
المقدمة:
في ظلّ الظروف الكارثية التي يعيشها قطاع غزة اليوم، وما خلّفته حرب الإبادة من دمار شامل في البنية التحتية والخدمات العامة والنسيج الاجتماعي، تبرز الحاجة الملحّة إلى إعادة تفعيل دور المجتمع الأهلي باعتباره ركيزة أساسية في صمود المجتمع الفلسطيني وإعادة بناء قدراته الذاتية.
وانطلاقًا من هذا الوعي، عقد مركز رؤيا للدراسات حلقةً نقاشية بعنوان:
“دور المجتمع الأهلي العاجل في غزة في اليوم الحالي“
استضافت نخبة من العلماء والمفكرين والدعاة والفاعلين، لمقاربة هذا التحدي المركَّب من زواياه المتعددة، واستشراف آليات عملية لمواجهة تداعيات المرحلة الراهنة.
لقد جاء الباعث على عقد هذه الحلقة من السؤال الجوهري حول ما الذي يمكن فعله في اليوم الحالي، وفي ظلّ الهدنة المؤقتة، لترسيخ واقعٍ وطني في غزة، واقعٍ يكون فلسطينيًّا في جوهره وبنائه، ينطلق من القواعد المجتمعية ومن العمل الأهلي والخدمي، ليشكّل نموذجًا للحكم الذاتي القائم على المبادرة والمسؤولية الشعبية؛ إذ يدرك المشاركون أنَّ مرحلة ما بعد الحرب تمثّل لحظة تاريخية فارقة، تتنازع فيها المشاريع والرؤى الإقليمية والدولية حول مستقبل القطاع، في ظلّ محاولات فرض وصايةٍ أمريكية أو دوليةٍ على غزة، تسعى إلى إعادة تشكيل بنيتها السياسية والإدارية بمعزلٍ عن الإرادة الفلسطينية الحرة المستقلة.
ومن هنا، ركّزت الحلقة على أنّ السبيل الأجدى لمواجهة هذه المخططات هو التحرك الشعبي المنظّم والمؤسسي، وتثبيت حضور المجتمع الأهلي كفاعل أصيل في إدارة شؤون الحياة اليومية، بدءًا من الخدمات الصحية والتعليمية والبلدية، مرورًا بإغاثة المنكوبين ورعاية الأسر المتضررة، وصولًا إلى بناء منظومات إعلامية ومدنية تحفظ الهوية وتؤسس لواقعٍ فلسطيني عصيٍّ على التجاوز أو الإقصاء.
وقد تناولت الحلقة النقاشية عددًا من المحاور الجوهرية، من أبرزها:
- الخدمات الملحّة لشعب غزة في مجالات الصحة والبلديات والتعليم.
- خدمات الإغاثة الأهلية.
- سبل تفعيل دور الإعلام المحلي الوطني وتحديد أولوياته.
- ترميم البنية السكنية بعد حرب الإبادة.
- رعاية اليتامى والأرامل من ضحايا الحرب.
- إضافة إلى المبادرات الشعبية العربية الهادفة إلى جمع التبرعات لإعادة الإعمار.
وفيما يلي عرضٌ لأبرز محاور النقاش التي تناولتها الحلقة، مع تحليلٍ لأهم الأفكار والتوصيات التي خلص إليها المشاركون في ضوء الواقع الميداني الراهن، واستشرافًا لما يمكن أن يشكّل أساسًا عمليًّا لبناء واقعٍ شعبي جديد في غزة خلال هذه المرحلة الانتقالية الحسّاسة.
أولًا: الواقع الميداني والإنساني بعد توقيع اتفاق وقف إطلاق النار:
أكد المشاركون في الحلقة النقاشية أنّ المرحلة الراهنة في غزة تمثّل لحظة استثنائية في تاريخ الشعب الفلسطيني الحديث، إذ أعقبت حربًا توصف بأنها الأشدّ فتكًا ووحشية منذ نكبة عام 1948، سواء في حجم الدمار أو في طبيعة الاستهداف الممنهج للبشر والحجر، وللبنية المدنية والاجتماعية في القطاع.
