طوفان الأقصى رؤية استشرافية في ضوء سنن العمران
كان هذا عنوان كلمة فضية الدكتور محمود النفار في الندوة التي عقدها مركز رؤيا، بعنوان:
(مستقبل طوفان الأقصى في ضوء السنن الإلهية)
وقد تضمن كلمة الدكتور محمود المحاور التالية:
مقدمة:
حيث استهل مداخلته بمقدمة منهجية تناول فيها أهم المداخل التي ينبغي على جهة الكفاية النظر من خلالها إلى القضية الفلسطينية عامة وطوفان الأقصى خاصة، مثل المدخل الأصولي، والمقاصدي، وغيرهما.
ثم شرع في الحديث عن مدخل المنظور السنني العمراني، مسترشدًا فيه بسنن العمران الثاوية في فقه وقواعد العمران التي بدأت جذورها في التراث الإسلامي مع الطرشوشي (ت 520ه) في سراج الملوك، وابن رضوان المالقي (ت 783ه) في الشهب اللامعة، ثم بلغت أشدها مع ابن خلدون (ت 808ه) في مقدمته الشهيرة، لتتطور فيما بعد مع المقريزي (ت 845ه) في إغاثة الأمة بكشف الغمة، وقاضي القدس ابن الأزرق (ت 896ه) في بدائع السلك في طبائع الملك.
حقيقة فقه العمران، وأهميته:
فقه العمران في حقيقته يمثل استجابة للأمر الإلهي بالتدبر في اجتماع الإنسان سواء ذلك الذي ساقه الله علينا في القرآن الكريم من خلال قوانين اجتماعية، وقصص قرآنية، وأحداث تاريخية، وإن البحث في هذا الفقه فرض من فروض الكفايات سواء أكان البحث فيه في الماضي أو الحاضر أو المستقبل.
والبعض يظن خطأ أن مجال هذا الفقه هو النظر فيما مضى من وقائع، وانقضى من خطوب، وليس الأمر كذلك، ذلك أن فقه العمران يتناول الثلاثية الآتية: الماضي بقصد التدبر والاعتبار، والحاضر بقصد التبصر والتقويم، والمستقبل بقصد الاستعداد والتخطيط، والتوقي والتدبير.
وهذه الورقة تحدد نطاقها بالحديث عن المستقبل من حيث قواعد فقه العمران، وهي تلتقي في فقه التكليف وأصول التشريع بما اصطلح عليه بفقه المآلات، فهذا الفقه هو الأحكام الشرعية المتعلقة بامتدادات أفعال المكلفين من حيث هم مكلفون في المستقبل، أما فقه العمران المستقبلي فهو يتناول الأحكام الشرعية المتعلقة بما يقع في المستقبل مطلقاً، فإذا كانت عين فقيه التشريع على الحكم المستقبلي، فإن عين فقيه العمران على المستقبل نفسه.
وسنن العمران هذه تتصل بالدولة والمجتمع، على ما قال ابن خلدون بأن “الدّولة والملك للعمران بمثابة الصّورة للمادّة”، وأنّ “الدّولة دون العمران لا تتصوّر والعمران دون الدّولة والملك متعذّر” [ابن خلدون، تاريخ ابن خلدون (1/ 471)].
ومرادي أن هذه السنن هي سنن اجتماعية سياسية أو سياسية واجتماعية، وهو ما يميزها عن غيرها من السنن التي تختص بالفرد أو الكون ونحو ذلك.
مقدمات ذات صلة بسنن العمران:
هناك جملة من المقدمات ذات الصلة بسنن العمران موضوعها القضية الفلسطينية وطوفان الأقصى. بعضها يتعلق بالماضي، وبعضها يتعلق بالواقع، وبعضها يتعلق بالمستقبل.
من أهم المقدمات ذات الصلة بالتاريخ هذه المقدمات:
المقدمة الأولى: إنّ الهزيمة التي حلت بالدولة العثمانية ونشأ عنها دخول الأمة في حقبة الاحتلال الإنجليزي والفرنسي والإسباني وغيرها ترجع إلى ضعف الفقه بسنن العمران، وتراجع الالتزام بمقتضيات هذا الوعي في سلوك الأمة وتدابير قادتها وتدبر ذوي الرأي فيها.
