مذبحة التراث الإسلامي.. الأبعاد والأدوار
مقدمة
ظهرت محاولات عديدة للنيل من التراث الإسلامي، بعضها صدر ويصدر عن المنتسبين إلى الأمة العربية والإسلامية، بدعاوى التنوير والمعاصرة وتجديد الخطاب الديني، وما شابه ذلك من ألفاظ تختلف في مسمياتها وتتفق في مضمونها، ذلك المضمون الذي ينطلق من فكرة قوامها أن التراث الإسلامي لم يعد صالحاً لزماننا وأنه قد آن الأوان للتخلص منه أو بتعبير أخف تهذيبه، بصفته عبئاً على الأمة العربية والإسلامية، وأن الوسيلة الوحيدة للتقدم هي اتباع الغرب حذو القذة بالقذة، والأخذ بنفس الأسباب التي أخذ بها نحو التحديث.
تلك الفكرة التي عبر عنها بوضوح (رائد التنوير) في مصر سلامة موسى، بقوله: “يجب علينا أن نخرج من آسيا وأن نلتحق بأوربا، فإني كلما زادت معرفتي بالشرق، زادت كراهيتي له، وشعوري بأنه غريب عني، وكلما زادت معرفتي بأوربا، زاد حبي لها وتعلقي بها، وزاد شعوري بأنها مني وأنا منها… أريد حرية المرأة كما يفهمها الأوربي… وأريد من التعليم أن يكون تعليماً أوربياً لا سلطان للدين عليه ولا دخول له فيه… وأريد من الحكومة أن تكون ديمقراطية برلمانية كما هي في أوربا، وأن يُعاقب كل من يحاول أن يجعلها مثل حكومة هارون الرشيد أو المأمون… وأريد أن أرى العائلة المصرية مثل العائلة الأوربية… وأريد من الأدب أن يكون أدباً أوربياً… ثم أريد أن تكون ثقافتنا أوربية… أما الثقافة الشرقية فيجب أن نعرفها كي نتجنبها”. إلى آخر كلامه[1].
وقد أنهى كتابه بقوله: “فلنولّ وجوهنا شطر أوربا”[2].
من جانب آخر تعمل جهات غربية عديدة من خلال دراسات الاستشراق ومراكز الأبحاث ووسائل الإعلام، على الحط من قدر التراث الإسلامي، والتشكيك في صلاحيته، وتسليط الضوء على بعض أجزائه ومواضعه بشكل مجتزأ ومبتسر ومشوَّه، دون وضعها في إطارها العام، وزمانها، وطبيعتها البشرية، وسياقها، ومسؤولية واضعها الفردية عنها.
فما بواعث هذا الهجوم الواسع ومتعدد الجهات والجبهات على التراث الإسلامي؟ هذا ما نتحدث عنه في المطلب التالي.
المطلب الأول: بواعث الهجوم على التراث الإسلامي
1- رأسمال الأمة
إن التراث الإسلامي هو رأس مال هذه الأمة، وفي نفس الوقت هو إنتاجها المعرفي الممتد على مدار قرون، وهو مخزونها الهائل، وإبداعها المتفرد؛ وهو القوة الدافعة والرافعة، ويحوي بمجموعه النموذج المتفرد في الدين، والفكر، والثقافة، والأخلاق، وغير ذلك من مقومات الحضارة الإسلامية، مما يجعل الأمة في حال نهلها من معينه والاستفادة من خبراته ذات حضارة مستقلة مستعصية على الذوبان في غيرها، ساعية في أزمنة استضعافها لاستعادة مجدها التالد، رافضة أية وصاية عليها، فكرية كانت، أو عسكرية، أو اقتصادية، أو سياسية.
إن التراث الإسلامي هو رأس مال هذه الأمة، وفي نفس الوقت هو إنتاجها المعرفي الممتد على مدار قرون، وهو مخزونها الهائل، وإبداعها المتفرد؛ وهو القوة الدافعة والرافعة، ويحوي بمجموعه النموذج المتفرد في الدين، والفكر، والثقافة، والأخلاق، وغير ذلك من مقومات الحضارة الإسلامية، مما يجعل الأمة في حال نهلها من معينه والاستفادة من خبراته ذات حضارة مستقلة مستعصية على الذوبان في غيرها، ساعية في أزمنة استضعافها لاستعادة مجدها التالد، رافضة أية وصاية عليها، فكرية كانت، أو عسكرية، أو اقتصادية، أو سياسية.
يقول الفيلسوف طه عبد الرحمن: “لا سبيل إلى الانفكاك عن حقيقة التراث التاريخية، ولو سعى المرء إلى ذلك ما سعى، لأنها وإن بدتْ في الظاهر حقيقة بائنة ومنفصلة بحكم ارتباطها بالزمن الماضي، فهي في جوهرها حقيقة كائنة ومتصلة تحيط بنا من كل جانب وتنفذ فينا من كل جهة، كما أنه لا سبيل إلى الانقطاع عن العمل بالتراث في واقعنا، لأن أسبابه مشتغلة على الدوام فينا، آخذة بأفكارنا وموجهة لأعمالنا، متحكمة في حاضرنا ومستشرفة لمستقبلنا، سواء أقبَلنا على التراث إقبال الواعي بآثاره التي لا تنمحي، أم تظاهرنا بالإدبار عنه غافلين عن واقع استيلائه على وجودنا ومداركنا”[3].
يُعبّرُ التراث عامةً عن الأمة وهويتها، بل هو خيرُ معبّر عنها، لأنّه جزء منها، وهكذا كلّ تراث هو جزء من الأمة التي أنجزته، فلا يمكن أن تؤسّس أيّة أمة نهضتها على تراث آخر غير تراثها، لأنّ التراث يختزن إمكانات النهوض والإبداع في حياة الأمة، وهو زادها التاريخي، ولا تتحقق المنعطفات الكبرى والنهضات في حياة الأمم من دون زادها التاريخي، فالنهضة يحتضنها تراث الأمة ويُغنيها، وتصبح فيما بعد أحد مكتسبات الأمة في حركتها التاريخية والأدبية، مثلما كان التراث ذاته من أبرز هذه المكتسبات، وبعد أن يزحف التاريخ إلى الأمام ويستوعب منجزات النهضة في زمان لاحق، تندمج هذه المنجزات بالتراث، وتتّحد معه في مركب حضاري واحد، فيضمّ التراث عندئذ تمام التجليّات والإبداعات والمكتسبات المتنوعة للأمة في أزمنتها الماضية. فالتراث ليس أمراً ساكناً ميتاً أفرزته هزائم الأمة وانكساراتها التاريخية، وإنما هو تلك الحيوية والفعاليّة المتدفّقة في وجدان الأمة[4].
” والمعطيات التراثية تكتسب لوناً خاصاً من القداسة في نفوس الأمة ونوعاً من اللصوق بوجدانها، وكل معطى من معطيات التراث يرتبط دائماً في وجدان الأمم بقيم روحية وفكرية ووجدانية معيّنة”[5]؛ وأية حضارة لا يمكن لها أن تقوم بدون تراث، ويجب أن تكون أصيلة مستقلة لا يعتمد أفرادها على ما تنتجه الحضارات الأخرى فقط؛ فالتراث يحفظ كيان الأمة وبقاءها واستمرارها بالرغم من العدوان والتشرّد والانتشار والبُعد التاريخي والضغط السياسي والقهر القومي[6].
وللتراث وظيفة أساسية في تجليّة الهويّة الحضاريّة للأمة، وتأكيد ذاتها وحماية هذه الذات من الذوبان والانكسار، باعتبار أن التراث يتّسع لمجموعة الرؤى والأفكار والخبرات والإبداعات، مما أنتجته الأمة في طول تجاربها الحياتية الشاقة، في حالات الانتصار والهزيمة، وفي حالات الازدهار والركود، وفي حالات الزمن المتحرك المحيط بجميع فعاليات الأمة ومكتسباتها، مثلما يمثل الزاد التاريخي لها في وجه الآخر.
