من تجليات العطاء في أزمنة الوباء
لا خلاف في أن جائحة الكورونا تعد من أشد الأزمات التي تواجه البشرية اليوم، ولها انعكاساتها السلبية عليها بمختلف صورها ومظاهرها، ولكن هناك من الجوانب الإيجابية التي يلزم تلمسها في تدبر هذه الأزمة وقراءتها قراءة تفكر، ولو تأملناها على وجه التبصر، لأدركنا أنها عطاءات في صورة المنع، وما أكثر ما يقف الإنسان معترضاً أول الأمر على ما يصيبه، فإذا به بعد برهة من الزمن يدرك أن لطف الله قد نزل به وأحاطه من كل جانب، وعندها يعرف يقيناً أن تدبير الحق عز وجل خير من تدبيره لنفسه، فالله قد يمنع العبد ما يهوى ابتلاء؛ ليبلو صبره وثباته، فيلتفت إلى خاصته مهذباً لها، فكل ما يجري للعبد أصلح له عطاء كان أو منعاً، وفي هذا يُقرأ قوله تعالى: (قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون)[التوبة: آية 51]، ويُفهم قوله عليه الصلاة والسلام: “عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلى للمؤمن،إن أصابته سراء شكر، فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له”[رواه مسلم: ح 2999].
ولعل من تجليات العطاء التي نلمسها هذه الأيام:
أولاً: الانقطاع إلى الله في عزلة عن المخالطة بالناس دفعاً للعدوى، وفي هذا من العطاءات ما لا يحصى، ويكفيك أنك تتذكر أسوتك وقدوتك نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم في غار حراء معتكفاً الليالي ذوات العدد، ثم شرعت للناس عبادة الاعتكاف، وها أنت تلزم بيتك خوفاً على نفسك، فما أجلها من نعمة حين يخلو العبد بربه يناجيه ويتقرب إليه ويدعوه رغباً ورهباً.
ثانياً: التفات العبد إلى خاصة نفسه في بعض أوقات عزلته من شأنه جلاء ما أصاب القلب من أدران المخالطة والغوص في تفاصيل الحياة، يقول ابن الجوزي في خواطره: “وحببت إليَّ الخلوة، فكنت أجد قلباً طيباً، وكانت عين بصيرتي قوية الحدة، تتأسف على لحظة تمضي في غير طاعة، وتبادر الوقت في اغتنام الطاعات”.
ثالثاً: التفرغ للقرآن تلاوة وتدبراً، ومن الحرمان هجر القرآن، ولكن من عطايا المنع أن العبد يجد من التوفيق في زمن العزلة ما يجعله يحرص على تلاوة القرآن وسماعه وتدبره، بل وأكثر من ذلك يتدارسه مع أهله وأبنائه، ولله ما أفقه أسلافنا في مثل هذه المواقف، فيقول أبو هريرة: “عجبت لأقوام يدخلهم الله الجنة بالسلاسل”، ومن فوائد تلاوة القرآن في أوقات المحن أن العبد يقف على معانٍ ومقاصد من الآيات ما لا يتيسر له في أزمنة الرخاء.
رابعاً: التزود بالطاعات والقربات المستحبات، والتلبس بالعبادات من صوم وصلاة وصدقات، وقد كان من قبل لا يتسنى له ذلك في الغالب؛ لانشغاله في أمور المعاش وتدبير شؤون الأهل الذي يشغل في الغالب عن النوافل والمستحبات من العبادة، فهي فرصة تستدعي عزيمة من المرء في استثمار هذه الأوقات بكل ما هو نافع ومفيد بعيداً عن الملهيات.
خامساً: لزوم الرحال والمنازل والبيوت في ذاته نعمة لا تدانيها نعمة، إذ يتيسر للمرء من الأوقات التي يستطيع فيها تحقيق مقاصد وغايات كثيرة، منها قربه من أهله وأبنائه بما يتسنى له الوقوف على همومهم كلها، ومراجعة أحوالهم، والنظر في علاقتهم بالله وبأهلهم، وتدبير شؤونهم المادية والنفسية والتربوية، ولعل هذا الزمن الممتد يتسع لإقامة بعض البرامج التي يمكن الاستفادة منها في الاستزادة من العلم والثقافة والمعرفة، والنظر في مدى تحقق القيم والأخلاق في نفوس الأولاد، فيمكنه اختيار بعض الكتب والرسائل التي تعينه في تحقيق مقصوده، وفي مقدمتها كتاب الله تعالى، ثم سنة النبي صلى الله عليه وسلم يتخير منها كتاب رياض الصالحين للإمام النووي، وكذلك كتاباً في السيرة النبوية، وكتاباً في التزكية والأخلاق .. وهكذا.