إقليميتقدير موقف

المصالحة الفلسطينية.. محاولة لفهم المجريات

“التوقيع في مقر الجامعة العربية بالقاهرة الأربعاء على اتفاق المصالحة الفلسطينية بين حركتي فتح وحماس، بحضور عباس ومشعل، مؤذنًا بانتهاء أربع سنوات من القطيعة السياسية”.

ليس هذا خبرًا عن المصالحة الأخيرة بين فتح وحماس؛ بل هو خبر قد نشر في مايو ٢٠١١، وحينها قال عباس في خطابه: إن “صفحة الانقسام السوداء طويت إلى الأبد”. أما خالد مشعل فقد أكد أن حماس “مستعدة لدفع كل ثمن من أجل إتمام المصالحة وتحويل النصوص إلى واقع على الأرض”.

“وقد عمت أجواء الفرحة كافة الأراضي الفلسطينية في غزة والضفة الغربية”[1].

نفس ما يجري الآن، ولكن حينها سرعان ما خوت الجعبة من أي اتفاق وأي مصالحة، فقد ظهر الخلاف بين الفصيلين حول عدة مسائل، منها على سبيل المثال الخلاف حول رئاسة سلام فياض للحكومة لكونه -وفق حماس- صاحب دور في ملاحقتها بالضفة والتنسيق مع إسرائيل، في حين رأى الرئيس الفلسطيني مصعدًا لهجته نحو حماس أن فياض هو أفضل شخص لتولي هذا المنصب، ورفضت حركة حماس أن يكون عباس هو المسؤول وحده عن تشكيل الحكومة، في حين أكد عباس أن من حقه اختيار رئيس الحكومة[2]، وبدأ سيل الاتهامات المتبادلة ينهمر بين الطرفين بأنه السبب وراء فشل المصالحة، فهل يتكرر ذلك مرة أخرى؟ وما الجديد؟

الجديد هذه المرة أن المصالحة قد بدت إقليمية الجوهر رغم محليتها الظاهرية؛ في ظل انفتاح حماس على مصر وزياراتها المتكررة لها في الآونة الأخيرة، وقدوم وفد استخباراتي مصري إلى غزة برئاسة رئيس المخابرات العامة خالد فوزي، محمًّلا بتسجيل مرئي للسيسي يبارك فيه المصالحة ويؤكد على دور مصر في القضية الفلسطينية ودوره خاصة بهذا الصدد، إضافة إلى تأكيده على دور “العرب” في الحل مع عدم قبول أي قوى خارجية[3]، في إشارة إلى عدم القبول بأي دور تركي أو إيراني بعد الآن واستبدال الدور المصري الإماراتي – عن طريق محمد دحلان – به. كلمة السيسي قد قدّم لها فوزي بنصيحة المجتمعين بالاستفادة من السيسي والتعاون معه، وأن من الأهمية مساعدته ليصل إلى أهدافه[4].

وظهرت جدية النظام المصري أيضًا في إنجاز المصالحة عند عقد لقاءين لرئيس المكتب السياسي لحماس إسماعيل هنية، مع شخصيتين من أركان الإعلام التابع للنظام المصري، وهما عمرو أديب ولميس الحديدي، وقد صرح الإعلامي الأول سابقًا أن حماس وفتح كلاهما “كفرة”، وكان قد شنّ الإعلام المصري كله تقريبًا حملة ضارية على حماس وقطاع غزة في وقت متزامن، في ذاك الوقت برز الإعلاميون المؤيدون للنظام على مدار شهور رامين حركة حماس بالإرهاب والخيانة وتخريب مصر وقتل جنود الجيش المصري بسيناء واقتحام السجون إبان أحداث يناير[5] وغير ذلك[6].

وكان قد شهد عهد مرسي ازدهارًا في العلاقة بين مصر وحماس، وقد انعكس ذلك على الحركة على عدة مستويات.

ولكن لم يدم هذا الازدهار لأكثر من عام؛ حيث سرعان ما حدث الانقلاب العسكري في مصر في يوليو ٢٠١٣، وساد التوتر كعنوان للعلاقة بين حماس والنظام المصري، باعتبارها تابعة للإخوان المسلمين عدو النظام المصري الأول في ذلك الحين، ساعد على زيادة التوتر إلى أوجه أن تلك الفترة لم تشهد أي قبول أو منفذ لأي تسويات، نتيجة الاستقطاب الحاد السائد آنذاك.

بعد شهور من الانقلاب العسكري ونجاحه في تحجيم جماعة الإخوان المسلمين بشكل كبير، بدأ يتجه نحو حماس؛ فأصدرت محكمة مصرية حكمًا في مارس 2014 يحظر أنشطة حركة حماس في مصر، ويقضي بالتحفظ على جميع مقراتها[7].