يقول د. عبد المجيد النجار: “وإذا كان للتراث في سير الأمم بصفة عامة موقع خطير في توجيه الحياة، فإن التراث الإسلامي كان له في حياة المسلمين من الموقع الموجِّه لحياتهم ما لم يكن لتراث أية أمة أخرى، وذلك لما هو مصبوغ به من صِبغة دينية على اختلاف فروعه وتنوعه؛ إذ تعاليم الدين الإسلامي -كما هو معلوم- شمولية في تناولها بالبيان لحياة الإنسان، فكان بذلك تفاعل الأجيال اللاحقة لتراث السالفة تفاعلاً للعنصر الديني باعتبار تلك الصبغة الدينية للتراث، وقد كان لما تعرضت له الأمة الإسلامية من التحديات الثقافية العاتية قديماً وحديثاً أثر بيّن في الطريقة التي تعاملت بها أجيالها مع التراث؛ إذ التحدي الثقافي يستهدف أول ما يستهدف في غزو الأمم تراثها، فتكون إذن وقائع المعركة دائرة بعنف على ساحته: استهدافاً لتحطيمه من قِبل الغزاة إذ ذلك هو المدخل الأمثل لتحطيم كيان الأمة. واستعصاماً به للدفاع عن الذات الثقافية من قبل المتعرضين للغزو إذ ذلك هو الحبل الجامع لكيانها. وكلما كان التحدي الثقافي المستهدف لأمة من الأمم أعنف كانت آثار المعركة على ساحة تراثها أبلغ في طرفي الاستعصام والاستهداف جميعاً. ولعل الغزو الثقافي الذي تتعرض له الأمة الإسلامية في العصر الحديث هو الغزو الأعنف الذي تتعرض له في تاريخها كماً وكيفاً ولذلك فقد كان أثره في ساحة التراث بليغاً، من حيث الموقف الذي اتخذه المسلمون في التعامل معه تأثراً بهذا الغزو سلباً وإيجاباً، وهو الموقف الذي شابَه بسبب ذلك كثير من الخلل الذي يحتاج بالغ الحاجة إلى المراجعة والتصحيح، في سبيل موقف يقوم التراث تقويماً صحيحاً، ويوظفه توظيفاً فاعلاً في الحفاظ على كيان الأمة من جهة، وفي الدفع إلى حركة النهضة الحضارية المبتغاة من جهة أخرى”[7].
وقد أدركت الجهات الغربية والتابعون لها فكراً هذه المكانة للتراث الإسلامي، ربما أكثر من بعض المسلمين أنفسهم، وزاد هذا الإدراك بعد موجة العودة إلى التراث التي تتزايد يوماً بعد يوم، والشواهد التي تؤكد على تزايد الإقبال على شراء الكتب التراثية كثيرة، والحقيقة أن هذا الإقبال لم يزل موجوداً في أوساط الأمة الإسلامية، لكنه تزايد بين الشباب بصورة خاصة مع نشأة ما أُطلق عليها “الصحوة الإسلامية”، والتي عمت العالم العربي بداية من أواخر الستينيات، تزامناً مع فشل المشروع القومي الذي كُتبت شهادة وفاته مع هزيمة الخامس من يونيو/حزيران عام 1967م.
2- الإقبال على كتب التراث
“من منكم زار معرض الكتاب بـ(الكرم)… الأكيد أن الزائر سيشدّ انتباهه شكل الزوّار… فإقبال الملتحين ومرتدي الأقمصة من ناحية والمنتقبات من ناحية ثانية كان هو الطاغي”.
هكذا تساءلت بعض وسائل الإعلام التونسية في تقرير بعنوان (الكتب الدينية تزحف والملتحون والمنتقبات يلفتون الأنظار)، معبرة عن اندهاشها واستغرابها، وأضافت: “هذه الفئة من الزوّار ذات الخصوصية شكلاً وهنداماً، أفرزت نتيجة هي الأبرز في معرض تونس الدولي للكتاب في دورته الحالية، وهي أن أكبر نسبة إقبال على الكتب كانت من نصيب الكتب الدينية والفقهية، منها القديمة والمعروفة على غرار صحيح البخاري وصحيح مسلم، ومنها المؤلفات الحديثة لعديد من الشيوخ”.[8]
ولم تكن السعودية بعيدة عن تونس، فقد حظيت الكتب الدينية والشرعية، ومؤلفات كبار العلماء والدعاة والمفكرين، باهتمام زوار معرض الرياض الدولي للكتاب من العام الجاري، وتصدرت الكتب الدينية المبيعات، وفق عديد من الناشرين وأصحاب دور النشر المشاركة في المعرض[9].
وفي الجزائر وتحت عنوان (الكتاب الديني ما يزال في الصدارة وإقبال كبير على كتب الفقه والفتاوى) يذكر تقرير أن الحديث عن الكتاب الديني يتجدد في كل دورة من معرض الجزائر، حيث يحقق الصدارة في المبيعات، وفي الدورة 22 عام 2017 أجمع العارضون على أن الإقبال على الكتاب الديني لم يقلّ وما يزال في الصدارة، في حين أن هناك فئة أخرى من المؤلفات حول الدين من منظور حداثي ولكن يبقى الإقبال عليها محصوراً من طرف فئة ضيقة[10].
أما في مصر التي يُعد معرض القاهرة الدولي للكتاب بها أكبر معارض الكتاب العربي، فتظل كل عام الكتب الدينية تلقي رواجاً كبيراً في المعرض، وهناك طلب مستمر على كتب الفقه، والتاريخ الإسلامي، والتفاسير، والرقائق، والزهد، والحديث، والعقيدة، وغير ذلك[11].
فكان هذا الإقبال الواسع على التراث باعثاً ليس لدفع الغرب وحده للهجوم على التراث؛ بل لدفع أيضاً منتسبين إلى الأمة الإسلامية إلى ذلك الهجوم، من منطلق أيديولوجي غربي تارة، إما في إطار السعي إلى تقرير فكر دخيل، كالقومية والليبرالية والاشتراكية وغيرها، وما يحدث خلال ذلك التقرير من تحريف مدلولات قرآنية قطعية الدلالة، أو إنكار أحاديث قطعية الثبوت، أو عدم الاعتراف بحجية السُّنة كاملة، أو بالدعوة إلى التخلص من تراث المفسرين والفقهاء، والنظر بصورة مباشرة في القرآن والسنة والاستنباط منهما، حتى مع عدم امتلاك ناصية علوم الآلة وأدوات الاستنباط ومفاتيح التراث.
ومن منطلق وظيفي تارة أخرى، فبعض المفكرين والمثقفين يوظف قدرته البحثية وطاقته المعرفية لخدمة الأنظمة الديكتاتورية، التي تسعى من طرفها إلى تقويض الوجود المعارض لها بشتى أطيافه، وفي القلب منه المنتمي إلى الحضارة الإسلامية وأصالتها، والذي يستمد مسؤوليته من تلك الحضارة وقيمها التي ترسخ وتحث على العدل والحرية والكرامة الإنسانية من منظورها الخاص كوقود للتغيير والإصلاح؛ لذلك تنطلق الحملات الداعية إلى ما يُسمى “تجديد الخطاب الديني”، والتي ترمي إلى “تهذيب” التراث الإسلامي ليكون منسجماً مع أهواء السلطات ومِزاجها الخاص، فتكون النتيجة تراثاً مختطَفاً لا يعبر في حقيقته عن هذه الأمة، ولا يدفعها إلى حسن التعامل والتعاطي مع واقعها، ويحرف وجهة أبنائها عن صحيح الفكر والتدين.
