المرحلة الزمنية التي نقف عندها في تناول ظاهرة الفشل السياسي في العراق تبدأ من لحظة فارقة في الحياة السياسية المعاصرة لهذا البلد، وهي لحظة الاحتلال الأمريكي وإسقاط النظام السياسي فيه عام 2003م، وبالرغم من كون المرحلة السابقة التي عايشها هذا البلد قبل الاحتلال عبارةً عن متوالية من الأزمات المستحكمة في بنيته ليس أقلها الاستبداد السياسي فضلاً عن حروب عبثية أفقدت البلاد مقوماتها البشرية والمادية وما أعقبها من حصار اقتصادي خانق عانى منه العراقيون بكل معانيه، إلا أنه مع ذلك احتفظ بقوامه في دائرة التماسك وإن كان هشاً إلى القدر الذي يصعب معه توصيفه بالفشل السياسي حسبما تثيره مؤشراته الواقعية التي أشرنا إليها من قبل.
فكثير من المؤسسات التي يقوم عليها النظام السياسي حافظت على مسارها النظمي والوظيفي وإن كانت محتفة بالبيروقراطية وسيادة العناصر البعثية التي كانت متحكمة في المشهد في جميع مظاهره ونشاطاته جعلت العراقيين في دائرة من الاختناق الذي غلب على الجو العام آنذاك، ومع هذا كانت هناك درجات دنيا من الضمان الاجتماعي والصحي والأمني أدرك العراقيون قيمتها بعد الاحتلال، وهذه حقيقة يلزم بيانها بالرغم من كون هذه المرحلة التي نصفها كانت مقدمات لما جرى بعد ذلك، والسؤال الأساس في هذا المقام هو: ما الذي حدث في العراق منذ احتلاله عام 2003 حتى اللحظة وجعله في متلازمة من الفشل السياسي؟
قد لا نحتاج أن نقف طويلاً عند التدليل على هذه المتلازمة بسرد تاريخي لما حدث في العراق في هذه المرحلة، بقدر حاجتنا إلى أمثلة ونماذج دالة وكاشفة لها فحسب لظهور الأمر وجلائه، ويكاد يجمع العراقيون إلا طائفةً من المنتفعين من النخب السياسية الحاكمة ومن يتبعهم على أن الذي أصاب العراق بعد عام 2003م هو بالفعل تدمير لمؤسسات الدولة وللبنى التحتية فيها بل للحمة الوطنية التي حافظ عليها المجتمع العراقي منذ تأسيسه لدولته المعاصرة حتى بداية الاحتلال الأمريكي، وتقريرنا لذلك في هذا السياق لا يعني البتة أن مرحلة ما قبل الاحتلال مرضي عنها لدى الباحث أو أنها تمثل نموذجاً مثالياً يستهدفه، بل الأمر متعلق بحسب الإمكان بنظرة متوازنة للأوضاع في سياق مقارن بينها وبين مرحلة ما بعد الاحتلال.
فالمشهد العراقي بعد سبعة عشر عاماً لم ينعم بما وُعد به على لسان بوش الابن بالأمن والحرية والرفاهية والديمقراطية، بل شهد تفكيكاً وتفتيتاً للحمته وطائفيةً بغيضة وزرعاً لروح الانتقام كانت نتيجتها مئات الآلاف من القتلى وأضعافهم من المهجرين في الداخل والخارج، لقد بات السواد الأعظم من العراقيين يرى أن النموذج العراقي الحالي الذي أهدته الولايات المتحدة وإيران للعراقيين ما هو إلا نموذج الخراب والدمار والفرقة والكراهية، وهو ما أورث البلاد فشلاً سياسياً استحكم في مفاصل الدولة بحيث عجزت الحكومات المتتابعة عن وضع الخطط والبرامج والاستراتيجيات التي يمكن من خلالها مواجهته فضلاً عن تجاوزه والقضاء عليه.
