ورقة سياسات

الحالة التركية.. المكان والمكانة والتمكين: ورقة رؤية

 

اعتبارات المكان وخرائط الإمكانية وصناعة المكانة على طريق التمكين يمكن أن تكون عناصر استراتيجية متعددة الأركان والزوايا وإعمال الفهم لخرائط الحال والمآل الواقع والاستقبال، ضمن مستويات للفهم تتداخل وتتواقف وتتراتب وتتداخل.

الفرضية الرمادية في الحالة التركية:

من الواضح أن تركيا تشكل بتاريخها وجغرافيتها حالة فريدة لا يمكننا فيها الوقوف عند مواقف حدية أو سياسات جامدة أو مواقف لا يطولها التغير أو التغيير، ومن ثم كان من المهم أن نصف تلك الحالة موقفًا وذاكرة وحركة بأنه تحكمها الفرضية الرمادية، والتي تتخذ ضمن هذا المدخل رؤية ثلاثية الأبعاد تتجسم فيها الحالة التركية المركبة، والتي يمكن من خلالها أن نتفهم شأن التحولات والتغيرات التي تحيط بتلك الحالة وتعين على تفسير الخبرة التركية المعاصرة.

البعد الأول ضمن هذه الفرضية تحكمه الجغرافيا:

تركيا بعاصمتها الثانية إسطنبول تشكل حالة فريدة، إسطنبول بامتدادها يقع بعضها في آسيا وبعضها الآخر في أوروبا، وهو ما قد يسهم الى حد كبير في تفسير حقيقة ذلك التراوح الذي نراه بين الاتجاه شرقًا والاتجاه غربًا، وتأتي الحكومات المتعاقبة باختلاف توجهاتها وبنياتها ليحمل بعضها سياسة حادة فتتجه إلى الغرب، وتأتي أخرى في المقابل فتمثل موقفا أحاديا أو حديًا في الجانب الآخر بالاتجاه إلى الشرق.

ولكن الجغرافيا في حقيقة الأمر تؤكد هذه الحقيقة الجيوسياسية؛  تلك الرؤية الجامعة ممثلة في إسطنبول التي تمثل جمعًا وامتدادًا جغرافيا بين أوربا وآسيا، بما تفرض معطىً أساسيًا يعبر عن ضرورة ذلك التوجه المزدوج والمتزاوج وربما المتوازن نحو الغرب أو الشرق.

فهل يمكن أن تكون هناك سياسة حقيقية لتركيا تتواءم فيها الاتجاه نحو الشرق والغرب معا؟، كان ذلك هو التساؤل المعضلة وكان من المهم أن تحمل إرهاصات إجابة، فلا هي يمكنها إعطاء الظهر إلى أوروبا والغرب، ولا هي يمكن أن تفقد عمقها في الشرق، بل هي يجب أن تأخذ في حسبانها باعتبارها دولة متوسطية ودولة “شرق أوسطية” هذه الوضعية الجغرافية وذلك المعطى الجيو- سياسي، والتي يمكنها بحكم هذا الموقع الجغرافي أن تتحرك ضمن دوائر تتعلق بمجالاتها الحيوية سواء في حركتها السياسية أو في امتدادها الاقتصادي في علاقات اقتصادية واسعة، قد تقطع الطريق طويلاً حتى تصل إلى قلب أفريقيا وتذهب في عمقها حتى تصل إلى أطراف القارة الأسيوية، وتنظر مستشرفة علاقات مع أوروبا، حتى صار دخول الاتحاد الأوروبي أحد أهم المطالب شبه الثابتة في السياسة الخارجية التركية .

إنه درس الجغرافيا تحاول حكومة ورئاسة أردوغان الحالية أن تستوعبه في إطار ما يمكن أن يسمى العمق الاستراتيجي الذي تمثله النافذة الجغرافية والعمق الحضاري الضارب بجذوره في الرصيد الحضاري الإسلامي والحقبة العثمانية، والعمق الاقتصادي المحكوم بتبادل المنافع والمصالح، الجغرافيا بمعطياتها يمكن أن تدلي بدلوها في بناء خريطة لسياسات متوازنة، فلا هؤلاء الذين يريدون أن ينتموا إلى الغرب ويلقون بأنفسهم في قلب الثقافة الغربية فيشكلون جزءًا منها ويتماهون معها، فيجعلون من الاتجاه غربًا سياسة تتبنى وبلسمًا شافيا لكل إشكالات ومشكلات تركيا، فبالنسبة لهم ليس لهم من طريق سوى أن يكونوا قاصدين أوروبا بوصلة وقبلة، وفي المقابل ليس أيضا من المنطقي أن يتطرف أحدهم أو من يمثل  تيارا آخرا في المواجهة ليتبنى سياسة تتعلق بالاتجاه شرقا، ليدير ظهره إلى الغرب، الحالة التركية استنادا الى هذا لا تستطيع أن تتجاهل  جغرافيا الغرب الذي تعيش فيه ولا جغرافيا الشرق التي تطل عليها، ومن هنا برزت سياسة تتعلق باستيعاب العمق المركب استراتيجيا وحضاريا واقتصاديا فيتجه شرقا وغربا وربما جنوبا، حيث يرتاد أسواق أفريقيا المهملة أو المغفلة من دول كثيرة أقرب من حيث الجغرافيا وأوثق من حيث العلاقة، والتي تبدو أرضا قابلة للاستثمار وللاتجار وبما تمثله ساحة حيوية لتأمين متوالية من المصالح التركية استراتيجيا وأمنيا واقتصاديا (لاحظ زيارة “أردوغان” الأخيرة الى أفريقيا).