المقدمة الثانية: إن ولادة دولة الاحتلال كان ثمرة التزام ببعض سنن العمران التي جرت العادة أن من التزمها تشيد له العمران، وتأسست له الدولة، وتوافرت له القوة، وقد استغرقت هذه السنن الواقع المحلي والإقليمي والدولي آنذاك.
المقدمة الثالثة: إن جميع الحروب والمعارك التي وقعت بين العدو الصهيوني من جهة والعرب والمسلمين من جهة أخرى كما في العام 48م والعام 67م والعام 73م ترتبت نتائجها بحسب هذه السنن التزامًا بها أو تعطيلًا لها كليًّا أو جزئيًّا.
من أهم المقدمات ذات الصلة بالواقع هذه المقدمات:
المقدمة الأولى: أن ما حدث يوم 7 أكتوبر وما وقع بعدها حتى هذه اللحظة من انتصارات وإنجازات هو ثمرة قراءة سننية عميقة لواقع المقاومة ومحيطها الفلسطيني والعربي والإسلامي، وواقع الاحتلال الداخلي والخارجي، والواقع الإقليمي والدولي.
المقدمة الثانية: أن ما حدث في 7 أكتوبر مثال بديع على ما يمكن تسميته بالاستثمار السنني للفرص المختلفة على المستوى المحلي والإقليمي والدولي، واجتمعت فيها شروط تشغيل جملة من السنن في سياقات التدافع والتداول. (وجود قيادة صهيونية ضعيفة- انقسام المجتمع الصهيوني-انشغال الداعم الأمريكي في مواجهة روسيا والصين-…إلخ)
المقدمة الثالثة: ما حدث يوم 7 أكتوبر هو ثمرة امتثال سنني من خلال إحكام أسباب القوة واتخاذ التدابير المختلفة المفضية إلى تحقيق النصر.
كانت هذه جملة من المقدمات، وهي في خلاصتها ضربان: مقدمات منهجية حول موقع المنظور العمراني في الفكر الإسلامي، ومنهج النظر في الظاهرة العمرانية وتنزيله على القضية الفلسطينية بشكل عام وطوفان الأقصى بشكل خاص، ومقدمات سننية حول تاريخ وواقع القضية الفلسطينية.
وسوف أذكر الآن جملة من المداخل لاستشراف مستقبل طوفان الأقصى في ضوء سنن العمران:
ولهذا الاستشراف اتجاهان كبيران:
أحدهما: باتجاه العدو الصهيوني واستشراف مستقبله.
والثاني: باتجاه الجهاد الفلسطيني واستشراف مستقبله.
وهناك جملة من المداخل العمرانية التي يمكن تنزيلها على هذين الاتجاهين:
الضرب الأول من المداخل: ما يرتبط بالشخصية اليهودية، من خلال تدبر سلوك هذه الشخصية والتنبؤ بتصرفاتها بناء على ما أخبرنا الله تعالى عنها تارة، ومن خلال تفرسات المؤمنين والمجاهدين الذين خبروا هذه الشخصية عبر الجهاد والمدافعة والمنازلة.
ويمكن هنا الإفادة من التراث الإسلامي خاصة كتب التفسير وشروح الحديث وكتب التاريخ بشكل عام، كما يمكن الإفادة من كتب التزكية التي تكشف طبائع النفس الإنسانية وعاقبة الأفعال الباطنة والمخبآت القلبية. ومن أهم الكتب الجيدة في هذا الباب كتاب الشيخ صلاح الخالدي رحمه الله حول الشخصية اليهودية في القرآن الكريم.
والملاحظ أن هذه السمات والرذائل قد ظهرت بشكل واضح وجلي جدًّا، ومعها ظهر مدى وعي المجاهدين الفلسطينيين بها وبنائهم عليها في الإقدام والإحجام، والسياسة والتدبير.
– يخبرنا القرآن الكريم عن أصالة الكذب في الشخصية اليهودية كما قال تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 75]، وقد رأينا تجليات هذا الخلق الذميم في معركة طوفان الأقصى بالكذب على النفس والغير حتى استطار كذب هذا العدو في العالم كله بما فيه داخل المجتمع الصهيوني، وشاعت عدد من كذباتهم في الآفاق مثل مستشفى الرنتيسي، ومستشفى الشفاء ودعوى قطع رؤوس الأطفال والاعتداءات الجنسية حتى صار العدو وجيشه مثار سخرية في العالم بسبب بعض هذه الأكاذيب.
