إقليميتقدير موقفقراءة الحدث

الأحداث المقدسية وعالم غيبها

 

واجب الوقت اليوم يدفعنا باتجاه تسليط الضوء على الأحداث في بيت المقدس وأرض الرباط ليس من جهة توصيفها وسرد وقائعها فحسب، بل كذلك في عرضها في سياق سنني نتلمس به منهج الاعتبار بالأحداث، وأقدار الله تعالى دائماً تلفت أنظارنا إلى فعل الله في خلقه لجعلنا في دائرة من الوعي بأن هناك عالماً غيبياً حاضراً في عالم الشهادة لا يمكن لإنسان أن يغفله فضلاً عن مسلم في هذه الأمة، ولنكون على بينة بأن مشيئة واختيار الإنسان في حياته ومساره توجد فوقها مشيئة واختيار هي الفاعلة والحاكمة في هذا الكون، ولترتسم في أذهاننا حقيقة جازمة بأن ما يختاره الله لعباده المؤمنين فيه الحكمة والخير والمصلحة.

والقرآن الكريم -وهو يحدثنا عن وقائع التاريخ سواء في الأمم السابقة أو في هذه الأمة- يأخذنا إلى حيث الاعتبار بما سبق ليؤصل فينا فقه المراجعة للأحداث والمواقف للتعرف على مواطن الإصابة فتُجتنب، ومواطن الصواب فتُعتمد حال كونها صالحة زماناً ومكاناً، ولذلك تجد مثلاً حين تعرض القرآن لواقعة يهود بني النضير التي وقعت بعد غزوة أُحُد نراه مركزاً على ربط الأحداث بالتدبير الإلهي الذي يغيب في كثير من الأحيان عن محللي السياسة الذين يغلب عليهم الوقوف على عناصر الحدث المادية بعيداً عن قسيماتها غير المنظورة، ولذلك يلزم أن تكون الرؤية والمنظور الكليان حاضرين في أمثال هذه الأحداث للوقوف على ما يسمى بعالم غيب الحدث كما يوقف على عالم شهادة الحدث، وهذا الذي يوحيه ذلكم الربط المحكم في حدث بني النضير بين سياقه المشهود وسياقه الغيبي، فيقول ربنا سبحانه: ﴿هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار﴾[الحشر: آية 2].

وبالانتقال إلى الأحداث المقدسية الجارية فإن لها عالمَ غيبها الذي يلزم الوقوف عنده في سياق منهج الاعتبار السنني وإن كانت أحداثه المنظورة مستحكمة على المشهد بما يفضي إلى اختلاف بل تناقض المواقف في قراءاته التحليلية على وفق ما تمليه رؤية المحلل من حيث معتقده ومرجعيته وانتماؤه السياسي، وبناء على ذلك فإن لهذه الأحداث بالرغم مما تظهره من آلام وجراحات أصابت ولا تزال تصيب الأمة في واقعها المعاصر إلا أنها -بموجب ما رسمناه من منهج للنظر فيها- تظهر وتسفر عن نقلة نوعية في طبيعة المواجهة مع العدو الصهيوني، وسنحاول أن نشير إشارات سريعة موحية بها لا ينبغي أن تمر الأحداث مرور الكرام دون استحضارها أو الاستشعار بها.

أولاً: لقد نبهنا القرآن المجيد إلى أن اليهود أهل مكر ونقض للعهود بأسلوب دال على ملازمة هذا الوصف لهم، فقال تعالى: ﴿أو كلما عاهدوا عهداً نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون﴾[البقرة: آية 100]، وهذه الحقيقة القرآنية لها شواهدها في واقعنا اليوم، فمنذ أوسلو إلى اللحظة الراهنة ما فتئ اليهود ينقضون عهدهم بعد اتفاقات السلام الصهيوني المخزية، وآخرها اتفاقات التطبيع التي تهاوت بعد مغامرة نتنياهو الأخيرة ومجازفته التي قد تفضي به إلى مصرعه سياسياً، وأقول مستشرفاً إن الأحداث المقدسية اليوم أفسدت وبقوة مشروعهم ثنائي المكوِّن: صفقة القرن وضلالة القرن (البيت الإبراهيمي)، فهل يعي المُطبِّعون المتهالكون من العرب هذا؟!!

ثانياً: أظهر الحدث بجلاء عظم أزمة الكيان الصهيوني بعد ضربات المرابطين الصاروخية بشكل لم يكن يتوقعه من قبل، وهذا الكيان في سياقه التاريخي عُلم عنه أنه دولة وظيفية زُرعت في قلب العالم العربي والإسلامي من قبل القوى الكبرى؛ لتكون وسيلتهم في السيطرة على المقدرات وإضعاف مقومات هذه الأمة ودينها، ولكن هذا الكيان شهد تحولاً نوعياً في سنواته الأخيرة جعلته ينتقل كما يقرره بعض علماء السياسة ومفكروها إلى مرحلة لعب دور فاعل إقليمي له أجندته وأهدافه الاستراتيجية التي قد لا يتفق بعضها مع أهداف القوى الكبرى.