وفي يناير ٢٠١٥ قضت محكمة القاهرة للأمور المستعجلة بحظر كتائب القسام، الجناح العسكري لحركة حماس، وإدراجها كمنظمة إرهابية. كما اعتبر الحكم القضائي كل من ينتمي إلى كتائب القسام عنصرًا إرهابيًّا. ورفضت حماس قرار المحكمة المصرية واعتبرته قرارًا مُسيسًا وخطيرًا ولا يخدم إلا الاحتلال الإسرائيلي[8].

وصعدّت من نبرتها فقطعت حماس بأن الحُكم انقلاب على المقاومة الفلسطينية، وطالبت بالعمل على فضح هذا التزوير الذي تمارسه محاكم النظام المصري، واعتبرت القرار هروبًا كبيرًا لجأت إليها الأوساط السياسية في مصر بعيدًا عن أزماتها الداخلية [9].

ثم قضت أيضًا محكمة الأمور المستعجلة في القاهرة يوم 28 فبراير 2015 بتصنيف الحركة بأنها منظمةً إرهابيةَ، واعتبرت حماس هذا عارًا كبيرًا يلوث سمعة مصر، وأنها محاولة يائسة لتصدير أزماتها الداخلية، وأن مصر لم تعد راعيًا نزيهًا لأي ملف من ملفات الشعب الفلسطيني، وخاصة ملف المصالحة[10].

لكن بعد أشهر قليلة وتحديدًا في يونيو من نفس العام، جاء حكم محكمة استئناف القاهرة في ضوء الطعن المقدم من هيئة قضايا الدولة بإلغاء حكم باعتبار حماس تنظيما إرهابيًّا.

ورحبت حماس بالحكم الجديد واعتبرته تصحيحًا للخطأ السابق، وأنه يمثل تأكيدًا على تمسك القاهرة بدورها القومي تجاه القضية الفلسطينية، وأنه سيكون للحكم تداعياته وآثاره الإيجابية على صعيد العلاقة بين حماس والقاهرة[11].

ومنذ ذلك الحين بدأت حماس تطلق في عدة مناسبات تصريحات من شأنها أن تستميل النظام المصري بالثناء على دوره في القضية الفلسطينية، ورفضها لأي مشروع على حساب الأراضي المصرية، وغير ذلك، الأمر الذي أدى إلى انفراجة في مارس ٢٠١٦ بزيارة وفد من حماس إلى القاهرة برئاسة محمود الزهار، واستغرقت الزيارة عدة أيام، قابل فيها مدير المخابرات المصرية[12].

ثم انهمر سيل اللقاءات في مصر مع المخابرات المصرية منذ ذلك الحين.

وفي نهايات العام المنصرم وبدايات العام الحالي، قدمت مصر تسهيلات فيما يتعلق بحركة مواطني القطاع في أراضيها، عبر فتح معبر رفح، والسماح لأول مرة منذ زمن بعيد بنقل البضائع من خلال الأخير، في إطار تفاهمات تعمل من خلالها حماس على منع تهريب الأموال والسلاح لتنظيم ولاية سيناء. وكان هذا مقابل توتر آخر مستمر في العلاقات بين القاهرة وسلطة عباس على خلفية دعم السيسي لدحلان[13].

وأصدرت الحركة وثيقتها الجديدة في مايو من العام الجاري، والتي لم تذكر فيها أنها تابعة لجماعة الإخوان المسلمين كما كان موجودًا في ميثاقها القديم[14].

مسلسل التركيع وفك الخناق

تعرضت حماس في الآونة الأخيرة إلى خطة تركيعية على عدة أصعدة، فالحركة التي تدير قطاع غزة منذ عقد من الزمان تقريبًا، في ظل ثلاث حروب شنها الاحتلال، وحصار خانق من الجانبين الإسرائيلي والمصري على حد سواء،

تعرضت حماس في الآونة الأخيرة إلى خطة تركيعية على عدة أصعدة

وضغط من سلطة محمود عباس خاصة في الشهور الأخيرة عندما أصدر قرارات ضد مواطني القطاع في إطار خطته لتركيع حماس، فقلّت رواتب الموظفين، وتقلصت الكهرباء إلى ساعتين فقط يوميًّا، وتمت إحالة آلاف من موظفي القطاع إلى التقاعد المبكر، حدث هذا جنبًا إلى جنب مع إغلاق معبر رفح المتكرر، مع مثيلاتها من الضغوط، مما أدى إلى تزايد حنق شعب غزة.

