مفهوم الإنسان
تشتق لفظة “الإنسان” في لسان العرب من “أنس” وأصلها “إِنْسِيان”؛ إذ أجمع العرب على تصغيرها على “أُنَيْسِيانٌ”، وواحده إنسي، ويجمع على أُناسين وأَناسي. وروى عن ابن عباس -رضى الله عنهما- أنه قال: إنما سمي إنسانا لأنه عهد إليه فنسِي.
ويمكن التفرقة بين جوهر مفهوم الإنسان وعوارضه التي تدلل على كيانه المادي (أي البشرية)، أو حالته (أي الحياة أو الموت أو ما بينهما)، أو نَسَبه (أي الآدمية)، أو اجتماعه العمراني (أي الإنسية). وفي هذا تفصيل.
يرد لفظ “البشر” في القرآن باعتباره اسم جنس يشير إلى الآدمية المادية التي يلتقى بنو آدم كلهم على وجه المماثلة وأتم المشابهة من حيث الخصائص البيولوجية والفيزيولوجية والنفسية التي تشكل “كينونة” البشر بغض النظر عن تصنيفاتهم. ويقارب ذلك المدلول مفهوم “الناس” كذلك، والذي يشير -في نحو مائتي وأربعين موضعًا- إلى اسم جنس السلالة الآدمية.
ويرد لفظ “الإنس” في الاستعمال القرآني مقابلة بالجن -في نحو ثمانية عشرة آية- ليدل على ملحظ عدم التوحش؛ إذ الجن مقترن بالخفاء والتوحش بينما الإنس مقترن بمقصد الاجتماع العمراني وواقع الظهور المادي على الأرض.
أما جوهر مفهوم “الإنسان” فيشير إلى عملية تدافع واصطفاء وارتقاء دائمة مقصدها هو تحقيق “الإنسانية” التي بها يتأهل الإنسي للخلافة في الأرض وتحمل تبعات التكليف وأمانة الله، وما يلابس ذلك من الابتلاء بالخير والشر وبفتنة الاغترار بمرتبته بين الكائنات بما يُنسيه حقيقة ضعفه وحاجته إلى خالقه، ووجوب مغالبة الإنسان لذلك بحمل نفسه على التطهر والترقى. ويذكر ابن خلدون في مقدمته: “وإذا فسد الإنسان في أخلاقه ودينه فقد فسدت إنسانيته وصار مسخًا على الحقيقة؛ [إذ] الإنسان إنما هو إنسان باقتداره على جلب منافعه ودفع مضاره واستقامة خلقه للسعي في ذلك”([1]).
يقع مفهوم “الإنسان” اليوم بين الرؤيتين المادية والدينية والتي تقدم كل منهما تصورًا عن ماهية الإنسان ودوره في الأرض.
فالرؤية المادية ترجع عناصر الإنسان وصلاته وأفعاله وانفعالاته إلى المادة وحدها، ومرت منذ عصر التنوير الغربي بمرحلتي الحداثة وما بعد الحداثة. فالأولى تضع الإنسان في مركز الكون، باعتبار أن العقل قادر على تفسير أجزاء الكون التي تملك أدلة تفسيرها ومنطق تكوينها بداخلها، بحيث يمكن للعقل ببحثها وتأملها توليد معياريته الذاتية والاستغناء التام عن الإله، واستقاء معرفته من مصادرها غير مقدسة؛ ومن ثم تزويد الإنسان بالأنساق المعرفية والأخلاقية والجمالية المستندة إلى العقل والطبيعة البشرية والقوانين المادية فحسب. وفى مرحلة ما بعد الحداثة، أُزيح الإنسان من مركز الكون بنزع القداسة عنه، باعتباره مجموعة من الدوافع المادية والاقتصادية والجنسية التي لا يختلف فيها عن الحيوان -أي إنه كائن غير عقلاني- بحيث يتمثل المطلق لديه في مجموعة من الماديات (المنفعة المادية – اللذة الجنسية – معدلات الإنتاج)؛ وهو ما يعني من طرف آخر إسقاط الأنساق المعرفية والأخلاقية والجمالية في نمط الصيرورة والنسبية -مرحلة المادية السائلة- حيث لا مركز للكون ولا هدف، ولا قدرة للإنسان على تجاوز المطلقات المادية السابقة، فهو”كائن بسيط للغاية وليس ظاهرة تاريخية متميزة، فضاؤه وحدوده هي في إطار الطبيعة والمادة ولا يمكنه تجاوزها، وظائفه البيولوجية هي الهضم والتناسل واللذة الجنسية، دوافعه الغريزية هي الرغبة في البقاء المادي، القوة والضعف، والرغبة في الثروة، مثيراته العصبية المباشرة هي البيئة المادية والأجهزة العضوية منه، وهو خاضع لحتميات القانون الطبيعي المادي”([2]).
