الفاعلة

تشترك عدة جهات في تلك العملية التجديدية ذات الطبعة العلمانية، والغرض المشترك هو تشذيب الدين بما يتوافق مع “أهواء” كل منهم، واستخدام لفظة “أهواء” هنا دالة على سياقها الوارد في القرآن الكريم للمشابهة الكبيرة بين “اتباع الهوى” كأصل ومنطلق، وبين “التجديد” عند تيارات التنوير العلمانية والليبرالية.

وأبرز هذه الجهات جهتان، جهة داخلية، وجهة خارجية، نتناولهما فيما يلي:

جهة داخلية.. أنظمة الدول العربية

من أبرز الجهات التي تدفع عجلة التجديد بمعناه المنحرف، أغلب الدول العربية المعاصرة، وذلك عن طريق ترسانتها الإعلامية والعُلمائية والتعليمية والثقافية، وبكل ما توفر لها من إمكانيات أخرى.

الدافع إلى هذا يختلف من دولة إلى أخرى، وذلك تبعاً لاختلاف توجهات القائمين على الدولة وأهدافهم، ولكن لعل أكبر دافعَين هما الدافع العلماني والدافع السياسي.

فأنظمة الحكم العربية المعاصرة يسيطر على الغالبية العظمى منها حكام “علمانيون”، تربوا تربية غربية وتشربوا المفاهيم الغربية والعلمانية منذ نعومة أظفارهم، مع الأخذ في الحسبان وقوع الجهات الدينية الرسمية تحت سلطانهم في ظل انعدام استقلالها واختيار السلطة لمسؤوليها.

وبحكم هذه النزعة العلمانية والسيطرة على المؤسسات الدينية الرسمية وما يضاف إلى ذلك من الاستبداد والرغبة في تأميم جميع قوى المجتمع، يكون سعي السلطة إلى تجديد الدين بالمعنى المشوّه، وتظهر دعوتها بالأقوال أو الأفعال لـ”تجديد الخطاب الديني” و”تصحيح المفاهيم” و”محاربة الإرهاب” و”تنقية الدين”، إلى آخر تلك المفاهيم التي تدل على معانيها الظاهرة بقدر ما يُعنى بها تطويع الدين لموافقة أهواء السلطة وضمان عدم تشكيل وعي ديني صحيح يكون دافعاً لتغيير السلطة الفاسدة.

ب- جهة خارجية.. مؤسسات فكرية غربية

من حين إلى آخر تظهر تقارير صادرة عن مراكز بحثية غربية، تقدم طرحًا يتعلق بشكل الإسلام الذي يريده الغرب، خاصة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر بالولايات المتحدة الأمريكية، وذلك ضمن استراتيجية “مكافحة الإرهاب”، التي شنتها إدارة جورج بوش الابن على العالم الإسلامي، والتي عدت مختلف الشخصيات والجماعات الإسلامية مصدر تهديد بغض النظر عن الحوافز السياسية والعقائدية والاستراتيجية، وسعت إلى محاربة مَن أطلقت عليهم لقب المتطرفين من خلال تشجيع “المعتدلين” من وجهة نظرها، والذين هم في الحقيقة حاملو نهج التجديد العلماني.

ومن أبرز التقارير التي صدرت بصدد تكوين نُخبة تحمل على عاتقها وظيفة التجديد العلماني وبث قيم الاعتدال -على المذهب الأمريكي- تقرير “الإسلام المدني الديمقراطي”، وهو تقرير صدر عام2004 م من مؤسسة راند الأمريكية، قسم أبحاث الأمن القومي، ويهدف إلى “البحث عن شركاء ومصادر واستراتيجيات”.

يقدّم هذا التقرير الغطاء الفكري للسياسة الأمريكية لمحاربة الفكر الإسلامي أو ما ما سماه التقرير “التطرف الإسلامي”، وذلك عبر دعم أصحاب التوجه التجديدي العلماني والليبرالي، ودعم ما يقدمه من إسلام محرّف أطلق عليه التقرير “الإسلام المدني”، وذلك عبر تقوية منظمات المجتمع المدني والشخصيات ذات التوجه الليبرالي والعلماني، التي تدافع وتنشر قيم “الحداثة”، في مقابل قطع الموارد عن “المتطرفين”. فالتقرير يهدف إلى إعادة “بناء الدين”، فتقول كاتبة التقرير شاريل بينارد([17]): “إن تحويل ديانة عالَم بكامله ليس بالأمر السهل، فإن كانت عملية بناء أمة مهمة خطيرة، فبناء الدين مسألة أكثر خطورة وتعقيداً منها”.