المطلب الثاني: التراث.. المعنى والمفهوم
1- تعريف التراث
التراث لغة: ما يخلفه الرجل لورثته، وأصله وِرث أو وِراث، فأُبدلت الواو تاءً. وقيل إن الورث والميراث يكون في المال، أما الإرث ففي الحَسب[12]. مما يشير إلى الميراث الثقافي؛ لأن الحسب هو مفاخر الآباء وشرف الفِعال التي يرثها الأبناء ويتغنون بها، وقد اعتبر الزمخشري هذا الاستعمال الأخير لكلمة إرث من قبيل المجاز[13]. وقد جاءت في القرآن الكريم مرة واحدة بمعنى الميراث[14]، ووردت في السُّنة بنفس المعنى[15].
وهكذا فإن كلمة التراث في لغة العرب تعني الميراث، وهو يشمل المال والأحساب، وقد ورد في القرآن للدلالة على الميراث الديني والثقافي؛ كما في قوله تعالى في دعاء زكريا عليه السلام: {يرثني ويرث من آل يعقوب} [مريم:6] “فإنه يعني وراثة النبوة والعلم والفضيلة”[16].
أما التراث اصطلاحاً: فهو الموروث الإنساني، أو التراث الإنساني، الذي يتراكم خلال الأزمنة، من تقاليد وعادات وتجارب وفنون وعلوم؛ فمنه تراث عالمي ومنه تراث شعبي وكذلك التراث التاريخي، التراث الأدبي، التراث الديني والتراث الصوفي، وغير ذلك[17].
فالتراث باختصار هو السجل الكامل للنشاط الإنساني في أمة ما على مدى زمني طويل. وفي تعريف آخر: حفظ مجمل النشاط الإنساني في الذاكرة الجماعية لشعب من الشعوب، بحيث تعكس نفسها في حاضر الأمة تفكيراً وسلوكاً.
2- التراث الإسلامي
أما مصطلح التراث الإسلامي فهو يعبر عن كل ما أنتجه العقل المسلم، ولا يدخل بذلك فيه الوحي بشقيه؛ فالتراث الإسلامي هو ما تناقلته أجيال الأمة من العلوم والمعارف نظرية وتطبيقية في مختلف حقول المعرفة النظرية ومختلف مجالات التطبيق في الحياة العملية، مما هو من كسبها الاجتهادي في التدين بالدين الإسلامي، فهماً لأحكامه ومطلوباته المجردة، وتنزيلاً له على واقع الحياة في مناحيها المختلفة، أخذاً بعين الاعتبار في هذا المفهوم لكون كل العلوم النظرية والعملية التي أنتجها المسلمون تدخل ضمن مفهوم التدين، باعتبار أن كسبها إنما كان بداعية من الدين، وهي بوجه من الوجوه إنما هي أفهام للدين أو تطبيقات له، وذلك ما عناه ابن تيمية في تعميمه لمفهوم العلوم الشرعية على جميع العلوم النقلية والعقلية إذ يقول: “إن الشرعيات من [العلوم] ما أخبر الشارع بها وما دل الشارع عليها، وما دل الشارع عليه ينتظم جميع ما يحتاج إلى علمه بالعقل”[18]. وهذا المعنى للتراث يخرج من مفهومه ما تناقلته الأمة من الوحي متمثلاً في نصوص القرآن الكريم والحديث الشريف؛ فذلك إنما هو موروث عن الأجيال السالفة بمجرد الرواية والنقل، وليس موروثاً باعتباره كسباً اجتهادياً؛ إذ هو وحي إلهي مستعلٍ على الإنسان وليس له فيه من مدخل سوى تلقيه وفهمه والعمل بمقتضياته، وربما خرج من مفهوم التراث أيضاً ما وقع عليه إجماع الصحابة من المفاهيم والتطبيقات الدينية، وهو أيضاً يعتبر ملحقاً بالوحي في ثباته وديمومته، بحيث لا يمكن أن يطرأ عليه التغيير بالنظر اللاحق من المجتهدين[19].
ومصطلح “التراث الإسلامي” عند فريق من الباحثين يشمل النص الإسلامي الموحَى المنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، المتمثل بكتاب الله، وبيانه في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما يشمل سائر ما أنتجه العقل المسلم من خلال تفاعله مع هذين المصدرين الأساسيين لمعرفته، ومع الواقع الذي عاشه، واللغة العربية التي مثلت وعاء ذلك النص، ووسيلة الإفصاح عن مكنونه وبيان معانيه. فحول النص الموحى استطاع العقل المسلم أن يبني مجموعة من المعارف والعلوم التي استندت إلى النص في مرحلة تكوينها، ثم تحولت إلى وسائل لفهمه وأدوات لتفسيره وتأويله وتنزيله على الواقع الـمَعيش. وهذه العلوم التي تعارف أسلافنا على تسميتها بالعلوم النقلية تنامت على أيديهم لتتنوع بعد ذلك إلى علوم مقاصد وعلوم وسائل، وعلى تلك المعارف والعلوم وتفاعُل العقل المسلم معها قامت قواعد الحضارة الإسلامية وأرسيت دعائم العمران الإسلامي.
والكاتبون الذين يعتبرون التراث شاملاً لذلك كله يغلب أن يكونوا من أولئك الذين تأثروا بالمفهوم الغربي الاستشراقي للتراث، الذي درج على عدم التفريق بين النص المعصوم المحفوظ كالقرآن الكريم، وما انبثق عن النص أو بُني عليه أو استند إليه بشكل من الأشكال، ولذلك يضع هؤلاء المعاصَرة مقابل التراث باعتبارهما نقيضين، إذ كل منهما -في نظرهم- يمثل فلسفة ومنهاجاً ونظام حياة.
وفي مقابل هؤلاء يقف فريق من الباحثين المسلمين الذين يضعون مساحة فاصلة بين النص الموحَى، الذي لا يرون جواز إطلاق لفظ التراث عليه إلا بالمعنى اللغوي المحدد، الذي وردت الإشارة إليه في قوله تعالى: { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا } [فاطر:32]، وذلك تنزيهاً للقرآن الكريم من أن يُسوَّى بينه وبين ثمرات العقول البشرية، ونأياً به وبالسنة النبوية أن يدخلا في دائرة السجال الدائرة رحاها بين أهل التراث وأهل المعاصرة[20].
فمع افتراض إطلاق التراث الإسلامي على كلٍّ من مصدر هذا التراث وهو الوحي، وعلى ما تفرع عنه من اجتهادات بشرية كما جرى على ذلك بعض الباحثين غير قاصدين المعنى الاستشراقي[21]، فتكون القسمة في قصدهم حينها إلى تراث معصوم وهو الوحي، وإلى تراث غير معصوم يدخل فيه الإنتاج البشري حول الوحي، أي الآراء والاجتهادات التي تراكمت عبر التاريخ الإسلامي في صورة مؤلفات أو كلمات أو خطب منقولة وغير ذلك؛ ويكون بذلك الخلاف بين من أخرج الوحيين من مفهوم “التراث الإسلامي” وبين من أدخلها فيه لفظياً لا أكثر، فكلاهما يتفق على عصمة الوحي وعدم عصمة ما كُتب حوله؛ بل هو عمل إنساني وإن ارتبط بالوحي. ولهذا تكون دراسته دراسة نقدية هادفة هي أمر مفيد يندرج ضمن سبل العناية به والاستفادة منه لصياغة الحاضر دون التخلي عن الأصالة، فالذين يستوعبون تراثهم اكتشافاً ودراية ونقداً، يكونون أكثر استعداداً للحفاظ عليه والاستفادة منه.