وقد اتفق الحضور على أنّ ما شهده القطاع لم يكن مجرّد عدوان عسكري تقليدي، بل كان حرب إبادةٍ شاملة استهدفت مقوّمات الحياة نفسها، من المستشفيات والمراكز الصحية والمدارس، إلى شبكات المياه والكهرباء والبلديات، بل وحتى الأطر الإدارية والقطاعات المدنية، في محاولةٍ لطمس الوجود الفلسطيني المؤسسي والسكاني في غزة.
وفي سياق النقاش، أكّد الحضور أنّ المقاومة الفلسطينية قد أدّت واجبها الأخلاقي والتاريخي على نحوٍ مشرف، وأظهرت كفاءة عالية في التنظيم والإعداد والاستعداد الميداني، حيث تمكّنت من الصمود أمام آلة الحرب المتفوقة رغم الفارق الهائل في الإمكانات، غير أنّ المشاركين شدّدوا في الوقت ذاته على أنّ العمل المقاوم لا يمكن فصله عن الإسناد الشعبي والمدني والفكري، وأنّ المرحلة القادمة تفرض الانتقال من مجرد الدعم إلى المشاركة الفاعلة في بناء مقوّمات الصمود المجتمعي، عبر تفعيل طاقات الأمة المختلفة في مجالات الإغاثة، والإعمار، والخدمات، والتربية، والإعلام، والعمل الأهلي.
وأشار النقاش إلى أنّ الجانب الإنساني في غزة لم يكن مهيًّا لمواجهة هذا النوع من العدوان غير المسبوق، فبينما أظهرت المقاومة استعدادًا عسكريًّا وتنظيميًّا جيدًا، إلا أنّ الواقع المدني والإنساني كان هشًّا وغير مؤهَّل لاستيعاب حجم الدمار الهائل والخسائر البشرية والمادية التي لحقت بالسكان، فقد انهارت البنية التحتية للخدمات الأساسية بشكل شبه كامل، وتفكَّكت شبكات الدعم الاجتماعي والمؤسسات الأهلية التي كانت تشكّل خطَّ الدفاع المدني الأول في الأزمات السابقة.
ومن هنا، دعا الحاضرون إلى تحويل هذه الهدنة المؤقتة إلى فرصة لإعادة تنظيم الصفوف داخليًّا، ليس فقط على المستوى العسكري أو السياسي، بل في البنية الاجتماعية والإنسانية والإدارية، عبر النهوض بالعمل الأهلي المستقلِّ، وإعادة بناء شبكات التكافل والخدمات التي تمكّن المجتمع من الصمود طويلًا دون الارتهان لأي وصاية خارجية.
فالمطلوب اليوم – كما خلصت المناقشة – هو بناء واقع فلسطيني متماسك، ينبع من داخل غزة، ويؤسّس لمرحلة جديدة من الاعتماد على الذات، والمشاركة الجماهيرية، والتكامل بين الفعل المقاوم والعمل المدني الأهلي.
ثانيًا: التوزيع الديمغرافي والحالة الإنسانية في قطاع غزة بعد توقف الحرب:
شكّلت الحرب الأخيرة على قطاع غزة كارثة إنسانية ومجتمعية غير مسبوقة في التاريخ الفلسطيني الحديث، إذ غيّرت بصورة جذرية الخريطة الديمغرافية للقطاع، وأفرغت مساحاتٍ واسعة من سكانها بفعل النزوح القسري المتكرر والقصف المكثّف الذي طال معظم مناطق القطاع من شماله إلى جنوبه.
