حدث ورؤية

مأزق السيسي بين ضغوط ترامب لتنفيذ التهجير وتحديات الرفض الشعبي!

مقدمة حول طبيعة العلاقة بين مصر وأمريكا:

ما تزال قضية تهجير سكان غزة تتصدر واجهة الأخبار، في ظل تصريحات الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، التي بدت متناغمة مع توجهات اليمين الصهيوني المتطرف الساعي لفرض تهجير قسري للفلسطينيين.

تاريخيًّا تُعدُّ العلاقة بين مصر والولايات المتحدة علاقة استراتيجية طويلة المدى، حيث يمثِّل الدعم الأمريكي العسكري والاقتصادي ركيزة أساسية للنظام المصري، إذ ترى واشنطن في مصر شريكًا إقليميًّا لا غنى عنه لضمان استقرار المنطقة وتنفيذ السياسات الغربية في الشرق الأوسط، في هذا السياق، تجد مصر نفسها اليوم تحت ضغط كبير بعد طلب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تهجير سكان غزة إلى سيناء، هذا الطلب الذي يضع السيسي في ورطة متعدِّدة الجوانب: بين مخاطر فقدان الدعم الأمريكي، وتداعيات تهديد الأمن القومي المصري، وغضب الداخل والرفض الشعبي العربي، فالأزمة الحالية تكشف هشاشة النظام المصري واعتماده المفرِط على الخارج، وتُلقي الضوء على محدودية دور المؤسسة العسكرية في حماية مصالحها الضيقة.

هيمنة المؤسسة العسكرية في مصر:

تُظهر أزمة التهجير محدودية تأثير القوة العسكرية المصرية في حماية قضية مهمة تمسُّ أمنها القومي، فرغم هيمنتها على مفاصل الحكم، ورغم أن الجيش يُعتبر أقوى مؤسسات الدولة، فإن قوته لا تتجاوز الداخل حيث تُوظَّف أساسًا لحماية النظام ودعم استمراره في الحكم، وليس لحماية مصالح البلاد العليا، فالهيمنة العسكرية فرضت خلال حكم السيسي سيطرة شاملة على السياسة الداخلية والخارجية للدولة، لكنها جعلت مصر أكثر قابلية للتأثُّر بالضغوط الخارجية في ظل علاقاتها المرهونة بسياسات الولايات المتحدة الأمريكية، ما يعكس عجزًا عن حماية استقلال القرار المصري.

الاعتماد على القوى الخارجية وضغوط الداخل:

تعتمد مصر بشكل كبير على الدعم الاقتصادي والعسكري الخارجي، خاصة من الولايات المتحدة، التي تقدم لمصر منحة عسكرية سنوية تبلغ 1.3 مليار دولار منذ توقيع اتفاقية كامب ديفيد عام 1979، وهو ما يجعلها أكثر عرضة للضغوط السياسية في القضايا الإقليمية الحساسة، في الوقت ذاته، تواجه مصر أزمات اقتصادية خانقة تجعلها في حاجة مستمرة إلى المساعدات الدولية والاستثمارات الأجنبية، وفي ظل هذا الاعتماد، يصعب على السيسي رفض المطالب الأمريكية، ويظهر مغلوبًا متراجع القدر خارجيًّا رغم التصريحات المصرية التي تعلن رفض التهجير، إذ يجد السيسي نفسه مضطرًا للتوفيق بين رغبات واشنطن، وبين ضمان عدم اهتزاز وضعه داخليًّا، إذ يمكن رصد تصاعد حالة الرفض الشعبي داخل مصر ضد أي محاولات لتهجير الفلسطينيين إلى أراضيها، حيث يمثل قبول فكرة تهجير الفلسطينيين إلى سيناء خيانة للمزاج الشعبي المصري، الذي لطالما اعتبر القضية الفلسطينية جزءًا من الأمن القومي المصري، وقضية تمسُّ هُويته ومقدساته، هذا الرفض الشعبي لهذه الخطوة قد يؤدي إلى حصول بعض التوترات الداخلية، خاصة مع تزايد الغضب نتيجة الأزمة الاقتصادية والتضييق السياسي، وبذلك، يواجه السيسي معضلة مزدوجة: بين الاستجابة للضغوط الأمريكية، ومواجهة عواقب رفضها داخليًّا.