وأيضًا كانت قطر داعمًا رئيسيًّا لحماس، ولا شك أن الدوحة قد تأثرت بشكل كبير بأزمتها الأخيرة مع السعودية والإمارات والبحرين إضافة إلى مصر، تأثرًا جعلها تنشغل بشؤونها وتنسحب من عدة ملفات خارجية، كان منها بصورة كبيرة ملف حماس، وزاد من ابتعاد الدوحة عن الملف في غزة ظهور الإمارات كلاعب جديد في القطاع، بعد انقطاع دام سنوات منذ سيطرة حركة حماس عليه، فخصصت الإمارات 150 مليون دولار لإقامة محطة لتوليد الطاقة في القطاع[15]، و15 مليون دولار كل شهر، حيث تسعى للحصول على المزيد من النفوذ لمحمد دحلان المقيم في أراضيها، بحسب مراقبين[16].

وقد شكلت في وقت سابق إعادة العلاقات التركية الإسرائيلية أيضًا تقليلًا للدور التركي في دعم حماس بصورة مادية، خاصة مع تزايد الضغوط الدولية على أنقرة. يوضع هذا في الإطار العام الذي تمر به المنطقة من تمدد للأنظمة الطاردة لحركة التغيير، وانحسار للأنظمة الداعمة لها في المقابل، إضافة إلى اعتبار حماس إرهابية من مصر سابقًا قبل التفاهمات، مع تصريح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب خلال خطابه أمام القمة العربية الإسلامية الأميركية في الرياض، أن “تنظيم الدولة” و”القاعدة” و”حزب الله” اللبناني و”حماس”: “تمثل أشكالًا مختلفة من الإرهاب”[17].

تلك الظروف الصعبة جعلت الحركة تعاني من شبح انهيار، قد يهدد وجودها من الأساس، أو انحسار عن المشهد وعزلة تضاف إلى عزلتها التي تلت ثورات الربيع العربي عما يُعرف بـ”محور الممانعة” ، مما جعلها تسعى للخروج من ذلك الخناق بأي ثمن.

لقد اختارت حماس أن تقفز إلى الوراء، وبالتحديد إلى مربع الحركة وليس القطاع، فوضعت حماس المحافظة على كيان حركتها هدفًا أساسيًّا وخطًّا أحمر ما سواه هي خطوط خضراء، حتى لو كان سواه هو فك الارتباط الصوري بالإخوان المسلمين، أو إدارة قطاع غزة، أو التصالح مع محمد دحلان عدوها اللدود، أو الانفتاح بالشكل المطلوب على الحلف المصري/الخليجي، وخاصة الإمارات، بينما تقبع السعودية خلف المشهد تراقب ما تؤول إليه الأحداث، إضافة إلى التعاون والتنسيق الأمني بصورة أوسع مع النظام المصري.

فهل اتخذت حماس من “الغاية تبرر الوسيلة” قاعدة انطلاق لها؟ لقد أظهرت برجماتية ومرونة غير عادية لإخراج الحركة من أتون المخطط الذي بدا أنه يراد لها في ظل انهيار داعميها واحدًا تلو الآخر، اللهم إلا إعادة باهتة للعلاقة مع إيران لا ترقى بعد للاعتماد بصورة أساسية عليها.

فيبدو أن الحركة تسعى الآن إلى البقاء كحركة سياسية ذات ذراع عسكري، تؤثر بثقلها في الواقع الفلسطيني ولا تكون رقمًا سهلًا

فيبدو أن الحركة تسعى الآن إلى البقاء كحركة سياسية ذات ذراع عسكري، تؤثر بثقلها في الواقع الفلسطيني ولا تكون رقمًا سهلًا، دون كلفة الإدارة المرهقة للقطاع والتي يستخدمها خصومها في الضغط عليها، فكان الحل في التخلي عن إدارة القطاع، مما يوفر جهود الحركة أكثر لتطوير نفسها من شتى الجوانب.