المطلب الثالث: القوى والجهات الفاعلة
تتداخل عدة جهات في عملية الهجوم الواسعة على التراث الإسلامي، ولكل منها أجندتها وأغراضها.
1- فمنها بعض الدول، التي تستخدم وزارات الثقافة والإعلام والتعليم والداخلية في بناء تصورها الخاص عن التراث الإسلامي، فتروّج عن طريق الثقافة والتعليم والإعلام إلى الأطروحات التي تحث على إعادة النظر في الكتب الدينية ومراجعة التراث الفقهي والتفسيري والحديثي، وتدعو إلى (تجديد الخطاب الديني) من وجهة نظر علمانية وقومية، ومن طريق آخر تمنع وتصادر عن طريق وزارة الداخلية والأجهزة الأمنية الكتب التراثية التي لا تروق لها، وتستهدف المهتمين بهذه الكتب وتصنفهم تصنيفات تحمل صفة عدائية، وذلك كله في إطار محاولتها تشذيب التراث الإسلامي وانتقاء منه ما يتماشى مع ممارسات “الدولة الإله” ولا يتعارض مع محاولتها الحثيثة للسيطرة على المجتمع بقبضة حديدية، بما يشمل فكر أفراده وعقولهم في إطار وضع يدها على كل فروع النشاط المدني والإنساني الفردي، كسيطرتها على الأوقاف والمؤسسات الخيرية وغير ذلك من أشكال “الدولنة” (Statism) الجارية لكل شيء.
2- ومنها الدول والمؤسسات الغربية التي تعتني بالدراسات الثقافية، فقد حرصت خلال القرنين الماضيين أو أكثر بدراسة الشرق لأغراض احتلالية (Colonialism)، فيما عُرف بالاستشراق، وكانت من أهم هذه الدراسات تلك المتعلقة بدراسة التراث الإسلامي، فقد نتج عن هذه الحركة آلاف الكتب المتفاعلة مع هذا التراث بأشكال مختلفة، كتحقيق المخطوطات والعرض والتحليل والنقد والمقارنة، والتأليف في التاريخ الإسلامي وعلم الكلام والفلسفة، والحديث عن القرآن الكريم والسنة النبوية…إلخ
وخلال هذه العملية المعرفية الواسعة اختلفت مشارب المستشرقين في التعامل مع التراث، فقد ظهر المنصفون والباحثون المجدّون المهنيّون الذين قدموا خدمات محترمة للتراث الإسلامي، أي نعم بدافع من المصلحة واستكشاف الفكر الإسلامي لصالح قوى الاحتلال[22]، لكن العمل في حد ذاته وفي نفسه يُستفاد منه، وظهر أيضاً وبكثرة أصحاب النزعة المتعصبة ضد الإسلام وشرائعه وتاريخه، وكان منهم قساوسة وموظفون بالدوائر السياسية الغربية، فقد عملوا على اجتزاء التراث وتشويهه والنيل منه ومهاجمته والافتراء عليه، كقول بعضهم إن القرآن عمل بشري، وبأن النبي صلى الله عليه وسلم ما هو إلا زعيم سياسي استخدم الدين لتحصيل مزيد من القوى السياسية، والهجوم على اللغة العربية، وغير ذلك، ومن أشهرهم مرجيليوث، وفيليب حِتّي، وهنري لامِنس، وبرنارد لويس، وغيرهم.
وهذا القسم الأخير تتلمذ على يديه فريق ممن أصبحوا بعد ذلك قادة الفكر والرأي في البلاد العربية، فبعد عصر الاحتلال الغربي للمنطقة العربية وبدء حركة ابتعاث الطلاب العرب لأوروبا للدراسة هناك على يد أساتذة الجامعات المستشرقين، عاد هؤلاء ليتبوءوا في كنف الاحتلال المناصب المهمة والمؤثرة في التعليم والثقافة والفن في بلادنا بخلفيتهم المعرفية الجديدة، وما تبع ذلك من وضع لمناهج التعليم والإشراف على اختيار الكتب وطباعتها، والكتابة بالصحف والمجلات، وتأليف الكتب والروايات وما شابه ذلك، في الوقت الذي عمل الاحتلال وصنائعه فيه على تقليص دور التعليم الديني والمنخرطين فيه لصالح “المتنورين” الجدد.
فالكُتاب والمثقفون المتغربون يعدون جهة فاعلة مهمة في عملية الهجوم على التراث الإسلامي، وقد ساعدهم على هذه الفاعلية تبؤوهم المناصب المهمة في البلاد من أزمنة الاحتلال حتى وقتنا الحاضر، الذي خرجت فيه البلاد المحتلة عسكرياً لكن بقي نفوذها حاضراً وبقوة فيما يشبه الاحتلال المعنوي ودون تكلفة من حشد الآليات العسكرية ودون خطر على شعوبها.
ومن الجهات الفاعلة أيضاً في النيل من التراث، فئة تنتمي إلى الأمة والفكر الإسلامي، ففي خضم الخلاف العلمي الكلامي أو الفقهي أو “الشرعي” عموماً تقع هذه الفئة في خطأ الحط من قدر التراث دون علم، وقد أدت إلى ذلك النظرة الضيقة الاجتزائية إلى التراث الإسلامي، فهي تعد ما يؤيد اختياراتها الكلامية أو الفقهية من المؤلفات فقط من التراث الإسلامي، أما غير تلك فهي كتب توصف بـ”المبتدعة” أو “الضالة” أو ما شابه ذلك.
وهذا يُحدث نوعاً من تنفير المسلمين وطلاب المعرفة عن هذه الكتب التي ألفها أصحابها في الغالب وفق منهج إسلامي في النظر والتفكير، مما ينبغي أن يُضاف إلى المخزون الحضاري الإسلامي التراثي، ويُناقش كأحد التفاعلات المسلمة مع الوحي، ويُنقد ويُدرس ضمن الأصول الإسلامية العلمية المتبعة، مما يثري العقل المسلم والتراث الإسلامي، أما منهج الإقصاء فلن يكون في صالح هذا التراث الفكري المليء بالأفهام المختلفة والتقريرات المتباينة خاصة في المساحات التي تركها الشارع للاجتهاد البشري.
فالمفترض أن النظرة إلى التراث تكون بصفته مخزون العقل الإسلامي وإنتاجه الغزير بمدارسه المتنوعة وأفكاره المختلفة، والتي حدثت على مر القرون تحت مظلة الدين الإسلامي وأركانه الكبرى المتفق عليها، كالإيمان بالله والرسول والقرآن واليوم الآخر والقضاء والقدر، وكذلك الإيمان بأركان الإسلام الخمس، وغير ذلك من ثوابت الإسلام الكبرى.
فالمفترض أن النظرة إلى التراث تكون بصفته مخزون العقل الإسلامي وإنتاجه الغزير بمدارسه المتنوعة وأفكاره المختلفة، والتي حدثت على مر القرون تحت مظلة الدين الإسلامي وأركانه الكبرى المتفق عليها، كالإيمان بالله والرسول والقرآن واليوم الآخر والقضاء والقدر، وكذلك الإيمان بأركان الإسلام الخمس، وغير ذلك من ثوابت الإسلام الكبرى.
المطلب الرابع: الاستراتيجية المتبعة
تتخذ الدول والمؤسسات والأفراد المهاجِمة للتراث استراتيجيات متعددة بمستويات مختلفة، تبعاً للأيديولوجية أو الزمان أو المكان أو الجمهور أو غير ذلك من عوامل.
