سورية والجغرافية السياسية: الانكشاف الاستراتيجي وتوازن القوى

أخيراً، انهار نظام آل الأسد، وسيطرت فصائل المعارضة المسلحة على معظم البلاد، وبدأت مسيرة بناء سورية الجديدة، وعمّت الشعب أجواء فرح بالحرية واحتفال بالانتصار وتفاؤل بالمستقبل، رغم جروح أليمة نكأتها مقابر جماعية متعددة وآلاف الجثث المُشوَّهة لضحايا مجازر النظام والتعذيب بمراكز التحقيق، وقصص مروّعة لمعتقلين بالآلاف خرجوا من زنازين الموت، وسجون أسطورية مُفزعة، دخلتها وصورتها الفضائيات أخيرًا، هي أشبه بقلاع محاكم التفتيش الرهيبة بأوروبا القرون الوسطى.
جاء ذلك ليطرح مجددًا أسئلة محورية حول مستقبل الاستقرار السياسي وركائز الأمن القومي والوضع الجيوسياسي المتعلق بالجغرافية السياسية السورية واختلال توازن القوى المزمن إقليمًّا لصالح التحالف الصهيوني الإمبريالي، واستمرار الاحتلال الإسرائيلي لمرتفعات الجولان السورية منذ 1967، وتمدده مؤخرًا لمناطق محاذية جديدة وقمم جبل الشيخ الاستراتيجية المشرفة على فلسطين ولبنان وسورية، ومئات الغارات الجوية وقصف كثيف دمّر الترسانة العسكرية السورية المتهالكة أصلًا، والأصول الاستراتيجية للدولة والأمن القومي.
تمر سورية إذًا بأوضاع وتحديات عديدة غير مسبوقة، بعد انكشاف التدهور العميق الذي آلت إليه البلاد، دولةً ومؤسساتٍ وجيشًا واقتصادًا وخدماتٍ وإدارة عامة وبنية تحتية وحياة مدنية.
كما تشهد المنطقة بأسرها حالة سيولة وهشاشة استراتيجيًّا وبيئة جيوسياسية غير آمنة وانعدام المناعة إزاء انفلات العدوانية الصهيونية، التي تستهدف سورية منذ عقود طويلة، وجوارها العربي والإسلامي في فلسطين ولبنان واليمن والعراق وإيران، شعوبًا ودولًا وحركات مقاومة.
من أسباب العدوانية الإسرائيلية، حتى يومنا هذا، ليس تهديد سورية لإسرائيل قطعًا، بل هو ضيق الخيارات الاستراتيجية الإسرائيلية في الإقليم، والمرتبطة بعدوانية الكيانات الاستيطانية التي لا تُعرف لها حدودٌ نهائية، وبطبيعتها التوسعية واستباحتها للجوار وإنكارها حق الآخرين في الوجود، والمرتبطة أيضًا بموقع سورية في أجندة التوسع الصهيونية.
المشهد الاستراتيجي الإقليمي:
في المرحلة الراهنة من الصراع الوجودي بين الأمة والكيان الصهيوني، يمكن اختصار المشهد على النحو التالي:
– حرب دمار شامل وتجويع وإبادة جماعية ممتدة وتطهير عرقي بقطاع غزة بهدف عودة الاستيطان فيه والسيطرة الأمنية الإسرائيلية عليه. توقف إطلاق النار يوم 19 يناير/كانون الثاني 2025، لكن لم تنته الحرب بعد!
– معركة الاستيطان لحسم مصير الضفة الغربية المحتلة واقتلاع أهلها وطردهم إلى الأردن وغيره بعد اجتياحه مستقبلًا. وقد بدأت في شمال الضفة هذه المعركة فور وقف إطلاق في غزة وأظهرت تدميرًا شاملًا للمباني والمربعات السكنية والبنية الأساسية، وكأنها في قطاع غزة.
– بعد حرب إسناد غزة بين حزب الله والكيان الصهيوني، أطلق الأخير حرب دمار شامل على لبنان، أخفقت ميدانيًّا في تحقيق أهداف جيوسياسية أمام المقاومة رغم ضربات كبيرة تلقتها، ولم تنته الحرب والاعتداءات رغم اتفاق وقف إطلاق النار؛ بل استمر تدمير قرى الجنوب اللبناني واستهداف أهلها وقتلهم بالعشرات يوميًّا. وقد أبلغت إسرائيل واشنطن عدم نيتها الانسحاب من جنوب لبنان وفق جدول وقف إطلاق النار، مما يفتح المجال لاندلاع القتال مرة أخرى.
– استهداف إسرائيلي متواصل لإيران: برنامجًا نوويًّا وتصنيعًا عسكريًّا وبنية تحتية واختراقات أمنية، وتكرر تبادل القصف الجوي بينهما، ولا يزال التوتر قائمًا وقابلًا للاشتعال كحرب إقليمية واسعة النطاق، خاصة مع عودة دونالد ترامب للبيت الأبيض.
– حرب جوية، أميركية بريطانية إسرائيلية، على اليمن ردًّا على الحصار البحري للكيان الصهيوني والقصف اليمني بالصواريخ والطيران المُسيّر للاحتلال إسنادًا لغزة، واستهدافات متفرقة ضد المقاومة العراقية المساندة لغزة، يُتوقع لها التصعيد وتوسع نطاقها في مقبل الأيام.
– وسَّع الاحتلال قواعد الاشتباك مع سورية مؤخرًا، لفرض مبدأ “حظر التسلح” الكلي، بالغارات الجوية والقصف المكثف وتدمير عتاد الجيش السوري ومخازنه وقواعده البرية والجوية والبحرية ومراكز الأبحاث وكل ما يفيد الدولة والأمن القومي.
– مع استمرار احتلال مرتفعات الجولان السورية منذ 57 عامًا، احتل الكيان الصهيوني مؤخرًا قممًا استراتيجية بجبل الشيخ، وأقام مهبط طائرات ونقاط تمركز، وألغى اتفاقية فصل القوات (1974) ليحتل المنطقة العازلة ويتوغل أميالًا عديدة، وأخلى بلدات وقرى سورية، وسيطر على سدود مائية، وبات على بعد 25 كيلومترًا من العاصمة.
– يسعى الكيان الصهيوني لتقسيم وتجزئة سورية إلى دويلات أو جيوب منفصلة، جيب لكل طائفة أو إثنية: الأكراد في الشمال الشرقي، الدروز في الجنوب، العلويون في الشمال الغربي، وربما السريان أيضًا!
وهذه ليست مجرد أمنيات وأفكار، بل خلفها خطط ومشروعات، تؤكدها تصريحات متكررة لوزير خارجية الكيان، جدعون ساعر، مثل: “إن الاعتقاد بأن سورية ستبقى دولة واحدة ذات سيطرة وسيادة فعالة على كامل أراضيها أمر غير واقعي”.
– بدوره، أصبح الكيان الصهيوني متورطًا في حروب أبدية بلا نهاية واضحة أو خطط محددة أو أهداف ممكنة القياس والتحقيق، ينتهي بعدها القتال وتستأنف الحياة سيرتها المعتادة. بل لم يعد الكيان قادرًا على وقف القتال في أي جبهة وادعاء تحقيق انتصار أو إنجاز. يفاقم ذلك تبجح بنيامين نتنياهو وإصراره على تحقيق “نصر مطلق” وسحق المقاومة، و”تغيير وجه الشرق الأوسط”، بل وتغيير النظام الإيراني ذاته، مما يعني حروبًا أبدية. فأصبح استمرارها وتيرة متواصلة بدون ما يسمى “اليوم التالي”!
وكان يائير لابيد، زعيم المعارضة البرلمانية بالكنيست الإسرائيلي، قد قال منذ شهور طويلة: “إن بنيامين نتنياهو يشن الحروب ضد الجميع في الشرق الأوسط وسيهزم الجميع بما في ذلك إسرائيل”!
استدامة الاحتلال والهشاشة:
يفاقم الانكشاف الاستراتيجي السوري دعمٌ أمريكي مطلق للعدوانية الإسرائيلية ضد سورية، فقد صرّح جيك سوليفان، مستشار الرئيس بايدن لشؤون الأمن القومي، من إسرائيل أن: “استشعرت إسرائيل تهديدًا من سورية، فتصرفت بناء على ذلك”؛ ويعني بالتصرف تدمير معظم الجيش السوري واحتلال مناطق وأراضي سورية أخرى!
وطالب وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، القيادة السورية الجديدة بتعايش سلمي وعلاقات طيبة مع جميع جيران سورية، باعتبار أن سورية الآن تمثل تهديدًا عاجلًا للكيان الصهيوني!
في ضوء تصريحات سوليفان وبلينكن، آنذاك، وصمت الغرب الجماعي، تم إقرار مبدأ “حظر التسلح” الكلي في الغرب الجماعي، ويعني ذلك بالنتيجة حظر إعادة تأهيل جيش سوري يدافع عن بلاده ضد الاستباحة، ويسترد السيادة ويحرر الأرض المحتلة!
وسيكون ذلك أهم محددات العلاقة بين سورية الجديدة والغرب الذي يريد استدامة الاحتلال والهشاشة واختلال ميزان القوى الإقليمي لصالح إسرائيل.
مؤخرًا، وجَّه رئيس وزراء الاحتلال، بنيامين نتنياهو، جيشه بالبقاء بمرتفعات جبل الشيخ السورية والمنطقة العازلة التي تم احتلالها في ديسمبر/كانون الأول 2024 حتى نهاية 2025 على الأقل، وأعلن خلال زيارته مؤخرًا لقمم جبل الشيخ المحتلة، أنّ “إسرائيل ستواصل وجودها بهذه المنطقة الاستراتيجية حتى إيجاد ترتيب بديل يضمن أمن إسرائيل”.
في سياق هذا الانكشاف الاستراتيجي، لا يُتوقَّع انسحاب الاحتلال من أي أرض محتلة إلا بـ”المقاومة”، بينما لا تبدو الفكرة واردة أو حاضرة لدى الإدارة السياسية الجديدة، التي قالت قيادتها إن: “سورية منهكة ولا تشكل خطرًا على أحد من جيرانها”، وهذا ليس وصفًا للواقع بقد ما هو تعبير عن توجه ورؤية وسياسة.
