رؤية خلدونية لوباء الكورونا
في سياق حديثه عن وفور العمران في آخر الدولة وما يقع فيها من كثرة الموت والمجاعة، يشخص ابن خلدون علته وسببه بلغة مقاربة للغة العصر لدى المتخصصين، ولكنه يأخذ أبعاداً أوسع في الحديث عن عوامل ما أسماه خراب العمران البشري، إذ يستحضر أمامه مراكمات من النظر في أبعاد سياسية وتاريخية واجتماعية ونفسية واقتصادية وغيرها؛ ليدلل على صحة فرضيته، فيشير إلى أن الدولة في أول أمرها تتسم بشيء من الانبساط للرعية معاملة ومالاً، فينشط الناس للعمران وأسبابه، فيكون بحسب عبارته وفيراً، ويكثر معه التناسل، وفي انقضاء جيلين منها تشرف الدولة على نهاية عمرها الطبيعي على وفق رؤيته في أن أعمار الدول كأعمار الناس لها مبتداً ومنتهى،
ثم يبدأ العمران بالتناقص، وهنا يقف ابن خلدون وقفته التحليلية ببيان مرجع ذلك التناقص في العمران، فيقول –وهو مقصود مقالنا-: “ثم إن المجاعات والموتان تكثر عند ذلك –أي عند تناقص العمران وأواخر الدول- والسبب فيه .. وأما كثرة الموتان: فلها أسباب من كثرة المجاعات كما ذكرناه، أوكثرة الفتن لاختلال الدول فيكثر الهرج والقتل أو وقوع الوباء، وسببه في الغالب فساد الهواء بكثرة العمران لكثرة ما يخالطه من العفن والرطوبات الفاسدة. وإذا فسد الهواء وهو غذاء الروح الحيواني وملابسه دائماً، فيسري الفساد إلى مزاجه، فإن كان الفساد قوياً وقع المرض في الرئة. وهذه هو الطواعين وأمراضها مخصوصة بالرئة. وإن كان الفساد دون القوي والكثير فيكثر العفن ويتضاعف، فتكثر الحميات في الأمزجة وتمرض الأبدان وتهلك.
سبب كثرة العفن والرطوبات الفاسدة في هذا كله كثرة العمران ووفوره آخر الدولة .. ولهذا تبين في موضعه منم الحكمة أن تخلل الخلاء والقفر بين العمران ضروري؛ ليكون تموج الهواء يذهب بما يحصل في الهواء من الفساد والعفن بمخالطة الحيوانات ويأتي بالهواء الصحيح، ولهذا أيضاً أيضاً فإن الموتان يكون في المدن الموفورة العمران أكثر من غيرها بكثير، كمصر بالمشرق وفاس بالمغرب. والله يقدر ما يشاء” .
هذه القراءة العميقة من ابن خلدون في أدواء العمران البشري واختلالاته، ودراسة الواقع الإنساني بأبعاده التاريخية والمستقبلية يثبت لنا أهمية النظر فيما أسماه الدكتور حامد ربيع الساحة الحضارية التي تتسع للتاريخ والحاضر والمستقبل، ومن هنا فإن دراسة واقعنا بإيجابياته وسلبياته تبعث على البحث في أبعاده التاريخية ومساراته المستقبلية، وضرورة النظر في مقومات الحفاظ على البناء الاجتماعي الإنساني وإبعاده عن كل ما يشوه بنيته وصورته وعماده وهو الإنسان فرداً وجماعة، ولئن كنا لا نتفق مع ابن خلدون في حتمية الابتداء والانتهاء للدول على شاكلة الكائن الحي، فإن لرؤيته وجهاً صحيحاً من حيث التأكيد على عوامل وأسباب الخراب العمراني، باتباع أنماط معيشية واجتماعية تؤول بهذا الاجتماع إلى فساده وهلاكه على وفق ما وصف ابن خلدون رحمه الله تعالى.