فمنها الفج الواضح والذي يتمثل في الإلحاد الصريح، كنوع من التغيير الثقافي بالصدمة وبإحداث زلزال معرفي في عقول المسلمين، بسبّ الله -تعالى- والاستهزاء بالرسول صلى الله عليه وسلم، وامتهان القرآن الكريم والسنة النبوية، كما يوجد الآن من عملية تبدو ممنهجة على وسائل التواصل الاجتماعي –خاصة (تويتر)- من أشخاص مجهولين وشخصيات افتراضية بأعداد كبيرة، ينشرون المحتوى الإلحادي الذي يجمع بين الطريقة الفجة من السب والاستهزاء، وبين الطريقة التي تبدو في الظاهر علمية وهادئة بطريقة تسعى إلى تشكيك المسلم العادي غير المثقف أو المتخصص في دينه وربه ونبيه.
ومنها ما يجري من زاوية التجديد والتنوير دون الإلحاد الواضح، حتى لا ينفر منهم المسلم المتمسك بعقيدته ولسوء سمعة الإلحاد في أوساط المسلمين، لكن مدخل التجديد والتنوير من الممكن أن يستهوي شريحة أكبر، ومن خلال هذه “العملية التنويرية” تُسفه كتب التراث وتُعد كتباً صفراء لا تناسب واقعنا ولا تَصلح له ولا تُصلحه، وأن دورها قد انتهى تماماً، وأن علينا أن ننظر إلى واقعنا بعقولنا نحن ونتعاطى معه بأسلوبنا العصري بلا أي اتصال بالتراث، وأن أحكام الشريعة الإسلامية بعضها وحْشي وغير متحضر، وبعضها خاص بزمن نزولها.
وفي سبيل إثبات تلك المزاعم تحدث حركة واسعة من الاجتزاء غير المهني للتراث والانتقائية وما شابه ذلك من ممارسات ليس لها أدنى علاقة بالبحث العلمي أو المعرفة أو التنوير الحقيقي؛ فهي أقرب إلى ممارسات التجهيل الممنهج والفوضى المعرفية في ثوب العلم والبحث.
وتختلف الاستراتيجية المتبعة في النيل من التراث الإسلامي من بلد إلى آخر، ففي بلاد شديدة المحافظة كالمملكة العربية السعودية تسلك منهجاً أكثر حرصاً وتدرجاً، وفي بلاد أقل محافظة كمصر تأخذ شكلاً أكثر جرأة، أما في البلاد الغربية التي يوجد بها مسلمون فتكون أكثر وضوحاً ومباشرَة.
وتتنوع الوسائل التي يُهاجَم بها التراث الإسلامي في هذا الزمان تنوعاً كبيراً، كطباعة وترويج الكتب الناقدة للتراث، إما بصورة مباشرة، أو تحت مظلة نقد جماعة متشددة (كتنظيم الدولة الإسلامية)، وفي أثناء ذلك يهاجَم التراث ويدعو الكاتب إلى مراجعته لتنقيته من النصوص التي تخدم المتشددين، في حين أن هؤلاء المتشددين قد أوتوا من فهمهم المغلوط للنصوص لا بسبب النصوص ذاتها.
وتلعب الصحف أيضاً دوراً بارزاً في مهاجمة التراث من خلال كُتاب الأعمدة والرأي أصحاب التوجه العلماني، فأشهر الصحف الرسمية والرأسمالية الخاصة المتحالفة مع السلطة تتيح المساحات على صفحاتها لمهاجمة التراث والدعوة إلى “تنقيته” و”تجديد الخطاب الديني”.
وهناك وسائل أخرى لمهاجمة التراث، كاستخدام الإنترنت في تأسيس مواقع وصفحات على مواقع التواصل الاجتماعي مخصصة لذلك، وعن طريق برامج مخصصة في القنوات الفضائية التابعة لرجال الأعمال المؤيدين للنظام المستبد لنقد التراث الإسلامي بصورة فوضوية، كبرنامج “مع إسلام” بقناة تِن، وفقرة “رحيق الكُتب” ببرنامج الإعلامي عمرو أديب بقناة أون تي في.
كذلك تعد المؤتمرات والندوات أداة مهمة في يد مهاجمي التراث؛ إذ يجمعون لها الباحثين من مختلف أنحاء العالم ويُسلط عليها وعلى مخرجاتها الضوء الإعلامي ويُروّج لتوصياتها: من تجديد للخطاب الديني ومحاربة الإرهاب وتعديل لمناهج التعليم، وغير ذلك من مصطلحات أصبح من المعروف ما ينطوي تحتها من معانٍ.
المطلب الخامس: نماذج فاعلة.. إسلام البحيري مثالاً
رغم وجود نماذج متعددة لمهاجمي التراث قد تكون أكثر (علمية) وأكثر (رصانة) في الطرح فيما يبدو للمتابِع العادي، إلا أن الاختيار قد وقع على (إسلام البحيري) لكونه يحظى بمتابعة متزايدة في الأوساط الشبابية، ولما يتصف به من أسلوب طرح يسير وتلقائي يُناسب شريحة واسعة من المصريين.
والبحيري إعلامي مصري (44 عاماً) له برامج متعددة على مدار السنوات القليلة الماضية، كانت أغلبها في قنوات ذات طرح علماني وتابعة لرجال أعمال مؤيدين للسلطة، وهو في نفس الوقت رئيس مركز الدراسات الإسلامية بجريدة اليوم السابع، والتي هي أيضاً ذات طابع علماني ومؤيدة للسلطة، وهو نفسه مؤيد للسلطة ومادح لها، وقد سبق وسُجن عدة أشهر بتهمة ازدراء الأديان ولكن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي عفا عنه بقرار رئاسي[23]، وحصل البحيري درجة الماجستير من جامعة ويلز بإنجلترا، وكان موضوع رسالته “طرق التعامل مع التراث” كما يقول عن نفسه. وقد كان لسجنه ثم الإفراج عنه أثر في إظهاره في صورة البطل المنافح عن أفكاره والمصرّ عليها غير المتراجع عنها مهما حدث.
يلقي البحيري برنامجه في ظل خلفية موسيقية أشبه بموسيقى أفلام الرعب الخافتة، وفي “تتر” البرنامج رسوم متحركة لرجل يهدم جبلاً (في إشارة للتراث) ثم ينجح في ذلك فيخرج إلى النور وينجح في بناء شجرة تمتد أغصانها في وسط المساحات الخضراء (في إشارة إلى رغد العيش بعد اجتياز جبل التراث وظُلمته)، ويناقش في برنامجه كتب الحديث النبوي والتراث الإسلامي وينتقدها ويختار بين الأقوال العلمية بدون أي ضوابط منهجية، فقط بعقله وبما يفهمه من النصوص وبما يقتنع به، رغم أن البحيري كما يبدو من حلقاته يعاني من ضعف في اللغة جعله لا يستطيع أن يقرأ النصوص القرآنية قراءة سليمة، وجعله أيضاً لا يقدر على التلفظ الصحيح ببعض الأسماء الأخرى[24]، مع أن التمكن من اللغة وفهم دلالاتها من أهم ما أطلق عليه علماء المسلمين “علوم الآلة” للمتصدر للتعامل مع التراث الإسلامي، وما يقال في اللغة يقال في ضعفه في أصول الفقه ومصطلح الحديث ومناهج المحدثين والقواعد الفقهية ومقاصد الشريعة، ربما لأنه لا يرى أهمية لهذه العلوم فهي من جنس “التراث” أيضاً، ولكن ذلك لم يمنعه من الهجوم على صحيح البخاري ومسلم وغيرهما وتكذيب أحاديث عدة وردت فيه بزعم أنها متعارضة مع القرآن، كما فعل مع كتب أخرى كذلك.