أما محافظ دمشق الجديد، ماهر مروان، فيقول إن الحكومة الجديدة في دمشق ليس لها مشكلة مع “إسرائيل” (التي تحتل الجولان منذ 1967)! بعد ذلك يسوِّغ اعتداءها واحتلالها لأراضي سوريّة وتدميرها لمقدرات سورية العسكرية والأمنية لدى سقوط النظام البائد بقوله إن إسرائيل “شعرت بالخوف.. فتقدمت قليلًا وقصفت قليلًا..” وأن ذلك الخوف “طبيعي!”.
ويدعي المحافظ الجديد أن سورية الجديدة ليس لها “مشكلة مع إسرائيل” وأننا “لا نعبث بأمن إسرائيل أو نهدد أمن إسرائيل”، وأن النظام الجديد يريد من أميركا الوساطة مع “إسرائيل” وأنه في دمشق “أناس يريدون التعايش والسلام مع إسرائيل ولا يريدون النزاعات معها”!
هذه المواقف والتصريحات لا تمثل فقط خضوعًا بالقول يزيد أطماع عدو في قلبه مرض وعدوان، بل وخنوعًا للابتزاز الغربي، ويرسل رسائل خاطئة إلى العدو والعالم، ويفاقم حالة الانكشاف الاستراتيجي واختلال ميزان القوى، ويكرِّس الاحتلال والهشاشة، بل تثير شكوك الأُمَّة والرأي العام السوري والعربي والإسلامي حول هُوية القيادة السورية الجديدة وولاءاتها وارتباطاتها الدولية والإقليمية وتقدم مسوِّغات كافية لأي قوى تسعى للانقلاب على النظام الجديد، كما وقع عدة مرات في تاريخ سورية المعاصرة.
هناك فرق كبير بين المساومة على بقاء القواعد العسكرية الروسية –مثلًا– أو إغلاقها نهائيًّا أو المناورة الحكيمة في سياق تصحيح العلاقات السورية الروسية، لكن الموقف من الاحتلال والعدوانية والوقاحة الإسرائيلية يجب أن يكون مبدئيًّا وصريحًا، ولو بلغة الحقوق والقوانين والاتفاقيات الدولية، وهذا أضعف الإيمان!
مثل مواقف وتصريحات محافظ دمشق، لو وُضعت في الميزان الصحيح، كفيلة بإنهاء المستقبل السياسي لصاحبها بل وتجعله مشبوهًا يستحق الرقابة الدائمة والمحاسبة الحازمة!
عدم الاستقرار السياسي:
منذ استقلالها عام 1946، عانت سورية من اختلال التوازن الاستراتيجي إزاء تهديدات الكيان الصهيوني، وقد كرر ليفي أشكول رئيس وزرائه في الستينيات التهديد باحتلال دمشق. كما عانت عدم الاستقرار السياسي الداخلي؛ فقد شهدت بين عامي 1949 و1970 نحو 20 انقلابًا أو محاولة انقلاب، مما يعكس انقسام القوى السياسية وحِدّة الصراع الأيديولوجي والتدخل الدولي.
لم تشهد سورية من قِبل أقلياتها تمردًا انفصاليًّا مسلحًا يهدد استقرارها آنذاك، كما وقع في العراق والسودان مثلًا. لكن يعود عدم استقرارها إلى الصراع الدولي، خاصة الأميركي البريطاني، على النفوذ فيها، والتنافس الإقليمي على سورية بين الهاشميين والسعوديين والمصريين، وارتباط ذلك أيضًا بمشروعات القوى الكبرى.
ومن آفات التجربة السياسية بعد الاستقلال أن الأحزاب السياسية القومية (شبه الفاشية) وجدت طريقها إلى طلاب الكليات العسكرية ومِن ثَمَّ تشكيلات القوات المسلحة. وكان الحزب السوري القومي الاجتماعي أول من جنَّد طلابًا وضباطًا منذ 1936 بالكلية العسكرية بحمص، عندما كانت البلاد تحت الإدارة الاستعمارية الفرنسية.
ثم تبعته أحزاب أخرى خاصة حزب البعث، وكان لذلك أسوأ الأثر على حالة الأحزاب ذاتها فكريًّا وسياسيًّا وشعبيًّا ودستوريًّا، إذ وقعت قياداتها التاريخية من زعماء ومُنظِّرين بقبضة ضباط جهلة متطلعين للسلطة، سيطروا عليهم تمامًا وحوَّلوا الأحزاب وقياداتها إلى بيادق ودُمى وأشكال بلا معنى، وتورطوا في انقلابات عسكرية وأخرى مضادة أو ثأرية، وانقلابات حتى بين أجنحة حزب البعث (1963-1970)، كان آخرها انقلاب حافظ الأسد وجناحه اليميني على نظام البعث الحاكم بقيادة يسار الحزب، وآلت إليه الأمور ثم إلى ابنه في مرحلة كئيبة وطويلة بدأت في 16 تشرين الثاني/نوفمبر 1970، وانتهت أخيراً في 8 كانون الأول/ديسمبر2024 بعد أن أحالت البلاد خرابًا.
في أتون الصراع الدولي والإقليمي:
كانت انقلابات عسكرية بلا أفق أو مشروع سياسي مستدام، بل بدَّدت الاستقرار السياسي والحريات والنظام الدستوري وحكم القانون والكرامة الإنسانية، وأنهت الحياة البرلمانية، وأضعفت المجتمع الأهلي، ونشرت الرعب في الحياة السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية.
تعرَّضت الجمهورية العربية السورية الوليدة إذًا لصراعات دولية وإقليمية من أجل النفوذ فيها والسيطرة على قرارها ومقدراتها. كانت الولايات المتحدة أبرز القوى الدولية التي حاولت الهيمنة على سورية، وقد دبرت وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية انقلابًا عسكريًّا بقيادة الزعيم (رتبة عسكرية تعادل عميد) حسني الزعيم (1897-1949) على الرئيس شكري القوتلي (1891-1967) والنظام السياسي القائم، بمرحلة حكم الليبرالية الأرستقراطية آنذاك.
وقع انقلاب الزعيم في 30 آذار/مارس 1949، واستمر حكمه حتى 14 أغسطس/آب 1949، حيث أطاح بحكمه انقلاب عسكري آخر بقيادة سامي الحناوي (1898-1950)، يوم 13 آب/أغسطس 1949، وحوكم حسني الزعيم ورئيس الوزراء محسن البرازي، بتهمة الخيانة العظمى، وأُعدم في اليوم التالي رميًا بالرصاص.
ورغم قصر الفترة الزمنية التي تولى فيها الزعيم السلطة، إلا أنها تركت «علامة فارقة» في تاريخ سورية الحديث، من ناحية كونها فاتحة عشرين انقلابًا ومحاولة انقلابية، بين عامي 1949 و1970.
جمعت حسني الزعيم صداقة قوية مع المرشحين لدخول معسكر أميركا (بحسب مايلز كوبلاند مؤلف “لعبة الأمم”)، مثل ملك مصر، فاروق الأول، وقد تحالف معه ومع ملك المملكة العربية السعودية، عبد العزيز آل سعود، وانقلب الزعيم بنتيجة هذا التحالف على مشروع سورية الكبرى، ومشروع الهلال الخصيب، المرتبطين بالهاشميين في العراق والأردن، بعد أن كان يدعم المشروعين قبل رئاسته.
كان انقلاب حسني الزعيم مؤشرًا على دخوله معسكر أميركا وخططها لتصفية النفوذ البريطاني في الشرق الأدنى والحلول محلَّها، وكان انقلابه على مشروع سورية الكبرى، الذي دعا إليه الحزب السوري القومي الاجتماعي بقيادة زعيمه، اللبناني أنطوان سعادة، ومشروع الهلال الخصيب، وهو مشروع الهاشميين في العراق والأردن لإقامة اتحاد يضمهما مع سورية أو بالأحرى يعيدهم إلى سورية التي أخرجتهم منها فرنسا باحتلالها البلاد، بعد معركة ميسلون بين قوات المتطوعين السوريين بقيادة وزير الحربية يوسف العظمة، وقوات الجيش الفرنسي بقيادة الجنرال ماريانو غوابيه، في 24 تموز/يوليو 1920 بمنطقة ميسلون غربي دمشق.
كان هذان المشروعان ضمن خطط بريطانيا لتثبيت نفوذها ودعم أوضاع حلفائها الهاشميين وغيرهم بالشرق الأدنى. بل شمل ذلك أيضًا مشروع حلف بغداد ابتداء من 1953، لجمع حلفاء بريطانيا آنذاك: العراق وإيران وتركيا وباكستان في جبهة واحدة بمواجهة تمدُّد أميركا التي دخلت الحلف كمراقب ترصدًا أو تجسسًا عليه أو تقويضًا له من الداخل!
وحاولت بريطانيا استمالة مصر والسعودية لدخول الحلف لكنهما تحالفا ضده ومنعا دخول سورية والأردن فيه.
وفي تلك الفترة، بدأ تشكُّل المحور المصري السعودي السوري لإدارة النظام الإقليمي العربي وعزل الهاشميين بالعراق، ويُذكر أن اليمن تحت حكم العائلة المتوكلية، بقيادة الإمام أحمد بن الإمام يحيى حميد الدين، أرادت الانضمام لهذا المحور!
لقد كان انقلاب الزعيم على بريطانيا وحلفائها أبلغ عندما لجأ إليه أنطوان سعادة (1904-1949)، زعيم الحزب السوري القومي الاجتماعي، بعد إخفاق محاولة انقلاب عسكري في لبنان، نفذها حزبه بعنوان: “الثورة الاجتماعية الأولى”؛ وسلمه الزعيم لحكومة لبنان التي أعدمته رميًا بالرصاص خلال 48 ساعة.
وكرد فعل، قاد حزبه في لبنان وسورية والأردن وفلسطين أعمالًا ثأرية، أسفرت عن انقلاب سامي الحناوي وإعدام حسني الزعيم في سورية، واغتيال كل من رئيس وزراء لبنان رياض الصلح في بيروت، وملك الأردن، عبد الله بن الحسين، في القدس.
كان حسني الزعيم أول رئيس سوري من خارج الطبقة الأرستقراطية الإقطاعية التي حكمت البلاد منذ نهاية عهد سورية العثمانية، وشكَّلت هذه الطبقة السمة الأبرز في الحياة السياسية خلال عهد الجمهورية السورية الأول.