أما الرؤية الدينية ضمن المنظومة الوضعية نفسها، فهي تصور الوجود بمنظومة تشرف عليها قوة عليا قاهرة، تدير عجلة العالم وتخلق الإنسان كائنًا تافهًا دون إرادة ولا اختيار، فهو يتحرك بأمرها ولا يملك من أمره شيئًا، وتمثلت هذه الرؤية في الفكر الكنسي في العصور المسيحية الوسطى والتي تزامنت مع دور متنامٍ للكنسية في حياة الفرد والمجتمع والدولة.
ويلاحظ على هاتين الرؤيتين وقوعهما في فخ إسقاط الأصالة عن الإنسان باعتباره كائنًا مكرّمًا ترجع أفضليته إلى: الإيمان والوعي والإبداع والاختيار. فهو في الرؤية القرآنية مُؤتمن على الكون ومستخلف فيه ليعاونه الكون على تحقيق رسالته ورسالة المخلوقات الأخرى التي أسندها الله إليها والحفاظ على القيم وتعمير الأرض. والأمانة كما ذكرها النص القرآني ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ (الأحزاب: 72) هي التكليف والمسئولية والاختيار، وهي لعموم الإنسان تحقيقًا لذاته وأصالته، وهي ليست تسخيرًا -لأنه غير معفى من المسئولية- فالإنسان سيد في كون الله سبحانه وليس سيدًا على هذا الكون.
وترتب حرية الإنسان واختياره مسئوليته عن أفعاله، لكن تحقيق الحرية وأصالة الفعل والإرادة يتوقف على قدرته على التخلص مما أسماه على شريعتي بالسجون الأربعة؛ وهي سجون: الذات، والتاريخ، والمجتمع، والطبيعة.
- فأما سجن الطبيعة، فهو يشير إلى أن الإنسان بعد إزاحته لمعنى “الإله” من مركز الكون، وتنصيبه نفسه سيدًا عليه، فإنه تحول -بحسب مقولات المذهب الطبيعي- إلى موجود آخر من موجودات الطبيعة، لا يتميز عن ظواهرها غير أنه أكثر تكاملاً منها، فهو مصنوع بالطبيعة.
- وأما سجن التاريخ، فيشير إلى مقولات مذهب أصالة التاريخ، باعتبار الإنسان بضاعة صنعتها التاريخ، وهو يتكرر جبرًا على الإنسان ويجري عليه ما جرى بالسابق دون حول للإنسان ولا قوة للفكاك من حتميته.
- ويشير سجن المجتمع إلى دوره في تشكيل الإنسان حسب مقولات المذهب الاجتماعي؛ بحيث يمكن توقع أنماط التفاعل والسلوك والقيم والأفكار للأفراد من خلال دراسة المجتمع ككل.
- السجن الأخير هو الذات، وهو يشير إلى غلبة الحاجيات والتحسينيات التي تفرضها الذات على الفرد، على تفكيره وسلوكه بحيث يمكن تأويل جزئياتها بمبدأ المنفعة/اللذة والضرر/الألم.
فأما سجون التاريخ والمجتمع والطبيعة، فإنه يمكن التغلب عليها من خلال العلم، من خلال معرفة مغزى التاريخ ومسيرته واكتشاف قوانين حركته وتأثيرها على البناء الفكري والإرادي والشعوري والأخلاقي للإنسان، ومن خلال دراسة العلوم الطبيعة وترويض الطبيعة بنتائجها، ومن خلال معرفة العلاقات الإجتمعاية ومراحل تاريخ المجتمع وكيفيات تغيير بناءه.