أما البعد الثاني في تلك الفرضية الرمادية فإنه يقع في قلب التاريخ، بين الامتداد الإمبراطوري الذي تمثله الإمبراطورية العثمانية وبين “القومية التركية” والحفاظ على “تركيا النواة” ضمن الرؤية الأتاتوركية والتي تتحرى معنى القومية التركية، هذا الأمر لا يزال مؤثرا في الخيارات الاستراتيجية التركية، وهو ما حدا بالبعض أن يتحدث عن العثمانية الجديدة وما أدى بالبعض الآخر إلى أن يتحدث عن القومية التركية العتيدة، بين هذا وذاك تقع الخيارات التركية في افتراض توازن أخر من خلال الجمع المتفاعل، بين بعد الامتداد الامبراطوري في الاهتمام وبين بعد الاعتزاز بالقومية التركية كنواة صلبة يجب أن ترتكز عليها الأمة التركية، تبدو هذه الأمور متداخلة مع الاعتبار الجغرافي السابق خاصة حينما نجد الاعتزاز بالتاريخ العثماني في قلب الذاكرة الحضارية التركية والاعتزاز في ذات الوقت بالقومية التركية، بين الامتداد الذي يشكل أفقا للحركة وانفتاحا يتعدى الوجود والحدود، وبين الانكفاء على الجمهورية التركية، تبدو تلك السياسات في حاجة إلى عملية لتحدد طاقات تركيا في الامتداد والاهتمام بحكم الجغرافيا وبما تشكل مجالا حيويا يمتد في دوائر الاهتمام في سياسة تركيا الإقليمية والخارجية في التاريخ، ومنصة الجمهورية التركية التي تشكل قاعدة يجب  حمايتها والانطلاق منها .

هذا التوازن إنما يجعل الأمر الذي يتعلق بخطاب قد يروق للبعض عن الخلافة العثمانية أو السلطنة العثمانية فيتساهلون في تشبيه أردوغان تارة بالسلطان وتارة بالخليفة إنما يستغرقون في تلك التصنيفات الحدية غير عابئين بمعطيات ومقتضيات تلك الرؤية الجامعة وترفع التناقض الذي تستند اليه بعض الرؤى القاصرة والمقتصرة على بعد دون آخر، فإن الخبرة العثمانية قد أدت بالاستراتيجية التركية للتجميع والجامعية، فالجمع بين الأمرين أولى إذا كان له من وجه أومن سعة وأفق، وهو الحاكم في الحالة التركية ليعبر عن أن تركيا لا يمكنها أن تنعزل ولا يمكنها في الاهتمام أن تنحسر داخل حدود تركيا.

الجغرافيا والتاريخ تملي تلك الدروس والمعطيات التي تشكل المواقف والسياسات والاستراتيجيات من غير عناء كبير، ومن ثم يظل الأمر الذي يتعلق بالجمع بين الأمرين حالة مواتية تستوعب وتتفهم إمكانات الجمع بينهما مستثمرة  كل أمر فيما يتعلق في بناء استراتيجية متسعة الاهتمام ومرتكزة في ذات الوقت على منصة الجمهورية التركية التي تشكل نواة صلبة حرص مشروع أتاتورك على أن يؤكد على تلك المقولة، وهذا الاعتبار لا يزال يعاني من أمور كثيرة لا بد من وضعها في الحسبان، أمور تتعلق بالهاجس العثماني الذي لا يزال مؤثرًا في التوجهات الأوربية التركية حيال تركيا، حتى أن البعض في منظومة الاتحاد الأوربي ومنذ زمن ليس بالقصير ما زال يستند في رفض دخول تركيا إلى الاتحاد الأوربي باعتباره “ناديًا مسيحيًا” استنادًا إلى مقولة رددها “فاليري جيسكار ديستان” الرئيس الأسبق لفرنسا، فلا تركيا تستطيع أن تنعزل ولا يمكنها أن تستند في حركتها إلى ذلك التاريخ الإمبراطوري، ولكنها تحول التاريخ الإمبراطوري لحركة متوازنة وتؤكد أن تركيا القوية جمهورية ومكانة لا تزال هي القاعدة التي يمكن أن تنطلق منها في حركتها وفي عمقها المركب حضاريًا واستراتيجيًا وثقافيًا واقتصاديًا.

أما البعد الثالث فإنه ينطلق إلى فرضية أخرى تتعلق بالثقافة والحضارة في بعد فكري وديني يتعلق بطابعها وهويتها الإسلامية وكذلك بخبرتها الأتاتوركية الكمالية العلمانية ويظل الاقتصار على أحدهما أو الصراع فيما بينهما هو بالخصم من التجربة التركية والقدرة على بناء المكانة وصناعتها، فلا الخبرة العلمانية استطاعت أن تقصي خبرة الهوية التركية الإسلامية وذاكرتها والتي ما وجدت لها متنفسًا حتى تحركت بنشاط وكان لها من التأثير والفاعلية واستردت تركيا وجهًا إسلاميًا لا يمكن أن يغيب أو يٌغيب.