غضبَت مصر والسعودية من نجاح انقلاب الحناوي وإقصاء حليفهما حسني الزعيم من منصبهِ فقررتا التحرُّك ضد الحكم الجديد. أما الهاشميون في العراق والأردن فقد أيَّدوا الانقلاب، واعترفت معظم الدول المجاورة بشرعية النظام القائم بعد الانقلاب سريعًا. وأرسلت كلٌّ من لبنان والأردن «تهانيهما» بالانقلاب، في حين كانت إسبانيا السباقة عالميًّا للاعتراف به؛ بينما تلكأت السعودية بالاعتراف بهِ، وأعلنت مصر الحداد ثلاثة أيام على مقتل حسني الزعيم!
أُجريت سريعًا انتخابات عامة في عهد سامي الحناوي الذي لم يكن يريد الاستمرار في سدَّة الحكم، ووُضِع دستورٍ مؤقت للبلاد، لكن مسيرة العودة إلى النظام الدستوري انتكست مبكرًا فجر 19 كانون الأول/ ديسمبر 1949 عندما وقع الانقلاب الثالث بقيادة العقيد أديب الشيشكلي، وأسقط بدورهِ حكم سامي الحناوي وشريكهِ محمد أسعد طلس.
استمرت حالة عدم الاستقرار السياسي، فتعاقب على رئاسة سورية في الفترة (1946–1958) عشرة رؤساء، بدءًا بشكري القوتلي وانتهاء به، واتخذ بعض هؤلاء ورؤساء لاحقون صفة “مؤقت”!
وفي الفترة (1961-2024)، تعاقب على الرئاسة عشرة آخرون، وفصلت بين المرحلتين رئاسة جمال عبد الناصر (1958-1961) خلال فترة الوحدة وقيام الجمهورية العربية المتحدة.
في أواخر الخمسينيات (1958)، وفي ظل استمرار التأزم السياسي وعدم الاستقرار، والتهديدات المحدقة بالبلاد، وصعود المدِّ القومي العربي وشعبية الرئيس جمال عبد الناصر ومصر الناصرية، قاد الضباط السوريون تحركًا نحو الوحدة مع مصر لمواجهة كل ذلك. وفُرضت الوحدة على السياسيين والرئيس شكري القوتلي، لكن بتأييد شعبي حقيقي.
لكن أزمات النظام الناصري البنيوية الداخلية وقبضته الأمنية ورقابته المشددة وجدت طريقها إلى الإقليم الشمالي من الجمهورية العربية المتحدة، ومعها المؤامرات الدولية والإقليمية على الوحدة، لتنتهي تجربة الوحدة بانقلاب العقيد عبد الكريم النحلاوي في 29 أيلول/سبتمبر 1961، بعد ثلاث سنوات و219 يومًا. فعادت الحياة السياسية السورية لسيرتها الأولى من الانقلابات وعدم الاستقرار حتى انقلاب حافظ الأسد عام 1970.
روزفلت يدشن عصرًا أميركيًّا:
وكانت الولايات المتحدة، عبر وكالة الاستخبارات المركزية حديثة النشأة (1949) بقيادة ألن دالاس، وكذلك كيم روزفلت، من مكتب الخدمات الاستراتيجية بها آنذاك، قد أعدت خططًا لاستيعاب النخب الحاكمة بالمنطقة وتأسيس النفوذ الأميركي بها محلَّ النفوذ البريطاني.
وكان الرئيس فرانكلين روزفلت في طريق عودته من مؤتمر يالطا الذي جمعه بالزعيم السوفياتي جوزيف ستالين ورئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل. وانتهي بتقسيم أوربا إلى “شرقية” تحت سيطرة السوفيات والأحزاب الشيوعية، وأخرى “غربية” تحت هيمنة أميركا، وأسفر عن تقسيم ألمانيا الي جمهوريتين: “شرقية ديمقراطية” و”غربية اتحادية”.
قرر روزفلت أن يلتقي ببعض أهم زعماء الشرق الأوسط وأفريقيا، وهم فاروق الأول ملك مصر، وهيلا سيلاسي إمبراطور إثيوبيا، وعبد العزيز آل سعود، ملك السعودية. التقى روزفلت بهؤلاء الزعماء على متن الطراد الحربي الأميركي “كوينسي” بمياه البحيرات المرة المصرية التي تمر بها قناة السويس.
أسفر لقاء الرئيس روزفلت بالملك عبد العزيز عن توقيع “اتفاق كوينسي” بينهما في 14 شباط/فبراير 1945، وكان أساس علاقة التحالف السعودي الأميركي المديدة.
وحول سورية ولبنان، قال روزفلت: إن الحكومة الفرنسية أعطته ضمانة كتابية رسمية بإنجاز استقلال سورية ولبنان، ويمكنه في أي وقت أن يكتب إلى الحكومة الفرنسية للإصرار على احترام كلمتهم.
وفي حالة رفض الفرنسيين استقلال سورية ولبنان، ستقدم حكومة الولايات المتحدة كل دعم ممكن لسورية ولبنان دون استخدام القوة.
ووعد روزفلت الملك عبد العزيز بعدم اتخاذ أي خطوات حول مستقبل فلسطين دون التشاور مع العرب، وهو وعد تجاهله خليفته، الرئيس هاري ترومان، رغم إصرار وزير الخارجية جورج مارشال، وزميله وزير الدفاع، على الوفاء به.
كانت زيارة روزفلت إلى المنطقة إيذانًا بعصر أميركي قيد الظهور والتجلي، وبدء أفول عصر طويل من الهيمنة البريطانية.
وحين أطلع الرئيس الأميركي، رئيس الوزراء البريطاني تشرشل على نيته زيارة الشرق الأوسط، سأله تشرشل: “هل تريدني معك في هذه الزيارة؟”، فاعتذر له روزفلت مشيرًا إلى أنه يفضل التعرف على زعماء المنطقة وحده، وقد كان!
مخاطر قديمة ووشيكة:
في مقال نُشر بصحيفة “يديعوت” العبرية، عقب سقوط نظام الأسد واحتلال إسرائيل أراضي سورية جديدة، قال المعلق الإسرائيلي المخضرم، ناحوم برنياع: إن أمنية إسرائيل أن تنقسم سورية إلى بضعة جيوب من الحكم الذاتي، جيب لكل طائفة أو إثنية: الأكراد في الشمال الشرقي، الدروز في الجنوب، العلويون في الشمال الغربي.
المرشحون الأقرب جغرافيًّا لإسرائيل هم الدروز. “ينبغي تشجيع دروز سورية، حوالي 600 ألف درزي (بمحافظة السويداء)، على إقامة دولة خاصة بهم، وهي رؤية تتوافق مع منظور إسرائيلي قديم جديد”.
وكان الجنرال إيغال آلون، قائد قوات “البالماخ” في حرب 1948، اقترح بعد حرب 1967، أن تشجع إسرائيل دروز جبل الدروز على إقامة دويلة خاصة بهم، ترتبط بالجيب الدرزي، بقرية الحضر (الدرزية) ومحيطها شمال هضبة الجولان.
يذكر أن كل العمليات الفدائية التي خرجت من سورية إلى الكيان المحتل، بما في ذلك عملية سمير القنطار، بدأت في قرية الحضر. حاليًا، لا يوجد حضور للإدارة السياسية السورية الجديدة في القرية ولا حضور إسرائيليًّا.
ومن الشمال إلى الجنوب على طول الخريطة، سنجد وجودًا لجيش الاحتلال بسلسلة جبل الشيخ السوري وسفوحه الشرقية، حتى أطراف قرية الحضر. وسيطر على مفترقين بمدخل القنيطرة، لكنه لم يدخلها. ثمة قوة أخرى تموضعت في تل كدنه أمام بلدتي حسينية وكيشيت، بهضبة الجولان. وتموضعت قوة ثالثة قرب مثلث حدود سوريا – الأردن – فلسطين المحتلة، فوق الحِمّة السورية.
أما الأكراد فقد ردوا على انهيار نظام الأسد بتوسيع منطقة سيطرتهم بشمال سورية، فاندلع قتال بين فصيلهم (قوات قسد) وفصيل “الجيش الوطني السوري” رافقه ضغط عسكري تركي دفعهم للتراجع. لكنهم يتطلعون لمساعدة إسرائيلية.
هذه ليست مجرد أمنية لإسرائيل في ضوء تصريح وزير خارجيتها، جدعون ساعر: “إن الاعتقاد بأن سورية ستبقى دولة واحدة ذات سيطرة وسيادة فعالة على كامل أراضيها هو أمر غير واقعي”!
وقد تكررت تصريحاته حول نية إسرائيل توثيق علاقتها بالجيب الكردي ودفاعه عن استمراره وتحذيره من المخاطر المحدقة بالأقليات السورية والجيب الكردي بخاصة.
ومن يدري، إن لم يتم تحييد آلاف الفلول وشبيحة النظام المسلحين في الشمال الغربي، فقد تجد استخبارات الكيان الصهيوني طريقها إليهم لتنظيمهم وتجنيدهم وتحويلهم إلى جيب طائفي أو ميليشيا، تنفذ أعمال عنف وفِتن وتطهير عرقي وترفع راية انفصال الجيب العلوي!
لقد وجدت قيادة الاحتلال الفرصة، عقب اندلاع طوفان الأقصى، لتنفيذ خطط أُعدت سابقًا لغزة والضفة الغربية ولبنان وسورية، ومنها إعادة احتلال جنوب لبنان، وإقامة منطقة عازلة، والالتفاف على سورية لإقامة دويلة درزية عميلة ترتبط بدروز إسرائيل، والتمدد جنوب سورية حتى قاعدة القوات الأميركية بمنطقة “التنف”، عند نقطة التقاء الحدود السورية الأردنية العراقية، ثم التمدد لشمال شرق سورية لتكريس وجود الكيان الكردي “الحليف”، وترتيب أوضاع أمنية وجيوسياسية دائمة، تفتت سورية وتهدد تركيا والعراق وإيران ولبنان وكذلك الأردن (وطنًا بديلًا لتهجير أهل الضفة الغربية المحتلة)، ومصر والسعودية لاحقًا، ضمن نطاق ما يعرف صهيونيًّا بـ”أرض إسرائيل”. في يوم واحد مؤخرًا، كانت هناك ثلاثة مقالات في الصحافة الإسرائيلية تدعو إلى الشروع في هذه الخطط.