 

تهديد الأمن القومي المصري:

يُعدُّ تهجير الفلسطينيين إلى سيناء تهديدًا مباشرًا للأمن القومي المصري، لما يمثله من تكريس الهيمنة الإسرائيلية في المنطقة الحيوية لمصر على حدودها الشرقية، ويجعل سيناء منطقة مهددة بالعدوان، مما يهدد السيادة المصرية، ويعكس مخاطر مشابهة لما شهده النظام السوري خلال عهد بشار الأسد، الذي رغم غياب تهديده لإسرائيل، تعرَّضت سوريا خلال حكمه للعدوان على أراضيها،  وهو ما يعني أن التهاون مع مخططات الاحتلال ليس حلًّا آمنًا، فإن هذا السيناريو يبرز أهمية رفض التهجير بقوة، وضرورة حماية العمق الاستراتيجي المصري من التبعات الخطيرة لهذا المخطط.

حقيقة موقف مصر بين الخطاب المعلن والممارسة:

على الرغم من التصريحات المصرية المتكررة برفض تهجير الفلسطينيين من غزة، حيث عبَّرت الخارجية المصرية عن «رفضها التام لأي تصريحات تستهدف تهجير الشعب الفلسطيني، وتضامنها مع أبناء غزة»، إلا أن الموقف العملي لمصر طوال الحرب يثير تساؤلات حول مدى جدية هذا الرفض! فبينما تستنكر مصر المخططات الإسرائيلية علنًا، ظلت غير قادرة طوال الحرب على فتح معبر رفح بشكل كامل ودائم لإدخال المساعدات وتخفيف معاناة الفلسطينيين، الأمر الذي يضع علامات استفهام حول جدية الموقف المصري المعلن، فخطة التهجير أعلنتها إسرائيل من قبل خلال الحرب، وكان يمكن منع هذا المخطط مبكرًا من خلال دعم وتعزيز قدرات المقاومة الفلسطينية، عبر تزويدها بالإمكانات التي تعزز صمودها في مواجهة الاحتلال، وهو ما لم يحدث بل ما حدث هو العكس تمامًا، بأن سمحت مصر خلال الحرب بمرور سفن  مزودة بالأسلحة عبر قناة السويس متجهة إلى دولة الاحتلال، هذا التناقض بين الخطاب المتضامن مع أهل غزة، وبين الممارسة العملية، أضعف من مصداقية الموقف المصري، مما لا يمكن الجزم معه بجدية النظام، وهل هو موقف صلب حقًّا؟ أم أن تلك ما هي إلا حرب كلامية سرعان ما تتلاشى بمواقف عملية تابعة للسياسة الأمريكية المطلوبة منها؟!

وهذا الموقف المصري، من المرجح أن يصاحبه موقف عربي يختزل التحركات في بيانات شجب وفي عقد القمم العربية، التي أضحت منزوعة التأثير الفعلي، حينما تغيب الخطوات السياسية أو الاقتصادية الحقيقية الملموسة لردع الاحتلال، فلو أن الموقف العربي، خاصة المصري، جادٌّ قويٌّ، متماسك ومعزَّز بخطوات عملية، لساهم في التصدي لهذا المخطط، وشكل جدارًا صلبًا ضد أي محاولات لتصفية القضية الفلسطينية!!

السيناريوهات المحتملة:

يمكن تصور ثلاثة سيناريوهات رئيسة بشأن خطط تهجير سكان غزة إلى سيناء، تتراوح بين نجاح عملية التهجير، أو تراجع ترامب مع تطبيع إقليمي واسع، أو قبول جزئي بخروج الجرحى ومرافقيهم، مع صمود غالبية الشعب الغزاوي.