ولا ينبغي أن يغيب عن الذهن عند التعمق في تفاصيل الأحداث والوقائع التأكيدُ على أن ما أصاب العراق وأمثاله هو نهج متصف به المحتل لا ينفك عنه على مدار تاريخه الحديث، والتدليل عليه بالإضافة إلى واقعه من خلال شهوده هو وليس منا، فهذا نعوم تشومسكي يقف في قراءة تاريخية مع بشاعة الغرب، ففي أثناء تحليله لسياساته واستراتيجياته فيما أسماه (منطق علاقات الشمال والجنوب) في القرون الخمسة الأخيرة يورد جملة تقريرية مفتاحية مفهمة في عبارة موجزة جامعة، فيقول: “إنها معالم رئيسية للنظام العالمي الجديد، كما القديم. وهي مسجلة جيداً في السجل الداخلي، وتتضح بانتظام في الممارسة التاريخية، وباقية مع تغير الأحداث”[1].
ولكي تستمر هذه المعالم لهذا النظام في دائرة الفعل والاستمرار كان لا بد من أدوات وآليات تضمن ذلك، ويورد الباحث السياسي أحمد فهمي في كتابه (الحدائق الخلفية) خلال تعرضه لهذه الأدوات والآليات ما أسماه (خيوط الماريونت)، وهي الدمى المتحركة بواسطة الخيوط، وقد استحضرها في توصيفه لعالم السياسة الغربي وأشار إلى أن هذه الخيوط هي أهم مكونات اللعبة السياسية التي يديرها النظام العالمي، وبدونها يفقد السيطرة تماماً، ومدخله الذي يستطيع من خلاله خداع الشعوب هو (الديمقراطية وحقوق الإنسان) والنخب السياسية المختارة، والأخيرة هي المدار الذي يمكن للنظام العالمي تحقيق أهدافه وغاياته، ولذلك يشير فهمي إلى أن مشكلة النخب السياسية في كثير من جمهوريات الحدائق الخلفية ذات الديمقراطيات الزائفة، أنها لا تفرز إلا شخصيات قابلة للتحكم أساساً، وهذا يجعلها فريسة سهلة لمحركي الدمى، لذلك لا يحتاجون إلى بذل جهد كبير في تركيب خيوطهم داخل المؤسسة السياسية -إن كانت تستحق أن توصف بأنها مؤسسة-، بل إنه في أحيان كثيرة يسعى هؤلاء بأنفسهم بحثاً عمن يتحكم فيهم[2].
وعند تنزيل هذه القراءة في الواقع العراقي نجد أنه امتاز عن غيره بمعطى رئيسي، وهو وجود فاعِلَيْن متنافِسَيْن شهدت فاعليتهما مداً وجزراً وإن كانا في دائرة العداوة الظاهرة وهما الفاعل الأمريكي والفاعل الإيراني، وهذا التنافس وهذا الفعل في المشهد العراقي جعل دائرة الفشل السياسي في المنظومة السياسية واسعة بمختلف اتجاهاتها ومساراتها، وإن كانت الغلبة في الواقع السياسي للفاعل الإيراني بحسب ما يثيره هذا الواقع من قضايا ومواقف، وقد يكون هذا مرجعه الرضا والقناعة الأمريكيين بما وصل إليه المشهد العراقي، أو بمقتضى الاتفاق المبطن الدال على تحقق مصلحة البلدين في هذا الملف على وفق مجرياته على الأرض، ولذلك الوقوف على قسمات هذا الفشل المتغلغل في بنية الدولة ومفاصلها ومؤسساتها وأثر التدخل الخارجي في التسيير السياسي يعد مهماً للوصول لإثبات الحكم بالفشل وتجليته وفقاً لما يدل عليه واقعه، وهذا يقتضي بيانها في إطار المؤشرات الموضوعية التي أشير إليها في مقدمة هذه السلسلة.
أولاً: المؤشرات السياسية:
كثيرة هي المؤشرات السياسية الدالة على فشل النظام السياسي في العراق:
- وأخطرها إحلال منطق وعقلية المكونات بدلاً من منطق الوحدة الوطنية الذي كان يستشعره العراقيون حقيقة وفعلاً في المرحلة السابقة منذ تأسيس الدولة العراقية عام 1921م، وزاد خطورة ذلك بجعله في إطار دستوري حيث اعتمد دستور عام 2005م على هذا المنطق المكوناتي، فاختزل الدولة بمجموعة من الهويات المذهبية والقوميات والأقليات العرقية طبقاً للمادة الثالثة من الدستور، وعُمل على جعلها فاعلة في البنية السياسية من خلال نظام المحاصصة الطائفية في السلطات الثلاث، فأسهم ذلك في تكريس هذا النظام، ولم يكن هذا الدستور إلا غطاء قانونياً لنظام المحاصصة الذي أحدثه بول بريمر الحاكم المدني الأمريكي للعراق بعد الاحتلال حين وضع المحتل ما يسمى بمجلس الحكم.