إلا أن ذلك لا يعني بأي حال من الأحوال نفي تلك الخبرة العلمانية التي ارتبطت بالتجربة الكمالية في تركيا، ولكن الأمر قد يعني جمعًا جدليًا وفريدًا ما بين الخبرتين وهو ما أدى بأردوغان وحزبه ألا يتنكر لهذه الخبرة العلمانية محاولين ترشيدها في إطار أشير فيه إلى صيغة “العلمانية الإيجابية”، بين هذا وذاك يبدو ذلك الجدل بين الهوية الإسلامية والخبرة الكمالية العلمانية، وربما أن هذا ما حدا بأردوغان وصحبه أن يشكلوا منطقة يمكن الجمع فيها بين هذا وذاك في رؤية لا تستثني فيه العلمانية أو تقصي الهوية الإسلامية أو تنفيها.

هذه الفرضية الرمادية ذات الأبعاد الثلاثية مع إدراك فذ من حزب العدالة والتنمية والمتحالفين معه والتوجهات المختلفة التي استوعبها من توجهات ليبرالية وقومية ومن توجهات تجمع بين الهوية الإسلامية والعلمانية الإيجابية مما أدى إلى استثمار هذه الحالة الجامعة بين ثنائيات كانت افتراضًا متصارعة إلى ثنائيات قابلة للتعايش في إطار يجمع بين أبعاد هذه الثلاثية في ثنائياتها المختلفة إلى حالة تنوع مركب تثري تلك الخبرة التركية.

تركيا والشرق الأوسط رؤية استراتيجية ومستقبلية: تركيا وصفقة القرن

تمثل الدولة التركية في هذا المقام واحدة من أهم الدول ذات العمق الاستراتيجي الذي يتطلب وضعها تاريخًا وجغرافيا التفكير في تعظيم قدرات هذه الدولة استثمارًا لذاكرتها الحضارية من جانب وتأمينًا لجغرافيتها الاستراتيجية من جانب آخر.

إذ تقدم الحالة التركية في هذا المقام وضعًا فريدًا ومتميزًا في تلك الاستنادات التي تعبر عن وجودها في جغرافية آسيا وأروبا كما أنها تشرف بموقعها على بوابات غاية في الأهمية تفرض مساحة من العلاقات المتنوعة إقليميًا ودوليًا ويزكي هذا الوضع بل يشكل أهم أحد دواعيه ما يمكن أن يسمى ب”صفقة القرن”، وهو يشير إلى مشروع هو الأخطر على وجه الإطلاق والذي يشكل في حقيقة الأمر حلقة من حلقات إعادة فك وتركيب المنطقة وفق قواعد وتحالفات جديدة، وهي تتواكب في ذات الوقت مع معطيات وعمليات تغيير كبرى تشهدها المنطقة إذ تشكل في حقيقة الأمر تحولات استراتيجية لا يمكن بأي حال من الأحوال إغفالها أو التغاضي عنها أو القفز عليها، ذلك أنها تشكل معطيات استراتيجية لا بد أن تسهم في عمليات التخطيط للمستقبل وفي مقدمات تتعلق ببناء وصياغة سياسات الحاضر التي يمكن تٌسكّن ضمن استراتيجية كبرى تحقق الأهداف والغايات الكبرى.

إن فصول كتاب صفقة القرن التي نوهت عنه أنظمة كثيرة وحليفة تحاول أن تكتب بعض هذه الصفحات وتفرض بعض هذه الفصول، ومن المؤسف حقًا أن تكون بعض هذه الدول ضمن هذا المشروع ليست إلا أدوات مسخرة لتحقيق فك وتجزئة هذه المنطقة وفقًا لتصورات يسميها البعض “سايكس بيكو الثانية”، ولكنها هذه المرة ترسم الحدود ليس على الخرائط الورقية أو بترتيبات دولية ولكنها تقوم بذلك في فرض حدود الدم واصطناع هويات وتقسيم دول وشعوب وتفريغ ديموغرافي وتهجير قسري وحروب أهلية.

فليس هناك أرجح من أن تسود المنطقة حالة من الفوضى والسيولة والحروب المتعددة لتكون هذه البيئة الأنسب والأوفق لإعادة تشكيل المنطقة من جديد، إذ ترى بعض الدول الغربية الكبرى أن الموقف الآن يشكل فرصة ذهبية لها لتحقيق هذه الأهداف، فضلاً عن أنها تشكل حالة نموذجية لتأمين الكيان الصهيوني بأقل تكلفة ممكنة وتحقيق أعظم المنافع له ولبقائه وتأمينه بأقل جهد ممكن، إنها في هذا المقام تقوم على صناعتين خطيرتين صناعة الفرقة وصناعة الفوضى وبين هذا وذاك تصطنع الحروب الأهلية والتقسيمات الإدارية والتفريغات الديموغرافية والمقايضات والمساومات الدولية والوقوع في براثن الحروب الأهلية.

كل هذه الأمور تشكل حالة نموذجية لضرورة تدشين استراتيجية مستقبلية في الشرق الأوسط ليشكل مستودع تفكير يؤصل لمعاني التفكير الاستراتيجي والسياسي، وبناء السياسات طويلة الأمد نسبيًا، ضمن خريطة تحالفات يجب أن يؤسس لها من الآن، وعلى تلك القاعدة يمكن أن يشكل ذلك الاهتمام بهذه المنطقة التي تمثل في حقيقة الأمر عقدة استراتيجية بما يضمن التعامل مع تلك المتغيرات بعقل مفتوح وبسياسات مؤمنة، لا تقوم على الاستفزاز بل تحرك كل مداخل الاستيعاب والقدرة على تعظيم القوة وصناعة المكانة بما يؤهل الدولة للقيام بأدوار أكثر اتساعًا وارسخ تمكينًا.