التوازن الاستراتيجي:
في نوفمبر/تشرين الثاني 1982، وصل إلى الزعامة السوفياتية يوري أندروبوﭪ (1914-1984)، وتبنى توجهًا متحديًّا للهيمنة الأميركية وسباق التسلح الذي أطلقته إدارة رونالد ريغان، التي تراجعت عن سياسة الوفاق الدولي والاسترخاء العسكري التي اتخذها الرئيس ريتشارد نيكسون.
استجاب أندروبوﭪ لرغبة الرئيس السوري حافظ الأسد في رفع مستوى التسلح السوري لتحقيق التوازن الاستراتيجي مع الكيان الصهيوني، وحصل الجيش السوري على قدرات عسكرية متقدمة، وصواريخ باليستية ودفاع جوي.
دامت زعامة أندروبوﭪ عامًا وثلاثة أشهر فقط، وشاب رحيله شكوك حول اختراق إسرائيلي أو دور خارجي في تسميمه خلال علاجه من فشل كلوي وأمراض شيخوخة.
وقد خلفه قسطنطين تشيرنينكو (1911-1985)، الذي رحل أيضًا بعد 13 شهرًا فقط، وقد تواصل خلال عهديهما الدعم العسكري السوفياتي لسورية.
ثم جاء ميخائيل غورباتشوﭪ الذي بدأ بتفكيك النظام السوفياتي عبر مبادرتيه: “غلاسنوست” أي الشفافية و”بيريسترويكا” أي إعادة البناء، مما أدَّى لظهور أعراض ضعف وإفلاس وتراجع سوفياتي، وتوقف تقريبًا الدعم العسكري لسورية.
في أبريل/نيسان 1987، قام حافظ الأسد بزيارة موسكو لبحث استئناف دعم موسكو لخطة التوازن الاستراتيجي مع غورباتشوﭪ. لكن غورباتشوﭪ قرأ له قائمة بمصروفات الرئاسة السورية لشراء عشرات السيارات الفارهة من طرازات أوروبية عديدة لاستخدام جهاز الرئاسة وغيره. وقال له: إن المواطن السوفياتي لا يجد السلع الضرورية!
أدرك حافظ الأسد أن زمن الدعم العسكري السوفياتي السخي قد انتهى، وكانت أول خطوة اتخذها تحويل مسار عودته ليمرَّ بطهران قبل دمشق، لينتقل التعاون القائم فعليًّا بين سورية وإيران لمستوى تحالف استراتيجي.
موضوعيًّا، لم تكن هناك مشتركات أيديولوجية أو قومية أو ثقافية أو مصالح اقتصادية كبرى بين الدولتين، باستثناء مخاطر عدوانية الكيان الصهيوني والتناقض مع مشروعه الاستيطاني التوسعي.
أضاف هذا التحالف إلى سورية، وعزز بعض عوامل استقرارها ومناعتها الاستراتيجية بوجه العدوانية الصهيونية، ونسَّق التصدي للاحتلال الإسرائيلي بجنوب لبنان، ودعم المقاومة اللبنانية للاحتلال حتى هزيمته وتحرير جنوب لبنان في 25 أيار/مايو 2000، وأصبحت المقاومة اللبنانية بدعم إيراني-سوري إضافة استراتيجية لسورية، أكدها إخفاق العدوان الإسرائيلي في حرب تموز 2006، وعزز الوضع الاستراتيجي السوري، فأصبحت المقاومة اللبنانية خط دفاع أول يشغل الاحتلال عن سورية.
على مدى أربعة عقود، قدمت إيران مساعدات اقتصادية وتقنية وعسكرية ومنحًا نفطية بالمليارات، واستثمرت شركاتها في مشروعات صناعية دعمت الاقتصاد السوري، وحظيت الصادرات السورية بأفضلية تجارية لدى إيران.
لكن الأهم من كل ذلك أن دمشق استطاعت الموازنة بين هذا التحالف الاستراتيجي وبين دورها عربيًّا ضمن محور “مصر السعودية سورية”، كما استمر إمداد المقاومة اللبنانية بالسلاح والخدمات اللوجستية عبر سورية، واستضافة فصائل المقاومة الفلسطينية، العاملة وغير العاملة في الأرض المحتلة، مما عزَّز استقرار سوريا ومناعتها جيوسياسيًّا، مع استمرار الاحتلال الإسرائيلي لهضبة الجولان السورية والنظام الشمولي ودولته البوليسية وأجهزته القمعية.
بعد وصول حزب العدالة والتنمية التركي إلى سُدَّة الحكم في بلاده (2002)، واتخاذ حكومته سياسة “تصفير النزاعات” مع الجوار التركي التي اقترحها ونفذها وزير الخارجية الدكتور أحمد داود أوغلو، زالت التوترات الأمنية بين تركيا وسورية بشكل كبير، وتحسنت كثيرًا العلاقات السياسية والأمنية والاقتصادية بين البلدين، وأُلغيت تأشيرة الدخول لمواطنيهما، واتسع نطاق التبادل التجاري والسياحي، وتوثقت العلاقات بينهما.
وحدث الأمر ذاته بين دمشق والدوحة، حتى تكوَّنت حالة تنسيق سوري تركي قطري. وبعد اندلاع الانتفاضة السورية في سياق الربيع العربي، حاول الطرفان التركي والقطري مساعدة النظام السوري على التعامل مع الموقف بحكمة وأناة وصولًا إلى نقطة التقاء بين النظام والشعب. وبذلت أنقرة والدوحة جهودًا مقدَّرة في هذا الإطار لكنها ذهبت سدًى؛ بسبب عناد وحقد وعدمية رأس النظام ووحشية أجهزته الأمنية وعشيرته التي رفع بعضها شعار: “إما الأسد.. أو نحرق البلد”! وقد كان. والصور تغني عن الكلمات.
استمرت أوضاع سورية على هذا النحو حتى أوائل عام 2011. ولولا حماقة وعدمية النظام السوري البالغة ووحشيته في التعامل مع شعبه عقب انتفاضة 15 آذار/مارس 2011، ومجازره على مدى 14 عامًا، ورفضه الالتقاء مع مطالب الشعب بالحريات والتعددية والتمكين وإنهاء حكم الحزب الواحد والعشائرية والطائفية السياسية وعنف الأجهزة الأمنية والفساد المستشري رأسيًّا وأفقيًّا، مما فتح الباب لتدخل قوى إقليمية ودولية في شؤون سورية؛ لولا ذلك لشهدت سورية نموًّا اقتصاديًّا واجتماعيًّا، ودورًا إقليميًّا، وتطويرًا كبيرًا لإمكاناتها وترسانتها الدفاعية، وتوازنًا استراتيجيًّا حقيقيًّا.
في ظل اختيار القيادة السورية الجديدة الاستمرار داخل النظام العربي الإقليمي، يبقى سعيها نحو استعادة التوازن الاستراتيجي إزاء تهديدات الكيان الصهيوني محددًا ضمن خيارات أو مسارات، تبنَّى بعضها النظام السابق في العقود الماضية؛ فمن ناحية، ينبغي استعادة وتعزيز علاقة التنسيق الثلاثي مع تركيا وقطر، وما يتبع ذلك من استثمارات قطرية في مد خطوط الغاز القطري إلى شبكة خطوط الغاز الطبيعي التركية المتجهة إلى أوروبا وموانئ التصدير على البحر المتوسط.
يمكن لهذه العلاقة الثلاثية أن تشكل الحاضنة الخارجية الأساسية لسورية الجديدة، مع الأخذ بالاعتبار خصوصيات واعتبارات كلٍّ من الوضع التركي والقطري، وارتباطاتهما الخارجية وتحالفاتهما الثابتة.
من ناحية أخرى، لا تبدو في الأفق إمكانية لمحاولة إعادة المحور العربي الثلاثي، مصر-السعودية-سورية، كنواة لإدارة العمل العربي المشترك نظرًا لتدهور النظام العربي الإقليمي، وتغير معطيات الواقع العربي جذريًّا عما كان عليه قبل الربيع العربي (2011).
فمصر والسعودية لم تعودا ذاتيًّا وموضوعيًّا متموضعتين أو راغبتين في العمل العربي المشترك ضمن هذا السياق، كما كان سابقًا، واختلفت أهدافهما ورؤية كل منهما للوضع الإقليمي والدولي. لذلك، لا تُرجَّح عودة هذا المحور ولا أي محور، فالوضع العربي بأكمله محكوم بلعبة صراعية صفرية: الجميع ضد الجميع!
كما أن هناك لاعبًا آخر خليجيًّا، يشاغب على الدورين المصري والسعودي، بل يُقوِّض الأمن القومي العربي بأسره بأطماع وأوهام ومشروعات تمزيق جيوسياسي في السودان واليمن والصومال والحبشة (بدعم نظامها ومشروع “سد النهضة” والمس بالأمن المائي المصري والسوداني)، ويفاقم الهشاشة الاستراتيجية العربية، ساعيًا لإحداث حالة سيولة إقليمية تتيح له اختراقات مشبوهة وتدخلات عبثية بالاشتراك مع الكيان الصهيوني والغرب وأعداء الأمن القومي العربي كله، وسيقوم مع إسرائيل بالدور الإقليمي الأهم في محاولة تقويض الوضع السوري الجديد أو تطويعه واختراقه.
هناك أيضًا التوجه نحو الشرق، وخاصة روسيا والصين وكوريا الشمالية؛ فروسيا راغبة في إقامة علاقات وثيقة بسورية الجديدة والمحافظة على قواعدها وتسهيلاتها العسكرية البرية والبحرية في سورية. ولهذا أهمية كبرى في استراتيجية روسيا في البحر الأبيض المتوسط وتعزيز وضعها الجيوسياسي الدولي، خاصة بعد عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، واقتراب موسم تسويات كبرى، حول أزمة أوكرانيا والأمن الأوروبي وإعادة تموضع القوى الكبرى في النظام الدولي التي تسبقه تقليديًّا جولات كسر عظم.