ومن السنن التي تربط بين الكذب وسنة الهلاك قول الله تعالى: {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147)} [الأنعام: 147، 148].
وقد لاحظنا وعي المقاومة بهذه الخصلة واستثمارها في إساءة وجه اليهود في العالمين من خلال تصوير العمليات التي تظهر خسائر الاحتلال التي لا يفصح عنها، وحسن معاملة الأسرى على عكس أكاذيب الاحتلال الذي حاول نزع الإنسانية عن المجاهدين، وعقد مؤتمرات صحفية كثيرة تفند أكاذيب الاحتلال.
كما أخبرنا القرآن الكريم عن أصالة خلق الغدر والخداع والتحايل والمراوغة والخيانة فيهم، مثل قصة ذبح البقرة، وقصة أصحاب السبت، وتبديلهم قول حطة بحنطة ونحو ذلك.
وقد أشار الله تعالى إلى أن هذا السلوك ستظهر آثاره في عهد مع اليهود فقال تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ} [المائدة: 13].
وقد حاول الصهاينة في حيل كثيرة الغدر بالمقاومة في الهدن الأخيرة من خلال بنود الاتفاقات، إلا أن وعي المقاومة بهذه الخصلة في أخلاق اليهود جعلهم يحتاطون لها من خلال توزيع الأسرى على أيام الهدنة.
ومن السنن التي تربط بين التحايل والهلاك قول الله تعالى: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا (44) } [فاطر: 43، 44].
ومن السنن التي تربط بين نقض العهود والخسران قول الله تعالى: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [البقرة: 27].
ومن أخلاقهم اتباع الهوى والجشع حتى في متابعة الغير لهم. قال تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120)} [البقرة: 120، 121].
وقد تجلى في هذه المعركة استخفاف وسخرية هذا المجتمع مجتمع الرذائل والنقائص على ما وصفه الشيخ الخالدي رحمه الله بكل من الدول المحيطة بالقول إن صواريخ الاحتلال تصل إلى أي مكان بالشرق الأوسط، وإصرار نتنياهو وائتلافه الحكومي على رفض أي دور للسلطة الفلسطينية في قطاع غزة رغم أنها تقوم بحراستهم في الضفة الغربية عبر منع ومحاربة أي فعل مقاوم جاد.
وعلى الضد من ذلك يبشر رفض المقاومة لهذه الأهواء ولهذه المتابعة بولاية الله ونصرته وهذا المعنى مستنبط من مفهوم المخالفة في الآية السابقة.
ومن أخلاقهم هذه التي تنبئ عن عاقبتهم سخريتهم بالمسلمين والمجاهدين وسخريتهم بشعائر الأمة على ما قال الله تعالى: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ} [المائدة: 58]، وقد شاهدنا قبل أيام جندياً صهيونياً يتلو صلوات يهودية في أحد المسجد في جنين سخرية بالمؤمنين واستفزازا لمشاعرهم.
وإن عاقبة هذه السخرية ستكون سخرية الله تعالى بهم على ما قال تعالى: {فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [التوبة: 79]، وعلى ما قال تعالى بعد بضع آيات عن سخرية اليهود بشعائر المسلمين: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58) قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60) وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (61) وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63) وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ} [المائدة: 58 – 64].
ومن هذه الخصائص خصيصة السفه كما قال تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} [البقرة: 142]، ما يدل على ديمومة هذه الصفة فيهم.
ومن مظاهر هذا السفه التي تجلى في هذه المعركة مطالبة هذا العدو المقاومة بالاستسلام في جهل مروع بطبيعة الشخصية الفلسطينية، وإرادة المقاتل الفلسطيني، ثم تصريحهم بالعزم على اجتثاث حماس بكل مكوناتها رغم رسوخها وتجذرها في الشعب الفلسطيني ورغم كونها فكرة لا تقبل الاجتثاث طالما بقي الاحتلال قائماً. والعدو بذلك يكرر ذات الأهداف التي ثبت فشلها مرة تلو مرة.
ومن هذه الخصائص الجبن الذي قص الله علينا خبره في دخول الأرض المقدسة مع موسى عليه السلام ثم دخولها مع الملك طالوت ثم تجلت في خورهم يوم بني النضير كما قال تعالى عنهم: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ } [الحشر: 2]، فقد سيطر عليهم الرعب والجبن عن مواجهة النبي صلى الله عليه وسلم وجيشه.
