وباء الكورونا ونهايات العلم
أثار انتشار الوباء وتفشيه على الشاكلة التي نعايشها اليوم في العالم جملة من التساؤلات والإشكاليات حول مستويات ما وصل إليه الإنسان في مراقي العلوم، وخاصة في شقها التطبيقي، ولو تأملنا بعض المقولات التي انتشرت في الفترة السابقة على الوباء؛ فإنها تعبر عن شيء من الغطرسة والكبر اللذين تلبس بهما الإنسان، إلى القدر الذي جعله يتفاخر بما حققه من إنجازات علمية متطورة.
والحق أنه لا يمكن إنكار شيء من هذه الإنجازات، فإنها دالة على قدرة الإنسان في اكتشاف السنن المادية التي تجعله يقف على أسرار الكون وخفاياه، وهذا القدر من الاكتشاف مأمور به الإنسان من حيث الأصل، وهذا الذي تعنيه مفاهيم السير في الأرض والمشي في مناكبها والتسخير في بعض تجلياتها.
ولكن المحظور والمحذور أن يوظف الإنسان اكتشافاته العلمية في حرف العلم عن غاياته ومقاصده، فيقدم تفسيرات وتأويلات عن الظواهر الكونية الخاضعة للدراسة العلمية بما لا يتوافق مع حقائقها وأسرارها، ولذلك قد يستغرب ويتعجب الإنسان العادي من شأن العالِم الذي تبحر في العلم حين يصل إلى درجة الإلحاد بما يجعله يصرح بأن الوجود ليس له خالق أو يقول إن مادة الوجود أزلية.
وها هو اليوم يقف مكتوف الأيدي في ظاهرة من أعقد الظواهر الكونية التي شهدتها البشرية، بحيث أعيته في الوصول إلى عقار طبي لهذا الفايروس يستطيع به دفعه ورفعه، ولئن كانت من رسالة يبعثها هذا الوباء إلى البشرية جمعاء وخاصة إلى أولئك المفتخرين بالعلم، فهي قوله تعالى: (وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً)[الإسراء: آية 85]، وقوله تعالى: (يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون)[الروم: آية 7].
إن الحقيقة التي يلزم الإنسان الوقوف عليها والسعي في إدراكها، أن مقدار ما حققه من إنجازات في مجالات العلم ما هي إلا معارف جزئية تقف عند حدود تفكيك بعض الظواهر العلمية والتعرف على عللها وأسبابها القريبة في إطار توصيفي تحليلي، أما ما يتعلق بالتنبؤ بمساراتها ومقاصدها، فإن معارفه لا تسعفه في الوصول إلى حقائقها، ولا زال كثير من الظواهر ليس في مقدرة الإنسان الوقوف عليها فضلاً عن الدخول إليها وتوصيفها وتفكيكها، وهو ما يعني التقرير الجازم بأن عالم الشهادة لم يستطع الإنسان حتى هذه اللحظة أن يكتشف كل أسراره بعلمه الذي تفاخر به.
إن من الدروس البليغة التي يقدمها هذا الوباء وينبغي استثمارها في التعاطي مع الظواهر الكونية هو أن يعرف الإنسان قدره ويدرك حقيقة وجوده، وأن يعترف بأن للوجود الإنساني غاية ومقصداً وجد من أجلها، وهي عبادة الله والاستخلاف في الأرض وعمرانها بما يعود على البشرية نفعاً وصلاحاً، وإنما يضمن له ذلك الخروجُ من إباقه عن خالقه والعودة إليه عبداً صالحاً اختياراً كما هو عبد لله اضطراراً.