لكن الثمن الذي ينبغي أن تصر عليه القيادة السورية الجديدة: تأمين المجال الجوي السوري ضد غارات واعتداءات إسرائيل، وبرنامج تسليح للجيش السوري الجديد، وهما لن يتيسرا قبل انتهاء حرب أوكرانيا بانتصار روسيا وتحقيقها مكاسب استراتيجية.
أما الصين فهي لا تقدم هبات اقتصادية أو مساعدات عسكرية مجانية، لكنها بالحدِّ الأدنى راغبة بضم سورية لمشروعها العملاق، “الحزام والطريق”، وتطوير بنية اقتصادية أساسية تخدمه، كاستثمارات طويلة الأمد في البنية الأساسية السورية: تطوير الموانئ والمناطق الصناعية، ومحطات الشحن والترانزيت وإعادة التصدير، وشبكات النقل من طرق وسكك حديد، خاصة بمنطقة الساحل السوري المطلِّ على البحر الأبيض المتوسط؛ لكن هذا سيثير غالبًا حفيظة تركيا الحليف الأول لسورية الجديدة ومعارضة الغرب الجماعي.
هناك بالطبع الموقف الصيني المتحفظ على الوضع السوري الجديد بسبب احتضان هيئة تحرير الشام للجيش الإسلامي التركستاني، المكون من عناصر هم بالأساس مواطنون صينيون من إقليم شينجيانغ (تركستان الشرقية)، وشاركوا بفاعلية في إسقاط نظام الأسد. وقد تمردوا على الدولة الصينية وسياسات الرئيس شي جين بينغ القومية “الشوﭬينية” المتعصبة لقومية “هان” الصينية، وما تمخض من اضطهاد ومعسكرات اعتقال وإجراءات استثنائية بالإقليم، تمسُّ حريات أهله الدينية وثقافتهم وتقاليدهم ونمط معيشتهم، وتغرقه سكانيًّا بغير أهله لتهميشهم في بلادهم.
الغرب وسورية الجديدة:
تمثل عملية تدمير الترسانة العسكرية السورية واحتلال أراضي سورية إضافية قواعد اشتباك جديدة، هي تحديث وتوسيع لقواعد الاشتباك السابقة بين النظام السابق ودولة الاحتلال الإسرائيلي: حرية إسرائيلية تامة في قصف وتدمير أي هدف في سورية دون ردٍّ؛ على مرأى ومسمع ولامبالاة الحليف الروسي وبطاريات دفاعه الجوي المنصوبة في قواعده بسورية؛ مع استمرار إعلان النظام عن احتفاظه بحقِّ الرد في الزمان والمكان المناسبين!
في ضوء تصريحات ماهر مروان، محافظ دمشق الجديد وقيادات أخرى، يبدو أنَّ أولى قواعد الاشتباك الجديدة هي إلغاء الحق النظام الجديد بدمشق في الإعلان عن احتفاظه بحقِّ الرد على اعتداءات إسرائيل وتوغلاتها في الزمان والمكان المناسبين!
لكن جوهر قواعد الاشتباك الإسرائيلية الجديدة عقيدة أو مبدأ “حظر التسلح” الكلي، مما يستدعي فورًا عقيدة أو مبدأ “الإنكار النووي” الإسرائيلية Doctrine of Nuclear Denial، أي إنكار حقِّ أي دولة عربية أو إسلامية في تطوير برنامج تقني نووي، ولو كان سلميًّا، ومنع ذلك بتاتًا بالقوة المسلحة.
أما احتلال المناطق الجديدة، فذلك إما لضمها كما تم ضمُّ مرتفعات الجولان المحتلة في 1981، أو لاتخاذها رهينة لابتزاز الحكم الجديد ومقايضة عودة المناطق المحتلة الجديدة بالتنازل عن الجولان المحتل سابقًا وتوقيع اتفاقية سلام وتطبيع واستسلام تام!
وفي ظل إقرار أو صمت الغرب الجماعي، فقد تم تثبيت هذه المبدأ في الغرب بالإجماع، وسيكون “الامتناع عن التسلُّح” أحد أهم محددات العلاقة بين الغرب وسورية الجديدة.
بالإضافة لانتقاص سيادتها ووحدتها، ووضعها قيد الرقابة الصارمة الدائمة، وابتزازها في شؤون الأقليات واستدامة الجيب الكردي الانفصالي المرتبط وجوديًّا بأميركا وإسرائيل والغرب، والقائم فعليًّا تحت حماية قوات احتلال أميركية، بشمال شرق البلاد، الضروري لاكتفائها من المياه والقمح والنفط والغاز.
فعليًّا، ستكون الولايات المتحدة وإسرائيل والغرب الجماعي ألد أعداء سورية الجديدة كما سورية القديمة، وأعداء عودة الدولة السورية بكامل قدراتها. ويعتبرون أن العجل قد وقع وآن أوان إشهار سكاكين الضغوط والابتزاز والتهديد والترهيب والمطالب الوقحة، كسمات أساسية لعلاقتهم بها. فيطلبون منها بالفعل الانكشاف الاستراتيجي واستبعاد روسيا وإيران، بلا مقابل حقيقي مع استمرار العقوبات التي تحول دون إعادة الإعمار أو حتى إعادة تأهيل القطاع الصحي، كما لفت أهل الاختصاص!
ولن يقبلوا من القيادة الجديدة بأقل من الاستسلام الكامل للغرب والتطبيع مع إسرائيل، وعدم المطالبة بالأراضي السورية المحتلة، ونفض يديها من قضية فلسطين والعلاقة بالمقاومة الفلسطينية واللبنانية، بل لن يكون مستغربًا أن يطلبوا منها الإقلاع عن الاكتفاء الذاتي من القمح ومحاصيل الغذاء الأساسية، كما فعلوا مع دول وقعت معاهدات سلام مع إسرائيل ودخلت المعسكر الأميركي منذ السبعينيات!
سيكون الموقف الأميركي والغربي من سورية الجديدة أشبه ما يكون بالموقف الأميركي والغربي تجاه ثورة الإنقاذ في السودان (1989-2019). فقد بدأت المطالب الأميركية بإغلاق باب السودان المفتوح للزوار (العرب طبعًا) بدون تأشيرة دخول، وحظر استقبال قادة المقاومة الفلسطينية والعربية أو إقامة فعاليات تناصر قضايا الأمة، وانتهت بانفصال الجنوب وتقطيع أوصال البلاد بحركات التمرد، وعقوبات سياسية واقتصادية ومالية دائمة وإفلاس البلاد وانهيار الاقتصاد وسقوط نظام البشير الذي قاد بنفسه بعض حلقات السقوط، وإدخال البلاد حربًا أهلية نحو الانحلال النهائي.
هذا يعكس رؤية الغرب الإمبريالي للعالم الإسلامي، خاصة بعد استقلال أقطاره عن القوى الاستعمارية. فالسودان لا ينبغي أن يكون عربيًّا أو مسلمًا! والعراق لا ينبغي أن يكون موحدًا، عربًا وكردًا وتركمانًا أو سنةً وشيعةً وإيزيديين وآشوريين وكلدانيين وصابئة.. أما شعب فلسطين، فبحسب تعبير ونستون تشرشل: فإن “وجود الكلب في المنزل لا يعطيه حقًّا في المنزل”! وستقرر بريطانيا العظمى من هو صاحب المنزل! فهي ليست بلاد العروبة أو الإسلام بل مجال مُخصَّص لمشروع استيطاني صهيوني توسعي!
والآن سورية! في فيديو انتشر مؤخرًا، يتحدث جنرال أميركي متقاعد (بزي مدني)، بأن سورية “مركز ثقل” الحضارة الغربية! (كيف؟! لا أحد يعلم) وأن جيوش العرب والمسلمين ستغزو أوروبا قريبًا. ويستدل الجنرال على أقواله بما يُدَرَّس بكلية الحرب الأميركية، ويقرع طبول الحرب ويشعل إوارها ونارها!
بالنتيجة، وجود العروبة والإسلام في معظم أقطار العرب ليس مسلمًا به، بل لا يعتبر شرعيًّا أو أصيلًا، وربما ينبغي إبادتهم أو ردهم إلى معازل في الصحاري العربية، كمعازل الهنود الحمر! أو تهجيرهم إلى أندونيسيا، كما طرح دونالد ترامب في يناير/كانون الثاني 2025، لتصبح ريفييرا الشرق الأوسط وتستقبل كل شعوب العالم!
يُتوقَّع أن يستمر أو يطول تصنيف سورية كـ”دولة راعية للإرهاب”، كما وقع للسودان عقودًا طويلة بدون أي مسوِّغ، ويستمر اعتبار قيادتها إرهابية وداعمة أو مرتبطة بالإرهاب، عندما لا تقدم التنازلات المطلوبة، وهي كل شيء. وستبقى قيد المراقبة والمتابعة، كما لن يُنسى ماضيها، كما قال وزير خارجية أوروبي أو أكثر، قاصدًا “جبهة النصرة” و”القاعدة” وعناوين أخرى.
وقد تستمر عقوبات قيصر وما قبل قيصر المالية والأمنية وتجميد الأصول وحظر السفر وإغلاق نظام سويفت، والحرب على عملة سورية وصادراتها ووارداتها، ويستمر الاحتلال الأميركي لقاعدة “التنف” وحقول النفط والغاز شمال شرق البلاد بذرائع جديدة أو قديمة كحقوق الإنسان والأقليات والإثنيات والنساء والخمور، ويواكبه ضوء أخضر قائم فعليًّا لعدوانية إسرائيلية متواصلة.
وحتى لو تم تعليق بعض العقوبات وفي حدود ضيقة ولفترات محدودة، فإن استمرار هذا التعليق مرهون بالخضوع السوري للسياسات الأميركية في المنطقة، وتحديدًا ما يتعلَّق منها بالكيان الصهيوني: الاعتراف به والتطبيع معه، ونزع السلاح أو عدم التسلح وإخلاء مناطق منزوعة السلاح، وقطع إمدادات السلاح عن المقاومة اللبنانية، ودخول العمق الاستراتيجي الآمن لإسرائيل، (كما فعلت دول اعترفت به وطبّعت ووقعت معاهدات سلام معه، وتتولى صد صواريخ تستهدفها ومنع وصول السلاح إلى المقاومة الفلسطينية)، والانسحاب التام من قضية فلسطين، وتجنيس وتوطين اللاجئين الفلسطينيين، وإزالة مخيمات اللاجئين وإغلاق مؤسسات وكالة غوث اللاجئين، إلغاءً لِحق العودة كما يدعو دونالد ترامب منذ رئاسته الأولى!