لقد كان نظام المحاصصة الطائفية والحزبية سبباً رئيساً في إضعاف مؤسسات الدولة بجعل الوظائف فيها على أساس طائفي بعيداً عن معيار الأفضلية في شغل هذه الوظائف، وقد أشار البعض صراحة إلى أن المحاصصة شجعت الأحزاب على استغلال تخصيصات موازنة الدولة ليغرق الكثيرون في الفساد من خلال تصرفات لجان المشتريات ولجان التعاقد في العقود الخارجية والداخلية، إضافة إلى طابع التخادم الحزبي لبعض المؤسسات مما جعلها في منأى عن الرقابة؛ لتتفاقهم بها حالات فساد جعلت البرلمان العراق الأسوأ عبر التاريخ، وكان لهذا أثره في توسيع الفجوة بين المؤسسة السياسية وفئات المجتمع[3]، وقد انتهى بها الأمر إلى أزمة كبيرة في ميزانية الدولة لعدم قدرتها تأمين الاحتياجات المعيشية للمواطن العراقي.
- الفشل في إرساء دولة المؤسسات: فلم يستطع النظام السياسي بعد الاحتلال في بناء دولة مؤسسات قوية ومستقرة، وفي هذا مؤشرات مرتبطة بعدم قدرته في التوزيع العادل للثروة والموارد، والفشل في حفظ حقوق الإنسان وتكريس الديمقراطية، والعجز في تحقيق التداول السلمي للسلطة، واستحكام الطائفية الدينية والسياسية تمثلت في هيمنة الأحزاب الشيعية فعلياً على السلطات الثلاث، فعكس ذلك خللاً بنيوياً أسس للفوضى السياسية، وعسكرة المجتمع وجعله في دائرة مستديمة من الخوف وفقدان الأمن، وكان مآل ذلك كله تجذر الطائفية السياسية والتهميش والإقصاء وتمحور الصراع في النظام السياسي حول مواقع المسؤولية في البلاد، ليس لأجل الإصلاح وإنما للهيمنة والاستحواذ وتعميق الشروخ الطائفية والجهوية، ودخل العراق بالفعل نفق الصراع على مراكز النفوذ والسلطة والمال بدلاً من الشراكة السياسية[4].
- ملف حقوق الإنسان يشكل على مدار السنوات السبع عشرة منذ الاحتلال الأمريكي ووريثه الإيراني السوأة التي تصم النخبة السياسية الحاكمة في العراق وأذرعها المليشياوية بما لا يمكنها الفكاك منه، ولا نذهب بعيداً في التعميم دون أن تكون هناك مقاربات مرتبطة ببينات أو على الأقل ما يقاربها من مؤشرات، وقد أشار تقرير نشره موقع العربي الجديد قبل ثلاث سنوات إلى بيانات مخفية سربت من قبل مسؤولين حكوميين لفريقه الإعلامي العامل في العراق، ومما جاء في هذه البيانات مما له تعلق بحقوق الإنسان ما يأتي[5]:
عدد القتلى ما بين 2003 – 2017 | 430 ألف |
عدد الجرحى | 620 ألف |
عدد المفقودين | 56 ألف |
عدد المعتقلين | 271 ألف |
عدد المهجرين خارج العراق في 64 دولة | 3.4 مليون |
عدد المهجرين داخل العراق | 4.1 مليون
1.7 مليون في معسكرات ومخيمات |
عدد الأميين | 6 ملايين |
معدل خط الفقر | 35%
أقل من 5 دولارات في اليوم الواحد |
معدل تعاطي المخدرات | 6% |
معدل العمالة في الأطفال دون سن الخامسة عشر | 9% |
- فشل الحكومات المتعاقبة في محاربة الفساد، وبالرغم مما أبدته حكومة الكاظمي من جدية في محاربة الفساد منذ أول يوم مارست فيه صلاحياتها، إلا أنها لم تستطع حتى هذه اللحظة من القضاء على رؤوس الفساد ومتنفيذه، فحملة مكافحة الفساد لم تستهدف كبار المسؤولين المدعومين من قبل الأحزاب المتنفذة[6].