يلقي البحيري برنامجه في ظل خلفية موسيقية أشبه بموسيقى أفلام الرعب الخافتة، وفي “تتر” البرنامج رسوم متحركة لرجل يهدم جبلاً (في إشارة للتراث) ثم ينجح في ذلك فيخرج إلى النور وينجح في بناء شجرة تمتد أغصانها في وسط المساحات الخضراء (في إشارة إلى رغد العيش بعد اجتياز جبل التراث وظُلمته)، ويناقش في برنامجه كتب الحديث النبوي والتراث الإسلامي وينتقدها ويختار بين الأقوال العلمية بدون أي ضوابط منهجية، فقط بعقله وبما يفهمه من النصوص وبما يقتنع به
يصف إسلام كتب التراث بأنها “الكتب القديمة”، ويقول بأن المرجع الوحيد هو القرآن أما الأحاديث فهي عمل بشري لأن البشر هم من جمعوها وأوصلوها إلينا، هكذا يقول، في حين أن القرآن جمعه بشر وأوصلوه إلينا أيضاً؛ فمقتضى كلامه عدم ثبوت القرآن لكنه لم يصرح بذلك، فلم ينظر إلى آلية نقل الأحاديث ولا يعير علم الجرح والتعديل المعروف بعلم الرجال أي اهتمام، ولا ينشغل بالجهد الكبير المتراكم عبر مئات السنين في إثبات الأحاديث ونقدها من حيث السند والمتن، وفرزها إلى مقبول ومردود (بأقسامهما المتعددة)، وسرد المعلومات عن كل راوٍ من رواة الحديث وكتابة ما يشبه السيرة الذاتية له والتقييم الشامل لصدقه أو كذبه وأين عاش؟ وهل ثبتت مقابلته للراوي الذي نقل عنه أم لا؟ وهل كان عدلاً أم لا؟ وما رأي علماء عصره فيه؟ لم يلتفت البحيري لكل ذلك، بل بكل سهولة يقول إن هذا جهد بشري ويخلص من تلك المقدمة اليسيرة أن هذا المنتج الذي هو في صورة حديث من الممكن ألا نصدق أنه صادر عن رسول الله، وهي نفس المقدمة السطحية التي نظر بها البحيري إلى التراث جميعه، فبما أنه غير معصوم وكتبه بشر فلنا أن نقول آرائنا فيه بكل حرية، دون أن يشير إلى أي ضوابط علمية وشروط منهجية كالتي توجد في أي علم كالتاريخ والسياسة والاقتصاد والاجتماع والجغرافيا وغير ذلك، بل تعامل مع التراث الإسلامي كأنه من جنس الحكاوي الشعبية والأخبار اليومية التي يتكلم فيها كل أحد دون أي علم أو منهج معرفي أو تخصص[25].
ليس هذا مقام التوسع في إظهار طريقة البحيري في التعامل مع التراث، وإنما نقدمه هنا كنموذج لمهاجمة التراث، وهذا النموذج قد نجح في تقديم سلاسل متعددة من البرامج، كبرنامج “البوصلة” و”الخريطة” و”مع إسلام” وغير ذلك من الحلقات والمقابلات والمقالات الصحفية، وقد كان هذا بفضل المؤسسات التي تقف وراءه وتدعمه وتروّج له، وجاء أيضاً في سياق زمني تحدث فيه المحاولات المختلفة من السلطة والمتعاونين معها لتوهين التديّن عند المصريين بمهاجمة علماء الإسلام وإنتاجهم الفكري، لما يسببه ذلك التدين من طاقة دافعة للوقوف أمام ممارسات الظلم والجور، على عكس التعلمُن والإلحاد الذي يجعل معتنقيه غير مبالين بما يحدث حولهم ولا يشعرون بمسؤولية إصلاحية أو تغييرية نحو الأفضل.
المطلب السادس: نحو مدافعة التعدي على التراث
تتعدد الوسائل التي من الممكن أن تحد من الهجوم على التراث الإسلامي وتدافعه وتقلل منه، ولعل من أهمها:
1- البناء الفكري والمنهجي
البعض يسعى إلى إثبات فكرة صحيحة وهي أن نصوص الوحي هي الملزمة فقط للمسلمين أما ما كُتب حولها من مؤلفات فهي مجهودات بشرية، وهو في المجمل كلام صحيح، ولكن نتيجة لغياب طريقة متوازنة في التعامل مع التراث الإسلامي يحدث الخلل في النظر والتعاطي مع هذا التراث، لذلك من المهم إيجاد والترويج لثقافة عدل في التعامل مع هذا التراث، مع الإشارة إلى أن هذه الثقافة العدل موجهة لمن يمتلكون أدوات ومفاتيح وقدرة منهجية وعلمية على التعامل مع التراث، أما غيرهم من غير المتخصصين فمن غير المعقول أن يتعاملوا مع شيء لا يدرون عن لغته الأصيلة ولا أصوله المنهجية ولا علوم آلته شيئاً، كما يحدث كثيراً هذه الأيام من قيام بعض المنتسبين إلى الإسلام بنقد التراث الإسلامي بلا أي خلفية علمية، أو بخلفية ثقافية إسلامية هشة.
هذه الثقافة العدل التي ينبغي الترويج لها وترسيخها، من شأنها أن تجعل الذهنية الإسلامية تتعامل مع التراث الإسلامي في سبيل تقويمه وتوظيفه، تعاملاً يقوم على مبادئ أساسية تستمد حقيقتها من الموقف الشرعي إزاء اجتهادات السالفين من جهة، ومن المصلحة العملية التي تحققها تلك الاجتهادات في تنمية الحياة من جهة أخرى، تجاوزاً في ذلك لكل الاعتبارات السلبية المترسبة من تأثيرات الغزو الثقافي، ومن ردود الأفعال المغالية في التحوط من ذلك الغزو على حد سواء.
ومن أهم المبادئ المحققة لهذه الثقافة العدل كما يقدمها د. عبد المجيد النجار[26] ما يُبنى على أسس أربعة:
– شرعية التخيُّر
التراث الإسلامي لئن كان محلاً للاحترام والتكريم كما تُوجِّه الأخلاق الإسلامية، وكما تَرسّب في ضمير الأمة، فإنه في ميزان التقدير الديني ليس بملزم الاتّباع، على سبيل أن يكون الاجتهاد التراثي في أي مجال من المجالات موجباً للتقيد به في الفهم أو في العمل، والوقوف عند مقتضياته في كشف الحقائق وتوجيه السلوك، بل هو متصف في ذلك بالإباحة الشرعية المخوِّلة للنظر فيه بالدرس والنقد والامتحان؛ ليؤخذ منه ويردّ وفق ما يقتضيه ميزان الحق، وما تستلزمه مصلحة الأمة.
– إلزامية العرض
إذا كان التراث غير ملزم دينياً بما فيه من الاجتهادات، فإن الأمر ليس كذلك منهجياً، فمن المقتضيات المنهجية في البحث عن الحق النظري للتوجيهات الدينية، والحق العملي لتنزيلها على واقع الحياة، أن يُبسط التراث كله على مائدة النظر للدرس والاستيعاب والتمثُّل، وذلك في سبيل الاستعانة باجتهادات السابقين على تبيُّن المراد الإلهي في اجتهاد الفهم، وتبيين ما فيه المصلحة في اجتهاد التطبيق، فالباحث عن الحق يكون وصوله إليه أضمن كلما وسع من دائرة المظانّ التي عسى أن تساعده على اكتشافه، فإذا ما قصر في ارتياد تلك المظان فإنه يكون قد أخل منهجياً بمقتضيات البحث عن الحقيقة، والتحري في الكشف عنها، وذلك بإهماله لشطر كبير بل للشطر الأكبر من مظانها.