فبحسب ما عرض في الحلقة النقاشية، يُعد مخيم النصيرات اليوم أحد أكبر مراكز التجمع البشري للنازحين من محافظتي شمال غزة وغزة، حيث لجأت إليه عشرات الآلاف من الأُسر بعد تدمير منازلها، ما حوّله إلى منطقة مكتظة تفوق قدرتها الاستيعابية بأضعاف، وتفتقر إلى الحد الأدنى من الخدمات الصحية والمياه والصرف الصحي، أما منطقة المواصي الواقعة غربي خان يونس، فقد أصبحت الخزان البشري الأكبر للنازحين من محافظتي خان يونس ورفح، اللتين تُعدّان اليوم مناطق محتلة بالكامل تحت السيطرة الإسرائيلية المباشرة، وهو ما فاقم من المعاناة الإنسانية فيها، وحوّلها إلى فضاءات عشوائية للإيواء المؤقت، بلا بنية تحتية ولا خدمات عامة.
وأشار المشاركون إلى أنّ محور نتساريم الذي أنشأه الاحتلال الإسرائيلي في عمق القطاع مثّل فاصلًا ميدانيًّا يقسم غزة إلى شطرين شمالي وجنوبي، ويجعل التنقُّل بينهما محفوفًا بالمخاطر وخاضعًا للسيطرة العسكرية الإسرائيلية المباشرة.
ووفقًا للمعطيات التي استُعرضت في الحلقة، فإنّه حتى بعد توقيع اتفاق وقف إطلاق النار، لا يزال أكثر من 50% من مساحة قطاع غزة تحت الاحتلال الفعلي، في حين تعرّض نحو 90% من السكان للنزوح القسري المتكرر، بعضهم نزح ما بين 10 إلى 20 مرة خلال الحرب بحثًا عن ملاذ آمن، وهو ما جعل الاستقرار السكاني شبه مستحيل وأدَّى إلى حالة من الإنهاك الجماعي والاضطراب الاجتماعي.
أما على صعيد الخسائر البشرية، فقد أظهرت الإحصاءات الرسمية أنّ عدد الشهداء تجاوز 69 ألف شهيد، فيما بلغ عدد الجرحى أكثر من 170 ألفًا، وتُعدّ هذه الأرقام مؤشّرًا على حجم الفاجعة غير المسبوقة، كما بلغ عدد الأيتام أكثر من 56 ألف يتيم، بينهم آلاف الأطفال من فئة “الناجي الوحيد” الذين فقدوا جميع أفراد أسرهم، في مشهدٍ يلخّص المأساة الإنسانية التي تعيشها غزة.
أمّا النازحون داخليًّا فقد تجاوز عددهم مليوني غزي، يعيش معظمهم في ظروف مأساوية تفتقر إلى الأمن الغذائي والمياه الصالحة للشرب والرعاية الصحية الأساسية.
وعلى المستوى الاجتماعي والخدماتي، كشفت التقارير التي نوقشت في الحلقة أنّ نحو 740 ألف طالب وطالبة توقّفوا عن التعليم كليًّا نتيجة تدمير المدارس أو تحويلها إلى مراكز إيواء، ما يعني انهيار المنظومة التعليمية في القطاع.
كما سُجّل تدمير كلي لما يقارب 25 من المستشفيات الكبرى الأساسية والمنشآت الصحية، فضلًا عن تدمير مئات المساجد بشكلٍ كامل، ووقوع دمار شامل في أكثر من 5 ملايين وحدة سكنية بين تدمير كلي وجزئي، الأمر الذي يجعل من عملية الإعمار تحديًّا يتجاوز الإمكانات المحلية والشعبية في المدى المنظور.
وبحسب البيانات التي جرى عرضها خلال الحلقة النقاشية، فإنّ العدوان الأخير دمّر 116 بئرًا مائيًّا من أصل 260 بئرًا تعمل في القطاع، أي ما يقارب نصف مصادر المياه الجوفية المستخدمة لتزويد السكان بالمياه، وقد انعكس ذلك بشكل مباشر على نسبة توافر المياه الصالحة للشرب والاستخدام المنزلي، حيث انخفضت حصة الفرد اليومية من المياه من نحو 84.6 لترًا قبل الحرب إلى أقل من النصف بعدها، وهو انخفاضٌ حادّ لا يمكن تعويضه في المدى القريب في ظلّ غياب البدائل التشغيلية وضعف إمكانيات الإصلاح الميداني.