ومما يجدر بيانه أن العراق يحتل المرتبة 169 من أصل 180 اقتصاداً في مؤشر الفساد، إذ أشار تقرير رسمي لمنظمة الشفافية الدولية إلى أن العراق يحتل مرتبة متأخرة في مؤشر مدركات الفساد عام 2018م، وهو مؤشر على تراجع مستوى الشفافية والمصداقية في مختلف القطاعات الاقتصادية، وحصل العراق على 18 نقطة من أصل 100 في التقرير العالمي الذي يرصد 180 اقتصاداً حول العالم؛ إذ يعني الحصول على 100 نقطة أن الدولة خالية من الفساد، بينما تشير نسب ارتفاع الفساد في الدولة التي تقل عن 50 نقطة، وتتعدد مظاهر الفساد في العراق وتكثر، نذكر منها ثلاثة أمثلة كاشفة[7]:
أ. فساد عقود المقاولات والمشتريات: ومن خلال تقارير هيئة النزاهة العراقية فإن هناك خسائر تقدر ب 250 مليار دولار، وهذا النوع من الفساد استشرى في كثير من مؤسسات الدولة بما فيها رئاسة الوزراء، ومن أمثلتها صفقة شراء السلاح من صربيا عام 2007م بقيمة 833 مليون دولار، وقد تبين أن القيمة الأصلية للسلاح هي 236 مليون دولار فقط.
ب. فساد الوظائف الوهمية: واشتهرت الأزمة التي حدثت في عهد العبادي، حيث جرى الكشف عن وجود 50 ألف جندي وهمي (فضائي)، وقد أدى الفساد الحكومي لاستنزاف الموارد الحكومية بسبب التعيينات في الوظائف العامة بنسبة تزيد عن 80% من حجم الموازنة، وقد بلغت قيمة الرواتب وما في حكمها نحو 50 مليار دولار في موازنة عام 2019م لتشكل نسبة 61.1% من مجموع الإنفاق التشغيلي الجاري، علماً أن التقديرات المتاحة عن حجم الفساد في القوات المسلحة فيما يخص موضوع الفضائيين أو الجنود الوهميين فقط يصل إلى 250 ألف منتسب أمني حسب تصريح نائب رئيس الجمهورية السابق إياد علاوي، ويكلف هؤلاء الخزينة العامة ما يقرب من 2500 مليار دولار سنوياً.
ج. بيع وشراء المناصب العليا في الدولة: وهو المظهر الأخطر في ظاهرة الفساد، ويشمل استحواذ أفراد وأحزاب وكيانات ومنظمات وما شابه على المناصب التنفيذية في الدولة ووظائف عليا أو متوسطة، تكون مسيطرة على اتخاذ قرارات سياسية أو اقتصادية أو استثمارية أو تجارية أو مالية واستغلالها لمصالح ذاتية وفئوية، وأخطر ما في هذا المظهر من مظاهر الفساد أنه من العسير كشفه، لكن ما يعلن من خلال السياسيين أنفسهم يؤكد تحول عمليات المناصب إلى أمر مألوف وشائع، وظاهرة مشعان الجبوري في تصريحاته ومقابلاته العلنية في القنوات يعرفها الجميع، ويتراوح سعر المنصب الوزاري في الحكومة العراقية بين 10 ملايين إلى 25 مليون دولار، وبشكل أقل بالنسبة لبقية المناصب العليا.
ثانياً: المؤشرات الاقتصادية:
عمل الاحتلال سنة 2003م في إحداث بيئة مناسبة للفساد على الشكل الذي أشرنا إليه من قبل وزيادة، فوفر المزيد من الفرص للمفسدين، كما أحدث فجوة كبيرة بين المؤسسة الرقابية والإنفاق مما سهل للتوسع في المنظومة غير النظامية في الاقتصاد، وكان ارتفاع سعر النفط عاملاً مساعداً في ظل تشتت المنظومة الرقابية، والاختراق من قبل رئاسة الوزراء للتشريعات والقوانين المالية وتكييف المصارف الأهلية لتكون أغطية للفساد وقنوات له، وقد ساعد في ذلك كله طبيعة النظام السياسي بعد الاحتلال القائمة على المحاصصة الطائفية وتسيد المصالح الضيقة على مستوى الطائفة والقومية والفئوية والحزبية .. في غيرها، مما أسهم بشكل فاعل في فشل السياسات الاقتصادية الدالة على فشل النظام السياسي.