وجاء في التقرير أن الولايات المتحدة والعالم الصناعي الحديث، بل المجتمع الدولي برمته؛ يفضلون جميعًا عالمًا إسلاميًا متناغمًا مع النظام العالمي.. ديمقراطيًا، وقابلًا للنمو الاقتصادي، ومستقرًا سياسيًا، وتقدّميًا من الناحية الاجتماعية؛ يتبع قواعد السلوك الدولي وقوانينه. وعلى هذا فمن الحكمة كما يؤكد التقرير “تشجيع العناصر الإسلامية المتوائمة مع السلام العالمي والمجتمع الدولي، والتي تحبذ الديمقراطية والحداثة”.

وعرّف التقرير الحداثيين بأنهم “الذين يريدون أن يُصبح العالم الإسلامي جزءًا من الحداثة العالمية، وأن يُحدَّث الإسلام ويُقوَّم ليواكب العصر”. وعرّف العلمانيين بأنهم “الذين يريدون أن يقبل العالم الإسلامي انفصال الدين والدولة، كما هو الحال في الديمقراطيات الصناعية الغربية؛ مع قصر الدين على المجال الخاص”. ثم خلص التقرير إلى أن “الحداثيين والعلمانيين هما الأقرب إلى الغرب من حيث القيم والسياسات”.

وأوصى التقرير بأنه “لتشجيع التغيير الإيجابي في العالم الإسلامي نحو الديمقراطية والحداثة والتوافق مع النظام العالمي المعاصر ، يجب أن تختار الولايات المتحدة والغرب بعناية شديدة العناصر والاتجاهات والقوى الإسلامية التي ينوون دعمها وتقويتها، ويجري تقييم الأهداف والمنظومات القيمية الخاصة بالحلفاء المحتملين، ودراسة أرجح العواقب التي قد يُسفر عنها دعمهم”.

وطريقة الدعم الغربي التي أوصى بها التقرير للحداثيين، تكون كما يلي:

نشر أعمالهم وتوزيعها بأسعار مدعمة.

تشجيعهم على الكتابة للجماهير العريضة وللشباب.

دمج آرائهم في مناهج التعليم الإسلامي.

منحهم منابر عامة.

نشر آرائهم وتفسيراتهم وفتاواهم على نطاق جماهيري واسع ، وذلك لمنافسة آراء وفتاوي الأصوليين والتقليديين.

طرح العلمانية والحداثة، بوصفهما الخيار الثقافي البديل للشباب المسلم الساخط.

تعبيد الطريق نحو الوعي بالتاريخ والثقافة الجاهلية، السابقة على الإسلام في الإعلام والمناهج الدراسية.

المساعدة في تطوير منظمات المجتمع المدني المستقلة؛ من أجل تعزيز الثقافة المدنية، وتوفير مجال للمواطنين العاديين لتثقيف أنفسهم والتعبير آرائهم بشأن العملية السياسية”.

وكذلك أوصى التقرير بزيادة وجود الحداثيين ونشاطاتهم داخل المؤسسات التقليدية([18]).

خامسًا: نماذج فاعلة.. مصر نموذجًا

تتخذ عملية التجديد العلماني أشكالاً عدة وتحدث على مستويات مختلفة، فعلى المستوى السياسي بمصر على سبيل المثال وبعد الانقلاب العسكري (3 يوليو 2013م)، أخذت دعوات “تجديد الخطاب الديني” تتزايد وتتكرر على لسان قائد الانقلاب والرئيس المصري الحالي عبد الفتاح السيسي، في إطار الصورة التي يبدو أنه يقدّم بها نفسه للغرب على أنه لا يتفق مع “الإسلام التقليدي”، بل يتبنى وجهة نظر منفتحة على تغيير الإسلام و”إعادة بناء الدين”، ليتوافق مع “قيم الإنسانية” و”روح العصر”، وغير ذلك من المصطلحات التي تعبر في حقيقتها عن التجديد العلماني للدين وتحريفه.