كما أدّى تدمير محطات التحلية الرئيسة والصهاريج الكبيرة إلى نقصٍ حادٍّ في مياه الشرب في معظم مناطق القطاع، خصوصًا في الوسط والجنوب حيث يتركّز مئات الآلاف من النازحين.
وقد تسبّب هذا النقص في انتشار واسع للأمراض الجلدية والمعوية الناتجة عن استخدام مياه ملوّثة أو غير معالجة، إضافة إلى تفاقم مشكلات الصرف الصحي وانسداد شبكاته بسبب القصف المتكرر، وانعدام الوقود اللازم لتشغيل محطات الضخ والمعالجة، وقد أشار الخبراء في الجلسة إلى أنّ قطاع المياه والصرف الصحي يحتاج إلى تدخلٍ عاجل يقوم على إدراكٍ شامل لطبيعة الأزمة ومعالجتها بمنهج تكاملي، لا يعتمد فقط على الإغاثة الطارئة بل على إعادة بناء المنظومة المائية من جذورها فبدون معالجة هذا الملف جذريًّا، ستظلّ جهود الإيواء والإغاثة والإعمار مهددة بالانهيار أمام تكرار الأوبئة وشحّ الموارد الأساسية.
هذه الأرقام الصادمة – كما شدّد الحضور – كما تعد مأساة إنسانية، تستدعي السعي لإعادة تشكيل البنية السكانية والمكانية لغزة، وفرض واقعٍ جديدٍ لا يُضعف النسيج المجتمعي الفلسطيني أو يُهيّئ الأرض لمشاريع السيطرة والوصاية الدولية.
ومن هنا، أكّد المشاركون أنّ التعامل مع الكارثة يجب أن يكون شاملًا، يتجاوز منطق الإغاثة الآنية نحو بناء منظومات حماية مجتمعية وتنظيم العمل الأهلي بشكل مؤسسي واستراتيجي ومدروس، بما يحفظ بقاء الإنسان الفلسطيني في أرضه ويمنع تفريغ القطاع من سكّانه.
ثالثًا: الاحتياجات العاجلة بعد الحرب وآفاق الاستدامة الاجتماعية:
يُعدّ الإيواء اليوم أحد أعظم التحديات الإنسانية في قطاع غزة بعد توقف الحرب وبدء سريان اتفاق وقف إطلاق النار، فخلال فترة العدوان، كانت الحاجة الأولى للناس هي مجرد البقاء على قيد الحياة، والبحث عن فتات لقمة العيش التي تُمكّنهم من الحياة والنجاة في ظل انقطاع الموارد، وانعدام الأمن الغذائي والمائي، ودمار المرافق الأساسية.
أما الآن، وبعد أن هدأت نسبيًّا أصوات القصف، فقد برزت أولوية جديدة لا تقلّ خطورة، تتمثّل في تأمين المأوى الكريم للنازحين، خصوصًا مع اقتراب فصل الشتاء وما يحمله من مخاطر البرد والأمراض وانتشار الأوبئة في بيئةٍ مكتظةٍ ومتهالكةٍ صحيًّا.
وقد أشار المشاركون في الحلقة النقاشية إلى أنّ الاحتياجات الإيوائية لا تقتصر على بناء الملاجئ أو الخيام المؤقتة، بل تتطلّب خطة ترميم وإعمار إنساني عاجلة تستند إلى رؤيةٍ مستدامة في العمل الأهلي والخيري، بما يضمن توفير المأوى والغذاء والكساء للملايين من النازحين والمتضررين، ويعيد إليهم الحدَّ الأدنى من الحياة الكريمة.
ومع اتساع رقعة الدمار، أصبحت الحاجة إلى أغطية، وألبسة شتوية، ومستلزمات النوم والنظافة مطلبًا إنسانيًّا ملحًّا لا يحتمل التأجيل، في ظلّ أوضاعٍ معيشيةٍ قاسية يعيشها الأطفال والنساء والحوامل، ومع وجود نقصٍ حاد في المياه الصالحة للشرب والغذاء والرعاية الصحية.