إن فشل السياسات الاقتصادية الحكومية خلال السنوات 2003م-2014م انعكس سلباً وبشدة في تماسك الاقتصاد العراقي، وقد تمثل هذا الفشل في غياب الاستثمار للموارد المالية والاقتصادية والبشرية والطبيعية التي ينعم بها العراق، وانعكس الفشل في عدد من المجالات التي وثقتها تقارير دولية ومحلية[8]:
- فشلت الحكومة في إعادة هيكلة القطاعات الاقتصادية العام والمختلط والخاص بالشكل الذي يدعم الاقتصاد السلعي الإنتاجي، وبقيت المشاكل التي كان العراق يعاني منها منذ عقود من الزمن ومنها ثقل القطاع العام ومؤسساته التي بدت عبئاً على الحكومة منذ ثمانينات القرن الماضي، وكذلك فشلت الحكومة في تنشيط القطاع المختلط وترصين دوره في الاقتصاد فيما أهملت القطاع الخاص وتنظيمه.
- فشلت الحكومة في تأسيس صناديق استثمارية سيادية لتوظيف الموارد المالية الفائضة في الوقت الذي كان يمثل فرصة للعراق بسبب الزيادات المضطردة بأسعار النفط طيلة المدة 2005م-2004م فيما عجزت الحكومة عن التنظيم المحاسبي والرقابي وغابت التقارير التي تفصح عن الأداء المالي والحكومي في ظل التداخلات السياسية التي أضاعت هيبة المؤسسات المستقلة وعلى رأسها البنك المركزي العراقي.
- فشلت الحكومة في توثيق مواردها المالية والعقارية فيما فشلت في تطبيق قانوني التعرفة الكمركية والضرائب على الدخل والعقار والتركات وفشلت الحكومة العراقية من السيطرة على منافذها الحدودية والتي تربط العراق بدول الجوار العراقي والتي تمر منها معظم استيرادات العراق.
- ركزت الحكومة على التوظيف الحكومي للموارد البشرية لفئات الشباب للحد الذي أثقل كاهل الموازنة العامة للحكومة في ظل غياب كامل لأي نشاط إنتاجي سلعي أو خدمي وأقتصر الأمر على مؤسسات الخدمة الحكومية والتي بدت مثقلة بالأعداد الكبيرة من الموظفين مع تردي كامل للخدمات الحكومية الأساسية في الوقت نفسه غابت الاستخدامات التكنولوجية ولاسيما في أساسيات الخدمة الحكومية وفي الوقت نفسه شاع الفساد والممارسات اللاقانونية.
ومما أسهم أيضاً وبشكل كبير في فشل المنظومة الاقتصادية العراقية تعرضها لصدمتين كبيرتين، الأولى انهيار أسعار النفط العالمية التي شهدها العالم شهر آذار من عام 2020م، والثانية تمثلت في تأثيرات انتشار جائحة كورونا، فأما فيما يتعلق بأزمة النفط العالمية، فإن الاقتصاد العراقي يعتمد بشكل رئيس على النفط في تمويل موازنته العامة بأكثر من 90%، ويستورد أكثر من 90% من احتياجاته الأساسية من دول العالم المختلفة، وقد أظهرت التسريبات الأولية للموازنة المقترحة لعام 2020م اعتماد سعر 56 دولار لبرميل النفط، مع تثبيت الكميات المصدرة عند (3.880) مليون برميل يومياً، وهذا يعني أن انخفاض سعر النفط سيفضي إلى عجز كبير في الموازنة[9].
ولن تكون سياسة الاقتراض والحالة هذه ممكنة في تجاوز هذه الإشكاليات، وهو ما حدث بالفعل في شهر آذار من هذا العام، فضلاً عن التأثر الكبير الذي أحدثته جائحة كورونا حتى هذه اللحظة، وما نشهده من أزمة خانقة يعيشها العراقيون اليوم بسبب عدم قدرة الحكومة في سداد متطلبات المواطن العراقي سواء على مستوى الحكومة المركزية أو على مستوى حكومة إقليم كردستان إلا مظهراً من مظاهر هذه الأزمة الخانقة، وإلى شهر سبتمبر من السنة الحالية وصل العجز في موازنة العام الجاري 2020م إلى 80 تريليون دينار عراقي أي ما يقابل 65 مليار دولار أمريكي[10] بخلاف ما يتحمله العراق من ديون خارجية وداخلية وما اقترن بها من فوائد تتضاعف سنوياً.