وكلها أدوات إخضاع وابتزاز، وقد لا تعود سورية، (ولا حتى الصين أو روسيا)، لوضع الدولة الطبيعية، أي بدون عقوبات، حتى ينهار الكيان الصهيوني والنظام الدولي الاستيطاني الراهن ومعه الهيمنة الغربية!
نحو مواجهة “حظر التسلح”:
كوريا الشمالية لها دور قديم في مساعدة سورية على تحقيق التوازن الاستراتيجي مع إسرائيل. فعقب حرب الخليج الأولى (1991) لتحرير الكويت، سلَّحت كوريا الشمالية سورية ببرنامج لتصنيع صواريخ سكود الباليستية، وبرنامج أبحاث نووي ومفاعل نووي قيد التطوير (قصفته إسرائيل وقتلت الخبراء السوريين والكوريين الشماليين)، ومصانع أسلحة كيماوية لردع إسرائيل عن التهديد والابتزاز النووي، بقيمة إجمالية تُقدَّر بنحو 3 مليار دولار، حصلت عليها سورية من دورها في التحالف الدولي لتحرير الكويت من احتلال صدام. وكلها تُعزز مناعة سورية الاستراتيجية وسعيها نحو التوازن الاستراتيجي. ويُرجح استمرار الاستعداد الكوري الشمالي لاستئناف التعاون العسكري مع سورية ومدها بالتسلح التقليدي والتطوير الصناعي العسكري.
جديرٌ بالذكر أن كوريا الشمالية بدأت برنامج تطوير الصواريخ حوالي عام 1980 أو 1981، فاشترت من مصر ما تبقى من صواريخ باليستية سوفياتية استُخدِمَت في حرب أكتوبر 1973.
وعلى أي حال، كان السادات قد التزم للأميركيين منذ 1977 بتفكيك برامج تطوير الصواريخ أو الطيران الحربي، كما قرر “تنويع مصادر السلاح” أي التخلي عن التسلح بالسلاح السوفياتي.
وباستخدام الهندسة العكسية، بدأ الكوريون برنامجهم الصاروخي تطويرًا وتصنيعًا، ووصلوا إلى تطوير صواريخ عابرة للقارات ذات رؤوس نووية طوروها هم ذاتيًّا بالاعتماد على الذات وغير ذلك من عتاد الدفاع الاستراتيجي، وأصبحوا يصدرون العتاد العسكري التقليدي.
ما لا يلتفت إليه إلا نادرًا، تاريخ طويل من التعاون العسكري الباكستاني السوري وقد شمل مجالات التدريب والتعليم العسكري العالي والصيانة والتطوير، خاصة في مجال الطيران الحربي. ولا سبب يدعو للاعتقاد بأن باكستان لن تعود إلى التعاون العسكري مع القيادة السورية الجديدة، إلا بـ”ﭬيتو” أميركي صريح.
ستكون أول خطوة في التصدي لمبدأ “حظر التسلح” هي تجنيد كافة القدرات المحلية لجرد وفرز كل ما تبقى من معدات سليمة تمامًا أو جزئيًّا، وبذل جهد مثابر لصيانة وإصلاح وتطوير ما يمكن إصلاحه وتطويره ورفع مستوى فاعليته مثل بطاريات صواريخ الدفاع الجوي الروسية. وقد فعلت ذلك من قبل إمارة أفغانستان الإسلامية بعد تدمير الترسانة العسكرية قبل الانسحاب الأميركي المضطرب من البلاد.
كما أن قرار حل الجيش العربي السوري القديم وإنشاء جيش جديد، من مجاهدي فصائل الثورة السورية، بتشكيلات فدائية وقوات صاعقة ونخب عسكرية سريعة الانتشار وعالية المهارات والفاعلية، وعقيدة عسكرية وأمنية واستراتيجيات وتكتيكات جديدة أقرب إلى حرب الشعب، سيتطلب أنماط جديدة من التسلح والعتاد.
فمثلًا، في ظل تفوق الطيران الحربي الصهيوني بمقاتلات أف-35 وأف-15 وأف-16، ما جدوى اقتناء أسراب من الطيران الحربي باهظ الثمن ومتواضع القدرات والفاعلية وستكون صيدًا سهلًا للطيران الحربي المعادي؟!
ستكون الجدوى أعلى كثيرًا بتطوير الطيران المسيَّر رخيص الثمن ومضادات جوية خفيفة ومتحركة، بالإضافة إلى مضادات الدروع التي أثبتت فاعليتها خلال حربي 2006 و2023-2024 في لبنان وفلسطين، والخبرة متاحة.
في حرب 1948، كانت النصيحة الأشهر للفلسطينيين من أحد كبار الضباط السوريين: “اللغم.. اللغم.. اللغم”، ويقصد بالطبع إتقان هندسة الألغام والمتفجرات كأداة ناجعة في تقطيع أوصال العدو وقطع خطوط إمداداته وتدمير قوافله وتكبيده خسائر بشرية فادحة!
ستكون هناك مصادر عديدة لإعادة التسلح لكن المشكلة الكبرى في محدودية الموارد المالية المتاحة، والقدرة على الاحتفاظ بالسلاح الجديد في ظل التهديد الإسرائيلي المستمر، وتحديات عودة الدولة وإعادة الإعمار الباهظة التي ستكون لها غالبًا أولوية قصوى.
لكن الأمر أولًا وأخيرًا يعود إلى اختيارات القيادة السورية، التي يبدو أنها ستنتظر طويلًا قبل أن تيأس من انفتاح الغرب عليها وإلغاء تصنيف “هيئة تحرير الشام” كمنظمة إرهابية وطي صفحة إعلانات المكافآت المالية المليونية المرصودة للمساعدة في القبض على قادتها، وكافة العقوبات المفروضة على مؤسسات الدولة السورية واقتصادها وعملتها وصادراتها ووارداتها!
تفكيك قنبلة الأقليات:
يرجح أن تقوم إسرائيل أو الغرب بافتعال مشكلات طائفية وإثنية وقومية في سورية ومظلوميات مزعومة، بناء على حوادث معزولة أو مُفتَعلة، يتم تضخيمها وإشعال نيرانها. ليتم اختراع ميليشيات جديدة من طراز “داعش” أو “قسد” (لا فرق حقيقيًّا) لتسويغ التدخل، و”مقاتلين لأجل الحرية” الدينية والقومية والإثنية من هذه الأقليات، ويجري دعمها بالسلاح والاستخبارات والعقوبات ومناطق حظر الطيران. وقد يكون المستهدف فيها، بجانب سورية، تركيا أو العراق أو لبنان.
وكما أشرنا سابقًا، لم تشكل التعددية الإثنية والطائفية والأقليات في سورية مشكلة بنيوية أصيلة أو مزمنة أو قنبلة موقوتة في الاجتماع السوري في أي مرحلة تاريخية طبيعية من مراحله.
وإذا نظرنا في مرحلة الكفاح من أجل الاستقلال عن الاستعمار الفرنسي، سنجد في صفوف الحركة الوطنية وعلى رأسها شخصيات وطنية من الطوائف كافة دون استثناء. فقد كان المسيحي فارس بك الخوري من قادة حركة الاستقلال والآباء المؤسسين للجمهورية السورية، وتولى وزارة الأوقاف الإسلامية، وترأس البرلمان والحكومة وخطب في المسجد الأموي، وأجمع السوريون على احترامه ونزاهته. ومثله كثيرون في كل مجالات الاجتماع والثقافة والفكر والأدب في سوريا؛ فالشيخ الرئيس محمد كرد علي، هو مؤسس المجمع العلمي السوري، وشيخ العربية والإسلام. فالجماعة الوطنية السورية واندماج وتكامل مكونات الاجتماع السوري إذًا حقيقة واقعة تاريخيًّا. والمفارقة أن الخوري وكرد علي كلاهما ينتمي إلى نفس السلالة الفكرية، وهي المدرسة الإصلاحية التي أنجبت معظم رجال تلك المرحلة.
لذلك، يمكن القطع بأن مشكلة أو قنبلة الأقليات صناعة أجنبية صرفة تتعهدها أجهزة استخبارات أجنبية وجواسيسها وعملاؤها داخل الطوائف والأقليات.
وأسوأ الأقليات حظًا في قياداتها هي الأقلية الكردية، فقد ابتليت بقيادات أنانية فاسدة تصنع المظلومية والقومية وتنفخ في إوارها وتتاجر بها، واختارت مبكرًا التحالف مع إسرائيل وشاه إيران والغرب الذين نظموا ومولوا وسلحوا قيادات وأحزابًا “علمانية” كارهة للإسلام والعروبة.
فينبغي مراقبة هذه القيادات ورصد تحركاتها وتنظيماتها وعلاقاتها المشبوهة باستمرار، وتصعيد شخصيات كردية، ذات ولاء حقيقي للوطن السوري، تنبذ التعصب والشوفينية، وتؤمن بالأخوة الدينية والحضارية مع أطياف الجماعة الوطنية السورية كافة.
لذلك، ينبغي أن تكون المعالجة متعددة الأدوات والأبعاد: دينيًّا وثقافيًّا وسياسيًّا، وتوظيف جميع وسائط المجتمع الأهلي والروابط المشتركة غير الفئوية بين الكرد وسائر النسيج السوري: حلقات ومدارس علمائية، طرق صوفية، مؤسسات وقفية، وكل ما يعزز مشتركات الاجتماع السوري وجماعته الوطنية.
تتسم الحالة الكردية في سورية بفرادة خاصة؛ فليس هناك مقومات أو تاريخ راسخ لاستقرار كردي إثني أو قومي حقيقي، لأن جزءًا كبيرًا من كرد سورية دخلوا منذ العشرينيات هربًا من اضطهاد الدولة الكمالية شرق الأناضول بناء على مبادرة إنسانية ودعوة أخوية من الحركة الوطنية السورية. بل ولم يحصل بعضهم على الجنسية السورية إلا منذ عقد أو أكثر قليلًا مثلًا.