وفي هذا السياق، أكّد الحاضرون ضرورة أن يتجه التفكير الجمعي إلى إنشاء مشاريع مستدامة تُسهم في توفير الإغاثة على المدى الأطول، وليس فقط عبر المساعدات اللحظية، وقد قُسّمت هذه الرؤية إلى قسمين رئيسيين:
1– مشروعات الوقفيات:
يقوم هذا القسم على إحياء فكرة الوقف الخيري الأهلي، بحيث تُنشأ مشاريع ذات عائد مستمر يعود ريعه على المحتاجين، ويسهم في توفير خدمات دائمة للمجتمع المحلي. ومن أبرز هذه المشاريع المقترحة:
- إنشاء مطابخ خيرية مركزية تعمل على إعداد وجبات يومية للأسر النازحة، ويمكن أن تُدار بشكلٍ تكافلي من قبل الجمعيات المحلية.
- حفر آبار مياه لتأمين مصادر مياه شربٍ آمنة في المناطق المكتظة، خاصة في النصيرات والمواصي والمناطق الوسطى.
- بناء مصليات ومساجد صغيرة تُستخدم في الأوقات العادية للصلاة والتعليم الديني، وتتحوّل عند الحاجة إلى مراكز إيواءٍ طارئة للنازحين خلال الأزمات.
2- الكفالات الدورية اليومية والشهرية:
أما القسم الثاني فيرتكز على نظام الكفالات المستمرة، الذي يُمكّن الأفراد والمؤسسات من تبنّي قطاعاتٍ محددة أو فئاتٍ بعينها من المحتاجين بصورةٍ دورية. وتشمل هذه الكفالات:
- كفالة قطاعات خدمية كالصحة أو التعليم أو السكن أو الغذاء.
- كفالة فئات اجتماعية ضعيفة، مثل الأرامل، واليتامى، والمرضى، والعمال العاطلين.
ويُقترح أن تُنظَّم هذه الكفالات من خلال مؤسساتٍ أهليةٍ فلسطينية معترف بها، لضمان الشفافية والاستدامة والتوزيع العادل.
كما شدّد النقاش على أهمية الحملات الشعبية العربية والإسلامية لدعم غزة، ولو بمبالغ رمزية من الأحياء والمدن في مختلف الدول العربية والإسلامية، إلى جانب دور الجاليات الفلسطينية والعربية في الخارج التي يمكنها إطلاق مبادرات مستمرة لجمع التبرعات وتوجيهها بطرق آمنة إلى داخل القطاع.
وردًّا على الحملات الإعلامية التي تبثّها أبواق الاحتلال لتثبيط الناس والتشكيك في وصول المساعدات، أكّد المشاركون أنّ المال يدخل إلى غزة فعليًّا بعدّة طرق مشروعة وفعّالة، منها:
- التحويلات المالية الخارجية المباشرة عبر قنوات موثوقة.
- حسابات تجارية خارجية لتجارٍ من غزة يقومون باستلام الأموال بها وتحويلها إلى بضائعٍ تُوزَّع داخل القطاع.
- المحافظ الرقمية التي تُستخدم بالتنسيق مع تجار الداخل لتأمين المشتريات والاحتياجات الأساسية.
وأشار المتحدثون إلى أنّ كل جهد، مهما كان صغيرًا، يعدُّ اليوم ذا قيمة كبرى في ظلّ أوضاع الجوع والبرد وانعدام الخدمات، خصوصًا بين الأطفال والحوامل والمرضى الذين يواجهون مأساةً إنسانية حقيقية بسبب الانهيار الكامل في البنية الصحية والمائية والغذائية، لأنّ الداخل الغزّي اليوم يتلقّى أقل بكثير من احتياجاته الأساسية، ما يجعل استمرار تدفّق الدعم الشعبي والمدني ضرورةً وجودية، لا مجرد مبادرة إنسانية.