– تاريخ التراث
التراث الإسلامي متصف بالتاريخية الزمنية، في حين يوصف الوحي بالإطلاق الزمني، فالتراث ناشئ من تفاعل المسلمين مع ظروفهم الحياتية في تطبيق أوامر الدين عليها، وهذه الظروف تتغير بتغير الزمن، فيكون لكل ظرف منها اعتباراته الخاصة في التفاعل مع الوحي فهماً وتنزيلاً، ومن ذلك ينشأ التراث لصيقاً بالتاريخ وأحداثه، فيكون متصفاً بالتاريخية الزمنية لا بالإطلاق المجرد عن الزمن.
– شمولية التداول
من المبادئ المهمة في تقويم التراث وتوظيفه: الشمولية في تداوله بين المسلمين بأكبر قدر ممكن، بحيث يصير ما هو متاح منه معروضاً لنظر الدارس بصفة تخلو من استبعاد أي جزء منه بناء على اعتبارات مذهبية أو غيرها، بل يمتد إليه البحث في كل مظانه بناء على اعتباره تجربة ماضية للأمة تتساوى مفرداتها منهجياً من حيث الاهتمام بها وتداولها بالبحث والدرس.
2- التوعية بخطر النيل من التراث
إضافة إلى أهمية إيجاد ثقافة عدل في التعامل مع التراث، فمن وسائل الوقاية من الهجوم على التراث الإسلامي التوعية بخطر النيل من التراث، وما يؤدي إليه ذلك من تدمير حضاري ذاتي وتقويض للمخزون الهائل للحضارة الإسلامية وفقدان الثقة والاعتزاز بها عند المسلمين، إضافة لما يحدث خلال الهجوم على التراث من تعدٍّ على نصوص الوحي وأحكام مُجمع عليها وثوابت إسلامية، وما يتضمنه ذلك من عدم إيمان كامل بما جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة.
3- الرد على الشبهات المثارة
من حق عموم المسلمين أن يحصلوا على جواب حول أسئلتهم التي قد تثار حول التراث الإسلامي، خاصة في هذه الأيام التي يُهاجَم فيها التراث بصورة ممنهجة، ويصل هذا الهجوم كل بيت عن طريق الإنترنت والتلفاز والصحف وغير ذلك، وهذا الجواب يقع على عاتق المثقفين والدعاة والعلماء والكُتاب، بالاهتمام بإيضاح ما يُشكل من نصوص التراث وبيان وجهتها الصحيح، وتمييز ثابت التراث من متغيره وما كان مصدره الوحي وما كان مصدره الرأي. فهذا من شأنه أن يُحدث وقاية معرفية وحائط صد منيع عند العقل المسلم، بدلاً من أن تكون ثقافة الردود ورد الفعل هي السائدة على حساب الفعل والبناء والتوعية الذاتية والنقد الذاتي.
4- ترسيم حدود الخلاف الإسلامي/ الإسلامي
الخلاف العلمي ما بين الطوائف المنتسبة إلى الإسلام يبقى صحياً ما دام لم يخرج عن الإطار العلمي والأكاديمي، ولكن هناك نماذج عديدة من الخلاف تتعدى فيها الأطراف المختلفة على التراث الإسلامي نفسه، وهذا بالتحذير من كُتب الطرف الآخر والتنفير من قراءتها بصفتها كتب ضلال، أو تكفير أو تبديع علماء أسهموا في إثراء التراث الإسلامي، مما يؤدي إلى اغتيال إنتاجهم المعرفي معنوياً لدى المسلمين.
لذلك يعد رسم حدود الخلاف الإسلامي الإسلامي شيئاً مهماً، بتقرير أن التراث الإسلامي حتى المخالف للبعض منه، هو تراث هذه الأمة، والأجدر أن يُتناوَل بالدرس والنقد والكتابة حوله وإقرار ما فيه من معرفة وتمييز الغث من السمين، فليس معنى أن الكتاب قد كُتب من مئات السنين أنه على حق كله، فالنقد مطلوب بالطبع، ولكن ضمن سعي علمي راقٍ يؤدي إلى تراكم معرفي صحيح وبناء عقل منفتح ومتوازن، ومحيط بالخلاف ودرجاته، ومطلع على المذاهب الفكرية تحت المظلة الإسلامية، وكيف تعاملت العقول المسلمة على مر الزمان ومن شتى البلاد مع واقعها انطلاقاً من الدين الإسلامي ومبادئه.
لذلك يعد رسم حدود الخلاف الإسلامي الإسلامي شيئاً مهماً، بتقرير أن التراث الإسلامي حتى المخالف للبعض منه، هو تراث هذه الأمة، والأجدر أن يُتناوَل بالدرس والنقد والكتابة حوله وإقرار ما فيه من معرفة وتمييز الغث من السمين، فليس معنى أن الكتاب قد كُتب من مئات السنين أنه على حق كله، فالنقد مطلوب بالطبع، ولكن ضمن سعي علمي راقٍ يؤدي إلى تراكم معرفي صحيح وبناء عقل منفتح ومتوازن، ومحيط بالخلاف ودرجاته، ومطلع على المذاهب الفكرية تحت المظلة الإسلامية، وكيف تعاملت العقول المسلمة على مر الزمان ومن شتى البلاد مع واقعها انطلاقاً من الدين الإسلامي ومبادئه.
وهو الأمر الذي لا يكفله على الإطلاق تدمير التراث لمجرد الخلاف، وإنما المفهوم أن يُبيَّن الخطأ من الصواب الذي اشتملهما كتاب ما، أو يُقيَّم مؤلف من المؤلفين من خلال ما كتب وأن تُفرز أفكاره واجتهاداته، مع الحفاظ على المؤلفات بما فيها كمخزون تتفاعل معه العقول للبناء عليه.
– بث الوعي بأهمية حصر الخلاف الإسلامي الإسلامي – حول المسائل الدقيقة والعقديات الجزئية والفقهيات – داخل النطاق الأكاديمي، وعدم توسيع إطاره وهوته ليصبح خلاف عامة وسبباً لتمزيق وحدة المسلمين وتناحرهم.
5- المنازلة الفكرية للإنتاج الغربي والعلماني
تُعد نسبة الهجوم الأعلى على التراث الإسلامي من نصيب الدوائر الغربية والتابعين لها والمتأثرين بطرحها من المسلمين، وقد انطلقت عملية واسعة من المنازلة الفكرية الإسلامية بإزاء هذا الهجوم، من خلال ما دوّن العلماء والمفكرون من مئات الكتب على مر العقود السابقة، ولكن تظل شراسة الهجوم على التراث بحاجة إلى مزيد من النشاط العلمي والبحثي الذي يتابع الجديد من أشكال هذا الهجوم، خاصة في ظل اتساع هائل في حرية النشر وإمكانية الوصول إلى قطاع عريض جداً من المسلمين بصورة أسهل عما قبل.
فكتاب مهم للغاية كصحيح البخاري يتعرض إلى هجوم كبير على مواقع التواصل الاجتماعي على الإنترنت، وبالطبع يلقى هذا الهجوم دفاعاً من أغلبية المسلمين، ولكن تظل هناك حاجة إلى دفاع علمي بإزاء هجوم يبدو لغير المتخصص أنه علمي رغم خواء مضمونه وركاكة منهجيته، فوجود فريق من الناشطين المنظمين المتخصصين والمتفرغ لهذا الأمر على مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة يُعد ضرورة.
