نزع سلاح المقاومة: ضغوط الإقليم وثوابت المشروع المقاوم

في خضم العدوان المتواصل على غزة، طُرحت مؤخرًا مبادرة مصرية لوقف إطلاق النار تضمّنت شرطًا خطيرًا على جوهر الصراع الحالي، ألا وهو شرط نزع سلاح المقاومة من أجل الوصول لوقف إطلاق النار. وإذ يحمل هذا الشرط دلالة سياسية عميقة، فإنه يكشف عن حجم الاصطفافات الإقليمية المناهضة لخيار التحرير، ويعكس مدى الانخراط في مشروع تصفية القضية تحت غطاء “التهدئة ووقف إطلاق النار”.
اللافت في هذا الحدث أن حركة حماس، طوال الأعوام الماضية، حافظت على قدر من العلاقات السياسية الهادئة مع مصر ودول الجوار، مراعاةً لحساسية الموقع ودقة الحسابات السياسية، إلا أن ما تضمّنته المبادرة المصرية مؤخرًا يُعد سابقة غير معهودة في طبيعة هذه العلاقة، خاصة في ظل غياب أي نفي رسمي من القاهرة لما نقله مصدر في حماس حول مضمون المبادرة.
وهذه السابقة لا يمكن تصنيفها إلا باعتبارها مؤشرًا خطيرًا يشي بوضوح لانزلاق الوسيط العربي إلى موقع الشريك في مشروع تقويض المقاومة، لا الراعي لمسار التهدئة والحقوق الفلسطينية.
نزع سلاح المقاومة: شرط الاحتلال أم لسان حال الوسطاء؟!
في تطوّر لافت في مسار الوساطة الجارية، كشفت حركة المقاومة الإسلامية (حماس) عن تلقّيها عبر الوسيط المصري مقترحًا لوقف إطلاق النار وتبادل الأسرى، تضمّن نصًا صريحًا حول نزع سلاح المقاومة مقابل هدنة مؤقتة مدّتها 45 يومًا. ويكشف هذا الشرط، الذي وصفته الحركة بالمرفوض جملةً وتفصيلًا، عن محاولة خطيرة لإعادة تعريف مفهوم “التهدئة” ضمن معادلة تستهدف مصادر القوة الفلسطينية، لا وقف العدوان فحسب.
وقد علّق ضياء رشوان، رئيس الهيئة العامة للاستعلامات المصرية – وهي مؤسسة رسمية ناطقة باسم الدولة – نافيًا ما وصفه بـ”الروايات الكاذبة” حول طرح القاهرة لشرط نزع سلاح المقاومة في مقترحاتها، إلا أنّ هذا النفي لم يُترجّح عمليًّا، إذ ظلّ غامضًا، ولم يصدر عن الجانب المصري ما يفنّد تفصيليًّا رواية قيادات حماس، كما لم تُقدَّم نسخة موثقة من المقترح المصري تُعزِّز هذا النفي، مما يُبقي المؤشرات دالة على صحة ما أورده وفد حماس، خاصة وأن التصريح المصري جاء بعد ردّة فعل غاضبة وواسعة النطاق، وفي هذا السياق، قال وزير خارجية الاحتلال إيلي كاتس: “المصريون وضعوا لأول مرة شرطًا لصفقة شاملة وإنهاء الحرب يتمثّل بنزع سلاح حماس وتجريد غزة من السلاح”.
من هنا، فإن الموقف المبدئي الذي عبّرت عنه حماس، عن رفض مناقشة نزع السلاح أصلًا، هو موقف منسجم مع طبيعة الصراع، ومع منطق التحرر الذي لا يُفرّط في أدوات الردع، ولا يقبل تحويل المقاومة إلى مجرّد كيان سياسي أعزل يفاوض تحت فوهة البندقية الصهيونية.