    ويجب أن يتم ذلك في إطار يستثمر كل طاقات التفكير والتدبير والتغيير من تخطيط استراتيجي، ومن إدارة استراتيجية، ومن إدارة أزمات ومن إدارة الفرص، ورصد مؤشرات الخطر المحتمل والمخاطر الحالَّة والآنية، ودراسات المستقبل والإمكانات المتاحة لصناعته تأمينًا وتمكينًا.

وتتكافل هذه الطاقات جميعًا في أداء وظائفها وأدوارها ومهماتها بما يحقق الدور المنشود القائم على صناعة المكانة لدولة مثل تركية، يقوم بعمل متواصل لتقديرات الموقف وصناعة سياسات وتحديد مسارات وسياسات، وتقارير استراتيجية وتقارير تتعلق بالحالة المستقبلية، كما تٌخصص بعض هذه الطاقات في التعرف على خرائط الأزمات المزمنة والأزمات القائمة والأزمات المثارة والمحتملة، بحيث تجعل من العمل على فهم هذه الأزمات ومفاصلها طريقًا لتلمس الفن الذي يتعلق بتحويل المخاطر الكامنة في تلك الأزمات إلى فرص تعظم من القدرات، وهو فن من الفنون يجب أن  يحترفه ويُتدرب عليه من العلماء المسلمين بما يؤسس لتفكير استراتيجي فعال.

كذلك من المهم تحديد خرائط الفاعلين في المنطقة وحجم وأشكال التدافعات فيما بينها، وبما يؤكد إمكانية صياغة ورسم لخريطة تحالفات آنية ومستقبلية؛ ذلك أن خريطة التحالفات إنما تشكل أهم قاعدة معلومات تمكن الدولة التركية من صياغة الخيارات والمسارات وصناعة القرارات، وهذا الأمر الذي يتعلق بخيار التحالفات، بل إنه من الواجب كذلك أن نتعلم درسًا مهمًا ففي تلك التحالفات يجب أن لا نعقد عداوات جديدة، وأن نكسب أرضًا جديدة، ونميز ما بين التحالفات المؤقتة والتحالفات شبه الثابتة، كما لا نستند إلى تحالف حتى نخرج من تحالف آخر، والمهم في هذا المقام أن نتوقى أن يتحالف الآخرون ضدنا، وأن نتحالف لتعظيم القوة والمكانة واستقلال القرار.

كما أنه علينا أن نتعرف على خرائط المشروعات المتدافعة في المنطقة على تعددها بحيث يكون المشروع التركي ضمن مشروعات أخرى أوسع، أو يقوم على الأقل بالتنسيق بين بعض هذه المشروعات بما يعظم تحقيق مصالح الدولة التركية مكانة ومسارًا.

وكذا ما يتعلق بذلك من تبصر حزمة السياسات العامة داخليًا وخارجيًا بما يؤسس لدولة قوية فاعلة قادرة على أن تسهم في إحداث التغيير المناسب وتحديد بعض وجهته في إطار من تقليل الخسائر والأضرار وتعظيم المنافع والمصالح، وتوسيع دائرة البدائل بما يحقق للدولة التركية حرية حركة أكبر ووفق استراتيجية تقوم على قاعدة: “إذا ضاق الأمر اتسع وإذا اتسع ضاق”، فإن توسعة المضيق المأزوم وتضييق الواسع غير المنضبط والمترهل والسائل لهي من الاستراتيجيات المهمة في هذا المقام في خضم منطقة تموج بتداخل التدافعات وتضارب المصالح وسيولة الأحداث والمتغيرات.

وعلى ذات المنوال فإن الأمر يجب أن يتعلق بتحديد خرائط المجال الحيوي لحركة الدولة التركية استباقًا واستشرافًا، واستثمارًا لكل أنواع القوة التي يمكن تعظيمها سواء بتوظيف عناصر القوة المادية أو مسارات القوة المعنوية، وبما يحقق ليس فقط ما يمكن تسميته بالمكاسب السياسية؛ بل وكذلك بمساحات لا بأس بها من المكاسب الثقافية والحضارية، ومن ثمَّ وجب علينا أن نحدد خرائط الأضرار والمخاطر التي تحيط بالدولة التركية مع تحديد لأوزانها وتأثيرها المباشر على الدولة وحركتها وعلى جملة سياساتها ومكاسبها.

وفي هذا المقام فإن هذا التمييز الذي يتعلق بعناصر القوة؛ المادي منها والمعنوي الصلب منها واللين، يعني أننا قصدنا الإشارة إلى جملة من العناصر أولها عناصر القوة الحضارية التي يمكن أن تؤسس لوظيفة حضارية للدولة تستثمر كل ذلك المخزون التاريخي ورصيد التاريخ بما يمكن بالقيام بهذه الوظيفة وبما يبدد كل عناصر الخوف والهواجس التي ترتبط بالوظيفة الحضارية والثقافية للدولة التركية لدى العالم.

إن نقاط الضعف في النظر للمنطقة تستأهل تفكيرًا استراتيجيًا يقوم على قاعدة من فتح الباب واسعًا لمناقشة مفهوم الشرق الأوسط كمنظومة ضعف، فمنذ زمن بعيد يأتي مفهوم الشرق الأوسط ليعبر عن حالة تصارعية، إنها منطقة تمثل عقدة استراتيجية، وباعتبارها الجيو- ستراتيجي، فإن الكثيرين مستهدفون مصالحهم فيها، هي محط أنظار وممر أقوام، وعلى هذا بدت هذه المنطقة تعاني من جملة من الأزمات والنكبات، حتى أننا صرنا نؤصل لأمر يتعلق بعلم النكبات، فها هي النكبة، وها هي النكبة مجددًا، وتتوالى النكبات…

لا ندري لماذا ألحَّ علينا أن “الأمة” حينما تحمل معنى الجامعية والقوة فهي “الأمة”: “الأمة – الوسط”، وحينما تحمل معاني الضعف والاستضعاف فهي “الشرق- الأوسط” أو “المسألة الشرقية” أو “الشرق-الأوسط-الكبير”.