أما سجن الذات، فلا يمكن التغلب عليه سوى بالعقيدة التي توازن قصور العقل الإنساني وحدود علمه الضيقة مهما اتسعت، والتي تمكن الإنسان من صنع تاريخه الخاص والتخلص من سجون ذاته المادية والحيوانية وتحريرها. ومن ثم فإن تخلص الإنسان من أنواع الجبر المختلفة وما تولده من عذاب إنساني سواء كان ماديًا أو فلسفيًّا، إنما يكون بالإرادة والإيمان، وتسليطهما على تلك الحواجز وصولًا إلى القوة الفطرية للإنسان في الإبداع والتخليق، وحينها يختار الإنسان حياته، ويتحقق تكليفه ومسئوليته وإنسانيته. ويصدق ذلك قول الشاعر:
دواؤك فـيك ومـا تبصــر وداؤك منـــك ومـا تشعـــر
وتزعـم أنك جــرم صغيـر وفيـك انطــوى العـالم الأكــبر
ومن هذا المنظور تتعدد خصائص الإنسان، بما يمكن إجماله في:
- أنه مخلوق ثنائي البعد بحكم التكوين الخَلقي له؛ فهو جماع نفخة الروح الإلهية ومادة الطين/الصلصال: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ {15/28} فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ﴾ (الحجر: 28، 29). وهذا دلالة على ارتباط الإنسان بالكون، والأرض منه بالأخص، بما يعنى ضرورة التفاعل معه بجسمه وروحه وعقله في إطار مهمته الإلهية فيه، وهو دلالة كذلك على إمكانية الوقوع في الخطأ والزلل: “كل ابن آدم خطاء” وضرورة الإنابة والرجوع إلى الحق: “وخير الخطائين التوابون”.
- قدرة الإنسان على القيام بالعمليات العقلية العليا كالتفكير المجرد والتأمل والتدبر والتخيل والنظر العلمي والقياس والاستدلال والاستنباط من التجارب وغير ذلك، خلاف ما يشارك الإنسان الحيوان فيه بصفة عامة؛ بما يبني لديه الوعي بالتاريخ والحاضر والتخطيط للمستقبل والبرهنة على صحة مقولاته واعتقاداته بشأن الله والوجود والكون والحياة.
- النطق والبيان والتعامل بالرموز اللغوية والاتصال اللغوي: ﴿عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴾ (الرحمن: 4)، وهى تندرج تحت الرموز التي ينتجها الإنسان كالفن والنحت والمعمار وغيره إلا أنها تتميز عنها بأنها رموز لغوية وهذا يختلف عن مجرد النطق الصوتي كما في الطير: “علمنا منطق الطير”؛ فنسب المنطق إلى الطير لا يلغي اختصاص الإنسان بالبيان؛ إذ اللغة ظاهرة نفسية واجتماعية وانثربولوجية وليست عضوية فحسب. ولهذا تتفرع علوم اللغويات بين علم اللغويات البيولوجي وعلم اللغويات النفسي وغيرها.
- النزعة الاجتماعية والمدنية التي تدفع الإنسان نحو الاندماج وبناء العلاقات المتراكبة والمتداخلة مع غيره قليلة كانت أو كثيرة ولمختلف أغراضها الدنيوية والأخروية. ويرتبط هذا كله بسعة الآمال والتطلع إلى طموحاته وحب التملك والانتباه والانقياد لما يمثل مصلحة شخصية، والاهتمام بالمستقبل والكفاح لتحقيق “الأفضل” في إطار ما تعرفه الجماعة على أغلب الأحوال.
ويتطلب الاجتماع الإنساني التغلب على ندرة موارد الطبيعة بمحاولة استخدامها وتوزيعها على حال يضمن التعايش بين الإنسان وإخوانه على أقل تقدير، وعلى حال يحفز الإنسان على الارتقاء والسمو عن الغريزة الاستحواذية على أفضل تقدير، وهو الذى يتحقق به الأمن والحرية والبناء والعمران وتطوير الحضارة الإنسانية وإنتاج معطياتها المادية والثقافية كما يوجهها مفهوم الاستخلاف في الأرض.
- النـزعة الدينية والإيمان بالقوة العليا التي تسيطر على الكون، وهي نزعة فطرية كما وصفها القرآن الكريم في قوله سبحانه وتعالى ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾ (: 29)، وقال: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ﴾ (الأعراف: 172)، والحديث القدسي ” إنى خلقت عبادي حنفاء…” [رواه مسلم].
ولقاء هذا الإيمان من الإنسان بالألوهية، فإن عليه تكليف الاستخلاف والعمران وأداء التكاليف الشرعية: ﴿هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ (هود:61) ويعينه على ذلك نزعته نحو التدين والوفاء بالعهد والامتثال للأوامر التي تؤدى لسعادة روحه وتزكيتها وتقوية نفسه على الجهاد الشاق الطويل في مصارعة الشر والنفس نحو السمو الروحى والخلقي بما يشمل كافة مناحى الحياة منذ بدايتها وحتى نهايتها وبدأ الحياة في الآخرة.
- النـزعة الخلقية أو ما يسمى الضمير الأخلاقي: “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”، وهذا ما يؤكده مسكويه في “تهذيب الأخلاق”: “إن الإنسان هو الذي من بين الموجودات كلها يلتمس له الخلق المحمود والأفعال المرضية التي تتعلق بها قوة الفكر والتمييز… وبها تتم إنسانيته وفضائله “([3]).