في مايو الماضي أصدرت حماس وثيقة قررت فيها أن إقامة دولة مستقلة على حدود الـ 67 “صيغة توافقيّة وطنيّة مشتركة”، وقد دعا مشعل، في مقابلة مع قناة “سي إن أن” الإدارة الأميركيّة إلى تلقّف هذه الوثيقة والتعامل معها بإيجابيّة. تلقفت الوثيقة مراكز الدّراسات الأميركيّة والإسرائيليّة، وصنفتها في إطار “الخطاب المعتدل الذي يعطي انطباعًا خاطئا”، فاعتبر ماثيو ليفيت وماكسين ريتش من مركز واشنطن لدراسات الشرق الأدنى أنّ حماس، بعقيدتها وقادتها، لا تشير إلى تغيير في الخطاب، بل يجب الحكم عليها من خلال سلوكها، أما مركز بيغن السّادات، فاعتبر بمقال للبروفيسور إيرن ليرمن أنّ وثيقة حماس الجديدة قديمة، ولا “تستبدل” الوثائق القديمة بل “تكملها”. ولم يصدر أي تصريح عربي أو دولي حول هذه الوثيقة، خلا الرئيس التركي الذي اعتبر أنها تؤسس للوحدة الفلسطينية، لكن فتحت الوثيقة الباب على مصراعيه للضغط على حماس من بعض الأنظمة العربية للقبول بحلول ومشاريع لحل القضيّة الفلسطينيّة[18].

 

أوراق حماس

*استخدمت حماس كل ما في جعبتها من أوراق لتضغط بها على جميع الأطراف الممكنة؛ فمدت حماس حبال العلاقة مع دحلان في مفاجأة كبيرة، فمدير الأمن الوقائي والقيادي السابق بفتح في مرتبة تناهز مرتبة الشيطان عند حماس وقاعدتها الشعبية، ولكن كانت هذه العلاقة مع الرجل المستقر في الإمارات إعلانًا باستعداد حماس الدخول في العباءة الخليجية بعيدًا عن قطر المشغولة بنفسها نتيجة الحصار، وفي نفس الوقت شكل الانفتاح على دحلان ضغطًا على أبي مازن الذي يتخذ من دحلان عدوًا أزليًّا.

وقد شكلت المصالحة المجتمعية بين حماس وفتح نقطة مركزية في تفاهمات حماس مع دحلان برعاية مصر في يونيو ٢٠١٧، والتي تضمّنت بندًا واضحًا محددًا، يدعو إلى التعويض ودفع الدية لمن تضرر أو قُتل أو أصيب في الاشتباكات المسلحة بين فتح وحماس عام 2007، يتكفّل دحلان بجلب الدعم المادي لهذا الملف[19].

*بعد ورقة دحلان انتقلت حماس إلى ورقة إحداث الفراغ الأمني والسياسي في القطاع؛ فتسربت أخبار أن القسام قدّمت للقيادة السياسية بحماس خطة تتضمن إحداث فراغ سياسي وأمني بغزة، وبذلك ترسل حماس رسائل واضحة “أن قطاع غزة قد يصبح بلا عنوان في حال نفذ القسام خطته في إحداث فراغ أمني وسياسي، ومن المعلوم أن حماس تحافظ على التهدئة مع إسرائيل من خلال عدم السماح لأي جهة بإطلاق صواريخ على إسرائيل في سياق التهدئة… وإسرائيل تريد في نهاية الأمر مرجعية في قطاع غزة تضبط الأمن… من بين الرسائل الموجهة من وراء التسريبات هي رسالة لجمهورية مصر العربية، الجارة الحدودية لقطاع غزة، مفادها: أنه في حال إحداث فراغ أمنى وسياسي في قطاع غزة، ستكون المتضرر الأكبر؛ إذ سيصبح قطاع غزة مأوى للمتشددين الذين يهاجمون الجيش المصري، وعندها لن يكون هناك من يحمي الخاصرة الشمالية لمصر، في ظل عدم وجود عنوان واضح في قطاع غزة لضبط الأمن”[20].

“كذلك حمل التسريب رسالة واضحة لقيادة السلطة الفلسطينية… مفادها بأن الحركة لن تتردد في تعويم الواقع السياسي في قطاع غزة بشكل لا يسمح بتحقيق رهانات رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس على العقوبات التي يفرضها. إلى جانب ذلك، يدل التسريب بشكل واضح على عدم ثقة “حماس” بإمكانية تحقيق الرهانات على التفاهمات التي توصلت إليها مع القيادي المفصول من حركة “فتح” محمد دحلان. فهناك خشية أن تتم مقايضة رفع الحصار ومشاريع إعادة الإعمار التي يعد بها دحلان، والتي يفترض أن يمولها المحور الإقليمي المرتبط به، بتعهّد الحركة بالتخلي عن سلاحها. وبالفعل، طالبت أوساط تقدير استراتيجي في تل أبيب بأن تشترط الدول الخليجية الداعمة لدحلان، لا سيما الإمارات، تمويلها مشاريع إعادة الإعمار بالتزام “حماس” بوقف أنشطتها الهادفة لتعزيز قوتها العسكرية”[21].