إن حضور مفهوم “الأمة” يعني “الأَمّ ” وهو القصد والوجهة، فالأمة محل القصد والقبلة والاتجاه.

وحينما يبرز مفهوم جديد لا يُعنَى “بالأمة الوسط” وإنما “بالشرق الأوسط” مضافًا إليه صفة “الكبير”، فإنما يشير ذلك إلى معانٍ جغرافية، ويشير إلى أن مَن أطلق صفة “الكبير” (الولايات المتحدة) إنما يحدد عناصر اهتمامه هو ومجاله الحيوي فيما يعتبره يحقق مصالحه هو، ويحقق عناصر استراتيجيته الكونية في منطقة تعتبر عقدة استراتيجية، ولكن هذا يحوّل الأمة من قَصْدٍ، ومن بشرٍ قاصد، ومن مقصود وفكرة ورسالة، إلى “مكان” مُصمَتٍ يراه الخارجُ كيفما شاء وكيفما تصور، وكأنه مساحة خالية من البشر الفاعل أو الفكرة الجامعة، إنه –بهذا- مجال للفك والتركيب وإعادة التشكيل وهندسة المنطقة في إطار تتحكم فيه “هندسة الإذعان”.

رصد شأن العلاقات بين “شرق” و” غرب” من دائرة أخرى تحرك الوعي وتستثير السعي في هذا المضمار المهم، رؤية الدكتور جورج قرم؛ وهو يحتل موقعًا مميزًا بين الباحثين الذين تناولوا موضع العلاقة التاريخية بين أوروبا والشرق، وأصدر عددًا من الكتب التي تلامس هذا الموضوع بشكل أو بآخر مثل كتابه الشهير “انفجار المشرق العربي” الذي صدر قبل عشرين عامًا وطبع بالعربية والفرنسية أكثر من مرة، وكتابة الجديد “شرق وغرب: الشرخ الأسطوري” الذي صدر مترجمًا بالعربية في العام 2003.

إن هذا الاهتمام النظري والبحث في الخبرات التي تشكلها العلاقة بين شرق وغرب، والاقتراب من الوضع القائم الآن الذي يأخذ فيه “الشرق” دلالة جديدة إثر تأكد “الهيمنة الأمريكية” على المستوى العالمي، وتفرد القطب الأوحد في المنظومة الدولية، والإمبراطورية الكونية الأمريكية، والتي تعيد تعريف قضايا كثيرة بما في ذلك ما يُدعى “الشرق”.

ورغم أن “قرم” أصدر كتابه الأخير والحرب على العراق قد دقت طبولها، وقبل سقوط بغداد؛ إلا أن هذا الاهتمام النظري امتلك منطق البرهنة الواقعية على الأرض، ولم يجد أي صعوبة كي يبرهن على أن “…الشرق في المخيلة الأمريكية مرتبط بالإدارة السياسية ورجال الإعلام والمتنفذين من الأكاديميين، أكثر مما هو مرتبط بواقع الشرق الفعلي…”، فالولايات المتحدة “تخترع الشرق الذي تريد”، آخذة في الاعتبار “مصالحها والفضاء المحتمل لمناوراتها السياسية المستقبلية”:

عزز من هذه الرؤية “النصرُ الأمريكي في الحرب الباردة”: “فوكاياما ونهاية التاريخ”، الذي جعل من غرب النهضة الأوروبية غربًا يهوديًا/مسيحيًا، صورته المركبة هي دولة “إسرائيل”، التي لا تسمح لها “غربيتها” بأن توصم بأنها دولة عنصرية أو عدوانية؛ فهي من الغرب ولها دور الغرب في هداية العالم الضالّ.

في هذا الانقلاب تصالَحَ التاريخُ العلماني والتاريخ الديني للغرب، وأصبح “الآخر” هو المسلم المكروه، وأصبح الغرب يتعامل مع الإسلام بصفته عقيدة كلية متصلبة، تنضح عنفًا، وتتنفس لاعقلانية كاملة.

وربما كان في التاريخ خبر وعِبَر، وتجارب وآيات، وشواهد وبراهين، تثبت مثل هذه الحقائق أو تعمق من دلالاتها.

 

الانقلاب الفاشل حالة كاشفة فارقة:

يعد انقلاب يوليو الفاشل علامة فارقة كاشفة في مسارات تركية الاستراتيجية؛ إذ عبر ذلك الانقلاب عن استدعاء تلك الفرضية الرمادية التي سبق الإشارة إليها، وأكد على ضرورة تلك الرؤية الجدلية متوازنة بين ثنائيات كانت متصارعة متنافية وأتى حزب العدالة والتنمية ليقدم رؤية متكاملة مواتية لتحديد الخيارات والاستراتيجيات التي تتعلق بتركيا الجديدة؛ فلا تزال تركيا تؤكد على المعطيات الجغرافية بالاتجاه شرقًا وغربًا، ولا تزال تمد في نطاق اهتمامها فتظل حاضرة في ساحات متعددة من تلك الأزمات المختلفة التي طالت المنطقة والإقليم مما أدى إلى إعادة صياغة كيان المصالح الاستراتيجية التركية في قلب تلك الأزمات، وأدى إلى امتداد ساحات الاهتمام التركية وحضورها من غير غياب في تلك المساحات.

