مفاهيممناهج ومفاهيم

مفهوم التوحيد

أ. مختار محسن

يأتي مفهوم التوحيد من مادة “وحد” وبالنظر في المعجمات اللغوية نجد ما يلي: (وَحِدَ) بقي مفردًا، (وَحَّد) الله سبحانه: أقر بأنه واحد، ووَحَّد الشيء: جعله واحدًا، واستوحد: انفرد([1]). ومن الملاحظ على استعمال لفظ “توحيد” أنه إذا عرِّف بأل فقلنا “التوحيد” انصرف إلى المختص بتوحيد الله جل وعلا، بخلاف باقي استخدامات الكلمة فلا تذكر إلا بالإضافة المقيدة؛ فيقال توحيد الكلمة وتوحيد الآراء وتوحيد الأمة.

ويعرف التوحيد اصطلاحًا: بأنه “معرفة الله تعالى بالربوبية والإقرار بالوحدانية ونفي الأنداد عنه جملة”، وهو بهذا المعنى حقيقة بسيطة تدور على إفراد الله تعالى بالربوبية ونفيها عن كل ما سواه([2]).

معرفة الله تعالى بالربوبية والإقرار بالوحدانية ونفي الأنداد عنه جملة”، وهو بهذا المعنى حقيقة بسيطة تدور على إفراد الله تعالى بالربوبية ونفيها عن كل ما سواه

ويعد مفهوم “التوحيد” من أخص خصوصيات الدين الوسط دين الإسلام؛ إذ هو بابه وجوهر حقيقته فلا يدخل أحد دين الإسلام إلا إذا اعتقد بهذا المفهوم، ولا يقبل من أحد إيمان حتى يحقق مفهوم التوحيد كاملًا، قال تعالى: {إِنَّهُ ُ مَنْ يُشْرِكْ بِالله فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة:72]. لذلك كله ولغيره كان مفهوم التوحيد أحد أهم المفاهيم التي تؤسس للرؤية الإسلامية المتكاملة، ولذلك كان التوحيد هو أحد المقاصد التي قام عليها الخطاب القرآني الجليل، موضِّحًا بالأساس معالم هذا المفهوم ومقتضياته بحسب الرؤية الوسط التي تضفي على المفهوم وضوحًا وقوة ليظل أحد المفاهيم الراسخة في وجدان ملايين المسلمين عبر الزمان. فتميز مفهوم التوحيد عند الأمة الوسط بوسطيته ورقي تصوره عن اللائق برب العالمين وجلائه وعدم غموضه، وتأكده بالخطاب القرآني البليغ والمبين، كل ذلك ساعد على أن يكون مفهوم التوحيد من المفاهيم التي لا يوجد أي خلاف حولها داخل الأمة الوسط التي تعرف أيضًا بأمة التوحيد؛ مما جعل التوحيد من المفاهيم الجامعة للأمة على اختلاف الزمان والمكان.

ومفهوم التوحيد من أشهر المفاهيم التي ترتبط بالدين والعقيدة؛ ومن ثم يعد في القلب من مفهوم الاعتقاد الذي يقوم على النظر العقلي والتلقي من الوحي؛ حيث يُقبِل المرء على تفهم حقيقة التوحيد وأنها تعني إثبات تفرد الله سبحانه بالربوبية واستحقاقه العبادة وحده دون أحد سواه، فإذا أدرك ذلك وتفهمه بعقله وسلم به بقلبه، يُدعى بناء على ذلك للامتثال لما جاء به الوحي من معانٍ وأحكام. فمفهوم التوحيد كأحد المفاهيم العقدية ينتمي لعائلة مفاهيم العقيدة مثل مفهوم الإيمان ومفهوم الغيب ومفهوم الرسل واليوم الآخر وهكذا. وتقوم كل هذه المفاهيم على دعامتين أساسيتين: هما العقل والنقل، فلا يوجد في مفاهيم العقيدة -ومنها مفهوم التوحيد- أي منافاة للعقل كما هو الشأن عند ثالوث النصارى مثلًا، وهو ليس فكرة مجردة بعيدة عن النقل الديني كالمذاهب التي هي من اختراع البشر، وهذا ما ميز العقيدة  عند المسلمين؛ أنها تحمل قدرًا من التوازن بين العقلانية من جهة وهداية الوحي من جهة أخرى من غير أن يطغى جانب على الآخر.