المناعة الأمنية:
هذه إحدى التحديات الكبرى التي تواجه مسيرة سورية الجديدة. ففي فترة ضعف النظام وتضعضع آلته الأمنية، والتي امتدت 14 عامًا، شهد النظام والدولة والمؤسسات الأمنية والعسكرية تدهورًا شديدًا في المناعة الأمنية. ويمكن القول إن هناك الآن شبكات من جواسيس وعملاء أميركا وإسرائيل وحلف الناتو وغيرهم.
شهدنا بعد أيام من سقوط النظام (في 8 ديسمبر 2023) نحو 350 غارة جوية إسرائيلية وقصفًا صاروخيًّا كثيفًا، في ساعات، طالت بزعم العدو 80 بالمائة من مخازن سلاح القوات المسلحة السورية بمختلف فروعها وقواعدها الجوية والبحرية وتشكيلات ترسانتها العسكرية، وكأنها تقرأ كتابًا مفتوحًا!
يذكر أنه عندما انهار تنظيم “داعش”، أرسلت الدول الغربية في التحالف الدولي ضد داعش طائرات لنقل مئات أو آلاف من الجواسيس والمخبرين الذي أرسلتهم لاختراق التنظيم، وزرعتهم في صفوفه، وقاموا بدور شامل في مسيرة تعثره وضلاله وانهياره.
المفارقة أن هذه الدول الغربية كانت تُحَمِّل تركيا مسؤولية وصول هؤلاء المندسين إلى مناطق “داعش” في سورية والعراق، وكأنها لم ترسلهم وتُؤمِّن وصولهم لتنفيذ المهام الموكلة إليهم!
يُعتقد أن معظم الغارات الإسرائيلية، التي استهدفت حزب الله اللبناني والميليشيات العراقية والأفغانية والباكستانية المرتبطة بإيران ومواقع الحرس الثوري الإيراني ومقراته في سورية ومخازن السلاح وقوافل الإمداد، قد سبقها بلاغات جواسيس أو متعاونين مع أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية وغيرها، وتداول ناشطون أن أجهزة أمن النظام كانت تفعل ذلك أيضًا، بعلمه وتوجيهه أو بدونهما، عبر قنوات، مباشرة أو غير مباشرة، مع استخبارات الاحتلال!
يضاف أيضًا الآن شبكات المتعاونين مع دول عربية، تولت كِبْر الثورة المضادة، وتناصب الثورة السورية والنظام الجديد العداء، وبادرت منذ سنوات إلى التواصل والتطبيع مع النظام البائد بعد التطبيع مع إسرائيل بالطبع، ويُرجَّح أنها فتحت أو سعت لفتح قنوات اتصال بين النظام البائد ودولة الاحتلال.
وقد أظهرت الاضطرابات الأمنية في الأسابيع الأولى عقب سقوط النظام، بواسطة فلول النظام وشبكات الإجرام المرتبطة به من بلطجية و”شبيحة” ومهربين منتشرين بمحافظات الشمال والشمال الغربي، ارتفاع مستوى تهديداتها للقيادة السياسية والعسكرية الجديدة، والمخاطر الأمنية الداخلية بالنسبة لأقليات الاجتماع السوري المستهدفة بالاعتداءات وأعمال الفتنة الأهلية. وقد وقع قتلى بصفوف التشكيلات الأمنية الجديدة نتيجة كمائن الفلول واعتداءات “الشبيحة” بمختلف المناطق.
ينبغي تسخير موارد كافية لرصد هذه الشبكات وتحييدها واختراقها، والبدء بغربلة أجهزة النظام الأمنية وكوادرها أولًا، وتطهيرها والاستفادة من أرشيفها وقواعد بياناتها. ويُستحسن الاستعانة بخبرات وكفاءات مدنية لها خلفيات معرفية عابرة للتخصصات ودراية بالاجتماع والسياسة والتاريخ.
يذكر أن تعليم جورج تينيت، مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية في إدارة بوش الأب، كان دكتوراه في التاريخ الروسي واللغة الروسية، وخلفه أنتوني ليك أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في إدارة كلينتون. وكان موشيه موفاز، ممثل الكيان الصهيوني الذي فاوض النظام البائد قبل عقود، أستاذًا بالجامعة العبرية متخصصًا في التاريخ والسياسة السورية. بل كان معظم ضباط الاستخبارات البريطانية بالمشرق من طلاب الدراسات الشرقية والمستشرقين.
مثلث القوى الإقليمي:
هذا غيض من فيض الأوضاع الاستراتيجية الهشة والمخاطر الجيوسياسية الوشيكة، وهذا يملي على سورية الجديدة، شعبًا ونُخبًا وقيادة، اليقظة التامة والحذر وتبني خيار بناء القوة والاعتماد على الذات لردع التهديدات، وتخصيص الاهتمام والأولويات والاستراتيجيات الكفيلة بذلك. وفي سياق ذلك يُعاد بناء الدولة والإعمار والاجتماع والاقتصاد.
إقليميًّا، تقع سورية والكيان الصهيوني الطارئ الدخيل في مركز مثلث قوى الإقليم التاريخية الراسخة: مصر وتركيا وإيران.
ستكون قدرة الإدارة السورية الجديدة على التصدي للمخاطر الكبرى متوقفة على نجاحها في إقامة علاقات وثيقة ومتوازنة مع أضلاع هذا المثلث، غايتها تعزيز المناعة الاستراتيجية السورية وتغيير توازن القوى الإقليمي لردع الكيان الصهيوني وإجهاض تمدده.
وينبغي كذلك الاستفادة من تناقضات هذا المثلث مع الكيان الصهيوني، بل ومن التناقضات بين أضلاعه الثلاثة.
تاريخيًّا، كانت توازنات القوة أو اختلال هذه التوازنات بين أضلاع هذا المثلث تشكل المشهد السياسي الإقليمي وصراعاته وتناقضاته وتحالفاته على حد سواء؛ فبعد التحول الصفوي التاريخي في إيران، والتناقض الصفوي العثماني الناشئ عنه، وقبل ذلك الصعود العثماني أوروبيًّا (رومللي) وأسيويًّا (أناضولي) وضغطه شرقًا وجنوبًا، استشعر المماليك في مصر والشام والصفويون في إيران مخاطره الجيوسياسية عليهما، فحدث اتصالات بينهما لتنسيق مواجهة التمدُّد العثماني.
ويبدو أن هذه الاتصالات قد وقعت مبكرًا بيد العثمانيين، قبل تحقيق نتائج أو ترتيبات بينهما، وفي وقت كان المماليك، ورغم تلقيهم عونًا بحريًّا عثمانيًّا، يتكبدون خسائر عسكرية فادحة أمام البرتغاليين، كما في معركة ديو البحرية (1502). فوجد السلطان العثماني آنذاك، ياﭬوز سليم الأول، مسوِّغًا وفرصة سانحة للتمدد جنوبًا لإنهاء دولة المماليك وضم أقاليمها، وكانت الارتطام الكبير في سورية، وتحديدًا بمعركة مرج دابق قرب حلب (1516)، وجاءت نهاية المماليك في معركة الريدانية (العباسية) عام 1517. وأصبحت أقاليم دولة المماليك كافة إيالات عثمانية، وعلى رأسها مصر التي احتلت موقع الإيالة الأولى في البروتوكول العثماني بدلًا من إيالة المجر.
مؤخرًا، برز دور تركيا في دعم فصائل المعارضة السورية وإسناد هجومها الأخير الذي أسقط نظام آل الأسد، كما برزت تركيا باعتبارها الحليف الأول للنظام السوري الجديد وشريكه الرئيس مستقبلًا في إعادة الإعمار.
وجاء ذلك على حساب دور إيران التي انسحبت من سورية، واتهمت تركيا بالضلوع في الأحداث التي أدت لسقوط النظام، وانكفأت إقليميًّا ولو بشكل جزئي.
كذلك، يُفسّر هذا الوضع الإقليمي الجديد موقف مصر السلبي أو الفاتر بالحد الأدنى، من التغيير في سورية، والذي يستبطن التنافس أو التدافع الإقليمي مع تركيا، والتنافر الأيديولوجي مع تركيا والنظام الجديد في دمشق رغم هامشية اللون الأيديولوجي في ترتيبات مستقبل سورية وعلاقاتها الإقليمية.
لذلك، من المنطقي أو المتوقَّع جيوسياسيًّا أن يحدث تقارب سياسي بالحد الأدنى بين مصر وإيران كرد فعل على التوغل التركي جنوبًا في سورية، والذي كان بدوره ردَّ فعل على التمدد الإيراني غربًا نحو شرق البحر المتوسط لتأمين خطوط الإمداد من بحر قزوين إلى المتوسط.
لكن ما يحول دون التقارب بين القاهرة وطهران عوامل جيوسياسية عديدة تعود إلى ترتيبات هنري كيسنجر لأوضاع الشرق الأوسط في السبعينيات بعد حرب أكتوبر 1973 خلال إدارتي نيكسون وفورد، (فصل القوات الأول والثاني بين مصر وإسرائيل، وإنهاء حالة الحرب عمليًّا، وفصل القوات على الجبهة السورية)، وامتدادات هذه الترتيبات خلال إدارة كارتر (اتفاقية كامب ديفيد، معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، واستمرار الاحتلال الإسرائيلي للقدس والضفة الغربية وقطاع غزة وهضبة الجولان).
جدير بالذكر أن من بين الترتيبات اللاحقة أن لا يسمح النظام الدولي والإقليمي بقيام أي ثورة بعد الثورة الإيرانية في المشرق، وهذا يفسر كثيرًا مما جرى بعد 2011.
على سبيل الخاتمة:
يقول أندرو باسيفيتش، الكولونيل السابق بالجيش الأميركي وأستاذ العلاقات الدولية بجامعة بوسطن: إنه بنهاية الحرب العالمية الأولى (1918)، وبانتهاء القتال، غادر المنتصرون، لا ليحتفلوا بل ليعلنوا الحداد. فقد اهتزت ثقة الغرب في قدرة الحرب على حل المشكلات في العصر الصناعي. وبنهاية الحرب العالمية الثانية في 1945، تلاشت هذه الثقة تمامًا لدى عدة قوى عظمى، أصبحت قوى عظمى بالاسم فقط. وبقيت الولايات المتحدة وإسرائيل مولعتين بالقتال والحروب. في الخمسينيات، اقتنعتا بأن الأمن القومي (أو البقاء القومي) يتطلب تفوقًا عسكريًّا ساحقًا.
