حدث ورؤية

تطور نوعي في معركة السودان.. مسيرات التمرد تضرب بورتسودان ومرافق سيادية

المقدمة:

في سياق الحرب القائمة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، شهدت الساحة السودانية تطورًا ميدانيًّا كبيرًا، تمثل في قصف مفاجئ نفذته ميليشيا الدعم السريع استهدف مطار بورتسودان وبعض المنشآت الحيوية في الميناء، وهو تطور نوعي لم تشهده البلاد منذ اندلاع النزاع في أبريل 2023.

هذا التصعيد غير المسبوق لم يمرّ دون تداعيات دبلوماسية، إذ سارعت الحكومة السودانية إلى اتخاذ خطوة سياسية لافتة تمثلت في إغلاق سفارتها في أبو ظبي، متهمةً دولة الإمارات بتمويل وتسليح قوات الدعم السريع، وتوفير غطاء لعملياتها العسكرية التي وصفتها الخرطوم بـ “التخريب المتعمد للبنية التحتية ومقومات الدولة”.

هذا التحول في الخطاب السوداني تجاه “أبو ظبي”، بعد أشهر من تحفظ الخرطوم عن تسمية الأطراف المتورطة إقليميًّا، يكشف عن تصعيد سياسي قد يعيد رسم خطوط التماس في الإقليم، ويدفع بالنزاع السوداني إلى فضاءات تتجاوز الداخل، بما يفتح الباب أمام إعادة تموضع سياسي في الإقليم بأسره.

مسار الحرب: ثلاث مراحل متوالية:

لفهم منطق التحركات الأخيرة، ودينامية الحرب الدائرة في السودان، يمكن تقسيم مسارها إلى ثلاث مراحل متمايزة، تساعد في تفسير منطق التحركات الحالية لكل طرف، حيث يمكن تقسيم هذه المراحل إلى ثلاث مراحل رئيسة:

1- مرحلة الانقضاض والانقلاب:

بدأت الحرب بمحاولة مفاجئة من قوات الدعم السريع للسيطرة الكاملة على الدولة في 15 أبريل 2023، من خلال تحييد قيادة الجيش وتشكيل تحالف سياسي-عسكري مع قوى مدنية كانت مستعدة لتولي السلطة.
لكن هذا السيناريو فشل مع الوقت، ويبدو أن السبب في ذلك يعود إلى تماسك وحدات الجيش الرئيسة، وغياب الغطاء الشعبي المناسب لهذه الخطوة الانقلابية.

2-مرحلة الضغط والمساومة للتفاوض:

بعد فشل الانقلاب، سعت قوات الدعم السريع إلى فرض وقائع ميدانية قوية تتيح لها العودة إلى المشهد السياسي عبر مسار تفاوضي، وكانت مفاوضات جدة تمثّل الأداة التي راهن عليها داعمو هذه المليشيات.

وقد ترافقت هذه المرحلة مع انتشار ميداني واسع في الخرطوم وولايات دارفور وكردفان والجزيرة وسنار، في محاولة لتعزيز أوراق التفاوض، بالتوازي مع الضغط على المدنيين من خلال القتال في المناطق السكنية.

3مرحلة كسر التوازن والهجوم المعاكس:

ابتداءً من أواخر 2023، بدأت القوات المسلحة السودانية في تنفيذ عمليات هجومية منظمة، بعد فترة طويلة من التمركز الدفاعي، ومن المرجح أن هذا التحول الاستراتيجي جاء بعد إعادة ترتيب القدرات العسكرية، وتصاعد جهود المقاومة الإسلامية الشعبية ضد جرائم الدعم السريع.

وقد استطاعت القوات المسلحة بعون من المقاومة الشعبية السودانية استعادة مساحات شاسعة، بما فيها أجزاء واسعة من العاصمة، ومناطق حيوية في الجزيرة وسنار والنيل الأبيض، ويبدو أن هذا التقدم أعاد ترميم مركز الدولة، وقلّص خطر تفكُّكها الذي كان مطروحًا بقوة خلال المرحلة الأولى من الحرب.

انطلاقًا من المعطيات السابقة، من المتوقع أن تكون الهجمات الأخيرة للدعم السريع بطائرات مسيّرة هي محاولة لتعطيل المسار التصاعدي للجيش في الميدان، في محاولة منه لفرض معادلة تفاوضية جديدة قبل أن يفقد كل أوراق القوة، بجانب أن بعض القوى الخارجية المتهمة بدعم الدعم السريع، ترى في هذا التصعيد فرصة للحفاظ على الحد الأدنى من مصالحها، من خلال تسوية تُبقي لها موطئ قدم في المشهد السوداني.