وهناك داعيان أساسيان لبناء مفهوم التوحيد؛ أولهما يخص ما تحمله أمة الإسلام على عاتقها من مهمة الدعوة إلى التوحيد الذي جاء به المرسلون، وعليه فمن المفترض أن يكون مفهوم التوحيد وفق الرؤية الإسلامية هو أحد المميزات المهمة لهذا الدين، غير أن ذلك المعنى ليس واضحًا عند كثير من الناس. فالبعض يرى أن اليهود والمسيحيين والمسلمين هم من “الموحّدين” ما يعني أنه لا فائدة من تمسك كل واحد بما يعتقده، فالجميع في النهاية يعبد ربًّا واحدًا!! لذلك نرى من يدعو لوحدة الأديان بهذا المعنى وإسقاط الفواصل التي تدعو للاختلاف بين الديانات المذكورة، سواء كانت هذه العوائق مواقف معينة أو حتى نصوصًا مقدسة كمثل قول الله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْه} (آل عمران: 85). وعليه فلابد من إبراز النقاط المميِّزة لمفهوم التوحيد عند المسلمين حتى ينقشع ذلك الغبار الذي يعيق من النظر الصحيح عند الدعوة إلى التوحيد الإسلامي.

أما الداعي الثاني فهو متعلق بأهمية قيام كل مسلم بتجديد ارتباطه بهذا المفهوم اعتقادًا وعملًا، ولا يتسنى له ذلك من غير أن يكون في الأصل قد بان له ما يشتمل عليه هذا المفهوم ويتيقن به، في مقابلة العقائد والمفاهيم الأخرى الباطلة.

التوحيد هو دعوة جميع الرسل والأنبياء من آدم إلى محمد عليهم الصلاة والسلام، وجاء في القرآن الكريم {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ}، فالتوحيد بحسب الرؤية الإسلامية هو مفهوم جاء مع أول البشر نزولًا إلى الأرض، وكلما طرأ على هذا المفهوم ما يشوهه ويضعف من حيويته أرسل الله من يحيي هذا المفهوم مرة أخرى.

وقد جاء في تفسير الآية الكريمة {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ}  [البقرة:213] {كان الناس} في زمن آدم عليه السلام وما قرُب منه {أمة واحدة} أي: جماعة واحدة، متفقة على التوحيد، والطاعة، فاختلفوا بعد ذلك في أمر التوحيد، {فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ} لأهل التوحيد والطاعة بالنعيم المقيم، {وَمُنذِرِينَ} أي: مخوفين لأهل الكفر والعصيان بالعذاب الأليم([3]).

وبالتالي فهو مفهوم -بحسب الرؤية الإسلامية- ليس محلًا للتطور الزمني. فالتوحيد عند سيدنا آدم (عليه السلام) كما هو التوحيد لدى سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم). ويمكن تلخيص معالم هذا التوحيد في المعالم الآتية:

1 – أن الله جل وعلا لا شريك له في تدبير شئون هذا العالم فهو وحده القائم بذلك، كما أنه كان هو المتفرد بإيجاد هذا العالم من العدم.

2- اتصاف الله سبحانه بصفات الكمال التي تليق بذاته الأقدس دون ما سواه، وبالتالي نفي المشابهة بينه وبين أحد من خلقه، فالعبد عبدٌ، والرب ربٌ، وهناك فارق بين المخلوق والخالق.

3 – أن الله جل وعلا لا يحل في أحد من مخلوقاته؛ فهو بائن عن خلقه مستوٍ على عرشه سبحانه.