الاحتلال وهدف التفريغ الديموغرافي لغزة بالتهجير:
إن هدف الاحتلال من الحرب في غزة لا يبدو محصورًا في نزع سلاح المقاومة فقط، بل يمتد ليشمل إطالة أمد الصراع وسيلةً لتحقيق التهجير الديموغرافي، فبقاء الحرب مستمرة، مع استمرار العدوان والدمار، قد يكون جزءًا من استراتيجية تهدف إلى دفع السكان الفلسطينيين في غزة إلى مغادرة أراضيهم.
وإطالة الحرب توفر للاحتلال ذريعة لتدمير المزيد من البنية التحتية وقتل المدنيين، ما يسهم في تزايد حالات التهجير القسري، وهذا بدوره يسهل السيطرة الإسرائيلية على الأرض ويقلل من قدرة المقاومة على الاستمرار.
في هذا السياق، يكون الربط بين إطالة الحرب والتهجير ديموغرافيًّا واضحًا: الحرب المستمرة تخلق بيئة من الدمار تدفع السكان إلى الرحيل، وبالتالي تضعف الروح المقاومة، ما يسهل إتمام أهداف إسرائيل في تفريغ غزة من سكانها.
نتنياهو وتجنب التزام التفاوض لإنهاء الحرب:
يسعى رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو، لأهدافه السياسية الداخلية وللحفاظ على تماسك ائتلافه الحاكم، إلى تجنب التوقيع على أي تعهدات قد تقوده إلى مفاوضات لوقف الحرب في غزة، خوفًا من تصدع ائتلافه، يراهن نتنياهو على تفادي أي التزامات قد تدفع وزراء مثل بتسليل سيموتريتش للاستقالة التي لوح بها من قبل، مما قد يؤدي إلى انهيار الحكومة والدعوة إلى انتخابات مبكرة. في مثل هذه الحالة، سيواجه نتنياهو خطر المحاكمات، مما يجعله يفضل المضي في التصعيد العسكري.
في هذا السياق، يبحث نتنياهو عن ذرائع لتعطيل التوصل إلى أي اتفاق لوقف الحرب، مستندًا إلى الضغط العسكري الذي يمارسه جيش الاحتلال في قطاع غزة، وكذلك الحصار الخانق الذي يفرضه على القطاع، بمنع دخول المساعدات الإنسانية وشاحنات الغذاء. ويدعمه في ذلك الموقف الأمريكي، تحت إدارة ترامب، التي تؤكد على ضرورة عدم التفاوض مع حركة حماس دون نزع سلاحها.
حماس بدوها تعي وتعلم تمامًا أن مطلب نزع سلاحها ليس فقط مطلب نتنياهو، بل هو أيضًا مطلب إدارة ترامب وبعض القوى الدولية والإقليمية الأخرى، كما تعلم أيضًا أن ورقة “الأسرى” لم تعد تمثل أي ضغط على نتنياهو، الذي لم يعبأ بقتل 41 أسيرًا إسرائيليًّا خلال شهور الحرب بسبب العمليات العسكرية لجيش الاحتلال.
وفي ظل هذه المعطيات، تُبدي حماس موقفًا رافضًا لشرط نزع سلاحها، مع استمرار التأكيد على ضرورة ضمانات حقيقية للتفاوض بشأن وقف الحرب.
لماذا يجب على حماس رفض هذا الشرط؟
إن الشرط الذي طرحه الوسيط المصري، والمتعلق بنزع سلاح حركة حماس، ليس خطوة نحو التهدئة كما يروج له، بل هو بمثابة وصفة لإبادة جماعية ممنهجة، تُنفذ هذه المرة برعاية عربية ودولية. وهذا الشرط، إذا ما تم قبوله، سيشكل نقطة انطلاق لمرحلة أكثر تطرفًا، إذ لا يُتوقع أن يتوقف الأمر عند نزع السلاح فقط، بل سيتم اتباعه بسلسلة من المطالب المتزايدة، مثل تفكيك البنية التنظيمية للمقاومة، وإخضاع سكان القطاع لرقابة أمنية مشددة، وصولًا إلى محاولة إعادة هندسة الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية في غزة بما يضمن شطب روح المقاومة من الوعي الجمعي الفلسطيني.