بورتسودان: مفصل استراتيجي في الصراع السوداني:

تشكل مدينة بورتسودان أهمية قصوى في المعادلة العسكرية والسياسية السودانية لعدة أسباب:

فهي المقر المؤقت للحكومة السودانية منذ اندلاع الحرب، وتضم عددًا من الوزارات والمؤسسات الحيوية منذ بداية الصراع بين الجيش وقوات الدعم السريع في أبريل/نيسان 2023، عقب انهيار النظام السياسي نتيجة الخلافات العسكرية المتفاقمة.

كما تطل على البحر الأحمر، مما يمنحها موقعًا استراتيجيًّا بالغ الأهمية في خطوط التجارة والملاحة الدولية، وتضم أيضًا ميناء السودان الرئيس، الذي يُعد الشريان الاقتصادي الوحيد تقريبًا للبلاد بعد توقف مطار الخرطوم والموانئ النهرية.

استهداف المدينة بطائرات مسيّرة من قِبل قوات الدعم السريع، رغم عدم الإعلان الرسمي، يشكل رسالة تصعيد رمزية ضد عمق نفوذ الحكومة، ومحاولة لنقل المواجهة إلى مناطق كانت تُعتبر آمنة نسبيًّا، ويعكس تطورًا تكتيكيًّا في قدرات الدعم السريع على الوصول إلى أهداف استراتيجية دون الحاجة إلى سيطرة برية.

ضربات مركزة تستهدف موانئ ومرافق سيادية:

الساحة السودانية شهدت تصعيدًا غير مسبوق، حيث نفذت قوات الدعم السريع عدة ضربات خلال لفترة الماضية، كان أهمها الضربة السالف ذكرها والتي نفذتها قوات الدعم السريع عبر سلسلة من الغارات الجوية والهجمات بالطائرات المسيّرة استهدفت مدينة بورتسودان – العاصمة الإدارية المؤقتة ومركز ثقل الدولة – مركزة ضرباتها على منشآت سيادية شملت مطار المدينة، الميناء، قواعد عسكرية وجوية، محطات توليد الكهرباء، ومستودعات الوقود.

وامتد هذا التصعيد ليشمل مناطق أخرى مثل كوستي، بل وحتى محاولات استهداف سد مروي الحيوي.
ويبدو أن هذه الهجمات جاءت استجابة لتهديدات أطلقها عبد الرحيم دقلو، نائب قائد الدعم السريع، بنقل المعركة إلى مناطق جديدة في شرق وشمال السودان، وذلك عقب التراجع الميداني الملحوظ لقواته في العاصمة وفي مناطق أخرى من البلاد، وقد يكون الهدف من هذه الضربات إيصال رسالة بأن الدعم السريع لا يزال يمتلك قدرات هجومية، وبأن الحرب لم تُحسم بعد.

التمدد الجغرافي للحرب: كردفان ساحة جديدة للصراع:

بالتوازي مع التصعيد في الشرق، تشهد ولاية شمال كردفان معارك عنيفة بين الجيش والدعم السريع، حيث يحاول الأخير تثبيت وجوده في مناطق جديدة قد تمكّنه من المناورة الميدانية وفتح جبهات إضافية.

وفي هذا السياق، جاءت تحركات الدعم السريع في غرب كردفان لتؤكد هذا التوجه، والذي امتد إلى مدينة النهود، العاصمة الإدارية المؤقتة للولاية، والتي أعلنت قوات الدعم السريع السيطرة عليها بعد معارك عنيفة، مما يضيف مزيدًا من التعقيد إلى المشهد العسكري، ويعزز مخاوف توسع ساحة المواجهة في إقليم كردفان.

ومن المرجح أن هذه التحركات تهدف إلى استنزاف الجيش وتشتيت جهوده عبر توسيع رقعة الصراع، مستفيدًا من الطبيعة المعقدة للمنطقة والتشابكات القبلية فيها، وبالمقابل، تمكّن الجيش السوداني من استعادة السيطرة على عدد من المناطق والمواقع العسكرية في كردفان، مستفيدًا من التفوق الجوي والدعم الشعبي في بعض القرى، ما يعكس حالة من الكرّ والفرّ التي تطبع المشهد الميداني في الإقليم، دون حسم واضح لأي طرف حتى الآن.