وفي هذه المعركة ظهر هذا الجبن من خلال التحصن اليهودي بالمستوطنات والجدر والدبابات ونحو ذلك إلا أنهم أتوا منها يوم السابع من أكتوبر وما زالوا يؤتون منها. وعاقبة هذا الرعب والجبن هو الهزيمة في كل مرة وخاصة مع بني إسرائيل ولذا أمرنا الله تعالى بالقياس والاعتبار.
وتتصل هذه الخصلة الذميمة بصفة الحرص على الحياة والبخل.
وقد أثبتت المقاومة معرفتها الدقيقة بالشخصية اليهودية من خلال الإفصاح عن أعداد القتلى والتصريح بأسماء بعض الأسرى القتلى بهدف الضغط على صانع القرار الذي لا يقبل مجتمعه هذه الأعداد الكبيرة من القتلى من الجيش بما يشبه التلاعب بأعصاب صانع القرار والمجتمع على حد سواء.
ومن خصائصهم الإفساد في الأرض على ما قال الله تعالى: {وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [المائدة: 64]، وقال تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7) } [الإسراء: 4 – 7]
وها هم في هذه المعركة يظهرون أوضع ما عندهم من أخلاق وأكثر ما ترسخ في نفوسهم من فساد، ومن خلال هذا الإفساد يمكن استبصار عاقبتهم وأنها التتبير وإساءة الوجه ورجوع الفساد فيهم، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} [يونس: 81، 82]، وكما قال تعالى: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48) قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49) وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (53) } [النمل: 48 – 54].
الخلاصة:
هذه الخصال مذمومة من حيث هي مفردة تنبئ عن وبال يلحق صاحبها على ما قضت به السنن المتصلة بكل خصلة منها، ويتسارع هذا الهلاك إلى الفرد أو الجماعة البشرية باجتماعها فيه أو فيهم.
ويظهر أثر هذه العواقب باستثمار المكلفين لها من خلال فضح الكذب، والاحتياط للغدر والخداع، ومدافعة الفساد كما قال تعالى: {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117)} [هود: 116، 117].
الضرب الثاني منها: ما يرتبط بالأمثال القرآنية:
الأمثال القرآنية تتأسس على تمثيل شيء بشيء لوجود عنصر أو عناصر متشابهة بينهما، بالنظر إلى اطراد سنن الله تعالى، من حيث هي قوانين ثابتة تنتج أحكاماً عامة تشمل سائر الأفراد المتماثلة.
وهذه الأمثال مطلوبة الاستدعاء في كل حال خاصة إذا كان موضوعها الأحداث الكبرى والتحديات الكيانية على مستوى الأمة. قال تعالى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [الزمر: 27].
والقصص القرآنية هي الأخرى مذكورة بقصد القياس والاعتبار والنمذجة الإيجابية أو السلبية على ما قال تعالى في فرعون: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ (56) وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57)} [الزخرف: 54 – 57]. يقول الإمام ابن عاشور: “جعلناهم عبرة للآخرين يعلمون أنهم إن عملوا مثل عملهم أصابهم مثل ما أصابهم”. [ابن عاشور، التحرير والتنوير (25/ 235)].
ومن الأمثال القرآنية ذات الدلالة المعبرة عن نتائج هذه المعركة قول الله تعالى: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} [الرعد: 17].
ويمكن من خلال هذا المثل تقويم الأودية المختلفة التي تفاوتت في الاستيعاب.
يقضى هذا المثل بأن مآل المشروع الجهادي هو المكث والديمومة والنماء بإذن الله تعالى، فيما عاقبة المشروع الصهيوني الاضمحلال والتلاشي لأنه لا منفعة به ولا بقاء له (يذهب جفاء).
الضرب الثالث منها: ما يرتبط بالقصص القرآني:
هذه القصص موضوعة بقصد الاعتبار والقياس، كما سبق القول في الأمثال؛ فهي الأخرى تجسيد لسنن العمران، ويمكن من خلالها تبصر عاقبة أهل الحق وأهل الباطل كما قال تعالى: { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111) } [يوسف: 109 – 111].