وهذا على عكس رؤية أخرى ترى أن التوحيد هو مرحلة متقدمة في الاجتماع البشري، وأن أول من عرف التوحيد هم المصريون القدماء على يد الملك إخناتون أو أمثالهم؛ وبالتالي فالتوحيد الذي هو عبادة إله واحد وصل إليه البشر في مرحلة متأخرة من نشأة البشرية، وهي رؤية تخالف نصوص القرآن القاطعة بأن آدم أبا البشر كان على التوحيد هو وزوجه عليهما السلام.5

مفهوم التوحيد مداره على إفراد الله جل وعلا بالألوهية دون ما سواه، غير أن ذلك لا يلفتنا عن تجليات هذا المفهوم على حياة الإنسان ودوره في هذه الحياة. فالتوحيد لا يقف بالمسلم عند قوله كلمة التوحيد أو اعتقاده بصحتها وحسب، بل إن مفهوم التوحيد يعد لبنة في التصور الإسلامي للكون والحياة وما يرتبط بذلك من عمارة للأرض وعدم الإفساد فيها؛ ما يعني أن التوحيد هو أحد الدوافع من ناحية، وهو أحد الأطر التي  ترسم للمسلم دوره في هذه الحياة.

يقول النورسي: “التوحيد الحقيقي: وهو الإيمان بيقين أقرب ما يكون إلى الشهود بوحدانيته سبحانه، وبصدور كل شيء من يد قدرته، وبأنه لا شريك له في ألوهيته، ولا معين له في ربوبيته ولا ندّ له في ملكه إيمانًا يهب لصاحبه الاطمئنان الدائم وسكينة القلب لرؤية آية قدرته وختم ربوبيته ونقش قلمه على كل شيء فينفتح شباك نافذ من كل شيء إلى نوره سبحانه”([6]).

فالتوحيد عبارة عن أن يشهد المسلم تفرد الله جل وعلا بالخلق والتدبير؛ فيشهد قدرة الله في كل شيء حوله، وأنه عبد لله وحده، وأن الله خلقه لمهمة؛ حيث أنزلنا إلى الأرض وطلب منا عمارتها وترك إفسادها وأمرنا بعمل الصالحات واجتناب المعاصي ابتغاء وجهه الكريم واستعدادًا ليومٍ نعود فيه إلى الله للحساب والجزاء.

يرتبط التوحيد بعدة مفاهيم؛ بعضها يقف في صف واحد مع التوحيد ضمن منظومة العقيدة الإسلامية بالأساس، ثم تظهر له بعض التجليات في بعض المفاهيم الإسلامية الأخرى. وهذا الارتباط على قسمين: ارتباط مؤازرة وارتباط مناقضة. فالأول منه أن مفهوم التوحيد يؤازره ويعضده مفاهيم منها مفهوم العقيدة والإيمان والتنزيه، وذلك الارتباط من جهة أن مفهوم التوحيد هو بالأساس مفهوم عقدي ويمثل حقيقة إيمانية عند المسلمين ويمثل قمة التنزيه لله رب العالمين، ومن جهة أخرى يرتبط مفهوم التوحيد ارتباط مؤازرة بمفهوم الوحدة من جهة أن مادة التوحيد تشتمل على “وحَّد”، و”اتحد”؛ فالأمة الوسط ترتبط وحدتها بإيمانها بمبدأ واحد هو”التوحيد”، كما يرتبط مفهوم التوحيد بمفهوم مثل مفهوم الحرية حيث يمثل مفهوم التوحيد تحررًا من قيود العبودية لغير الله تعالى، ومفهوم الإخلاص من جهة إخلاص العبادة لله وحده. ومن المفاهيم المرتبطة بالتوحيد ارتباط مناقضة مفاهيم مثل الكفر والشرك والإلحاد، فالتوحيد يقف على النقيض من هذه المفاهيم النافية لحقيقة التوحيد.

يتسم مفهوم “التوحيد” في الرؤية الإسلامية بما ليس موجودًا في أي رؤية أخرى؛ فكما يقول العقاد: الفكرة الإلهية في الإسلام “فكرة تامة” لا يتغلب فيها جانب على جانب ولا تسمح بعارض من عوارض الشرك والشبهة، ولا تجعل لله مثيلًا في الحس ولا في الضمير، بل له المثل الأعلى وليس كمثله شيء… إلى أن قال: فكانت فكرة الألوهية في الإسلام هي الفكرة المتممة لأفكار كثيرة موزعة في العقائد الدينية المختلفة، ولهذا بلغت المثل الأعلى في صفات الذات الإلهية، وتضمنت تصحيحًا للضمائر وتصحيحًا للعقول في تقرير ما ينبغي لكمال الله([7]).