رابعًا: إستراتيجية الإعمار على مستويات مؤسسية وشعبية:
خلال الحلقة النقاشية تبلورت رؤيةٍ إستراتيجيةٍ للإعمار تتجاوز معالجة الأضرار الطارئة إلى بناء قاعدة إنتاجية وخدمية قادرة على دعم صمود المجتمع الفلسطيني في غزة، مع إيلاء أهمية خاصة لعنصرَي التحوّل المستدام والاستقلالية المؤسسية لتقليل فرص الوصاية والتوظيف الخارجي للمرحلة الانتقالية.
وقد طرح الحضور سلسلة من الأفكار والمبادرات التي تشكّل معًا خريطة طريق أولية يمكن البناء عليها خلال فترة الهدنة، ويمكن إجمال محاور هذه الرؤية كما يلي:
- الاستفادة من مخلفات الدمار وإعادة التدوير:
- ينبغي اعتبار مخلفات الهدم موردًا خامًا يمكن استثماره في مشاريع إعادة البناء الجزئي والبنى التحتية الثانوية (رصف طرق محلية، قواعد أساس لمساكن مؤقتة، مواد بناء أولية)، بما يسهم في تسريع جهود الإعمار.
- وقف الأمة لغزة:
- اقتُرحت مؤسسة وقفية جامعة تُدار من شخصيات وازنة مرموقة (علماء، وجهاء، قيادات أهلية) تُعنى هذه المؤسسة بجمع موارد مستدامة لتمويل مشاريع صحية وتعليمية وسكنية في غزة، على أن يجري تفعيلها كهيئة مستقلة تتمتع بالشرعية على مستوى الأمة والمرجعية العامة.
- تكون للوقف صلاحية إنشاء مشاريع اجتماعية (مطابخ، آبار، معامل إعادة تدوير) يوظف ريعه في دعم البرامج الاجتماعية الدائمة.
- تعزيز القدرات الطبية المحلية ومشروع “1000 طبيب”:
- اعتماد مشروع تدريبي مكثف لتأهيل كوادر طبية محلية قادرين على التعامل مع الأمراض المتكررة والإصابات الطارئة، على غرار نماذج تدريب مبتكرة (مشار إليها بتجارب شبيهة مثل مبادرات “الطبيب الحافي” الصيني)، مع منهجية تجمع بين التدريب النظري والممارسة الميدانية.
- تفعيل مشروع استضافة وإدخال كفاءات طبية من الخارج خلال فترة الهدنة (مبادرة “1000 طبيب”) لتخفيف عبء النقل خارجيًّا، ولتقديم خدمات متخصصة مؤقتة، على أن يجري التنسيق عبر جهات أهلية ومعترف بها لتسهيل الدخول والإقامة والعمل، بما يضمن الكفاءة واستمرارية الخدمة بأعلى المعايير الطبية.
- شبكات التعليم عن بُعد والاعتراف الأكاديمي:
- إنشاء شبكة تعليمية مترابطة؛ (مدارس وجامعات إلكترونية) بدعم من جامعات ومؤسسات تعليمية صديقة — وأشارت المناقشة إلى الاستفادة من تجارب دول مثل جنوب أفريقيا في التعليم عن بُعد — لضمان استمرار التعليم المدرسي والعالي، مع السعي نحو اعتراف بالشهادات عبر شراكات أكاديمية دولية وإقليمية.
- تجهيز مراكز تعليمية محلية كمحطات وصول للطلاب وتدريب معلمين محليين على أدوات التعليم الرقمي.
- المشاريع الإنتاجية الزراعية والحيوانية:
- التخطيط لمشاريع إنتاجية؛ (زراعية، دواجن، مزارع صغيرة) كجزء من مرحلة ما بعد الاستقرار الأمني؛ تُنفَّذ تدريجيًّا بعد استقرار وقف إطلاق النار، مع التركيز على أنظمة إنتاج صغيرة-متوسطة قابلة لإدارة المجتمع المحلي وتوفير مورد غذائي محلي تعزز الاكتفاء الذاتي، وتوفر فرص عمل، وتدعم صمود المجتمع واستقلاله الاقتصادي المستدام.