فقد صرح السيسي بأهمية تغيير فكر الأمة الإسلامية لأن فكرها مبني على الحرب، وأن الحرب لديها أصل لا استثناء، وأن الاستثناء هو السلام لديها، وقد التمس العذر لبعض الشباب الذي يلحد لأنه لا يصدق أن الخالق يريد ذلك([19]). وطالب بـ”تصويب الفهم الديني”، وتجديد “مجمل” الخطاب الديني، وتأسيس خطاب “ديني حديث”([20]).

وقد وجدتْ دعوة السيسي صدىً لدى حاملي لواء التجديد العلماني، ونشطت عدة شخصيات في هذا المضمار، نذكر منهم شخصيتين، ورغم وجود نماذج أخرى قديمة لأصحاب التجديد العلماني أكثر (رصانة) في الطرح، إلا أن الاختيار قد وقع على هاتين الشخصيتين لأن المفكرين العلمانيين الكبار قد أُشبعوا ردودًا بواسطة المفكرين المسلمين، ولأن هاتين الشخصيتين تحظيان بمتابعة متزايدة في الأوساط الشبابية حاليًا لسهولة أسلوبهما ونشاطهما على مواقع التواصل الاجتماعي التي تتابعها شريحة واسعة من المصريين وغير المصريين.

  • خالد منتصر

وهو طبيب مصري عُرف بدعوته إلى تجديد الإسلام وتنقيته من الأحاديث النبوية والأحكام الفقهية، التي يعدها رجعية ولا تتوافق مع العصر الحديث والعلم الصحيح.

وبجولة سريعة في صفحة منتصر على موقع التواصل الاجتماعي (فيس بوك)، نلاحظ عدة منشورات تأتي في إطار التجديد العلماني والتي يُلاحظ أنها خالية من الموضوعية والاجتهاد الرصين، فينشر مثلاً صورتين أحدها حديثة من جامعة القاهرة تظهر فيها طالبات محجبات، وأخرى قديمة من جامعة أسيوط تظهر فيها طالبات بدون حجاب، في إشارة منه وتحذير من أن الحجاب ينتشر في جامعات مصر وأن هذا دليل على التخلف الحضاري.

وفي منشور آخر يضع منتصر بعض مقاطع مرئية يسأل في أحدها سائل عن رأي الشيخ المستفتَى بمن يقول بالبصق في وجه المرأة المتبرجة؟ ويعلق منتصر ساخرًا: “علماؤنا يناقشون القضايا المصيرية للأمة بارك الله في العلماء”. مع أن المفتي قد قال إن هذا تنطع وليس من سماحة الدين.

وفي منشور آخر يسخر منتصر من أن الأصل في هلال رمضان أن يُرى بالعين المجردة استنادًا لحديث “صوموا لرؤيته وأفطروا لرأيته”.

ومما يُلاحظ أن “السخرية” مع البساطة وشعبوية الطرح أدوات مهمة يستخدمها منتصر في سعيه التجديدي العلماني، على حساب النقاش العلمي الجاد والكتابة المنهجية ومناظرة المتخصصين في الشريعة الإسلامية. وهذا الأسلوب قد يكون أخطر من الكتب والمؤلفات التي تعج بالشبهات المدعمة بالنصوص المتشابهة، لأن الغالبية العظمة لا تتطلع على هذه الكتب النخبوية، بعكس الأسلوب الساخر البسيط على مواقع التواصل الاجتماعي والتي يتابعها ملايين الناس غير المتخصصين.

ولمنتصر عدة كتب تنتقد أحكامًا فقهية، وتشكك في أحاديث السنة خاصة صحيح البخاري، وأغلبها تجميع لمقالاته التي يكتبها منذ أكثر من عقد، وتحديدًا منذ مطلع الألفية الثانية.

وإن شئنا تسليط الضوء على أحد الموضوعات الدينية التي يمارس فيها منتصر التجديد العلماني موضوع البحث، نتناول تقديمه فهمًا جديدًا لمعنى “الحُكم” في القرآن الكريم، فقد قال إنه يعني “الحِكمة” أو “القضاء”، ولا يعني الحُكم أو السلطة السياسية أو الخلافة أو الإمامة. وهو مقلد في ذلك لسعيد العشماوي في كتابه “الخلافة الإسلامية”.

ضارباً عرض الحائط بالنصوص الدينية وإجماعات علماء المسلمين ومؤلفاتهم قديمًا وحديثًا، والتي تؤصل وتُبيّن وتضع أصولاً وضوابط كلية حول الاقتصاد والسياسة والاجتماع وغير ذلك من شؤون الحياة.