تظهر التجارب التاريخية أن تسليم السلاح لا يؤدي إلى الأمان، بل غالبًا ما يفتح الباب أمام المجازر، ففي عام 1982، وافقت منظمة التحرير الفلسطينية على تسوية تقضي بخروج المقاتلين من بيروت وتسليم أسلحتهم، ولكن ذلك لم يمنع وقوع مجزرة صبرا وشاتيلا، التي ارتكبتها ميليشيات موالية لإسرائيل وأسفرت عن مقتل آلاف المدنيين، وفي عام 1995، سلَّم المدنيون والمقاتلون المسلمون في البوسنة أسلحتهم تحت إشراف قوات دولية، لكن ذلك لم يمنع وقوع مذبحة سربرنيتسا، حيث قُتل أكثر من 8000 شخص على يد القوات الصربية.
استنادًا إلى هذه التجارب وغيرها، ترى حركة حماس أن ما طُرح من قبل الوسيط المصري ليس سوى محاولة لفرض الاستسلام تحت غطاء وساطة شكلية، وتعتبر الحركة أن هذه الشروط تمثل امتدادًا للرؤية الأمريكية-الإسرائيلية التي تسعى إلى سحق المقاومة وفرض واقع جديد في غزة بالقوة.
ما يلي ذلك سيكون مرحلة التصفية الشاملة: تدمير البنية الاجتماعية، تهجير الأهالي، وإعادة تشكيل المجتمع الفلسطيني ليصبح كيانًا هشًا، مدجّنًا، فقيرًا، بلا هوية أو دور، لا وظيفة له سوى أن يكون شاهد زور على ما تبقى من قضية قُضي عليها تحت مسمى “الهدنة”!
نزع سلاح حماس تهديد للأمن القومي المصري!
عسكريًّا وميدانيًّا، يمكن النظر إلى غزة باعتبارها منطقة تأمين استراتيجية لمصر، تفصل بينها وبين عدوها التاريخي، وتعمل على حماية أمنها الوطني، وبالتالي، فإن أهل غزة يُعتبرون طليعة واقية على الحدود المصرية وبمثابة حاميتها الأولى، يسهمون في حفظ استقرار مصر.
إذن نزع سلاح حماس لا يعني فقط إضعاف المقاومة الفلسطينية، بل يشكل تهديدًا مباشرًا للأمن القومي المصري، السلاح في غزة ليس مجرد أداة للقتال، بل هو درع يحمي الأرض والشعب من محاولات التهجير، وإذا تم نزع هذا السلاح، سيُفتح الباب أمام تفريغ غزة من سكانها، مما يعزز من فرص تهجيرهم بشكل جماعي إلى الأراضي المصرية أو إلى مناطق أخرى، وهذه الخطوة تضعف قدرة القطاع على التصدي لأي محاولات قادمة لتغيير واقعه السياسي والاجتماعي.
خاتمة:
في ظل التطورات المتسارعة في غزة والمنطقة، يظهر بوضوح أن نزع سلاح المقاومة ليس مجرد مسألة عسكرية، بل هو خطوة استراتيجية توصل إلى تصفية القضية الفلسطينية، إن غزة، بما تمثله من صمود وثبات، هي خط دفاع استراتيجي لمصر والمنطقة بأسرها، هذا السلاح هو الضمانة الوحيدة أمام محاولات التهجير العدوانية، وإن مطالبة المقاومة بتسليم سلاحها، سواء عبر مطالبات مباشرة أو من خلال التلميحات الدبلوماسية، تشير إلى تحول جوهري وخطير، ففي حال تحقق هذا المطلب، ستتحول المقاومة من قوة تحرّر قادرة على مواجهة الاحتلال إلى مجرد حالة إغاثية تنتظر المساعدات الإنسانية مما يمنح الاحتلال نصرًا سياسيًّا-بأيدٍ عربية- غير مستحق، لم يتمكن من تحقيقه عبر أدواته العسكرية والدموية في الميدان!