ولكن هذه الأحداث وما أبرزته من مشاهد مست كرامة هذا الكيان، فإن صواريخ المرابطين بالرغم من ضعف إمكاناتهم وقلة مواردهم والحصار الظالم عليهم من جميع الجهات لم تثنهم عن استثمار ما هو ممكن لديهم ليفاجؤوا العدو بضربات أصابت قلب هذا الكيان، وما ألطف ما ردده المرابطون في انتفاضتهم في وصف منظومة القبة الحديدية بأنها مرنة وطرية، والواقع أن القبة الحديدية لها القدرة على مواجهة الصواريخ، ولكن مارس المرابطون تكتيكاً أظهر فهماً واستمكاناً عسكرياً لدى قادتهم كما أشار إليه بعض المحللين العسكريين حين عمدوا إلى إشغال المنظومة بالدفعات الصاروخية الكثيرة فضلاً عن توسيع الدائرة الجغرافية في هجماتها، وهذا الذي يفسر وصول الصواريخ إلى قلب الكيان الصهيوني.

ثالثاً: الأحداث بالرغم من شدتها على إخواننا المرابطين بما أصابهم في أنفسهم وأموالهم بل بما أصاب الأمة كلها؛ لأن القدس قضيتها، إلا أنها كانت -كشأن أخواتها- كاشفة وفارقة بين المؤمنين حقاً بمشروع الأمة الجامعة بمقوماتها وبين المرجفين فيها،  والقرآن ما زال يعلمنا في هذه المواقف دروسه بما يدل على استيعابه بمقتضى رسالته الخاتمة الجامعة المهيمنة، فيقول تعالى: ﴿ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب﴾[آل عمران: آية 179]، ويقول كذلك: ﴿لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين﴾[التوبة: آية 47]. ولك أن تنزل دلالات هاتين الآيتين على مواقف الفريقين، وأقصد بهما أكثر الساسة ومنظومتهم من المرجفين، وجماهير هذه الأمة؛ لتعلم من كان متحققاً بهذه الدلالات والسمات.

رابعاً: كانت الأحداث سبباً في الوعي بضرورة الأمة الجامعة في مواجهة تحدياتها في معركتها ليست العسكرية بل والحضارية كلها، وهو درس قرآني كذلك بمقتضى ما يمليه علينا منهج الاعتبار السنني؛ فإن القرآن المجيد يقول في التعليق على الأحداث وقت التنزيل: ﴿ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم﴾[الأنفال: آية 46]، إنه درس عملي في تقرير هذه القاعدة المنهاجية الكلية تبثها فينا هذه الأحداث، والأخذ بهذه القاعدة الكلية ليس ضرباً من الخيال بحكم ما يثيره واقعنا من تشرذم وتفرق في الأمة، بل هو دفعة من الدفعات التي تثيرها صدمة الأحداث في الأمة لتحيي فيها الروح لتأخذ بأسباب القوة في طريق فاعليتها وما ذلك على الله بعزيز؛ فإن الوعي بالأحداث وماجرياتها يلزم أن يعقبه بلا تراخٍ السعي للتحقق بالقوة، وهو مقتضى أمر من أوامر القرآن الواجبة أصلاً لا يسع الأمة مخالفته: ﴿وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم﴾[الأنفال: آية 60].

خامساً: نبهتنا الأحداث إلى حجم التضليل الإعلامي والسياسي الذي مارسته المنظومة الإعلامية والسياسية للكيان الصهيوني ومن يظاهره من منظومات المرجفين في الأمة بقصد بث الرعب في الأمة وتخويفها من قوة هذا الكيان على وفق متطلبات السياسة المعاصرة القائمة على سياسة الرعب، والأمر عند المرابطين على خلاف ذلك، وعجباً حين ينبهنا المفكر عبدالوهاب المسيري رحمه الله قبل عقود إلى هذا الأمر في قراءة استشرافية عميقة منه لم تكن لتحدث هذا الأثر في حينها، ولكن الأحداث الأخيرة أثبتته بجلاء، وتكفي المتابعة اليسيرة لما يجري داخل الكيان الصهيوني من ردود الأفعال على الأحداث؛ لتعلم حجم الاضطراب الذي أصابه بما يؤول بالمحصلة إلى فوضى عارمة، وهو درس قرآني آخر في هذا السياق: ﴿بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى﴾[الحشر: آية 14].

سادساً: أثبتت الأحداث أن الأمة تراهن في مستقبلها على شبابها، فهم خميرتها الأساسية ومحور تفعيلها وبهم تواجه تحدياتها ومعاركها الحضارية، ولو تأملت صنيع المرابطين في صواريخهم التي شاهدناها تصيب قلب الكيان الصهيوني وأنت على دراية بأنهم منقطعو السبيل -إن صح التعبير- الذين قل زادهم بمقتضى الحصار الجائر عليهم؛ لتعلم يقيناً أن مستقبل الأمة في استثمار شبابها، وهذا يدفعنا بقوة باتجاه التحذير من مشاريع الشهوات والشبهات التي تقوم عليها منظومات الفساد لتحرف هذا الشباب عن دينه وعقيدته وأمته، وضرورة استيعابهم في سياق مشاريع التنشئة السياسية والاجتماعية وبرامج تنموية حقيقية بعيدة عن التضليل الإعلامي.

سابعاً: ما أشد حاجتنا لمواقع تواصل اجتماعي مستقلة في الأمة لتكون مجالاً حراً لأبنائها في النشر وفضح جرائم العدو الصهيوني ومن يظاهره من المرجفين فيها، بعد التواطؤ الكبير الذي أحدثته إدارات التواصل الاجتماعي في قطع الطريق على الحقائق التي تنشر عن مواقع الأحداث من مشاهد قتل وتدمير وتهجير وغيرها، فليكن هذا هو الهدف القادم لدى المؤسسات العلمية المتخصصة وأهل التخصص ويكفينا استتباعاً لهم في اختراعاتهم وابتكاراتهم بما عاد علينا بالمفاسد كما يشهد به واقع الأحداث.

زر الذهاب إلى الأعلى