العلاقات الدولية وفن البقاء على الجنس البشري في زمن الكورونا
كتب كارل دويتش في مقدمة كتابه (تحليل العلاقات الدولية) قائلاً: “تعد هذه المقدمة لدراسة العلاقات الدولية في العصر الحاضر بمثابة التقديم لفن وعلم بقاء الجنس البشري. فلو حدث أن تم القضاء على الحضارة والمدنية خلال الثلاثين عاماً القادمة، فلن يكون السبب هو المجاعة أو الوباء، ولكن سيعود ذلك إلى السياسة الخارجية والعلاقات الدولية. فنحن نستطيع أن نعالج الجوع والأوبئة، ولكننا لا نستطيع حتى الآن أن نعالج قوة أسلحتنا وسلوكنا كدول قومية”[1].
وبالرغم من قصر هذه الفقرة من حيث بنيتها اللفظية، إلا أنها تثير قضايا وأموراً في غاية الأهمية:
الأولى: أهمية النظر إلى بنية العلاقات الدولية في دائرة غائية مغايرة لما هو سائد في بعدها الواقعي الذي تغلب عليه علاقات القوة والمصلحة، وفي ظل انتشار وباء الكورونا في زمن قصير أضحى الهم الدولي الحفاظ على أرواح الناس، وهو الذي عبر عنه دويتش (فن وعلم بقاء الجنس البشري).
الثانية: أظهر الوباء أن دول العالم الكبرى عاجزة عن التصدي لهذا الوباء كلية، وجاءت تصريحات مسؤوليها في دائرة التقليل من آثاره، بالرغم من انطوائها على مختلف مظاهر القوة المسلحة بمختلف صورها ومظاهرها فضلاً عن مظاهر القوة الأخرى من حيث بناها الاقتصادية والصحية.. في غيرها، وهذا يثبت أن معايير القوة ليست مطلقة بل هي متغايرة ومتباينة، ومن الأهمية نظر الدول والمنظمات الدولية وغيرها في بناء سياسات تراعي الحفاظ على البنية البشرية والحيلولة دون انتشار الأوبئة فيها، ومنها السياسات الصحية، والسياسات البيئية، والسياسات الغذائية، وهي رؤى تتوافق مع المنظور الإسلامي الذي يرتبط بدرء المفاسد عن الإنسان وجلب المصالح له.
الثالثة: الإشارة الهامة التي وقف عندها دويتش من أن الدول، وخاصة الكبرى منها تسهم بشكل كبير في جعل الحضارة والمدنية في دائرة الهلاك والإهلاك، وأن القضاء عليهما لا يكون بسبب الوباء والمجاعة، وإنما بسبب سياسات القوة وسلوكيات الهيمنة، والواقع أن الوباء والمجاعة قد يوصلان الإنسان إلى دائرة الهلاك، ولكن تبقى للسياسات المنحرفة عن جادة الصواب أثرها في جذب وجلب المخاطر إلى البشرية.
الرابعة: من الضروري الإشارة إلى أن الظاهرة الدولية ذات طبيعة ديناميكية متغيرة ومتحركة لا توصف بالسكون، ومن جوانب الحركة فيها أن الفواعل فيها تتغاير بحسب العوامل والمتغيرات الدولية، ولعل وباء الكورونا يصلح أن يوصف بكونه متغيراً من المتغيرات المؤثرة والفاعلة في المسار الدولي، فقد انتهجت دول العالم نهج العزلة وغلق الحدود حفاظاً على مواطنيها من العدوى من جراء انتشار هذا الوباء، وهذا بلا شك ترك وسيترك أثره على العلاقات البينية من جهة، والعلاقات الدولية بشكلها العام، وقد أدركنا انعكاسات هذا الوباء على مختلف الجوانب في هذه العلاقات، على المستوى السياسي أغلقت الحدود، وعلى المستوى الرياضي ألغيت وأجلت كثير من البطولات والنشاطات، وعلى المستوى الاقتصادي انخفاض أسعار النفط، إلغاء مؤتمرات طبية وثقافية كثيرة وقس على هذا.
وعوداً على بدء، ينبغي التأكيد على ما ذكره دويتش من أهمية الحفاظ على الجنس البشري والإبقاء عليه، لكن ينبغي أن نؤكد نحن المسلمين على أهمية البعد المقاصدي الشرعي في النظر إلى العلاقات الدولية وتأسيسها على مقومات قيمية تأخذ باعتبارها أثر التوحيد العقدي على البشرية، والتزكية التي تراعي الأخلاق والعدل؛ لتخرج لنا إنسان التزكية المؤهل لوظيفة الاستخلاف، والعمران الذي يتغيا به الحفاظ على صلاح الأرض بما يبقيها في دائرة التسخير الإلهي للإنسان، فيعمرها ويبنيها بالأعمال الصالحة، والتأكيد على المقاصد الضرورية الخمس(الدين والنفس والنسل والعقل والمال) التي لو حافظت عليها البشرية لما أفضى بها الحال إلى ما تراه اليوم من انتشار هذا الوباء.
[1] كارل دويتش، تحليل العلاقات الدولية، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1983م، ص10.