* الورقة التالية كانت الورقة الإيرانية التي راهنت بها حماس لإحداث ضغط ثلاثي على إسرائيل ومصر والخليج، فبعد توتر في العلاقة الحمساوية الإيرانية وفتور استمر قرابة أربع سنوات، قام وفد من حماس برئاسة عزت الرشق بزيارة طهران، وصرح بأن حركته “تجاوزت مرحلة الفتور في العلاقة مع إيران، وهي تزداد تطورًا ورسوخًا، وأصبحت اليوم في أحسن أحوالها، وهذه الزيارة هي رسالة وتأكيد على ذلك”[22].

ولكن النظام المصري من المؤكد أنه يفهم ذلك جيدًا وهو يبدو مطمئنًا في النهاية وغير معترض على انفتاح حماس على إيران ظاهريًّا، لأن “إيران بعيدة والقاهرة جارة، هذه الحقيقة بالنسبة للقاهرة هي الخلاصة… ومصر تتحكم في عبور الحدود، والسيسي معه المفتاح، لو يريد يستطيع أن يفتح أنبوب الأكسجين، ولو يريد أن يغلقه لاستطاع ذلك”[23].

* في سبتمبر الماضي، سافر هنية للقاء أمير قطر والرئيس التركي[24]، وكأن الحركة ترسل رسالة بأنها منفتحة على الجميع لتظل محتفظة بورقة الانفتاح على خصوم الحلف المصري الخليجي، وليس معنى انفتاحها الأخير على مصر أنها تخلت عن البلاد الداعمة لها، ويحتمل أيضًا أن تكون الجولة التركية الإيرانية القطرية للحركة في إطار التوضيح الدبلوماسي لداعميها القدماء فلسفة انفتاحها على المحور المصري/الخليجي، وتأكيدًا على عدم استغنائها عنهم.

*لجأت حماس إلى إحراج عباس فأقدمت على إعلان مبادرة في ٣ أغسطس الماضي ترتكز على إلغاء إجراءات الحكومة الفلسطينية العقوبات المفروضة مقابل إلغاء اللجنة التي شكلتها حماس لإدارة القطاع، الأمر الذي ردت عليه السلطة بالرفض وضرورة حل اللجنة الإدارية التي شكلتها حماس.

فتفاجأ الجميع باستجابة حماس في سبتمبر لمطلب عباس وأعلنت حل اللجنة الإدارية في قطاع غزة ودعوة حكومة الوفاق للقدوم إلى قطاع غزة لممارسة مهامها، والموافقة على الانتخابات المبكرة[25]، فبات عباس في موقف لا يحسد عليه، وأصبحت الكرة في ملعبه، وكانت هذه في الحقيقة هي الفرصة الوحيدة لعباس، والحل الأقرب لرجوعه إلى المشهد ليدفع بدحلان ما استطاع خارجه، وأيضًا ضمان عدم استئثار حماس بالانفتاح المصري الخليجي، خاصة بعد أن أصبح يعاني من التجاهل من جميع الأطراف تقريبًا.

قراءة موقف النظام المصري/الخليجي

* لا نستطيع قراءة الموقف المصري في إطار استقلال إرادته السياسية تحت إدارة النظام الحالي، ولكن أيضًا لا نستبعد المصالح المصرية من وراء المصالحة كعامل غير أساسي في الدعم المصري القوي لإمضائها؛ فيمكننا وضع المصالحة الفلسطينية في مربع أضلاعه هي: الإدارة الأمريكية وإسرائيل وضلعا الحلف المصري الخليجي.

فلا غنى لإسرائيل عن دور مصر في الوساطة بينها وبين حماس، فلم يكن من المتوقع أن تستمر مصر طويلًا في ذلك الموقف الراديكالي تجاه حركة حماس، فهناك ملفات تريد إسرائيل إنجازها، كملف الأسرى الإسرائيليين على سبيل المثال، وقد سبق واستجاب شكري لطلب نتنياهو بمساعدة مصر لإعادة الجنود الإسرائيليين المأسورين على يد حركة حماس في غزة[26]، وكان هذا في وقت لم تكن التوترات المصرية الحمساوية قد زالت كلية بعد، مما عني حينها ضرورة فتح خط بين القاهرة وحماس لإنجاز مثل هذه الملفات، وبالطبع سيكون هذا الخط تحت العنوان العريض: المصالحة بين فتح وحماس، ولن يكون دومًا تحت تصنيف الوساطة بين حماس وإسرائيل.

ومن المتوقع أن تضغط مصر أكثر في الأيام القادمة على حماس للتوصل إلى صفقة مع إسرائيل بخصوص الأسرى، مقابل تخفيف الحصار عن القطاع[27].