ولكن منتصر أراد أن يخرج بنتيجة مفادها أن الإسلام لا يوجد به ما يُلزم المسلمين بأطر معينة في مجالات الحياة المختلفة، وأن المسلم حر في إدارة شؤون حياته حرية مطلقة غير منضبطة بوجهة النظر الإسلامية، وقد اتخذ من تفسير كلمة “الحُكم” بأنها “الحكمة” و”القضاء” سبيلًا لتجديده العلماني للدين الإسلامي، وهو ما يتفق وما عرضناه من التوصيات الغربية ببذل الجهد لـ”إعادة بناء الدين”.

ومما يلفت النظر أن منتصر قد ذكر هذا في مقال نشرته أحد المواقع المسيحية المعروفة بالتعصب، وهو أمر دالّ على تلاقي المصالح والأهداف([21]). خاصة وأن منتصر لا يتفوه بأي نقد للمسيحية أو المسيحيين، بل على العكس يبالغ في تقدير المسيحية والاحتفاء بها وبكل ما يتعلق بها في كل مناسبة وربما دون مناسبة.

  • إسلام البحيري

وهو إعلامي مصري له برامج متعددة على مدار السنوات القليلة الماضية، أغلبها في قنوات ذات طرح علماني وتابعة لرجال أعمال مؤيدين للسلطة المستبدة، وهو في نفس الوقت رئيس مركز الدراسات الإسلامية بجريدة اليوم السابع، والتي هي أيضاً ذات طابع علماني ومؤيدة للسلطة، وهو نفسه مؤيد للسلطة ومادح لها.

يلقي البحيري برنامجه في ظل خلفية موسيقية أشبه بموسيقى أفلام الرعب الخافتة، وفي “تتر” البرنامج رسوم متحركة لرجل يهدم جبلاً (في إشارة للتراث الإسلامي) ثم ينجح في ذلك فيخرج إلى النور وينجح في بناء شجرة تمتد أغصانها في وسط المساحات الخضراء (في إشارة إلى رغد العيش بعد اجتياز حاجز التراث وظُلمته).

في برامجه يهاجم البحيري كتب الحديث النبوي والتراث الإسلامي وينتقدها ويختار بين الأقوال العلمية بدون أي ضوابط منهجية، فقط بعقله وبما يفهمه من النصوص وبما يقتنع به، رغم أن البحيري كما يبدو من حلقاته يعاني من ضعف في اللغة جعله لا يستطيع أن يقرأ النصوص القرآنية قراءة سليمة، وجعله أيضاً لا يقدر على التلفظ الصحيح ببعض الأسماء الأخرى، مع أن التمكن من اللغة وفهم دلالاتها من أهم ما أطلق عليه علماء المسلمين “علوم الآلة” للمتصدر للتعامل مع التراث الإسلامي، وما يقال في اللغة يقال في ضعفه في أصول الفقه ومصطلح الحديث ومناهج المحدثين والقواعد الفقهية ومقاصد الشريعة، ربما لأنه لا يرى أهمية لهذه العلوم فهي من جنس “التراث” أيضاً، ولكن ذلك لم يمنعه من الهجوم على صحيح البخاري ومسلم وغيرهما وتكذيب أحاديث عدة وردت فيه بزعم أنها متعارضة مع القرآن، كما فعل مع كتب أخرى كذلك.

يصف إسلام كتب التراث بأنها “الكتب القديمة”، ويقول بأن المرجع الوحيد هو القرآن أما الأحاديث فهي عمل بشري لأن البشر هم من جمعوها وأوصلوها إلينا، هكذا يقول، في حين أن القرآن جمعه بشر وأوصلوه إلينا أيضاً؛ فمقتضى كلامه عدم ثبوت القرآن لكنه لم يصرح بذلك، فلم ينظر إلى آلية نقل الأحاديث ولا يعير علم الجرح والتعديل المعروف بعلم الرجال أي اهتمام، ولا ينشغل بالجهد الكبير المتراكم عبر مئات السنين في إثبات الأحاديث ونقدها من حيث السند والمتن، وفرزها إلى مقبول ومردود (بأقسامهما المتعددة)، وسرد المعلومات عن كل راوٍ من رواة الحديث وكتابة ما يشبه السيرة الذاتية له والتقييم الشامل لصدقه أو كذبه وأين عاش؟ وهل ثبتت مقابلته للراوي الذي نقل عنه أم لا؟ وهل كان عدلاً أم لا؟ وما رأي علماء عصره فيه؟ لم يلتفت البحيري لكل ذلك، بل بكل سهولة يقول إن هذا جهد بشري ويخلص من تلك المقدمة اليسيرة أن هذا المنتج الذي هو في صورة حديث من الممكن ألا نصدق أنه صادر عن رسول الله، وهي نفس المقدمة السطحية التي نظر بها البحيري إلى التراث جميعه، فبما أنه غير معصوم وكتبه بشر فلنا أن نقول آرائنا فيه بكل حرية، دون أن يشير إلى أي ضوابط علمية  وشروط منهجية كالتي توجد في أي علم كالتاريخ والسياسة والاقتصاد والاجتماع والجغرافيا وغير ذلك، بل تعامل مع التراث الإسلامي كأنه من جنس الحكاوي الشعبية والأخبار اليومية التي يتكلم فيها كل أحد دون أي علم أو منهج معرفي أو تخصص.