- إرشادات تخص التصميم العمراني: البناء الأفقي الجزئي:
- طُرح فكرة تشجيع نمط بناء أفقي (بنايات منخفضة الارتفاع) أو مخططات سكنية تمتد أفقيًّا في مناطق إعادة الإعمار، باعتبارها أقل عرضة لارتكاز أضرار كارثية في حال الاستهداف المباشر، ويمكن تطبيقها جزئيًّا في مناطق معينة ضمن خطط الإسكان الطارئ والمعيشي.
- مشروع المؤاخاة أسريًّا وشعبيًّا:
- تفعيل مشاريع ومبادرات تُقرن بين أسرة/عائلة في بلد خارجي وأسرة في غزة (كفالة مباشرة)، ليس عبر مؤسسات ضخمة بالضرورة بل عبر مبادرات فردية ومنظمات محلية، لتأمين دخل شهري واستمرارية دعم إنساني واجتماعي مباشر.
- دعم عشائري ومنظومات تضامنية عابرة للحدود:
- تنظيم مؤتمرات وفعاليات تضامنية لعشائر عربية ولجاليات من الدول الصديقة لدعم عشائر غزة ماديًّا ومعنويًّا، وتشجيع “التنافس الإيجابي” بين العشائر والجاليات لجمع تبرعات وتمويل مشاريع ميدانية نافعة.
9.الجانب الإعلامي: التوثيق الرقمي والحملات الجديدة:
- التأكيد على أهمية التوثيق المستمر والدائم لجرائم الاحتلال وكشف أبعاد الإبادة الجماعية، عبر منصات إعلامية احترافية جديدة تدعم وتكمّل جهد قنواتٍ موجودة (مثل قناة الأقصى وغيرها)، بما يضمن حفظ الذاكرة النضالية وتعزيز الوعي العالمي بعدالة القضية الفلسطينية فمن الضروري استثمار الزخم العالمي المتعاطف مع غزة في هذا التوقيت لبناء روايةٍ فلسطينيةٍ موحَّدة تُبرز معاناة المدنيين كجزءٍ من قضية التحرر.
- الاستثمار في منصات رقمية جديدة ووسائط اجتماعية مضادة للرواية المعادية، وتدريب كوادر إعلامية أهلية على التحقيق الصحفي والتوثيق وإدارة حملات تضامن دولية.
- وينبغي أن تركز الجهود الإعلامية على توفير المعلومات الدقيقة عن الخدمات المحلية في غزة، مع الحفاظ على الربط المستمر بين غزة و(فلسطين) كوحدةٍ واحدة، وعدم السماح بعزل القطاع عن الضفة الغربية وباقي الأرض الفلسطينية.
الخاتمة:
من المرجّح – كما أجمع المشاركون في الحلقة النقاشية – أن إسرائيل لن تلتزم طويلًا باتفاق وقف إطلاق النار، وأنها ستسعى بطرق مختلفة إلى تجاوزه أو تفريغه من مضمونه عبر استمرار الاعتداءات الجزئية، أو التحكم بالمعابر، أو عرقلة إدخال المساعدات والإعمار، أو فرض ترتيبات سياسية وأمنية جديدة تُمكّنها من الإشراف غير المباشر على قطاع غزة تحت ذرائع “الإدارة المدنية” أو “الرقابة الإنسانية”.
ولهذا، فإن المسارعة إلى ترسيخ واقع فلسطيني جديد داخل غزة أصبح ضرورةً سياسية عاجلة لا تحتمل التأجيل، بحيث يكون هذا الواقع راسخًا ومتجذرًا وذا طبيعة أهلية ومجتمعية يصعب تجاوزها أو الالتفاف عليها في أيّ ترتيباتٍ إقليمية أو دولية قادمة.
إن النقاشات التي جرت في حلقة مركز رؤيا للدراسات كشفت عن وعيٍ عميقٍ لدى المشاركين بأهمية التحرك من الداخل الفلسطيني، لا انتظار الحلول من الخارج.