أما السياسية الأميركية، فهي تعمل على تسكين الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، وتحاول في الوقت ذاته، رفع مستوى التعاون العربي- الإسرائيلي، أو ترويج فكرة هذا التعاون وتقديمه باعتباره حلًا إقليميًا.

ويأتي هذا منسجمًا مع فلسفة إدارة الصراع من الجانب المحتل الإسرائيلي؛ حيث دائمًا يسعى إلى احتوائه وتطويل أمده مع منعه من الانفجار ودون التوصل إلى حل. وقد نجحت السياسية الإسرائيلية في تجميد العملية السياسية، ومحاصرة القيادة الفلسطينية، وقطع الطريق على أي ضغوط توجه ضدها للانسحاب من الأراضي التي احتلها العام 1967[28].

خاصة مع إدراك دوائر غربية أن الكثير من الفلسطينيين يرى أن المقاومة المسلحة هي الأسلوب الأكثر فعالية لتعزيز الروح الوطنية الفلسطينية، وتضاؤل الإيمان بالمؤسسات الفلسطينية[29].

ومن السيناريوهات المتوقعة أن انضمام حماس للحلف المصري الخليجي قد يكون مرادًا لوقت مرحلي لتفكيك علاقة حماس بما تبقى من محور الممانعة، ثم التخلي عن حماس مستقبلًا لتصير في العراء

ومن السيناريوهات المتوقعة أن انضمام حماس للحلف المصري الخليجي قد يكون مرادًا لوقت مرحلي لتفكيك علاقة حماس بما تبقى من محور الممانعة، ثم التخلي عن حماس مستقبلًا لتصير في العراء، وكسب المزيد من الوقت أيضًا لإدخال الفلسطينيين في دوامة المصالحة وتحدياتها، والعلاقات الجديدة وتجنب ما يفسدها من أفعال المقاومة التي بالطبع لن تكون عنوان المرحلة.

فالانضمام الحمساوي إلى الحلف المصري الخليجي قد يكون في حقيقته دخولًا في التطبيع العربي الإسرائيلي الجديد، ويجر الحركة إلى الدوران في فلك التنسيق الأمني برغم رفضها الدائم له، ولكن انضمامها للحلف قد يدفعها دفعًا إلى ذلك، وبالتالي تُحتوى الحركة تمهيدًا لابتلاعها تمامًا بعيدًا عن المقاومة المسلحة للاحتلال الإسرائيلي. فتتحول محاولة حماس لفك القبضة الخانقة حول عنقها إلى فخ عميق للقضاء عليها.

أما دوافع النظام المصري المباشرة لإنجاز المصالحة، فتتمثل في إضعاف الدور الحمساوي في قطاع غزة الحدودي، عن طريق إعادة سلطة عباس لتنازع الحركة في إدارة القطاع، مما يؤدي إلى توازن قوى يصب في صالح القاهرة، جنبًا إلى جنب مع إحكام القبضة الأمنية على خط إمدادي مهم لتنظيم ولاية سيناء، وهذا بالتنسيق الأمني مع حماس وعباس، إضافة إلى التقليل من النفوذ الإيراني/التركي/القطري في غزة عن طريق سحب حماس من ذلك المربع، إلى المربع المصري/الخليجي.

أيضا يحرص النظام المصري أن يظهر في صورة اللاعب الإقليمي المهم، الذي ما يزال في قدرته الاستمرار في إدارة الملفات الأساسية في الشرق الأوسط، خاصة في ظل تقلص الدور المصري منذ بداية الانقلاب العسكري في يوليو ٢٠١٣.

فمن الممكن أن نقول إن الصفقة القريبة هي تعاون حماس الأمني ضد ولاية سيناء، مقابل فتح معبر رفح وتوريد المواد الخام، وصفقة أسرى مع إسرائيل. وبالفعل في نهاية يونيو الماضي نقلت مصر نحو 2 مليون لتر سولار، فيما بدأت حماس بناء المنطقة العازلة لمنع التهريب ولتأمين الحدود.

ولكن السؤال المهم: هل ستنجح المصالحة أصلًا؟

بداية وعلى صعيد الفصائل الفلسطينية، بدا أن هناك إجماعًا على الدفع باتجاه المصالحة والترحيب بها[30]، ومن المقرر أن هناك اجتماعًا يضم كافة الفصائل الفلسطينية يعقد في القاهرة قريبًا، لتشكيل حكومة وحدة وطنية من شأنها التحضير لانتخابات رئاسية وتشريعية[31]، وبعد توقيع اتفاق المصالحة رسميًّا رحب ربه الرئيس الفلسطيني وحركة الجهاد الإسلامي[32].