والخُلُق هو عادة أو اتجاه راسخ في النفس تصدر عنه الأفعال بسهولة ويسر، وهو يتطلب التمييز بين الخير والشر ابتداءً والإرادة القوية على تحويل دفة الفعل نحو الخير والسمو وإعلائه على الشر والدنو، وبما يرتب المسئولية وتابعها من جزاء أو إثابة، وبما يفرضه التخلق بمكارم الأخلاق من مدافعة ومجاهدة، فهو يتصل بمفهوم التزكية للنفس وضبط طباعها الرديئة: ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء مَن تَزَكَّى﴾ (طه: 76)
أن الأصل في الطبيعة البشرية هو الخيرية ثم يطرأ عليها التغير بفعل الظرف الزماني والمكاني وما يتصل بهما من عوامل التربية والتنشئة والجهد الذاتي للإنسان في تزكية نفسه وتهذيبها. ولا تعارض هذه الفطرة الإرادة الإنسانية بل هي دعوة لاختيار طريق الشكر أو الكفر إن شاء تبعها وإن شاء أعرض عنها: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾ (الإنسان: 3)، وذلك خلاف ما خلص إليه كل من هوبز وفرويد وغيرهما من الذين يرون أن طبيعة الإنسان مجبولة على الشر والإثم والخطيئة. وهو منطق يجاور العقيدة المسيحية التي ترد جبلة الشر في الإنسان إلى “الخطيئة الأصلية” بما يحمل الإنسان عبء تخليص ذاته الآثمة -خَلقا- أو التمادي في غيها.
- أن الإنسان في جوانب حياته وشخصيته ومظاهر نموه هو انعكاس لأثر البيئة والوراثة وتفاعلاتهما في إطار الموقف ومتغيرات الحوادث والوقائع. وتأثير كل منهما على حدة يختلف بحسب مرحلة العمر حيث الوراثة أغلب في مرحلة الطفولة، والعكس. ويقبل الإسلام من جهة أخرى الدوافع المادية والغرائز الإنسانية في إطار تنظيمها وترشيدها.
- أن الإنسان رغم تشابه أفراده شكلاً إلا أنهم على قدر هائل من التنوع في الصفات والسمات؛ بحيث إن كلاًّ منهم يمثل بصمة متفردة لا تقبل التنميط ولا التكرار بحذافيرها، ولكنها تتشابه مع غيرها وتختلف.
- مرونة الطبيعة البشرية وقابليتها للاكتساب والتعلم والتعديل لمعارف والمهارات والعادات والاتجاهات والقيم والأخلاق، من خلال التوجيه وعمليات التنشئة الاجتماعية وتفاعل الفرد مع البيئة المادية والثقافية التي يعيش فيها، فالإنسان كائن مختار بإمكانه إدراك جبلته وكيفيته، وجبلة العالم وكيفيته، وجبلة علاقته بالعالم وكيفيتها، ووصوله لهذه الكيفيات الثلاثة يحقق “إنسانيته”.
وهذه الخصائص المستنبطة من مجمل الرؤية الإسلامية، لا تعني بالضرورة المقابلة والمغايرة التامة لكافة الرؤى الأخرى، بل تتقاطع معها وتتمايز عنها.
الله تعالى في رؤية العالم القرآنية هو مركز الوجود تمامًا، فهو الإله المتعالي الذي لا يماثله ولا يشبهه ولا يكافئه شيء في العالم، فكل ما سواه مخلوق له. لكن الإنسان في هذه الرؤية هو الوحيد من بين المخلوقات الذي علقت عليه النصوص القرآنية أهمية عظيمة من حيث الطبيعة والسلوك والنفسية والواجبات.