مشهد جمع بني صهيون للعالم كله واستعراضهم أمام الإنسانية كلها لجلب التضامن مع دولة الاحتلال التي تتعرض لهولوكست جديد، وتجديد الصهيونية وتوسعة دولة الاحتلال، وهذا ذات صنيع فرعون من قبل على ما قال تعالى: { فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) } [الشعراء: 38، 39] ثم قال: { فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47)} [الشعراء: 46، 47] ثم قال عن استخفاف فرعون بأتباع موسى عليه السلام: { إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59) } [الشعراء: 54 – 60]. يعقب الله تعالى على هذه القصة بقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68)} [الشعراء: 67، 68]، وهو هنا يطلب من المكلفين والمجاهدين الاعتبار بهذه الآية واتخاذها نموذجاً إرشاديا في تبصر عاقبة من يماثل فرعون ومن يماثل موسى عليه السلام.
مشهد الجبروت في البطش الذي لا يثمر عاقبة سوى الهلاك، على ما قال تعالى: {وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) …. قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ (136) } [الشعراء: 130 – 136] إلى أن قال تعالى: {فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140)} [الشعراء: 139، 140].
مشهد الإسراف في الإفساد؛ {وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (152) …… فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159)} [الشعراء: 151 – 159].
في الجهة المقابلة نقف على توكل هود عليه السلام وإفضاء هذا التوكل إلى النجاة على ما قال تعالى: {قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (58) } [هود: 54 – 59].
الضرب الرابع: جملة من القواعد العمرانية:
القاعدة الأولى: الدورة الحضارية:
يرى ابن خلدون أن “الدّولة في الغالب لا تعدو أعمار ثلاثة أجيال والجيل هو عمر شخص واحد من العمر الوسط فيكون أربعين الّذي هو انتهاء النّموّ والنّشوء إلى غايته قال تعالى: «حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً 46: 15» [1] ولهذا قلنا إنّ عمر الشّخص الواحد هو عمر الجيل. وإنّما قلنا إنّ عمر الدّولة لا يعدو في الغالب ثلاثة أجيال لأنّ الجيل الأوّل لم يزالوا على خلق البداوة وخشونتها وتوحّشها من شظف العيش والبسالة والافتراس والاشتراك في المجد.
والجيل الثّاني تحوّل حالهم بالملك والتّرفّه من البداوة إلى الحضارة ومن الشّظف إلى التّرف والخصب ومن الاشتراك في المجد إلى انفراد الواحد به وكسل الباقين عن السّعي فيه ومن عزّ الاستطالة إلى ذلّ الاستكانة فتنكسر سورة العصبيّة بعض الشّيء وتؤنس منهم المهانة والخضوع ويبقى لهم الكثير من ذلك بما أدركوا الجيل الأوّل وباشروا أحوالهم وشاهدوا اعتزازهم وسعيهم إلى المجد ومراميهم في المدافعة والحماية.
وأمّا الجيل الثّالث فينسون عهد البداوة والخشونة كأن لم تكن ويفقدون حلاوة العزّ والعصبيّة بما هم فيه من ملكة القهر ويبلغ فيهم التّرف غايته بما تبنّقوه من النّعيم وغضارة العيش فيصيرون عيالًا على الدّولة ومن جملة النّساء والولدان المحتاجين للمدافعة عنهم، وتسقط العصبيّة بالجملة وينسون الحماية والمدافعة والمطالبة ويلبّسون على النّاس في الشّارة والزّيّ وركوب الخيل يموّهون بها وهم في الأكثر أجبن من النّسوان على ظهورها فإذا جاء المطالب لهم لم يقاوموا مدافعته فيحتاج صاحب الدّولة حينئذ إلى الاستظهار بسواهم من أهل النّجدة ويستكثر بالموالي ويصطنع من يغني عن الدّولة بعض الغناء حتّى يتأذّن الله بانقراضها فتذهب الدّولة بما حملت فهذه كما تراه ثلاثة أجيال فيها يكون هرم الدّولة وتخلّفها ولهذا كان انقراض الحسب في الجيل الرّابع”.
في موطن آخر يذكر ابن خلدون أطوار الدول ويجعلها خمسة، ونحن نحاول تنزيلها على واقع الصراع:
الطور الأول: الظفر بفلسطين والاستيلاء عليها، ثم تتميم هذا الاستيلاء في العام 1967م، وقاد هذا الطور قادة الاحتلال المؤسسون بناء على المدافعة وشدة البأس وتعود الافتراس.
الطور الثاني: طور الانتقال من الاعتراك إلى تأسيس النظام السياسي يتم بموجبه تعيين الرؤساء.