سلاح المسيرات ودور هجمات الدعم السريع:

لم يكن في بنية قوات الدعم السريع ما يشير إلى أي خبرات سابقة في تشغيل الطائرات المسيّرة أو استخدامها، بل كانت هذه القوات منذ نشأتها أقرب إلى التشكيلات البرية التقليدية، تعتمد في تحركاتها على المركبات والانتشار الأرضي، وتفتقر لأي بعد جوي سواء كان استطلاعًا أو هجوميًّا.

لكن مع بداية الحرب، وبعد مدة من اندلاعها، ظهر تحوّل مفاجئ في أدوات الدعم السريع، تمثل في استخدام المسيّرات بشكل مباشر في ميدان المعركة، وتحديدًا في مناطق استراتيجية داخل العاصمة، ما شكّل عنصر مفاجأة قلب ميزان السيطرة الميدانية في بعض الجبهات. هذا التطور لم يكن وليد لحظة عسكرية طارئة، بل هو نتيجة اصطفاف خارجي مسبق مكّن هذا الفصيل المتمرد من أدوات قتال نوعية، وقدّم له تشغيلًا وتوجيهًا لم يكن متاحًا له من قبل.

ويأتي في مقدمة هذه الأطراف دولة الإمارات العربية المتحدة، التي تُوجَّه إليها أصابع الاتهام بدعم الدعم السريع سياسيًّا ولوجستيًّا وتسليحيًّا، في إطار دورها الإقليمي المثير للجدل في أكثر من ساحة عربية.

ومع تطور الحرب، توسّع استخدام المسيّرات إلى مناطق خارج العاصمة، وأصبح من الواضح أن هناك تصعيدًا سياسيًّا موازيًّا للدعم العسكري؛ فالهجمات التي استهدفت مواقع في بورتسودان، وكسلا، ودنقلا، وحتى محيط سد مروي، لم تكن فقط عمليات عسكرية، بل رسائل سياسية تقول إن الدعم السريع لم يعد محاصرًا في الخرطوم، وأنه قادر على استهداف رموز السيادة ودوائر القرار في مناطق آمنة وذات بعد سيادي حساس.

إن ما يجري يدل على أن الدعم السريع، رغم انخراطه الأصلي في الصراع الداخلي، يتوسع دوره كل حين باعتباره مجموعة وظيفية يوجهها بعض الفاعلين الإقليميين الذين يديرون أدواته من خارج السودان، بهدف فرض وقائع على الأرض تمهّد لتقويض هيبة الدولة أو فرض تسويات تصب في مصالح الجهات الداعمة.

تصعيد الدعم السريع مؤشّرات ودلالات:

التطورات الأخيرة تشير بوضوح إلى أن مليشيات الدعم السريع تلجأ بشكل متزايد إلى استهداف البنية التحتية الحيوية خاصة في مدينة بورتسودان، من مرافق كهرباء ومياه ومطارات وموانئ، في محاولة واضحة لتدمير الدولة من داخلها.

ويُرجّح أن هذا التصعيد جاء استباقيًّا خشية انحصار المليشيات في دارفور، خاصة بعد تدمير الخلية الأساسية للدعم في نيالا، والتي كانت تشرف على مناطق الشمال والخرطوم، حيث قتل فيها عدد من الضباط المرتبطين بالإمارات، ما دفع الأخيرة إلى توجيه ردة فعل عسكرية عنيفة.

لقد سعت الحكومة السودانية إلى كبح الدور الإماراتي في دعم التمرد عبر مسارين دوليين:

أولهما: تقديم اتهام صريح في مجلس الأمن ضد أبوظبي.

وثانيهما: اللجوء إلى محكمة العدل الدولية.

 ويُبدو أن قرار عدم قبول محكمة العدل لإدانة الإمارات قد أعطاها دفعًا للاستمرار في دعم هذه المليشيات، مستغلة غياب المخاطر القانونية الدولية، ففي ظل هذا الفشل الميداني الأخير للدعم السريع، يبدو أنه يحاول تعويض خسائره عبر خلق فوضى إنسانية وتدمير منشآت مدنية، مستهدفًا إضعاف الجيش السوداني عبر حملات استنزاف مستمرة، تفتح له مجالًا في قابل الأيام للتفاوض، وتحافظ كذلك على مصالح الداعم الإقليمي.