“يتوقع معظم المحللين أن تفشل عملية المصالحة، كما حدث في المحاولات السابقة”[33].

فهناك عقبات ستظهر على المدى القريب ستشكل ألغامًا في طريق المصالحة، فحماس فيما يبدو لا ترى التخلي عن سلاحها حلًّا مطروحًا أصلًا، فاستغناؤها عن السلاح يعد إفناء سهلًا لها، مما سيجعل سلطة عباس تحتفظ بتلك الورقة دائمًا لتبرزها عند الحاجة إلى تفجير الموقف أو التفاوض.

الشيء الآخر هو الانتخابات، فإجراء الانتخابات يعني في الغالب فوز حركة حماس في كل من غزة والضفة الغربية، وهو الأمر الذي لن تسمح به أمريكا ولا إسرائيل.

الأمر الثالث هو الخلاف الاستراتيجي ما بين حماس وسلطة رام الله في مسألة المقاومة المسلحة، فالسلطة قد تخلت عن المقاومة تقريبًا وتلتزم بالتنسيق الأمني مع إسرائيل، فكيف سينسجم هذا مع حماس التي هي كما تعرف نفسها حركة مقاومة تسعى للتحرر الوطني، فمع كل عملية مسلحة لحماس ضد المحتل الإسرائيلي ستظهر المشاكل مع جانب عباس.

كذلك يشكل العداء التاريخي بين حماس وفتح إرثًا لا يُنسى، فأحداث عام ٢٠٠٧ والدم المتساقط بين الفريقين لن تُطوى صفحته بسهولة، خاصة في ظل الكراهية المتبادلة بين الحزبين على مستوى القيادات والقاعدة الشعبية لهما، ووجود عناصر أمنية من فتح في قطاع غزة الصغيرة مساحته، يُخشى أن يعني احتكاكات مع القسام في هذا الجو المشحون.

ومن المتوقع أيضًا أن يشكل الدعم الواصل إلى القطاع معضلة بين الجانبين؛ وقد ظهرت بوادر هذه الأزمة المستقبلية في حديث عزام الأحمد أنه لن يُسمَح لأي دولة بإيصال أي دعم للأراضي الفلسطينية إلا عن طريق السلطة[34].

وأخيرًا.. هل تلعب حماس بالنار؟

لا شك أن حماس بما اكتنف هذه المصالحة من ملابسات، تدخل مرحلة جديدة في تاريخها، مرحلة اللعب فيها يكون مع أطراف لا تتفق معها في هدف “الممانعة” أو “المقاومة”، مرحلة إذا استمرت محدداتها وفق المعطيات القائمة وتوازن القوى الحالي، ستشكل إضعافًا للحركة أكثر على الصعيد المقاوِم، فالحركة التي بدأت لا تعرف الحلول الوسط ولا ترى جدوى لأي تسوية، صارت الآن تعتبر حل الدولتين متفقًا عليه وطنيًّا، وأصبحت شاءت أم أبت متفاهمة مع أصدقاء مباشرين لإسرائيل، وكل ذلك تحت مانشيت السياسة والعمل الدبلوماسي.

أخطر ما في المصالحة أنها لم تنشأ عن إرادة فلسطينية صرفة، بل الآن يراد للفصيلين أن يتصالحا من أجل تسوية ما مرتبطة ولابد بالحل الإقليمي قربت أم بعدت، وتورط حماس في هذا الأمر وإن أرادت من ورائه تحقيق مصالحها القريبة، قد يكون شراكًا تنسجه لها إسرائيل بالتنسيق مع الأنظمة العربية المُطبعة معها، فخ سيزيد القضية الفلسطينية برودًا وجمودًا، بجر أشد الفصائل المقاومة شراسة إلى طوق التفاهمات والتطبيع.

فالحل الوحيد لإحياء القضية هو استمرار المقاومة، وهذا لا يمنع من إجراء المصالحة بالطبع، ولكن بدون أن يكتنفها ترتيب إقليمي وتصير الفصائل أدوات من حيث لا تدري لإنجاز المطلوب.

فالمعادلة في غاية الصعوبة في الحقيقة، فحماس مطلوب منها أن تحل أزمة القطاع وأزمتها ولكن في نفس الوقت هي كمن يسير على جسر تحته نار، والأيام القادمة ستوضح أكثر أبعاد ما يحاك للقضية الفلسطينية.



[1]بي بي سي، فتح وحماس توقعان اتفاق المصالحة في القاهرة، ٤-٥-٢٠١١م.

[2]الجزيرة، القاهرة تتحرك خشية فشل المصالحة، ٢٢-٦-٢٠١١..