وبحضور مؤثر وفعال فإن الاستراتيجية والسياسات التركية يجب أن تشير إلى إمكانات صناعة المكانة وتحقق ذلك في إطار جامع بين تبنٍ لكثير من القضايا التي تعبر عن الهوية الإسلامية، وبين استثمار العلمانية الإيجابية ضمن مشروعات التغيير والنهوض داخل تركية وإعادة صياغة الحياة السياسية بما يحقق الحفاظ على الجمهورية من ناحية، والديموقراطية من ناحية أخرى.

وضرورة إعادة صياغة العلاقات المدنية العسكرية وفق رؤية واضحة تؤصل وتمكن لوجود جيش تركي قوي يقوم بمهام الحماية الأساسية للمصالح الاستراتيجية التركية، ويسهم في تأدية هذه الوظيفة بطاقة الجيش وتحركاته بفاعلية ضمن إطار المهنية في أداء هذه الوظائف، والحيادية في مجال السياسية الداخلية وهو ما يعني لزوما رفض على المستوى الرسمي والقوى السياسية والقوى المدنية والحركة الشعبية لكل ما من شأنه أن يعيد الجيش إلى سيرة الانقلابات الأولى، وسد كل المنابع التي يمكن أن ينفذ منها الجيش للتأثير على مجرى الحياة السياسية من خلال المسارات الانقلابية.

العبرة المتكاملة في محاولة الانقلاب الفاشلة:

بعد وقوع محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا من المهم أن نقرأ قراءة الاعتبار بما حدث أثناء تلك المحاولة وما بعدها، هذه القراءة لا بد أن تُميّزَ بين أمور ثلاثة تتقاطع فيما بينها وتتمايز مساحات عملها وساحات قرارتها بما يشكل رؤية متكاملة لعملية تسيير شاملة للموقف فيما بعد هذه المحاولة الانقلابية الفاشلة:

أول هذه الأمور: يتعلق بإدارة الأزمة.

وثانيها: يتعلق بإدارة الفرصة.

وثالثها: يتعلق بإدارة الصراع.

عمليات بعضها من بعض تتكافل وتتكامل، تعبّر عن وعي استراتيجي بقواعد أساسية تتعلق بعلم التدبير السياسي وعلوم الحركة.

الأمر هنا  يتعلق بصياغة مَكينَة لتركيا الجديدة، تركيا ما قبل الانقلاب يجب أن لا تكون تركيا ما بعده، تعبّر تركيا اليوم في حقيقة أمرها عن عملية تغيير شاملة واعية، بصيرة راسخة، مَكينة قادرة على أن تشكل حقائق المستقبل ضمن رؤية واضحة.

أما عن إدارة الأزمة: فإنها تتعلق بتلك الحالة الانقلابية، التي جمعت بين التوقع والمفاجأة في إطار الحالة التركية، التي ترتبط في الذهنية بخبرة ممتدة في الانقلابات العسكرية، الأزمة في أحد معانيها الطبية تعبّر عن حالة استثنائية تتطلب قدرة على إدارة الاستثناء وإدارة حالة الضرورة، بحيث لا تغادرها إلى عناصر يمكن أن تَطولَ ومساحات لا يمكن التحكم فيها أو بها، أمور يمكن إدارتها على التراخي والتدريج خاصة فيما يتعلق منها بإدارة المسائل والقضايا المجتمعية.

الأمر هنا شديد الخطورة فيما لو خلطنا بين حال إدارة الأزمة وإدارة الصراع، وتداخل كل منهما وتقاطعهما مع ما قد يتصوره البعض أنها فرصة تحرك كثيراً من عناصر التغيير الشامل غير المحسوب.

وحينما نؤكد على إدارة الأزمة فإن الأمر يتعلق بمستويين مهمين؛ إدارة الخطاب، وإدارة العقاب والحساب، من دون إفراط أو تفريط، فإدارة الضرورة تقدر بقدرها مساحة وتوقيتاً وإدارة لحال المجتمع بمعطياته وضروراته.

أما الأمر الذي يتعلق بإدارة حال الخطاب فإنما تشكل في حقيقة الأمر حالة نجاح استطاعت أن تواجه وتقاوم تلك المحاولة الانقلابية بكل تنوعاتها وامتداداتها، تمثل ذلك في حالة الترويج في البداية من أن من قام بالانقلاب فئة محدودة من رتب صغيرة ووسيطة، وهو أمر حمل الرسالة إلى الجميع بأنها محاولة ليست عصية على التطويق أو الاحتواء.

وكذلك كان من المهم في الخطاب الحديث عن الجيش المؤسسة، وأنه يمثل حالة ترتبط بحماية الجمهورية والديمقراطية، وأن ما قام به البعض إنما يمكن أن يسكن ضمن حالات التمرد المحدودة، وأن الجيش يعبّر عن مؤسسة مهمة داخل الدولة، ولا يشكل في جوهر المؤسسة خروجاً على قواعدها الديمقراطية التي رسخت في مواجهة أي حركة انقلابية.