الطور الثالث: طور الفراغ والدعة من خلال مزيد من تطوير الدولة وبناء أنظمتها المختلفة وعلاقاتها السياسية حتى تتباهى من تسالمها مع الأصدقاء، وتتباهى برهبة أعدائها منها.
الطور الرابع: طور القنوع والمسالمة، فيكون فيها قادة هذه الدولة قانعين بما تركه الأسلاف، مقلدين لآبائهم مسالمين لغيرهم.
الطور الخامس: طور الإسراف والتبذير والترف، بإتلاف ما جمعه الأوائل في الشهوات والكرم على البطانة، وتقليدها عظيمات الأمور، فيستفسد ذلك كبار القوم في الدولة.
يرى ابن خلدون أن هذا الطور يقع فيه الهرم في الدولة ويستولي عليها المرض المزمن الذي لا مخلص منه، ولا يكون لها منه برء حتى تنقرض.
والملاحظ أن دولة الاحتلال بناء على هذه الأطوار الخمسة تعيش مزيجاً من الطورين الرابع والخامس مع الاحتفاظ بحظ لا بأس به من أطوار التماسك والبقاء.
ومن مظاهر الضعف التي يمكن أن تنقل هذه الدولة للتمحض نحو الطور الرابع والخامس:
- إقرار التعديلات القضائية قبل معركة السابع من أكتوبر، ولا تهتم هذه التعديلات بتوفير غطاء قانوني شكلي لقرارات وسياسات حكومة دولة الاحتلال. ونتوقع أن يفضي هذا الإقرار إلى انكشاف صورة الاحتلال أمام الرأي العام العالمي وزيادة عبء دولة الاحتلال على حلفائه الغربيين، وهذا المظهر تجلٍّ لسنة إساءة وجه اليهود التي قضى الله بها على بني إسرائيل إذا أفسدوا.
- تقوم التيارات الدينية الصهيونية بتعزيز مصالح فئاتها وشرائحها الاجتماعية الداعمة لها على مستوى الاقتصاد والمعيشة ونحو ذلك، وهو ما سيضاعف حالة الهشاشة الاجتماعية الصهيونية ويضعف التماسك الاجتماعي المتهاوي أصلاً.
- زيادة نفوذ التيارات الدينية سيزيد حالة اللاعقلانية في إدارة الدولة، خاصة وأن قادة هذه التيارات لم يخدموا في الجيش أصلًا، وسيضاعف وجود هذه التيارات في الحكومة الهوة بين دولة الاحتلال والغرب من خلال سعيها لفرض أنماط اجتماعية من اللباس والفصل بين الجنسين وتقييد حرية المثليين.
- يفاقم امتناع الحريديم عن المشاركة في التجنيد الإضرار بالبناء العسكري للمجتمع الصهيوني، ويفاقم الانقسام الاجتماعي من حيث عدم إسهام هذه الشريحة التي تمثل 13% في سوق العمل ثم يكافؤون بالحصول على امتيازات. يشارك منهم 3 آلاف رغم وجود 300 ألف منهم، والسبب هو التفرغ لدراسة التوراة.
وما ذكره ابن خلدون على الحقيقة استنباط قرآني واستقراء تاريخي، فالقرآن يقول: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (4) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (5)} [الحجر: 4، 5]، ويقول: {لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [يونس: 49].
وفي ضوء هذا المنظور حقق ابن خلدون حكمة التّيه الّذي وقع في بني إسرائيل، وقال “إنّ المقصود بالأربعين فيه فناء الجيل الأحياء ونشأة جيل آخر لم يعهدوا الذّلّ ولا عرفوه”. [ابن خلدون، تاريخ ابن خلدون (1/ 214)].
ومتابعة لابن خلدون استشرف الشيخ أحمد ياسين رحمه الله نهاية دولة الاحتلال في العام 2027م أو قريبًا منه، وقال: «إن القوة في العالم كله لا تدوم لأحد، الإنسان يولد طفلاً ثم مراهقاً ثم شاباً ثم كهلاً ثم شيخاً، وهكذا الدول تولد وتكبر ثم تتوجه للاندثار. إن إسرائيل ستزول إن شاء الله في الربع الأول من القرن القادم، وتحديداً في عام 2027 ستكون إسرائيل قد بادت وانتهت».