ثالثاً: المؤشرات الأمنية:
إن نجاح أي نظام سياسي مرهون بأدائه في الحفاظ على بنية الدولة ومؤسساتها الفاعلة ووحدة المجتمع السياسي بأطيافه ومكوناته المختلفة -إن وجدت- وقيامه بمتطلبات المواطن مما يمس معيشته وأمنه، وهما ركنان لا بد منهما لضمان مسار أي نظام، وغني عن القول عند الحديث عن المشهد العراقي فيما يرتبط بمسار نظامه السياسي ومدى تحقيقه لهذه المقومات الحافظة له أنه مشهد فاقد لوحدة منظومته السياسية والأمنية وما يرتبط بها من مقومات منذ أول لحظات الاحتلال الأمريكي عام 2003م، فقد ولدت بعده دولة عانت ولا تزال من ضعف هيكلي، مرجعه عصف إدارة الاحتلال بأجهزة الدولة السابقة ومؤسساتها، فضلاً عن كون الدولة الجديدة قد بنيت على محاصصة طائفية من شأنها القضاء على مقوماتها التي تحفظ بها وحدة المجتمع العراقي ولحمته.
وبسبب ما آلت إليه الأمور من تسلم مقاليد الأمور بيد القوى السياسية الشيعية، فقد عملت هذه القوى على حشد أنصارها ومواليها في مؤسسات الدولة ومفاصلها، وإضعاف المكونات العراقية الأخرى وخاصة المكون السني، فكانت نتيجتها اختلال الميزان في علاقة الدولة بالقوى السياسية وأذرعها الأمنية، فضلاً عن اتباع الحكومات المتعاقبة للسياسات الطائفية الحادة التي عملت على تفكيك بنية المجتمع العراقي وخاصة في المرحلة التي كان فيها المالكي رئيساً للوزراء، وكان ظهور تنظيم الدولة تحدياً كبيراً أمام العراقيين انشغلت به المنظومة السياسية، ولكون الكلمة الفصل في العراق للمرجعية الشيعية العليا فقد دعت إلى تشكيل مليشيات الحشد الشعبي الذي ما لبث أن ضُم بعد ذلك إلى قوى وزارة الدفاع ليكون أسوة بالجيش العراقي من حيث البنى العسكرية المعتمدة رسمياً من قبل الدولة[11].
ولكن هذه المليشيات سرعان ما شكلت هاجساً وكابوساً كبيراً على العراقيين بل وعلى المنظومة السياسية نفسها؛ لكونها منفذة لأجندة مغايرة ومباينة لما تقتضيه المصلحة الوطنية، لأن غالب مكونات هذه المليشيات تأتمر بأوامر قادتها الذين يتبعون المرشد الإيراني علي خامنئي، ولذلك كانت تداعيات سيطرة المليشيات الشيعية على المشهد الأمني العراقي في غاية الخطورة لم تستطع معها المنظومة السياسية دفعها أو إضعافها؛ لأنها أضحت في حقيقتها دولة داخل الدولة، ولذلك كان التحدي الأكبر الذي واجهته وما زالت تواجهه حكومة الكاظمي يتمثل في مواجة سطوة المليشيات وتعد في ذاتها أولوية رئيسة مع تحديات أخرى رئيسة مرتبطة بما تقتضيه حاجيات المواطن العراقي وغاية التحدي الاقتصادي، وإلى هذه اللحظة لم يستطع تحقيق شيء على الأرض، بل وازداد الأمر سوءاً مع أزمة رواتب الموظفين، كل ذلك أسهم في جعل المنظومة السياسية في دائرة الفشل السياسي، وفي أدناه مخطط للفصائل التي تنضوي تحت الحشد الشعبي وفق تقرير وضعه الدكتور هشام الهاشمي قبل مقتله، وكان ذا دراية واسعة بالتنظيمات والقوى العسكرية والأمنية سواء على مستوى تنظيم الدولة أو الحشد الشعبي، وقد انتهى به تقريره إلى أن الحشد الشعبي بشكله الحالي لم يعد يتفق مع متطلبات النظام السياسي الذي يتغياها العراقيون واقترح إعادة هيكلته وجعله في دائرة الرقابة الإدارية والأمنية[12].