فغزة اليوم، رغم الدمار الهائل الذي طالها، تمتلك عناصر قوة كامنة في شعبها، ومجتمعها الأهلي، وشبكاتها التضامنية، وقدرتها على التنظيم الذاتي، ومن هنا برزت الدعوة إلى تحويل الهدنة الحالية إلى فرصة لإعادة بناء الذات الفلسطينية، وإطلاق عملية نهوض مجتمعي شاملة تُعزز مناعة المجتمع وتُرسخ بنيته المؤسسية.
لقد أبرزت الحلقة أن الواقع الإنساني في غزة بلغ مستويات مأساوية على الصعد كافة: من تدمير البنية التحتية، والنزوح المتكرر، وانهيار النظام الصحي والتعليمي، وأزمة المياه والصرف الصحي، وفقدان مئات الآلاف لمساكنهم وأرزاقهم.
ومع ذلك، فإن الروح الشعبية المقاومة والإرادة الجمعية لم تُكسر، بل تجلت في المبادرات التطوعية، وفي العمل الأهلي الذي بدأ يتشكل رغم القصف والنزوح، لذلك يجب العمل على تعزيز وعي الناس بضرورة أن تكون غزة فلسطينية القرار، مستقلة التوجه، ومحمية من أي وصايةٍ خارجية.
وعلى المستوى الإستراتيجي، خلص النقاش إلى أن الإعمار يجب ألا يُختزل في إعادة بناء الوحدات العمرانية بل في دعم بناء الإنسان الغزاوي القادر على البقاء، فالمطلوب هو مشروع متكامل يتضمن:
- الاستفادة من مخلفات الدمار وإعادة تدويرها بما يحوّل الألم إلى أداة إنتاج.
- تأسيس وقفيات شاملة تتولى تمويل المشاريع الخدمية المستدامة.
- إطلاق مشروع “1000 طبيب” لتقوية القطاع الصحي المحلي.
- تفعيل التعليم عن بعد عبر شبكة أكاديمية داعمة لغزة.
- دعم العشائر والروابط الاجتماعية لتثبيت النسيج الأهلي.
- تشجيع البناء الأفقي الآمن والمشاريع الزراعية الإنتاجية.
- تفعيل الإعلام الوطني لفضح جرائم الاحتلال وتوثيقها دوليًّا.
وأكّد المشاركون أن كل هذه الخطط لا يمكن أن تُنفَّذ بفاعلية ما لم تُدَر من داخل غزة، وبعقول وأيدي فلسطينية مستقلة، فالمجتمع الأهلي، بقدر ما هو أداة إغاثة، هو أيضًا ركيزة سياسية لبناء واقعٍ يصعب تجاوزه، وهو الحصن الأخير -بعد الله عزَّ وجلَّ- في مواجهة مشاريع الوصاية التي تعمل الولايات المتحدة وإسرائيل على تسويقها تحت شعارات “إعادة الإعمار” أو “المرحلة الانتقالية”.
إن المرحلة الراهنة هي لحظة اختبار: إما أن تُستغل الهدنة لتثبيت دعائم مشروع شعبي أهلي متماسك، أو أن تُترك الساحة لتُدار من الخارج بما يخدم مصالح المحتل!
ومن هنا تأتي أهمية المبادرات التي طرحتها الحلقة — من الإيواء والمياه والصحة والتعليم والإعمار المستدام إلى العمل الإعلامي والتوثيق — بوصفها منطلقات عملية لبناء واقع جديد يصعب كسره أو تجاوزه سياسيًّا أو ميدانيًّا.
وفي الختام، شدَّد الحضور على أن غزة ليست فقط ساحة صراع، بل ساحة وعيٍ وبناءٍ وتجديدٍ للهوية الفلسطينية، وأنّ تمسّكها بذاتها وفاعليتها المجتمعية هو الضمانة الوحيدة لأن تبقى حرة القرار، عصيّة على الهيمنة، وأنّ بناء هذا الواقع الجديد هو ما سيجعل غزة قادرة على الحياة، وقادرة على الدفاع عن نفسها، وقادرة على تمثيل إرادة الأمة بأكملها في وجه العدوان والتطهير والإبادة.
{وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 21]
وصلى الله وسلم وبارك على المبعوث رحمة للعالمين، إمام الأولين والآخرين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