ورداً على سؤال المذيع: لماذا هذا التاريخ؟ قال الشيخ: «لأننا نؤمن بالقرآن الكريم، والقرآن حدثنا أن الأجيال تتغير كل أربعين عاماً، في الأربعين الأولى كان عندنا نكبة، وفي الأربعين الثانية أصبح عندنا انتفاضة ومواجهة وتحدٍّ وقتال وقنابل، وفي الأربعين الثالثة تكون النهاية إن شاء الله. وهذا استشفاف قرآني، فحين فرض الله على بني إسرائيل التيه أربعين عاماً، لماذا؟ ليغير الجيل المريض ويأتي بجيل مقاتل، وجيل النكبة بدّل الله به جيل الانتفاضة، والجيل القادم هو جيل التحرير إن شاء الله تعالى». انتهى كلام الشيخ الشهيد أحمد ياسين رحمه الله.
وهذا المدخل له بعدان: أحدهما: الدورة الحضارية لدولة الاحتلال، والثاني: الدورة الحضارية للجهاد الفلسطيني.
أولاً: الدورة الحضارية لدولة الاحتلال:
نشأ هذا الاحتلال كما قلنا.
المدخل الثاني: الوجود الأصيل والوجود الطارئ:
اقتضت سنة الله تعالى أن يلقى أي جسم غريب مقاومة سواء أكان هذا الطارئ مرضًا على جسم، أو فردًا على أسرة، أو أسرة على مجتمع، أو مجتمعًا على أمة، خاصة إذا كان هذا الطارئ مبغوضاً مفروضاً فرضاً على أمة كبيرة، وإذا فرض هذا المجتمع على أمة في شكل دولة احتلال وفي أرض تحوي مقدسات هذه الأمة كانت مقومات المقاومة أكبر، وكان جهاداً ليس واجباً فحسب بل واجبًا متحتمًا وعينياً.
وهذا واقع الكيان الصهيوني في مقابل أصالة الشعب الفلسطيني والمقاومة الفلسطينية التي هي جزء من نسيج المجتمع الفلسطيني والأمة العربية والإسلامية. فالبقاء والخلود للأصيل فيما الفناء والموت للغريب الطارئ.
إن بقاء هذا الجسم الطارئ يرجع إلى ما يمده به حلفاؤه من أسباب القوة، والجسور الجوية من خارج المنطقة بالمال والسلاح والرأي، وهو ما تأكد في طوفان الأقصى من خلال سهر القوى الغربية الداعمة لهذا الاحتلال وترقبها وخشيتها على هذا الجسم الغريب الذي غرسته في الأرض المباركة كي ينبت لهم الحياة، ولكنه لن ينبت لهم إلا الحنظل والشوك بإذن الله.
خاتمة:
إن أهم ما يمكن ملاحظته بحسب هذا الاستقراء السابق الممتد من التاريخ إلى الواقع ومنهما إلى المستقبل هو تصاعد منحنى الوعي والامتثال السنني لدى المقاومة الفلسطينية حتى باتت رقمًا صعباً في الوعي العميق والإضرار البالغ بالعدو الصهيوني على المستوى التكتيكي والإستراتيجي، وهو ما يمكن استشراف مآلاته في المستقبل بمزيد من الوعي ومزيد من الامتثال، وبالتالي مزيد من تحقيق الإنجازات والانتصارات حتى تصل اللحظة التي ينقلب فيها المنحنى إلى الدرجة التي تجعل العدو الصهيوني نفسه أو حلفاءه الغربيين الذين أسسوه بتفكيكيه أو أن ينهار أمام المقاومة والمجاهدين.
في المقابل يلاحظ تراجع الوعي والامتثال السنني لدى العدو الصهيوني حتى أمكن اختراقه وكي وعيه، الأمر الذي أفقده صوابه وجعله مسلماً زمامه الداخلي لشخصيات تفقد الرؤية الإستراتيجية ودقة الحسابات في التفاصيل المعقدة، وأسير الحسابات الخارجية لحلفائه خاصة الولايات المتحدة التي لديها حسابات تختلف من بعض الوجوه عن حسابات دولة الاحتلال.
ثم ختم الدكتور النفار مداخلته بهذه البشارة:
ومن أهم المبشرات بهذا المنحى هو غفلة هذا العدو عن خضوعه لهذه السنن التي قررها الله في الاجتماع الإنساني فمن ذلك قولهم إن “إسرائيل وجدت لتبقى”، هذا على الرغم من وجود أصوات تعمل العقل وتدرك أن هذه المقولة دعائية وليست حقيقية كما قلنا من قبل.