في هذا الإطار، يمكن رصد أربع أنماط لعلاقة الإنسان بالله سبحانه وتعالى: فالأولى علاقة انطولوجية؛ وهي علاقة الخالق بالمخلوق، والثانية علاقة تواصلية؛ وهي علاقة حميمية تمثل تواصلاً مشتركًا سواء كان لفظيًّا؛ أي من خلال الوحي من طرف الله والدعاء من طرف الإنسان، أو غير لفظي مثل: تنزيل الآيات وسائر صور الفعل الإلهي من طرف الله ومثل الصلاة وأداء الشعائر من طرف الإنسان، والثالثة علاقة أخلاقية يقدم الله تعالى فيها عطاءين متبادلين: الخير والرحمة والكرم غير المحدود من وجه، والعقاب الصارم والعدالة المطلقة من وجه آخر، ويتمثل مفهوم “الإنسان” فيها بأحد وجهين متقابلين كذلك؛ وهما: الشكر والإيمان والتقوى من جهة، والكفر والجحود وعدم الإيمان من جهة أخرى. أما العلاقة الرابعة فهي علاقة يتجلى فيها الرب بالجلال والقدرة والعظمة المطلقة، ويكون الإنسان فيها ممثلاً للخضوع والتواضع والطاعة المطلقة، لكن هذه العلاقة لا تنفي أن الجانب الإنساني من العلاقة قد يكون سلبيًّا، حين يتمثل في الكبر والجاهلية. ومن ثم يمكن تصوير علاقة الله والإنسان، في هذا الشكل:
يعرف الإمام الغزالي الروح بأنها لفظ يتعلق بمعنيين: الأول “أنها جسم لطيف منبعه تجويف القلب الجسماني، فينتشر بواسطة العروق الضوارب إلى سائر أجزاء البدن فيُفيض أنوار الحياة والحس والبصر والسمع والشم منه على أعضائه..”. أما المعنى الثاني؛ فهو أنها لطيفة ربانية عالمة مدركة، وهى نفحةٌ قدسية من روح الله، وتمثل المكون الرباني من الإنسان الذي يرى به من وراء وراء. وبهذا المعنى فإن الروح تمنح الإنسان معنى الحياة والبعد النوراني الذي يذكره بسرّ الله. وهى تقع في ساحة الإدراك فطريًا؛ إذ لا تتحدد ماهيتها بحال كا يشير قوله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً﴾ (الإسراء:85) – وقد يكون ذلك بالتلاقي كما جاء في الحديث النبوي: “الأرواح جنود مجندة، ما تعارف منها ائتلف وما تنافر منها اختلف”، أو بالاتصاف ببعض من صفات الإنسان العارضة كالظهور في المنام: “من رآني فقد رآني حقًّا فإن الشيطان لا يتمثل بي”، أو بدلائل الحياة سواء في حال اليقظة أو النوم، لكنها في مجمل الأمر لا تتجسد في موضع بذاته من الجسد بل تسري به سريان الماء في الورد.
كما سبقت الإشارة، يعد الإنسان في المفهوم القرآني كائنًا ثنائي البعد؛ إذ يستمد وجوده من عنصري الروح والطين، وبامتزاجها تتحقق الحياة. ومن الروح ينبثق العقل وجميع الصفات الوجدانية والعقلية. ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ {32/7} ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاء مَّهِينٍ {32/8} ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ﴾ (السجدة: 7- 9). وهو بذلك كائن مكرم نُفِخَت فيه الروح الإلهية، ومنحته مواهب وطاقات بدنية وعاطفية وعقلية ومؤهلات وأدوات ضرورية للقيام بمهمته في الأرض. وهذه هي الرؤية التوحيدية للكون التي تؤسس الرسالة الإلهية للإنسان، ولتعطيه مكانته إزاء الكائنات الأخرى في عالم غير عابث يتحمل فيه الإنسان مسئولية تقرير مصيره ومصير بني نوعه؛ ومن ثم فهي تنفى تفاهة الإنسان وعبثه وخسته، فالتوحيد يهب الإنسان الحكمة والميزان ويكرمه بما لم تأتِ به نظريات أصالة الإنسان من افتراض هذه القدسية والعظمة لإنسان بوصفه خليفة لله تعالى في الأرض.
أما إدراك الإنسان لتلك الحقيقة فيتراوح بين ما يسمى بالنزعة الجنينية والنزعة الربانية. النزعة الجنينية تشير إلى محاولات أصيلة في النفس الإنسانية لرفض تركيبها الذاتي وتعينها المادي وهويتها والتخلص من عبء خصوصية الإنسان ووعيه، فهي محاولة للهرب من الواقع الإنساني بثنائياته وتدافعه وإمكانيات نجاحه وإخفاقه، والنهوض والسقوط والحرية والحتمية، وتجاوز الحيز الإنساني المركب إلى عالم واحدي تحكمه مفردات الحلولية الكامنة مثل الجنس أو الأرض أو الرحم. أما النزعة الربانية فتشير على الطرف النقيض إلى تقبل النفس الإنسانية لحدودها وتركيبها ومسئوليتها الأخلاقية في الكون وعبء وعيها به -أي الأمانة التي يحملها- وتأكيد الهوية الإنسانية المركبة التي بإمكانها إلجام شهواته وغرائزه بتفعيل النزعة الربانية فيه، وإنتاج أشكال حضارية إنسانية تتجاوز عالم المادة/الطبيعة وعالم المثيرات والمؤثرات المادية والجسدية المباشرة.