كذلك من الوسائل، الترويج للردود العلمية على النقد العلماني الغربي للتراث بالسبل المختلفة، التي تناسب الشرائح المتنوعة، بداية من البحث الأكاديمي ووصولاً إلى المطويات الميسرة، وباستخدام المنابر المختلفة، كالندوات للمختصين من ناحية وللجماهير من ناحية أخرى، وفي محاضرات وخطب المسجد، وفي مواقع التواصل الاجتماعي كما سبق والفضائيات والمجلات، وغير ذلك من أساليب الترويج والتفاعل والتي تضمن عدم بقاء الردود والتوضيحات أسيرة الكتب، خاصة وأن الإحجام عن القراءة المطولة -ولو تطويلاً يسيراً- أصبح سيد الموقف، وصار المفضل الآن عند الغالبية الوسائل السمعية والبصرية الجذابة، والتي لا تستمر لوقت طويل، وكذلك الكتابات المختصرة المركزة المباشرة والتي تتميز بسهولة اللغة، وهذا لا يقتضي التوقف عن حركة البحث العلمي والردود الرصينة والمطولة، فهذه الحركة مهمة للغاية وتحتاج أيضاً إلى التنشيط وإطلاق المراكز البحثية المتفرغة لذلك، لكن المقصود الانتباه إلى المستويات الأخرى وعدم الجمود على طريقة واحدة.
خـاتمـة
ظهرت محاولات عديدة للحط من قدر التراث الإسلامي والنيل منه، بعضها يصدر عن المنتسبين إلى الأمة العربية والإسلامية، بدعاوى التنوير والمعاصرة وتجديد الخطاب الديني، وما شابه ذلك من مسميات تختلف في مسمياتها وتتفق في مضمونها، ذلك المضمون الذي ينطلق من فكرة قوامها أن التراث الإسلامي لم يعد صالحاً لزماننا وأنه قد آن الأوان للتخلص منه أو تهذيبه بصفته عبئاً على الأمة العربية، وأن الوسيلة الوحيدة للتقدم هي اتباع الغرب حذو القذة بالقذة، والأخذ بنفس الأسباب التي أخذ بها.
من جانب آخر تعمل جهات غربية عديدة من خلال دراسات الاستشراق ومراكز الأبحاث ووسائل الإعلام، على الحط من قدر التراث الإسلامي، والتشكيك في صلاحيته، وتسليط الضوء على بعض أجزائه بشكل مجتزأ ومبتسر ومشوَّه، دون وضعها في إطارها العام وزمانها وطبيعتها البشرية وسياقها ومسؤوليتها الفردية.
إن التراث الإسلامي هو رأس مال هذه الأمة، وفي نفس الوقت هو إنتاجها على مدار قرون، وهو مخزونها الهائل، وإبداعها المتفرد، في شتى المجالات، وعلى كافة المستويات، فالتراث هو القوة الدافعة والرافعة للأمة الإسلامية، ويحوي النموذج المتفرد في الدين والفكر والثقافة وكل أشكال الحضارة، مما يجعل الأمة في حال نهلها من معينه واقتفائها أثره ذات حضارة مستقلة مستعصية على الذوبان في غيرها، ساعية في أزمنة استضعافها لاستعادة مجدها التالد، رافضة أية وصاية عليها فكرية كانت أو عسكرية أو اقتصادية أو سياسية.
تتداخل عدة جهات في عملية الهجوم الواسعة على التراث الإسلامي، ولكل منها أجندتها وأغراضها. فمنها أغلب الدول العربية الحديثة، والدول والمؤسسات الغربية، والكُتاب والمثقفون المتغربون، وفئة تنتمي إلى الأمة والفكر الإسلامي بحسن نية.
وتتخذ الدول والمؤسسات والأفراد المهاجِمة للتراث استراتيجيات متعددة بمستويات مختلفة، تبعاً للأيديولوجية أو الزمان أو المكان أو الجمهور أو غير ذلك من عوامل.
ورغم وجود نماذج متعددة لمهاجمي التراث قد تكون أكثر (علمية) وأكثر (رصانة) في الطرح فيما يبدو للمتابِع العادي، إلا أن الاختيار قد وقع على (إسلام البحيري) لنشير إليه كنموذج؛ لكونه يحظى بمتابعة متزايدة في الأوساط الشبابية، ولما يتصف به من أسلوب طرح يسيرٍ وتلقائي يُناسب شريحة واسعة من المصريين.
وتتعدد الوسائل التي من الممكن أن تحد من الهجوم على التراث الإسلامي وتدافعه وتقلل منه، ولعل من أهمها: ضرورة البناء الفكري والمنهجي، والتوعية بخطر النيل من التراث، وضرورة الرد على الشبهات المثارة، ووضع ضوابط للخلاف الإسلامي/ الإسلامي، والمنازلة الفكرية للإنتاج الغربي والعلماني.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] سلامة موسى، اليوم والغد، ص5-6، ط1، سلامة موسى للنشر والتوزيع، 1928م، القاهرة.
[2] المصدر السابق، ص205.
[3] د. طه عبد الرحمن، تجديد المنهج في تقويم التراث، ص19، المركز الثقافي العربي، ط2، الدار البيضاء.
[4] عبد الجبار القحطاني، جدل التراث والعصر، ص 18 -19، دار الفكر المعاصر، بيروت، 2001م.
[5] علي عشري زايد، استدعاء الشخصيات التراثية في الشعر العربي المعاصر، ص 16.
[6] ينظر: فاطمة فائزي، التراث الديني مفهومه ووظيفته في الشعر العربي المعاصر، صحيفة المثقف، عدد: 1766، 23/05 /2011.
[7] د. عبد المجيد النجار، مقاربات في قراءة التراث، ص58-59، ط. الدار المالكية، تونس العاصمة، ط1، 2015م.
[8] (الكتب الدينية تزحف والملتحون والمنتقبات يلفتون الأنظار)، صحيفة الشروق، 30-10-2013م.
[9] (المؤلفات الدينية تتصدر وغضب من منصات التوقيع)، صحيفة تواصل، 19-03-2018م.
[10] (الكتاب الديني ما يزال في الصدارة وإقبال كبير على كتب الفقه والفتاوي)، صحيفة الشروق أون لاين، 31-10-2017م.
[11] (الكتب الدينية الأكثر مبيعاً أول أيام المعرض)، جريدة المساء، 29-01-2016م.
[12] ابن منظور، لسان العرب، مادة “ورث”.
[13] الزمخشري، أساس البلاغة، ص495.
[14] سورة الفجر، آية 19.
[15] سنن الترمذي، كتاب الدعوات، 87، وكتاب الزهد، 35.
[16] الراغب الأصفهاني، المفردات في غريب القرآن، ص519. وينظر: د. أكرم العمري، التراث والمعاصرة، ص25-27، ط1، ط: المحاكم الشرعية والشؤون الدينية، قطر، 1405هـ.
[17] ناهدة فوزي، عبد الوهاب البياتي حياته وشعره «دراسة نقدية»، ص 146.
[18] ابن تيمية، مجموع الفتاوي، (19/232)، ط: مجمع الملك فهد، المدينة المنورة، 2004م.
[19] المصدر سابق، ص57-58.
[20] ينظر: د. نصر عارف، في مصادر التراث السياسي الإسلامي، ص9-10، ط. المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط1، 1994م.
[21] ومن هؤلاء د. شوقي ضيف، في كتابه التراث والشعر واللغة، ص11-12، ط. دار المعارف، القاهرة، 1988م، ود. أكرم ضياء العمري، في كتابه التراث والمعاصرة، ص27.
[22] وأكد هذا الطرح إدوارد سعيد في كتابه “الاستشراق”، إذ أثبت أن أي عمل استشراقي ليس سوى أداة في مشروع كولونيالي.
[23] إسلام البحيري بعد العفو الرئاسي: أهمية القرار ليست في المدة والرئيس السيسي رفع رأي كل المثقفين، جريدة اليوم السابع، 20-11-2016م.
[24] نماذج من ذلك على يوتيوب: إسلام البحيري لا يعرف يقرأ القرآن، 22-12-2014م.
[25] ينظر على سبيل المثال: يوتيوب: إسلام البحيري التراث غير مقدس ويجب مراجعته، 28-05-2017م
[26] النجار، مصدر سابق، ص59-79، بتصرف (اختصار وما يقتضيه).