[3]موقع يوتيوب، كلمة مسجلة للسيسي خلال اجتماع الحكومة الفلسطينية في غزة، ٣-١٠-٢٠١٧ .

[4]المصدر السابق.

[5]موقع يوتيوب، الإعلام المصري وحماس تغيير على هامش المصالحة، ٣-١٠-٢٠١٧ .

[6]موقع يوتيوب، حملات تحريض وتشف بالإعلام المصري ضد حماس وغزة، ١٤-٦-٢٠١٤ .

[7]الجزيرة، تصنيف القضاء المصري حركة حماس منظمة إرهابية، ٢٨-٢-٢٠١٥م.

[8]دويتشه فيله، محكمة مصرية تعتبر كتائب القسام جماعة إرهابية، ٣١-١-٢٠١٥م.

[9]بي بي سي، محكمة مصرية تقضي بتصنيف حماس منظمة إرهابية، ٢٨-٢-٢٠١٥م.

[10]الجزيرة، تصنيف القضاء المصري حركة حماس منظمة إرهابية، ٢٨-٢-٢٠١٥م.

[11]بي بي سي، محكمة مصرية تلغي حكمًا باعتبار حماس منظمة إرهابية، ٦-٦-٢٠١٥م.

[12]الرأي، وفد من حماس يزور القاهرة، نقلا عن رويترز، ١٣-٣-٢٠١٦ .

[13]التحرير نيوز، موقف حماس من داعش غير واضح رغم تقاربها مع مصر، نقلا عن موقع نيوز وان، ١-١-٢٠١٧ .

[14]موقع حماس، وثيقة المبادئ والسياسات العامة، ١-٥-٢٠١٧ .

[15]تسفي برئيل، هآرتس، محمد دحلان رئيسًا لحكومة وحدة في قطاع غزة بدون حماس وبدون عباس، ٢٨-٦-٢٠١٧.

[16] Middle East Eye: UAE pumps millions of aid into Gaza in bid to boost Dahlan,17-8-2017.

[17]الجزيرة، حماس ترفض اتهام ترمب لها بالإرهاب، ٢١-٥-٢٠١٧ .

[18]أحمد الصباهي، وثيقة حماس الحقيقة والصدى، العربي الجديد، ١٢-٥-٢٠١٧. بتصرف يسير.

[19]عدنان أبو عامر، المونيتور، حماس ودحلان يشرعان في تسوية قضايا الدم في غزة، ٧-٨-٢٠١٧.

[20]فلسطين اليوم، ماذا نفهم من خطة القسام إحداث فراغ أمني وسياسي في غزة، ١٠-٨-٢٠١٧ .

[21]صالح النعامي، قراءة بتلويح حماس بإحداث فراغ سلطوي في غزة، العربي الجديد، ١٤-٨-٢٠١٧ .

[22]الرسالة نت، الرشق: علاقتنا بطهران تزداد رسوخًا وهي في أحسن أحوالها، ١٠-٨-٢٠١٧.

[23] Shlomi Eldar, Al-Monitor, Hamas finds itself  at Egypt’s mercy, 12-9-2017 .

[24]المصدر السابق.

[25]موقع حماس، حماس تعلن حل اللجنة الإدارية في قطاع غزة، ١٧-٩-٢٠١٣.

[26] Al-Monitor, 28-7-2016. هل تنجح مصر في عقد صفقة تبادل جديدة بين حماس وإسرائيل؟

[27] Hamas finds itself  at Egypt’s mercy.

[28]جلال دويك ويحيى قاعود، التوجه الإسرائيلي نحو الحل الإقليمي، مسارات، ١٣-١١-٢٠١٧ .

[29]بيري كاماك، ناثان براون، مروان المعشر، كارنيجي، تجديد الهوية الوطنية الفلسطينية الخيارات مقابل الوقائع، ٢٨-٦-٢٠١٧.

[30]سما الإخبارية، الفصائل الفلسطينية ترحب باتفاق المصالحة بين فتح وحماس، ١٢-١٠-٢٠١٧.

[31]تي آر تي العربية، مسؤول فلسطيني كافة الفصائل تلتقي في القاهرة قريبًا، ٣٠-٩-٢٠١٧.

[32]الجزيرة، فتح وحماس توقعان اتفاق المصالحة وسط ترحيب فلسطيني، ١٢-١٠-٢٠١٧.

[33]   Jonathan Cook, Is Hamas Fatah rapprochement a win-win deal?, Al-Jazeera, 2-10-2017.

[34]قدس نت، الأحمد: لن يُسمح لأي دولة بإيصال أي دعم إلا عبر السلطة، ٩-١٠-٢٠١٧.

زر الذهاب إلى الأعلى