1- نجاح خطة ترامب بتهجير سكان غزة إلى سيناء:

في هذا السيناريو، تستجيب مصر للضغوط الأمريكية، وتُنفَّذ علمية تهجير واسعة لسكان غزة إلى سيناء، تلك الضغوط التي كان آخرها ما صرح به  دونالد ترامب قائلًا: “ربما أوقف المساعدات للأردن ومصر إذا لم يستقبلا اللاجئين ” نجاح هذا السيناريو قد يؤدي إلى نوع من الاضطرابات الشعبية داخل مصر ولو كانت بشكل محدود في البداية، وذلك في ظل حالة من تراجع دور مصر الإقليمي والذي تجلَّى طول  خمسة عشر شهرًا من العدوان على غزة، والذي صاحبه حصار مصر التي تعد أقرب جوار يجب أن يكون داعمًا للقضية الفلسطينية، إقليميًّا، وفي هذا السيناريو سيُنظر إلى مصر كشريك مباشر في تصفية القضية الفلسطينية، مما يعارض تطلعات شعوب المنطقة العربية ومواقفها الرافضة لأي مشاريع تمسُّ القضية الفلسطينية.

2-تراجع ترامب مقابل التطبيع:

في هذا السيناريو، يتراجع ترامب عن تنفيذ خطة تهجير الفلسطينيين، بعدما ضغط بورقة التهجير بهدف الحصول على أفضل صورة لتطبيع عربي موسع مع الاحتلال الإسرائيلي، خصوصًا مع السعودية بعيدًا عن حلِّ الدولتين، تطبيع يتبعه فتح مناطق اقتصادية مع الخليج ثم تكتلها أمام الصين، وفي ظل هذا التطبيع، تستمر معاناة الشعب الفلسطيني في غزة دون أفق واضح، ومن المرجح أن تضغط دول التطبيع في ملف غزة، لتحويل القضية مع التطبيع إلى قضية إنسانية بحتة بعيدًا عن جوهرها السياسي، مما يؤدي لاستمرار الضغوط على غزة دون حلول جذرية.

3-تهجير جزئي يتضمن خروج الجرحى مع صمود غزاوي:

هذا السيناريو هو الأكثر ترجيحًا، حيث يواصل المجتمع الغزاوي الصمود في وجه خطط التهجير الأمريكية، وتخرج أعداد محددة من الجرحى ومرافقيهم تحت ضغط إنساني، مع إمكانية رجوع نسبة كبيرة منهم عقب العلاج إلى قطاع غزة، ويُعدُّ هذا الحلُّ انتصارًا معنويًّا، يثبت قدرة الشعب الفلسطيني على مواجهة الضغوط والإبقاء على قضيته في صدارة الاهتمام العربي والإسلامي، وفي ذات الوقت، تستعيد المقاومة حضورها تدريجيًّا في حكم غزة، مع إعادة إعمار تدريجية بتمويل من دول عربية كقطر وبدعم تقني تركي، مما يعزز من قدرة القطاع على استئناف مظاهر الحياة والاستقرار من جديد.

الخاتمة:

ورطة عبد الفتاح السيسي الحالية تُمثل نموذجًا صارخًا للتحديات التي تواجهها “جمهورية الضباط” في مصر، حيث تتقاطع الضغوط الخارجية مع الأزمات الداخلية لتضع السيسي في مأزق معقد، فالعلاقة الاستراتيجية بين مصر وأمريكا، القائمة على الدعم الأمريكي والتبعية السياسية المصرية، تُظهر الآن نقاط ضعف النظام، حيث يجد نفسه غير قادر على اتخاذ قرارات مستقلة تُراعي المصالح المصرية، وتحمي الأمن القومي، وفي هذه الأزمة، يتجلَّى عجز المؤسسة العسكرية عن تجاوز أدوارها التقليدية في حماية النظام، ليظل مستقبل الوضع المصري، معتمدًا بشكل كبير على قيام السيسي بالمناورة بين الضغوط الأمريكية والمطالب الشعبية، في ظل سيناريو مرجح بعملية خروج جزئي للمصابين من غزة، ليبقى التحدي الأكبر أمام السيسي هو عدم قدرته حتى الآن، على بناء شرعية حقيقية داخليًّا لنظام حكمه، بعيدًا عن الاعتماد على القوى الخارجية!

زر الذهاب إلى الأعلى