وضمن هذا الأمر كان من المهم كذلك أن يبرز في الخطاب تلك الحالة الجامعة للقوى السياسية المتنوعة والقوى الحزبية المتعددة، فرغم أن تلك القوى كانت تمارس انتقاداً حاداً لسياسات “أردوغان” وما رأته من محاولات لاستحواذ على مساحات السلطة إلا أنها كانت واضحة وبالسرعة المناسبة في إعلان مواقفها الداعمة للجمهورية والديمقراطية والسلطة الشرعية المنتخبة، بينما استنكرت أي محاولة انقلابية لاغتصاب أو قطع الطريق على هذا المسار السياسي الديمقراطي، بدا كل ذلك تعبيراً عن هذه الجامعية في خطاب يؤكد حالة التماسك السياسي للجمهورية والدفاع عن الديمقراطية.

أما الأمر الآخر في إدارة الخطاب والتوجه إلى الحالة الشعبية فكان أهم ركن في استنهاض تلك الطاقات الجماهيرية لممارسة مواقفها الرافضة للحالة الانقلابية، وهو أمر يجعل من هذه الجماهير قاعدة مَكينةَ في مواجهة المحاولة الانقلابية، إن خروج الجماهير التركية بكل أطيافها وتنوع توجهاتها وكامل طبقاتها بل وخروج الأسرة التركية بأسرها عبّر عن حالة رمزية لا يمكن لأي انقلاب تخطيها أو مواجهتها بأي أساليب قمعية واسعة، ذلك أن تلك الحالة الانقلابية شكلت تميزاً في شكل الانقلابات العسكرية في تركيا حينما نزلت إلى الشارع وإلى مفاصل استدعت القيادة التركية الشرعية هذه الحالة الجماهيرية واستنفارها رغم ممارسة بعض من قام بهذه الحالة الانقلابية نوع من العنف إلا أنه كان من المحدودية، والذي استنهض الهمم الشعبية في محاصرة الحالة الانقلابية وتطويق محاولات الصدام الواسع بكتل شعبية توافدت على الميادين وعلى الأماكن التي وُجدت فيها قوى الانقلاب وكذا زحفت إلى المطار الدولي في استنبول مما شكل أهم حالة اختبارية في انسحاب قوى الانقلاب بدباباته ومدرعاته أمام الحشود الشعبية التي توافدت وشكلت حالة حصار حقيقية.

أما المستوى الثاني في إدارة الأزمة الذي يتمثل في إدارة الحساب والعقاب، فأهم شيء في هذه الحالة هو إدارة الأمر بكل توازن عميق وحساب دقيق، ذلك أن اتساع مساحات العقاب والحساب وامتدادها للساحات المجتمعية والوظائف الإدارية العادية تحت دعوى مواجهة التنظيم الموازي واقتلاعه من جذوره لا يليق بأي حال من الأحوال بحالة الاستثناء وإدارة الأزمة، وإلا كان ذلك له من الآثار السلبية التي تقع على مساحات المجتمع الممتدة، وهو أمر خطر إذا ما مُورِسَ بشكل واسع وبغير حساب؛ ذلك أن التدافعات المجتمعية أقرب ما تكون إلى دائرة التسويات منها إلى دائرة العقوبات، بينما التعامل مع الحالة الانقلابية يجب أن يكون ضمن عملية جراحية دقيقة لا تؤثر على المجتمع وعلاقاته وشبكاته الاجتماعية.

أما عن إدارة الفرصة فالأمر يتعلق هنا باستثمار كل ما من شأنه أن يقوي عناصر الوحدة المجتمعية وتماسك الجماعة الوطنية واتفاق الحد الأدنى للقوى السياسية في حالة جامعة تتخذ من حالة الدفاع عن الوطن وترفع العلم وتحمي الديمقراطية.

هذا الاستثمار الواسع يجب أن يمكن لخيارات سياسية بلغة تطمين حقيقية، مستبعدة كل ما من شأنه أن يشكل حالة استحواذ على مساحات السلطة وانتقالها إلى حالة سلطوية، هذا الأمر إنما يمكن لفن إدارة الاختلاف وفن إدارة المشترك وفن إدارة التعدد، هذا الاستثمار السياسي هو الذي يمكِّن من انتقال حقيقي من إدارة الأزمة إلى استراتيجيات إدارة الصراع.

إن إدارة الصراع بمعطياته ومقتضياته يجب ألا يقف عند حالة الاستغراق في هذه المحاولة الانقلابية الفاشلة والوقوف عند حدودها، لكنه يجب أن ينتقل إلى دوائر ومسارات إلى ساحات ومساحات لرؤى وتصورات لبناء تركيا الجديدة وصناعة المستقبل.

أول هذه المعاني الذي يمكن أن تجعله أحد أهم الخيارات هو ما يتعلق بتمكين ذلك الخيار الديمقراطي ورفض الانقلابات ومواجهة أي تفكير لمحاولات انقلابية محتملة، وهو ما يعني كذلك اتخاذ سياسات تمكّن لتغيرات هيكلية وجذرية، ولكن بميزان دقيق وحساس، لا يمكنه بأي حال من الأحوال أن ينزلق إلى أي مؤشر لإذلال مؤسسة الجيش، لكنه في ذات الوقت يمكن لحالة حياد الجيوش والممارسة المهنية من دون التورط والانخراط في المساحات السياسية، وتقوية الطاقات المجتمعية والشعبية التي تمثل صمام الأمان لبناء تركيا الجديدة، التي تعتمد المسألة الديمقراطية، وتطرد كل ما من شأنه أن يجعل الحالة الانقلابية في حالة احتمالية، ويكتمل المثلث الذي يتعلق بإدارة التدافع للتمكين لكل ما من شأنه أن يشكل حالة من الجامعية السياسية للقوى المختلفة ضمن مصالحة مجتمعية واسعة تستثمر حالة الإجماع الشعبي والسياسي في مواجهة هذه الحالة الانقلابية.