وفي ردٍّ سريع على الدعم الإماراتي لقوات الدعم السريع، أدانت الحكومة السودانية الإمارات ووصفتها بالدولة العدوانية، وأغلقت سفارتها في “أبو ظبي”، رافضة استمرار العلاقات الدبلوماسية، خاصة بعد الاتهامات بدعم وتسليح الميليشيات التي نفذت هجمات بطائرات مسيرة على منشآت حيوية في بورتسودان، منها الميناء ومحطة الكهرباء ومستودعات الوقود، ما تسبَّب في أضرار جسيمة وتهديد حياة المدنيين.

لكنّ ما يجري لا يمكن أن يُقرأ بمعزل عن الضوء الأخضر الأميركي، وغضِّ الطرف السافر عن ملف السودان، فالدعم الإماراتي لقوات الدعم السريع إنما هو نتاج ضوءٍ أخضر غير معلن من واشنطن، وإذنٍ أمريكي لابن زايد بإعادة تشغيل ماكينة الحرب، ولعلَّ زيارة دونالد ترامب الأخيرة إلى الخليج، ولقاءه بمحمد بن زايد، كانت المحطة التي دُفع فيها ثمن هذا الصمت الأمريكي، إنه – بلا مواربة –مشهد يُعاد إنتاجه وصياغته: مالٌ مقابل صمت!

ختامًا: هل تمتلك الحكومة السودانية رؤية شاملة للتعامل مع الأزمة؟

والسؤال المهم هو: كيف تفكر الحكومة السودانية الآن، خاصة وأن الطائرات المسيّرة التي استُخدمت في الهجمات انطلقت من أرض الصومال، ما يزيد من تعقيد الصراع ويجعله على مستوىً إقليميٍّ أكبر، فمن المرجح أن التعامل مع الأزمة قد لا يكون على طريقة إطفاء حرائق متناثرة في مناطق مختلفة تشعلها مليشيات الدعم السريع!

ومن المرجح كذلك أن الحكومة ستكون بحاجة إلى تكوين تصور متكامل يوازن بين الجانب العسكري وقدرة القوات المسلحة على صد هجمات الطائرات المسيّرة التي باتت تهديدًا جديدًا وفعالًا، وبين العمل المتزامن على إصلاح الأضرار التي لحقت بالمواقع الحيوية مثل المحطات الكهربائية ومصادر المياه، والتي كان لها أثر مباشر وسلبي على حياة السودانيين.

ويبقى السؤال الرئيس مفتوحًا: هل يتمكن الجيش من حسم المعركة عسكريًّا، أم ستنجح الضغوط الخارجية في فرض سيناريو تسوية يضمن بقاء عناصر الدعم السريع في المشهد من جديد؟!

ومع تداخل الأبعاد الإقليمية، يبرز تساؤل لا يقل أهمية: متى يمكن أن تنتهي هذه الحرب؟ ولماذا اندلعت أصلًا؟
هل هي مجرد نتيجة لصراع داخلي فقط، أم أنها امتداد لصراعات أوسع ترتبط بحروب المياه والموانئ ومشاريع النفوذ الإماراتي العابر للحدود؟

إنّ ما يجري في السودان لا يمكن فصله عن مشاريع النفوذ لدولة الإمارات، والتي تسعى إلى بسط نفوذها على الموانئ الإقليمية، وفي مفاصل القرن الإفريقي عبر أدوات شتى، تبدأ بتوظيف المال وتنتهي بإشعال الحروب بالوكالة، فما لا يحققه المال من اختراق ناعم، تتولّاه الحروب بالوكالة التي تعيد رسم الخرائط وتُغير موازين القوى.

كما يطرح الصمت المصري تساؤلًا استراتيجيًّا لا بد من التوقف عنده: أين تقف القاهرة من هذه الحرب التي لا تصبُّ في مصلحتها، بل تمسُّ أمنها القومي في الصميم؟! فاستمرار الحرب في السودان يفتح المجال أمام قوى إقليمية أخرى لتوسيع نفوذها في خاصرة مصر الجنوبية.

إن هذه الحرب، تمثل في منظورها الاستراتيجي الكلي، أكثر من مجرد نزاع داخلي أو تصارع على السلطة؛ إنها معركة تقع داخل مفصل حساس من مفاصل العالم العربي والإسلامي، وعقدة مركزية من عقده الجيوسياسية الممتدة من وادي النيل إلى سواحل البحر الأحمر، ومن قلب الخرطوم إلى موانئ القرن الإفريقي.

زر الذهاب إلى الأعلى