ليس هذا مقام التوسع في إظهار طريقة البحيري في التعامل مع التراث، وإنما نقدمه هنا كنموذج لمهاجمة التراث، وهذا النموذج قد نجح في تقديم سلاسل متعددة من البرامج، كبرنامج “البوصلة” و”الخريطة” و”مع إسلام” وغير ذلك من الحلقات والمقابلات والمقالات الصحفية، وقد كان هذا بفضل المؤسسات التي تقف وراءه وتدعمه وتروّج له، وجاء أيضاً في سياق زمني تحدث فيه المحاولات المختلفة من السلطة والمتعاونين معها لتوهين التديّن عند المصريين بمهاجمة علماء الإسلام وإنتاجهم الفكري، لما يسببه ذلك التدين من طاقة دافعة للوقوف أمام ممارسات الظلم والجور، على عكس التعلمُن والإلحاد الذي يجعل معتنقيه غير مبالين بما يحدث حولهم ولا يشعرون بمسؤولية إصلاحية أو تغييرية نحو الأفضل.

خاتمة.. نحو مدافعة التجديد العلماني

مواجهة التجديد العلماني وخاصة المعاصر منه بحاجة إلى مزيد من النشاط العلمي والبحثي الذي يتابع الجديد من أشكال هذا التجديد الذي هو في الحقيقة سعي حثيث لتحريف الدين الإسلامي، لا التحريف النمطي المعهود بتغيير ألفاظ القرآن الكريم بل بتحريف المضامين والمعاني وهو ما أطلق عليه بعض العلماء “التحريف المعنوي”، خاصة في ظل اتساع هائل في حرية النشر وإمكانية الوصول إلى قطاع عريض جداً من المسلمين بصورة أسهل عما قبل على مواقع التواصل الاجتماعي.

بالطبع يلقى التجديد العلماني مواجهة وردّات فعل قوية من أغلبية المسلمين، ولكن تظل هناك حاجة إلى دفاع علمي بإزاء هذا النوع من التجديد الذي يبدو لغير المتخصص علميًّا رغم خواء مضمونه وركاكة منهجيته، فوجود فريق من الناشطين المنظمين المتخصصين والمتفرغين لهذا الأمر على مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة يُعد ضرورة ملحّة.

كذلك من وسائل مواجهة التجديد العلماني، تنويع الردود العلمية لتناسب الشرائح المتنوعة، بداية من البحث الأكاديمي ووصولاً إلى المطويات الميسرة، وباستخدام المنابر المختلفة، كالندوات والمؤتمرات للمختصين من ناحية وللجماهير من ناحية أخرى، وفي محاضرات وخطب المسجد، وفي مواقع التواصل الاجتماعي لأهميتها البالغة كما سبق والفضائيات والمجلات، وغير ذلك من أساليب الترويج والتفاعل والتي تضمن عدم بقاء الردود والتوضيحات أسيرة الكتب، خاصة وأن الإحجام عن القراءة المطولة -ولو تطويلاً يسيراً- أصبح سيد الموقف، وصار المفضل الآن عند الغالبية الوسائل السمعية والبصرية الجذابة، والتي لا تستمر لوقت طويل، وكذلك الكتابات المختصرة المركزة المباشرة والتي تتميز بسهولة اللغة، وهذا لا يقتضي التوقف عن حركة البحث العلمي والردود الرصينة والمطولة، فهذه الحركة مهمة للغاية وتحتاج أيضاً إلى التنشيط وإطلاق المراكز البحثية المتفرغة لذلك، لكن المقصود الانتباه إلى المستويات الأخرى وعدم الجمود على طريقة واحدة.