خاتمة:
يتضح من المؤشرات الرئيسة الدالة على الفشل السياسي في النموذج العراقي أن هناك جملة من الإشكاليات والمعضلات بل والنكبات المتوالية التي لا يمكن للمنظومة السياسية ومؤسساتها في العراق ومعها البنية المجتمعية العراقية تجاوزها إلا برؤى وأفكار ومنهجية جديدة جادة تأخذ بالاعتبار إعادة العقل العراقي وبنيته إلى حاضنته الوطنية بعيداً عن مشتتاته ومفرقاته من مثل الطائفية والقومية والمناطقية التي دارت معه على مدار سبعة عشر عاماً فأقبلت وأدبرت، وهو ما يعد تحدياً كبيراً يواجه المواطن العراقي بعد هذه السنين العجاف، ولعل هذا الذي حركه في أواخر العام الماضي مطالباً بحقه في الحياة الكريمة والعيش الرغيد مبعداً كل الشعارات التي كان يراهن عليها القوى السياسية التابعة للاحتلالين الأمريكي والإيراني؛ ليثبت أن من حسن السياسة رعاية معاش الناس وتدبير شؤونها وحفظ أمنها والاستمساك بلحمتها، ولن يكون ذلك إلا بأساسين الأول رفع شعار المواطنة الكريمة والعيش المشترك الكريم بين المكونات المختلفة، والثاني امتلاك القرار السياسي الداخلي بعيداً عن التدخلات الخارجية في شؤون العراق إقليمياً ودولياً.
[1] نعوم تشومسكي، سنة 501 الغزو مستمر، دمشق، دار المدى للثقافة والنشر، ط1، 1996م، ص68.
[2] أحمد فهمي، الحدائق الخلفية، الرياض، مركز البيان للبحوث والدراسات، بدون تاريخ، ص48.
[3] عماد الشمري، المحاصصة .. عنوان النظام السياسي بالعراق بعد الغزو الأمريكي (تقرير)، الجزيرة نت، تاريخ النشر: 20/3/2019م.
[4] د.غازي فيصل السكوتي، الفشل السياسي في العراق وعلاقته باختلال البنية الدستورية، الدوحة، مركز الجزيرة للدراسات، 26/فبراير/2019م، ص5.
[5] عثمان المختار، 14 عاماً على احتلال العراق: الخراب بالأرقام، العربي الجديد، تاريخ النشر: 9/أبريل/2017م.
[6] فرهاد علاء الدين، حكومة الكاظمي تتأرجح بين النجاح والفشل، روداو، تاريخ النشر: 7/11/2020م.
[7] انظر: محمد فرحات، الفساد في العراق .. حقائق وأرقام صادمة، العين الإخبارية، تاريخ النشر: 7/10/2019م. همام الشماع، العراق وظاهرة الفساد الإداري والاقتصادي، مركز الجزيرة للدراسات، تاريخ النشر: 13/1/2019م.
[8] سرمد كوكب الجميل وآخرون، الاقتصاد العراقي: التحديات والخيارات (تقرير)، مركز صنع السياسات للدراسات الدولية والاستراتيجية، تاريخ النشر: 11/8/2018م.
[9] د.عبدالرحمن نجم المشهداني، اقتصاد العراق بين أزمة كورونا وانهيار أسعار النفط العالمية وتأثيراتها على بناء الموازنة الاتحادية 2020م، مركز صنع السياسات للدراسات الدولية والاستراتيجية، تاريخ النشر: 3/أبريل/2020م.
[10] عمار حميد، العراق: عجز تاريخي لموازنة 2020م يصل إلى 65 مليار دولار، العربي الجديد، تاريخ النشر: 15/سبتمبر/2020م.
[11] دويلات داخل الدولة: تحدي الكاظمي في السيطرة على الفصائل الشيعية المسلحة، مركز الجزيرة للدراسات، تاريخ النشر: 19/يوليو/2020م.
[12] هشام الهاشمي، الخلاف الداخلي في هيئة الحشد الشعبي، مركز صنع السياسات للدراسات الدولية والاستراتيجية، تاريخ النشر: 1/7/2020م، ص14.