عمليات بعضها من بعض باستراتيجيات الانتقال والحراك من إدارة الأزمة لساحات إدارة الفرصة لمساحات إدارة الصراع، وتعين الحدود فيما بينها، وعدم الخلط بين الأهداف من كل مرحلة، وهو ما يجعل مرحلة إدارة الأزمة تضيق زمناً تهيئة لامتداد إدارة الفرصة وإدارة حالة التدافع السياسية والمجتمعية لبناء تركيا الجديدة ضمن اتفاق تأسيسي على تمكين المسار الديمقراطي، عبرة كاملة ومتكاملة يمكن أن نتعلمها من خبرة التجربة الانقلابية الفاشلة.

إدارة الإجماع: ولذلك كان إفشال هذا الانقلاب أمرًا استراتيجيًا وحيويًا استدعى كل الطاقات لمواجهة حقيقية لإدارة حالة الاستثناء الانقلابية والتي استطاع النظام بكل تكويناته بقواه السياسية والمدنية والشعبية ليواجه هذا الانقلاب بكل طاقته حفاظًا على الجمهورية والديموقراطية ضمن حركة مواتية لإدارة الأزمة وإدارة الفرصة وإدارة الصراع.

وكان من المهم أن يقوم النظام بما يمكن تسميته إدارة التوافق والإجماع، بما يؤكد استمرار اللحمة التي تمخض عنها حال مواجهة ومقاومة الانقلاب والإسهام في إفشاله، ذلك أن إدارة هذه اللحمة والتماسك كان من الأمور الجوهرية التي كان من الضروري الحفاظ عليها لأطول مدى ممكن لتحقيق الوحدة وصناعة المكان لتركيا، خاصة في هذا الخضم الذي تموج فيه المنطقة إقليميًا ودوليًا بمزيد من الأزمات التي لم يعد يصلح فيها تلك المقولة التقليدية ب”صفر مشاكل”؛ ذلك أن الأزمات قد فرضت نفسها على المنطقة؛ حيث تؤكد أن الحركة التركية الرشيدة أمر من الأهمية بمكان في صناعة المكانة، وبما يؤكد استيعاب المعطيات التي تتعلق بالفرضية الرمادية ثلاثية الأبعاد السابق الإشارة إليها.

من سياسات المكانة الدولية والإقليمية إلى صناعة التمكين في الداخل:

وهو أمر قد يشير إلى الانتقال من مقتضيات فهم المكان والزمان؛ الرصيد التاريخي والجغرافي إلى سياسات صناعة المكانة توازيًا وعبورًا إلى صناعة التمكين في الخبرة التركية؛ بحيث يكون هذا التمكين تمكينًا مركبًا يستند إلى قواعد النهوض في الداخل؛ من سياسات تمكين الشباب، وتمكين وترسيخ الحالة الديموقراطية، وتمكين التوافق والإجماع، وتمكين المجتمع المدني، وتمكين السياسات والمؤسسات الوقفية.

وهو أمر يضمن نجاحًا متزايدًا ومتراكمًا وفعالًا لخبرة النهوض التركي، ونموذج التنمية الذي يتراكم ويؤتي آثاره على النهوض بالحياة المعيشية ومواجهة التحديات المختلفة في تركيا الجديدة.

ومن المهم أن نشير إلى ضرورة التحسب إلى أمرين مهمين:

أحدهما: في الداخل، والآخر على المستوى الإقليمي والدولي.

أما في الداخل: فإن استثمار “النموذج الكاريزمي” الذي تمثله القيادة التركية ممثلًا لأردوغان إنما يحتاج في حقيقة الأمر إلى ترجمة هذه القيادة الكاريزمية إلى الانتقال إلى كاريزما المؤسسات والسياسات والقرارات، وهو أمر شديد الأهمية لاستمرار نجاحات الخبرة التركية ونموذجها.

أما الأمر الثاني والذي  يتعلق بالمستوى الإقليمي والدولي: فهو ضرورة أن تكون الاستراتيجية التركية على وعي كامل بأن العزلة والانعزال لا يمكن أن يكون خيارًا في السياسيات الحالية، وأن مواجهة حالة الاستهداف المحتملة من أطراف لاتزال تنظر للنموذج التركي بعين من الريبة والشك؛ بل ينظر بعضها كحالة من التهديد والتربص.

وهو أمر يؤكد أن صناعة المكانة في الخارج وترسيخ سياسات التمكين في الداخل، ساقان مهمان يجب أن ترتكز عليهما الخبرة التركية؛ ففي بناء استراتيجية حقيقية للحركة وإدارة الازمات والصراعات والتحالفات ضمن مواجهة خريطة المخاطر وما ينتج عنها من أزمات وما يمكن أن يولد من جوفها من فرص واجبة التخطيط والاسنثمار والقدرة على إدارتها.

ضمن هذه الرؤية الأولية يمكن أن نفصل من خلال فريق بحثي في هذه القضايا الحيوية ومتابعة القضايا ذات الطبيعة الاستراتيجية والسياسات التطبيقية والوقائية، ضمن حزمة من السياسات العامة والخارجية تشكل كلاً متساندًا مخططًا وممنهجًا يعمل دراسات الواقع والدراسات التدبرية والمستقبلية.

 

زر الذهاب إلى الأعلى