من الوسائل أيضًا إضافة مادة منهجية خاصة بالتجديد العلماني في المعاهد التعليمية الشرعية، مادة تتناول تاريخ نشأته ودوافعه وأهدافه وخطورته وكيفية مواجهته وبيان ضعف بنيته المنهجية والعلمية.

وكذلك من الوسائل المهمة توسيع دائرة الحركة النقدية بالإعلام، لتشمل رموز التجديد العلماني المعاصرين، فتُعقد البرامج التلفزيونية المخصصة لمتابعة هذا الملف وتفنيد ما يصدر عنه وتحذير الجماهير المسلمة من رموزه والرد عليهم بالحجة والبيان.

وعماد وسائل مواجهة التجديد العلماني هو إشاعة التعليم الديني الصحيح والاهتمام بالدراسات الإسلامية بفروعها المختلفة، فهذا المجهود البنائي يشيع الفهم الصحيح للتجديد الديني في الأمة، ويقود إلى لفظ المسلمين لأي محاولات تحريفية مهما تسربلت بلباس الشعارات البراقة كالتجديد والتنوير والتحديث والعلموية.

 

([1]) عبد العزيز كحيل، التجديد والاجتهاد عند العلمانيين، موقع (إسلام أون لاين)، 29-9-2013م.

([2]) رواه أبو داود (رقم/4291)، وصححه السخاوي في “المقاصد الحسنة” (149)، والألباني في “السلسلة الصحيحة” (رقم/599)

([3]) عبد الرحمن السليمان، حاشية في أصل مصطلح (العَلْمانِيَّة)، منتدى الجمعية الدولية لمترجمي العربية، 10-6-2006م.

([4]) Encyclopaedia Britannica, secularism, www.britannica.com/topic/secularism.

([5]) بتصرف من: عدنان محمد أمامة، التجديد في الفكر الإسلامي، دار ابن الجوزي، ط1، عام 1424، السعودية، ص16 وما بعدها.

([6]) المناوي، فيض القدير، (1/14). وينظر: عدنان محمد أمامة، التجديد في الفكر الإسلامي، دار ابن الجوزي، ط1، عام 1424، السعودية، ص16-17.

([7]) أبو الأعلى المودودي، موجز تاريخ تجديد الدين، ص13.

([8]) المناوي، فيض القدير، (2/357).

([9]) عون المعبود، (11/391).

([10]) الوعي، عدد129، مقال (معنى تجديد الدين)،  ص25.

[11])  (أي: ضَعُف.

([12]) القرضاوي، من أجل صحوة راشدة، ص28.

([13]) عمر عبيد حسنة، الاجتهاد للتجديد سبيل الوراثة الحضارية، ص20.

([14]) عبد الفتاح محجوب إبراهيم، حسن الترابي وفساد نظرية تطوير الدين، ص53.

([15]) محمد مراح، مفهوم التجديد في الفكر الإسلامي، مجلة القافلة، عدد3، مجلد48، ص1.

([16]) عبد العزيز كحيل، التجديد والاجتهاد عند العلمانيين (مصدر سابق).

([17]) عالمة اجتماع يهودية من أصل نمساوي، أمريكية وزوجة مستشار بوش الابن السابق زلماي خليل زاد وأحد رموز المحافظين الجدد، لها مؤلفات تتناول المرأة المسلمة عدّت فيه الحجاب رمزًا لإخضاع المرأة وأنها مضطهدة.

([18])Cheryl Benard, Civil Democratic Islam, Partners, Resources, and Strategies.

نقله إلى العربية د. إبراهيم عوض، ط1، القاهرة، تنوير للنشر والتوزيع، 2013م.

([19]) موقع يوتيوب: الرئيس السيسي  عن تجديد الخطاب الديني: اللي احنا فيه ده في أكتر منه ضياع للدين، 28-7-2018م.

([20]) موقع يوتيوب: السيسي تجديد الخطاب الديني دون المساس بالثوابت هو هدفنا، 21-6-2016م.

([21]) موقع الأقباط متحدون، مقال: “هل هذه حقاً بديهيات دينية”، خالد منتصر، 27-5-2017م.

زر الذهاب إلى الأعلى