فبُعد مفهوم التوحيد عن خرافات وأوهام أهل الكتاب عن الله عز وجل، أكسب المفهوم ارتباطًا بوسطية هذا الدين وعلوه عن كل ما يشين العقائد السليمة.

ومفهوم التوحيد له من الأبعاد التفعيلية والتشغيلية في حياة المسلم ما لا يدخل تحت الحصر؛ فعلى سبيل المثال إذا لمحنا في مفهوم التوحيد إثبات تفرد ربنا عز وجل بالألوهية دون ما سواه، وأن الله هو الحق، وأن هذا عند المسلم؛ يمثل شيئًا راسخًا ليس قابلًا للتفاوض عليه، دلنا ذلك على قيمة ما يفعله هذا المفهوم بالمسلم حيث يجعله في تعامله مع الكون يدرك أن هناك من الأمور حوله ما يعد من الحقائق الثابتة والمبادئ الراسخة، وأنه لا بد عليه أن يميز بين الحق والباطل ولا يقبل أي فكرة أو يصدق بأي خبر إلا بعد أن يبذل ما يحقق ثبوته من عدمه، وصدقه من كذبه، عند ذلك نجد قول الله جل شأنه {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} (الإسراء:36).

وحينما فطن المسلمون لابتناء عقيدتهم على الحقائق وبُعدها عن الأوهام وضعوا معايير منضبطة لإدراك الحقائق في العقائد والأخبار، ونجد بعضهم من علماء الكلام كنجم الدين النسفي في متنه المسمى بالنسفية نجده يصدِّر العقيده بقوله “حقائق الأشياء ثابتة والعلم بها متحقق”. معنى هذا الكلام أن المنهج الإسلامي يعترف بالحقائق ولا يقول بنسبيتها أو بتغيرها بتغير الظروف والاعتبارات المختلفة، وبالتالي رسخ مبدأ التوحيد في وجدان المسلم ثبات الحقائق والقيم والأخلاق.

وفي مجال السلوك والمعاملة، نجد أن تشغيل التوحيد وتفعيله يكون على أساس وحدة المنهج المتمثل في اتباع الشرع الشريف بدلًا من اتباع الأهواء {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153]، ووحدة القصد المتمثل في ابتغاء وجهه تعالى في كل عمل من الأعمال {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162]، ومن هنا كان الالتزام بحقيقة “التوحيد”  يقتضي الالتزام بإتباع شرع واحد وابتغاء قصد واحد والتقصير في أيهما ذنب يحتاج إلى التوبة والرجوع عنه.


([1]) المعجم الوسيط مادة: وحد، ص: 1016، ط. مجمع اللغة العربية.

([2]) انظر الموسوعة الإسلامية العامة : مصطلح  التوحيد، ط. المجلس الأعلى للشئون الإسلامية.

([3]) تفسير البحر المديد لابن عجيبة، 1/209، ط. دار الكتب العلمية.

([4]) د.حسن الشافعي، المدخل لدراسة علم الكلام، ط .مكتبة وهبة، ص31.

([5]) انظر على سبيل المثال: شرح ابن عابدين للدرالمختار، ط. دار الكتب العلمية، ج6، ص46.

و: كتاب براءة الأشعريين من عقائد المخالفين العربي التباني، ط مطبعة دار العلم، دمشق، 1967.

([6]) د.فريد الأنصاري، نحو معجم شامل للمصطلحات المفتاحية لرسائل النور، معهد الدراسات المصطلحية بجامعة السلطان محمد بن عبد الله بفاس، ومركز النور للدراسات والبحوث بتركيا، الطبعة الأولى، 2004، ص 54.

([7]) عباس محمود العقاد، الله (نشأة العقيدة )، ط.دار المعارف، ص 53 وما بعدها (بتصرف يسير).

زر الذهاب إلى الأعلى