وكان “السلام” في قاموسهما مصطلحًا مُشفرًا. وكان شرطهما الأساسي لتحقيق “السلام”، مع كل الخصوم: هو قبول الخصم بشرط “الدونية الدائمة”!
***
حاليًّا، هناك تحرك سعودي نشط باتجاه التواصل مع القيادة السورية الجديدة، ولا يضاهيه كثافة ربما إلا التحرك القطري والتركي. هل هناك استدارة أو إعادة تموضع للموقف السعودي تجاه القضايا الإقليمية؟
المقصود هنا: هل تبتعد المملكة عن مسار “اتفاقات أبراهام” الذي أطلقته إدارة ترامب الأولى وتابعته إدارة بايدن بهدف التطبيع السعودي مع إسرائيل؟ وكان هناك اشتراطات سعودية حول إبرام اتفاقية دفاع أميركي سعودي بعدما تخلى ترامب في رئاسته الأولى عن أي التزام بالدفاع عن السعودية ضد هجمات الحوثيين على المدن ومنشآت صناعة النفط؛ وبرنامج نووي سعودي يضاهي البرنامج النووي الإيراني؛ و”تحريك” مفاوضات حل الدولتين بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية.
ثم جاءت حرب طوفان الأقصى وقصف إسرائيلي لقطاع غزة بما يعادل عدة قنابل نووية كقنبلة هيروشيما، ومماطلة أميركية طويلة لإطالة حرب الإبادة مع وعد بمكافأة إسرائيل في النهاية بالتطبيع مع السعودية.
ثم جاءت الانتخابات الأميركية وعاد ترامب رئيسًا للولايات المتحدة، وفي أجندته ليس فقط توسيع اتفاقات أبراهام والتطبيع العربي مع إسرائيل، بل توسيع إسرائيل ذاتها، كما اقترح في 4 أغسطس/آب 2024، كما اقترح تهجير أهل غزة إلى إندونيسيا ثم إلى مصر والأردن خلال يناير/كانون الثاني 2025.
لا يبدو أن السعودية ستنساق كثيرًا مع أجندة ترامب الجديدة كما فعلت في رئاسته الأولى، بل تعلمت فوائد التوازن في العلاقات الدولية والإقليمية. فأقامت علاقات تعاون واسعة نسبيًّا مع الصين بالمجال الاستراتيجي والاقتصادي.
وأسفرت الوساطة الصينية عن اتفاق سعودي إيراني أعاد علاقاتهما وأنهى حالة الصراع بينهما والحرب الطويلة بالوكالة في اليمن.
وأقامت السعودية علاقات تنسيق مهمة مع روسيا بشأن سياسات إنتاج النفط واقتصادياته وإدارة أسواقه عالميًّا، وامتنعت عن أي موقف ضد روسيا بشأن حرب أوكرانيا. وسيبقى أن نشهد ما ستتكشف عنه الأسابيع والأشهر القادمة.
***
أصبح الكيان الصهيوني متورطًا في حروب أبدية بلا نهاية واضحة أو خطط محددة أو أهداف ممكنة القياس والتحقيق، ينتهي بعدها القتال وتستأنف الحياة سيرتها المعتادة.
لا تحاول إسرائيل الانتهاء من صراعات عصيَّة على الحل تورطت فيها بل تتوسع بفتح جبهات جديدة باستمرار، وانضمت بذلك إلى عدة دول عربية أسيرة حروب أبدية ومفاوضات مسدودة وهُدن مؤقتة هشة قابلة للانهيار وتآكل العلاقات بين الدولة والمجتمع، وبلا أفق سياسي أو مسار يفضي إلى سلام.
الوضع الأكثر أهمية من العنف المباشر الدائم، بحسب يزيد صايغ المفكر والباحث بمؤسسة كارنيغي، هو أن الدولة هنا لا تمثل جميع مواطنيها ولا تمارس السيطرة المادية والإدارية الكاملة داخل حدودها نظرًا لهشاشتها بنيويًّا وأيديولوجيًّا وأن حدودها لم تكن نهائية في أي يوم، بل هي عرضة للتحدي والتغيير.
كما تتعايش هذه الدول مع عدد من الفواعل المسلحة من غير الدول داخل حدودها، بما فيها ميليشيات المستوطنين بالضفة الغربية المحتلة، وتمثل وحدات احتياطية محلية لجيش الاحتلال الإسرائيلي، لكن إسرائيل لا تسيطر فعليًّا على غلاة المستوطنين المسلحين الذين يعيثون فسادًا وعنفًا وحرقًا وتخريبًا في بلدات وقرى الضفة الغربية. وهنا يُستدعى رأي الباحث والناشط الإسرائيلي يهودا شاؤول: “لم يعد واضحًا أين الحدود الفاصلة التي يبدأ وينتهي عندها الجيش، ويبدأ وينتهي عندها المدنيون؟!” ويقصد المستوطنين المسلحين.
بل أظهرت الحرب على غزة مشكلات في القيادة والسيطرة داخل جيش الاحتلال الإسرائيلي، وأعراضًا أخرى وصفها عالم الاجتماع الإسرائيلي ياغيل ليفي بـ “التحوّل اللاهوتي” للمؤسسة العسكرية، أي “انتقالها من مؤسسة علمانية بالمطلق إلى جيش لاهوتي”، نظرًا لتراجع حضور وتأثير “مجنّدي الطبقة الوسطى العلمانيين” في الشؤون العسكرية، وتزايد انخراط أتباع المعسكر القومي-الديني المتشدِّد في صفوف الجيش.
وبحسب يهودا شاؤول، فإن نصف ضباط سلاح المشاة المتخرّجين عام 2015 ينتمون لهذا المعسكر المتشدد. ورصد شاؤول نشوب “اصطدام بين الحرس القديم والمؤسساتية من جهة، وبين العناصر القوميين-الدينيين من جهة أخرى” الذين “يريدون تغيير طبيعة ونَفَس وروح الجيش”.
من ناحية أخرى، قبل سنوات وفي أطروحة دكتوراه بجامعة إكستر البريطانية بإشراف المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه، وجدت الباحثة التونسية كوثر قديري أن جميع مظاهر تنظيم الاجتماع والاقتصاد والسياسة والعسكر في الكيان الصهيوني بعد 1967، قد سُخِّرت لخدمة التوسع والاستيطان، وأفضت إلى طاقة صراعية هائلة للاستحواذ على الأرض وتدمير الاجتماع والوجود الفلسطيني.
وقد أظهرت حرب غزة 2023-2025، وحرب شمال الضفة، التي اندلعت في جنين وطولكرم وغيرهما، بعد وقف إطلاق النار بغزة مباشرة، أن لا حدود من أي نوع لهذه الطاقة الصراعية وأدواتها ومساراتها نحو الإبادة والتدمير والتطهير العرقي، وبإقرار الغرب الجماعي ومشاركته.
باختصار، ينبغي للأمة أن تتوقع الأسوأ. وفي ضوء الحرب على لبنان أواخر 2024، وما شهده العالم من مستويات إبادة وتدمير شامل مارستها آلة الحرب الصهيونية، وبعد تغول الاحتلال بقمم جبل الشيخ السورية وإقامته مهبط طائرات هناك واحتلال المنطقة العازلة بعمق أميال عديدة وإقامته قواعد عسكرية وأساسات استيطان وتدمير الترسانة والمنشآت العسكرية السورية شبه الكامل بإقرار أميركي واضح، فإن الغرب بأسره يقف وراء تمدد وتغول المشروع الاستيطاني الصهيوني بلا حدود، وبما يتجاوز فلسطين إلى كل ما يسمى بزعمهم “أرض إسرائيل”، وتمتد من ضفاف النيل في الدلتا إلى ضفاف الفرات بالعراق وأجزاء من الأناضول والحجاز.
وفي ظل النظام الدولي الراهن الاستعماري أصلًا وجوهرًا، وقبل حدوث أي تغيير فيه، ستتسارع عدوانية وحروب الكيان الصهيوني والغرب الجماعي، نحو الحسم العسكري ليس فقط مع شعب فلسطين ومقاومته، بل مع جميع شعوب وكيانات المشرق العربي الإسلامي، ضمن تصورات وترتيبات بدأت منذ إدارة أيزنهاور، ولا تزال قيد التداول والتطوير والطرح! وخلاصتها أن إسرائيل وُجِدَت لتبقى وتتمدد وفق إجماع غربي لا ريب فيه.
***
الخلاصة، وبالحد الأدنى، ينبغي العمل لعودة سورية إلى حالة الاستقرار والتوازن الاستراتيجي التي كانت قائمة حتى نهاية العام 2010، والانطلاق منها نحو آفاق أخرى لإعادة بناء القوة السورية على أسس مختلفة وعقيدة عسكرية جديدة، تختلف في تشكيلاتها وأساليبها وتكتيكاتها القتالية، بحيث لا تترك فجوة بين الاجتماع السوري وقواته المسلحة، ويتم تعويض النقص في التسلح التقليدي المتقدم برفع مستوى مهارات المقاتلين الفردية والجماعية، وإتقان قدرات ومهارات وخبرات حرب الشعب التي تتماهى مع طبيعة الأرض والتضاريس والنسيج الاجتماعي والإنساني.
الهدف هنا هو الوصول إلى توازن قوى إيجابي يعزز مناعة سورية إزاء المخاطر القديمة والجديدة، ويكفل لها وحدة إقليمها واستقرارها السياسي واستقلال قرارها وحرية الإرادة، بمواجهة الهيمنة الإمبريالية والعدوانية الصهيونية التي يُعبّر عنها باستراتيجية “شد الأطراف” (حدود دامية أو غير آمنة وجيوب انفصالية وإثنيات متمردة) لزعزعة استقرار المركز، وصولًا إلى تجاوز مختلف أشكال العقوبات والحصار والاحتواء. ومن ثم تحرير أرضها وإنجاز إعمارها تنمية بناءة والنهوض بقضايا الأمة إن شاء الله.
والله أعلى وأعلم.
*د. مازن النجار كاتب وباحث في التاريخ والاجتماع.